بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
منذ خرج الإنسان من بطن أُمّه وهو يكابد الحياة، ويكدح في مضمارها كدحاً حتى يلاقي الموت (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الإنشقاق/ 6)، ويقسم المولى الجليل على هذا ليفهم الإنسان المغرور أنّ الحياة لن تكون جنة إلا للواهمين، وأنها لن تخلو من المتاعب والمصاعب والآلام التي يكابدها الإنسان من طفولته إلى أن يأذن الله بالرحيل (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد/ 4)، وأخطأنا كثيراً حين منحنا الحياة أكثر من حقها، وأوغلنا في الخطأ، بل وقعنا في الخطيئة حين سمحنا للحياة الدنيا أن تستخدمنا فتجعلنا هدفاً لهمومها وأحزانها وآلامها وكأنها امرأة لعوب تخدعنا ابتساماتها وتبكينا أفعالها وتقلباتها (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت/ 64)، ومشكلتنا أننا نريدها أحياناً لهواً ولعباً، ونتعامل معها بعقلية الطفل إذا رأى لعبة بكى حتى يمتلكها وإن كسرت لعبته رأيته مهموماً، وإن رأى لعبة أخرى في يد غيره بكى، وهكذا يظل الطفل في داخلنا أسيراً لهذه اللعبة، إن سرته يوماً أبكته وأحزنته أياماً، فينا من ينظر إلى الدنيا بعيون أهل الضلال فيراها مادة ومتعة، ويظل يلهث وراءها مكروباً مهموماً حزيناً حتى ينسى الابتسامة، وينسى أنّ الدنيا جنة الكافر ونار المؤمن، وهو لا يريد نارها وإنما ينافس أهل الضلال جنة الوهم وهيهات أن يجد في الدنيا جنته لأنّ الله جعلها دار ابتلاء ومن جهل هذا فقد نسي الغاية التي خلقها الله لها (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك/ 2)، وإذا نسي الإنسان هذه الغاية فمن أين يأتيه الصبر عند نزول البلاء؟ ومن جزع ونفد صبره عند نزول البلاء فقد جنى على نفسه وكتب اسمه بيده في سجلات الخائبين، والخيبة العصرية التي نعيشها اليوم أن بعضنا لا يرى البلاء إلا في الشر فإن نزل به مكروه لم ينزل بغيره، أو قل ماله وكثر عند غيره أو أصابته ضراء وأصابت غيره السراء ظن أنّه الوحيد المبتلى، فهو يعيش في محنة وغيره يعيش في منحة وعطاء وفي غنى وثراء، ذلك ظن المسلم الذي لا يعرف سنة الله في خلقه، فالله يختبر عباده بالسراء كما يختبرهم بالضراء ويبتليهم بالغنى كما يبتليهم بالفقر، فالخير والشر كلاهما ابتلاء، وابتلاء الإنسان بالخير أشد من ابتلائه بالشر، فالمنحة تقتضي الشكر والمحنة تقتضي الصبر، والقيام بحقوق الشكر أصعب من حقوق الصبر، ويقول الإمام علي (ع): "مَن وسع عليه في دنيا فلم يعلم أنّه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله"، وقال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء/ 35).
من عرف طبيعة الدنيا وأنها دار ابتلاء عرف كيف يصبر في مواجهة كل بلاء. وهذا هو الفرق بيننا وبين أسلافنا، فنحن نحزن اليوم لما كان يفرح أسلافنا بالأمس، فقد كانوا كما وصفهم النبي (ص): "ولأحَدُهُم كان أشدَّ فَرحاً بالبَلاءِ مِن أحدِكُم بالعَطاءِ"[1] فنحن لا نعرف من الدنيا إلا العطاء فإن منعنا أو حرمنا أو نزل بنا بلاء فقدنا التوازن، وربما جزعنا وشكونا وسيطر علينا الهم والحزن وضاقت علينا الدنيا بما رحبت، أما أسلافنا فقد كان لهم مع البلاء شأن آخر.. فمنهم من كان يرى البلاء رفعة في المنزلة فيشكر الله عليه حتى قال أحدهم: "يا رب ابتليتني ببلاء الأنبياء فشكر هذا أن أصلي الليلة أربعمائة ركعة"، ومازلنا نذكر حديث أم طلحة لما مات ابنها سمت فوق أحزانها، وأنستها حلاوة الأجر مرارة الألم حتى جعلتها تزين لزوجها وكأنها عروس ليلة الزفاف، فلما أصاب منها قالت له: يا أبا طلحة لو أن قوماً أعاروك عارية فطلبوا عاريتهم أكنت تمنعها؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك. فغضب زوجها وشكاها إلى رسول الله (ص) ففوجئ بالنبي (ص) يقدم له التهنئة داعياً لهما "اللّهمّ بَارِك لهُمَا"[2] فأخلف الله عليهما ورزقهما ولداً غيره، والمشكلة أننا أحياناً لا نعرف الخير فيما نحب أو نكره، وهل كان موسى (ع) يعرف أن في خرق السفينة أو قتل الغلام خيراً؟ ومن فينا يعرف ذلك؟ فالعبد جاهل كل الجهل بما ينفعه، والرب عالم كل العلم بما ينفع. فلماذا نبكي ونحزن على أمر لا نعرف فيه وجه الصواب أو الخير؟ ألم تسمع حكايات الذين فاتهم القطار أو فاتتهم الطائرة أو موعد الحافلة فتملكتهم الحسرة واشتد بهم الحزن على موعد مهم يخشى فواته ثمّ تبين أنّ الله نجاهم من حادثة هلك فيها جميع الركاب. إذا نظر المؤمن إلى مصائبه من هذه الزاوية عرف معنى قوله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) (البقرة/ 216).
-------------------
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
منذ خرج الإنسان من بطن أُمّه وهو يكابد الحياة، ويكدح في مضمارها كدحاً حتى يلاقي الموت (يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) (الإنشقاق/ 6)، ويقسم المولى الجليل على هذا ليفهم الإنسان المغرور أنّ الحياة لن تكون جنة إلا للواهمين، وأنها لن تخلو من المتاعب والمصاعب والآلام التي يكابدها الإنسان من طفولته إلى أن يأذن الله بالرحيل (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي كَبَدٍ) (البلد/ 4)، وأخطأنا كثيراً حين منحنا الحياة أكثر من حقها، وأوغلنا في الخطأ، بل وقعنا في الخطيئة حين سمحنا للحياة الدنيا أن تستخدمنا فتجعلنا هدفاً لهمومها وأحزانها وآلامها وكأنها امرأة لعوب تخدعنا ابتساماتها وتبكينا أفعالها وتقلباتها (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) (العنكبوت/ 64)، ومشكلتنا أننا نريدها أحياناً لهواً ولعباً، ونتعامل معها بعقلية الطفل إذا رأى لعبة بكى حتى يمتلكها وإن كسرت لعبته رأيته مهموماً، وإن رأى لعبة أخرى في يد غيره بكى، وهكذا يظل الطفل في داخلنا أسيراً لهذه اللعبة، إن سرته يوماً أبكته وأحزنته أياماً، فينا من ينظر إلى الدنيا بعيون أهل الضلال فيراها مادة ومتعة، ويظل يلهث وراءها مكروباً مهموماً حزيناً حتى ينسى الابتسامة، وينسى أنّ الدنيا جنة الكافر ونار المؤمن، وهو لا يريد نارها وإنما ينافس أهل الضلال جنة الوهم وهيهات أن يجد في الدنيا جنته لأنّ الله جعلها دار ابتلاء ومن جهل هذا فقد نسي الغاية التي خلقها الله لها (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك/ 2)، وإذا نسي الإنسان هذه الغاية فمن أين يأتيه الصبر عند نزول البلاء؟ ومن جزع ونفد صبره عند نزول البلاء فقد جنى على نفسه وكتب اسمه بيده في سجلات الخائبين، والخيبة العصرية التي نعيشها اليوم أن بعضنا لا يرى البلاء إلا في الشر فإن نزل به مكروه لم ينزل بغيره، أو قل ماله وكثر عند غيره أو أصابته ضراء وأصابت غيره السراء ظن أنّه الوحيد المبتلى، فهو يعيش في محنة وغيره يعيش في منحة وعطاء وفي غنى وثراء، ذلك ظن المسلم الذي لا يعرف سنة الله في خلقه، فالله يختبر عباده بالسراء كما يختبرهم بالضراء ويبتليهم بالغنى كما يبتليهم بالفقر، فالخير والشر كلاهما ابتلاء، وابتلاء الإنسان بالخير أشد من ابتلائه بالشر، فالمنحة تقتضي الشكر والمحنة تقتضي الصبر، والقيام بحقوق الشكر أصعب من حقوق الصبر، ويقول الإمام علي (ع): "مَن وسع عليه في دنيا فلم يعلم أنّه قد مكر به فهو مخدوع عن عقله"، وقال تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء/ 35).
من عرف طبيعة الدنيا وأنها دار ابتلاء عرف كيف يصبر في مواجهة كل بلاء. وهذا هو الفرق بيننا وبين أسلافنا، فنحن نحزن اليوم لما كان يفرح أسلافنا بالأمس، فقد كانوا كما وصفهم النبي (ص): "ولأحَدُهُم كان أشدَّ فَرحاً بالبَلاءِ مِن أحدِكُم بالعَطاءِ"[1] فنحن لا نعرف من الدنيا إلا العطاء فإن منعنا أو حرمنا أو نزل بنا بلاء فقدنا التوازن، وربما جزعنا وشكونا وسيطر علينا الهم والحزن وضاقت علينا الدنيا بما رحبت، أما أسلافنا فقد كان لهم مع البلاء شأن آخر.. فمنهم من كان يرى البلاء رفعة في المنزلة فيشكر الله عليه حتى قال أحدهم: "يا رب ابتليتني ببلاء الأنبياء فشكر هذا أن أصلي الليلة أربعمائة ركعة"، ومازلنا نذكر حديث أم طلحة لما مات ابنها سمت فوق أحزانها، وأنستها حلاوة الأجر مرارة الألم حتى جعلتها تزين لزوجها وكأنها عروس ليلة الزفاف، فلما أصاب منها قالت له: يا أبا طلحة لو أن قوماً أعاروك عارية فطلبوا عاريتهم أكنت تمنعها؟ قال: لا. قالت: فاحتسب ابنك. فغضب زوجها وشكاها إلى رسول الله (ص) ففوجئ بالنبي (ص) يقدم له التهنئة داعياً لهما "اللّهمّ بَارِك لهُمَا"[2] فأخلف الله عليهما ورزقهما ولداً غيره، والمشكلة أننا أحياناً لا نعرف الخير فيما نحب أو نكره، وهل كان موسى (ع) يعرف أن في خرق السفينة أو قتل الغلام خيراً؟ ومن فينا يعرف ذلك؟ فالعبد جاهل كل الجهل بما ينفعه، والرب عالم كل العلم بما ينفع. فلماذا نبكي ونحزن على أمر لا نعرف فيه وجه الصواب أو الخير؟ ألم تسمع حكايات الذين فاتهم القطار أو فاتتهم الطائرة أو موعد الحافلة فتملكتهم الحسرة واشتد بهم الحزن على موعد مهم يخشى فواته ثمّ تبين أنّ الله نجاهم من حادثة هلك فيها جميع الركاب. إذا نظر المؤمن إلى مصائبه من هذه الزاوية عرف معنى قوله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) (البقرة/ 216).
-------------------
الهامش:
[1]- أخرجه البيهقي في الكبرى (3/ 372)، برقم (6771) من حديث أبي سعيد الخدري (رض).
[2]- أخرجه البخاري (7/ 84)، برقم (5470) من حديث أنس بن مالك (رض).
المصدر: كتاب القرآن وقضايا العصر
تعليق