بحر المناقب والجرة
عندما يقف الإنسان عند ساحل البحر العذب المترامي الأطراف وهو يريد أن يغرف منه بجرة صغيرة، يفرح كثيرا بأنه قد حصل على مقدار من الماء مع أن ما فات منه كان أعظم، وهذا هو حالنا مع بحر مناقب فاطمة الزهراء (ع)، فما لدينا من الآنية وما نحن فيه من القصور لايسمح لنا بأن نحيط بجوانب عظمتها، وخاصة مع ملاحظة ما ورد في حقها عليها السلام في الروايات، فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) أنه قال:
«إنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها» (تفسير فرات ص581 بتحقيق محمد الكاظم)
ولكن من نعم الله عز وجل علينا أن من علينا ببعض معرفتها من خلال ما صدر في حقها من كلمات ممن عرفوا فضلها ومقامها أي النبي (ص) وأهل بيته (ع).
وبمقدار فهمنا لكلماتهم عليهم السلام تتفاوت معرفتنا لمقام الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام.
سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين
المنقبة الأولى: أنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، والروايات في هذا المعنى مستفيضة، ومنها ما رواه الشيخ الصدوق بسنده عن المفضل بن عمر، قال: قلت لأبي عبد الله (ع): أخبرني عن قول رسول الله (ص) في فاطمة أنها سيدة نساء العالمين، أهي سيدة نساء عالمها؟ فقال: «ذاك لمريم ، كانت سيدة نساء عالمها، وفاطمة سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين». (معاني الأخبار ص107 ح1)
قال العلامة السيد شرف الدين (ره):
"تفضيلها على مريم عليها السلام أمر مفروغ عنه عند أئمة العترة الطاهرة وأوليائهم من الإمامية وغيرهم، وصرح بأفضليتها على سائر النساء حتى السيدة مريم كثير من محققي أهل السنة والجماعة كالتقي السبكي، والجلال السيوطي، والبدر، والزركشي، والتقي المقريزي، وابن أبي داود، والمناوي فيما نقله عنهم العلامة النبهاني في "فضائل الزهراء" ص59 من كتابه "الشرف المؤبد"، وهذا هو الذي صرح به السيد أحمد زيني دحلان مفتي الشافعية ونقله عن عدة من أعلامهم، وذلك حيث أورد تزويج فاطمة بعلي في سيرته النبوية". (هامش النص والاجتهاد المورد8، ص114)
وسيادة الزهراء (ع) على نساء العالمين من الأولين والآخرين هي سيادة إلهية، والسيادة الإلهية لاتكون إلا فيما يكون مقتضيا للشرف والرفعة والمنزلة عند الله تعالى، بالحصول على الكمالات العلمية والعملية، والباطنية والظاهرية، والتفوق على الآخرين فيها.
التفضيل وإيجاد الاختلاف
وهنا قد طرحت بعض الشبهات على هذه الروايات أشير إليها باختصار مع أجوبتها.
أ - الشبهة الأولى: إن تفضيل السيدة الزهراء (ع) على السيدة مريم هو إيجاد للاختلاف بينهما، مع أنهما غير مختلفين وكلاهما في مواقع القرب من الله تعالى.
والجواب:
إن التفضيل الإلهي لايوجب الاختلاف، والاختلاف لاينشأ بين أولياء الله، وإنما ينشأ من العقول القاصرة حينما تصور التفضيل إيجادا للاختلاف.
فطرح مثل هذه الشبهة يعني أننا نتهم الله سبحانه بأنه يوجد الاختلاف بين الأنبياء حينما فضل بعضهم على بعض في قوله تعالى: ï´؟ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ï´¾(البقرة/253)، وفي قوله تعالى: ï´؟ فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ï´¾(الأحقاف/35).
وليس المقصود من التفضيل في تفضيل الأنبياء تفضيل النعمة كما قيل بدعوى أنه نظير ما ورد في بني إسرائيل بأن فضلهم الله بالنعمة التي أنزلها عليها، فإنه قد ورد في ذم بني إسرائيل آيات قرآنية كثيرة مما يكشف أن تفضيلهم لم يكن تفضيل منزلة عند الله، بخلاف ما نحن فيه فإن المفضلين هم الرسل والأنبياء الذين لا مجال لذمهم، فهذا يدل على أن التفضيل ليس للنعمة، ويشهد لذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يجعل كل الرسل من أولي العزم بل جعل بعضهم كذلك نظرا لامتيازات فيهم تؤهلهم لتحمل تلك الرسالة السماوية الجديدة، وقد روى الكليني بسند صحيح عن عبد الله بن أبي يعفور قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول:
«سادة النبيين والمرسلين خمسة، وهم أولو العزم من الرسل، وعليهم دارت الرحى: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وآله وعلى جميع الأنبياء». (الكافي ج1 ص175، وراجع الكافي ج2 ص17 ح2 صحيحة سماعة بن مهران)
والآية المباركة في سورة الأحقاف تدعو النبي (ص) للصبر كما صبر أولو العزم من الرسل دون من سواهم من الرسل باعتبار أن صبرهم كان متميزا عن صبر غيرهم، ومما لاشك فيه أن الصبر من إحدى أهم موجبات التفاضل في القيمة لا التفاضل في النعمة.
وكذلك لو قلنا بأن التفضيل يعني إيجاد الاختلاف فهذا يعني اتهام النبي (ص) وأهل بيته (ع) بأنهم يوجدون الاختلاف بين الأنبياء (ع) حينما تطرقوا في أحاديث متواترة إجمالا تفيد أفضلية النبي (ص) على بقية الأنبياء والرسل (ع)، كما في:
1 - قول رسول الله (ص) كما رواه السنة والشيعة: «أنا سيد ولد آدم». (الكافي ج1 ص440 ح1، أمالي الصدوق ص94 المجلس10 ح11 وص254 المجلس35 ح1 وص391 المجلس51 ح14 وص653 المجلس72 ح16، صحيح سنن الترمذي ج3 ص272 ح3148)
2 - قول أمير المؤمنين (ع) فيما رواه الكليني بسند صحيح عنه أنه قال: «ما برأ الله نسمة خيرا من محمد صلى الله عليه وآله». (الكافي ج1 ص440)
وقد اتفقت كلمة علماء الشيعة الإمامية بأن النبي محمد (ص) هو أفضل الأنبياء والمرسلين.
إذن المشكلة في سقم بعض العقول ودرجتها المتدنية في الفهم لا في رفعة بعض الأنبياء على بعض.
وقد يقال: إن هناك آية أخرى في نفس سورة البقرة تقول:ï´؟ آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ï´¾(البقرة/285) فكيف تثبت واحدة التفضيل الملازم لوجود الفرق وتثبت أخرى عدم التفريق بينهم؟
والجواب: إن الآية التي تمدح عدم التفريق بين الرسل إنما تمدحه في مجال أصل الإيمان لا الرتبة والمنزلة، بخلاف اليهود الذين آمنوا بموسى (ع) ولم يؤمنوا بعيسى (ع) ففرقوا بين الرسل، وبخلاف النصارى الذين آمنوا بعيسى (ع) ولم يؤمنوا بمحمد (ص) ففرقوا بين رسله، أما التفاضل بين الرسل فهذا ليس ما تتطرق إليه الآية، فلا تعارض بين الآيتين.
يتبع ...
تعليق