بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد واله الطاهرين
علم الكلام الجديد:
تمهيد تاريخي:
تبلورت النواة الأولى لعلم الكلام في فضاء بعض الاستفهامات ، وما اكتنفها من جدلٍ وتأمُّلٍ في دلالات بعض الآيات القرآنية المتشابهة ، التي تتحدَّث عن الذات والصفات ، والقضاء والقدر ، ثُمَّ اتسع بالتدريج إطار هذه الأسئلة والتأمُّلات ، فشملت مسائل أخرى تجاوزت قضية الإلوهية والصفات إلى الإمامة ، فور التحاق النبي الكريم (صلَّى الله عليه وآله) بالرفيق الأعلى . وما فتئت قضية الإمامة تستأثر باهتمام العقل الإسلامي وقتئذٍ ، حتى أضحت من أهمِّ مسائل التفكير العقائدي في حياة المسلمين.
وقد كان للحروب الداخلية في المجتمع الإسلامي أثر هامٌّ في تطوير النقاش في الموضوعات العقائدية ، وفي توالُدِ أسئلة جديدة تتمحوَرُ حول حكم مرتكب الكبيرة ، وخلق أفعال العباد ، وحرية المكلَّف واختياره ، وغير ذلك من المسائل[1]
فالغرض الذي من أجله وضع علم الكلام من قبل علماء الإسلام هو معرفة أصول الدين عن طريق الاستدلال بالعقل والنقل ، ليكون أبناء الدين على علم بالأسس التي بنيت عليها عقائدهم ، إذ التقليد في الأصول غير جائز عند أكثر العلماء - إن لم يكن كلهم - وأنه لا بد على كل مكلف من النظر فيها فهذا هو الهدف الأول من وضع هذا العلم وتدوينه والتأليف فيه ، فهو من العلوم الضرورية للأمة ، لأنه العلم المتكفل لبيان ما على المكلفين الالتزام به من الناحية الاعتقادية[2]
نشوء فكرة علم الكلام الجديد :
تعود بذور التفكير الكلامي الجديد على الساحة الإسلامية إلى القرن التاسع عشر الميلادي ؛ أي إلى زمن شروع التحديِّات الفكرية والثقافية الغربية التي رافقت الاستعمار الغربي الفرنسي والبريطاني للعالم الإسلامي . وقد كان للمستشرقين دورٌ فاعلٌ في تكوين هذا الجوّ العام ؛ نتيجة الانتقادات الحادّة التي وجَّهوها إلى كافَّة مرافق الفكر الإسلامي ، لا سيَّما السُّنَّة النبوية الشريفة .
وقد انبرى جيلٌ من العلماء في تلك الفترة لمواجهة هذا الواقع الفكري المرفوض في الوسط الديني ، وكان أبرز هؤلاء السيد "جمال الدين الأفغاني" في ردِّه على الدهريين .
وجاء بعد ذلك جيلٌ آخر تمثَّل بالشيخ "محمد عبده" ، والشيخ محمد رشيد رضا ، وغيرهم ، فسجَّلوا أبحاثاً هامة على هذا الصعيد ، إلى أنَّ وصل الأمر إلى أمثال العلاَّمة "الطباطبائي" ، وتلميذه الشهيد "مرتضى مطهري" ، إلى الدكتور "علي شريعتي" ، و"سيِّد قطب" ، والسيد "محمد باقر الصدر" ، و"مالك بن نبي" ، وغيرهم ، فأغنوا علم الكلام بالكثير من الدراسات والأبحاث القيِّمة ، مع عشراتٍ من العلماء الآخرين في شتّى أنحاء العالم الإسلامي[3]
لقد شاع على ألسن بعض الجامعيين الجُدد عنوانُ «علم الكلام الجديد» و هم يلهجون به بفم ملؤه الإعجاب والاعتبار، ويبدو لأوّل وهلة أنّ هناك علمين مختلفين أحدهما «الكلام القديم» والآخر «الكلام الجديد» ولكلّ تعريف وموضوع ومسائل وغاية.
ولكن الحقيقة غير ذلك، إذ ليس ثمّة علمان مختلفان، من حيث الموضوع والغاية، بل هو علم واحد يتكامل عَبْر الزمان حسب تكامل الحضارة وتفتّح العقول، وليس ذلك أمراً شاذاً في علم الكلام، بل هو جار في سائر العلوم أيضاً، فعلم النحو مثلاً لم يكن يوم ظهوره إلاّ عدّة مسائل ألقاها علي(عليه السلام)على تلميذه أبي الأسود الدؤلي وأمره بأن ينحو نحوها، ثمّ أُضيف إليه في كلّ عصر مسائل حتّى تكامل وصار علماً متكامل الأطراف.
وكذلك شأن علم الكلام، فلم يكن يوم ظهوره إلاّ عدّة مسائل محدودة كالتوحيد والعدل والقضاء والقدر وما يشبهها، ولكنّه أخذ بالتكامل والتطوّر بسبب الاحتكاكات الثقافية وفي ظلّ سائر العوامل المؤثرة في تكامله.
وعلى ذلك يكون التعبير الصحيح : المسائل الجديدة في علم الكلام لا علم الكلام الجديد.
وأظن ـ و ظنّ الألمعي صواب ـ أنّ الغاية من وصف بعض المسائل بالكلام الجديد، هو تهميش الكلام الإسلامي الذي تكامل عبر الزمان بيد عمالقة الفن وأساتذته بزعم أنّ المدوّنات الكلاميّة لا تلبّي حاجات العصر ولا[4]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ـ علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد ، الدكتور عبد الجبار الرفاعي ، ص42.
[2] ـ الامامة في أهم الكتب الكلامية: السيد علي الحسيني ، ط1، 1413هـ ، مطبعة مهران ـ قم المقدسة ايران ، ص19.
[3] ـ علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد: ص60.
[4] ـ رسائل ومقالات: الشيخ جعفر السبحاني، طبعة مؤسسة الامام الصادق(ع) ، ج5،ص66.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد واله الطاهرين
علم الكلام الجديد:
تمهيد تاريخي:
تبلورت النواة الأولى لعلم الكلام في فضاء بعض الاستفهامات ، وما اكتنفها من جدلٍ وتأمُّلٍ في دلالات بعض الآيات القرآنية المتشابهة ، التي تتحدَّث عن الذات والصفات ، والقضاء والقدر ، ثُمَّ اتسع بالتدريج إطار هذه الأسئلة والتأمُّلات ، فشملت مسائل أخرى تجاوزت قضية الإلوهية والصفات إلى الإمامة ، فور التحاق النبي الكريم (صلَّى الله عليه وآله) بالرفيق الأعلى . وما فتئت قضية الإمامة تستأثر باهتمام العقل الإسلامي وقتئذٍ ، حتى أضحت من أهمِّ مسائل التفكير العقائدي في حياة المسلمين.
وقد كان للحروب الداخلية في المجتمع الإسلامي أثر هامٌّ في تطوير النقاش في الموضوعات العقائدية ، وفي توالُدِ أسئلة جديدة تتمحوَرُ حول حكم مرتكب الكبيرة ، وخلق أفعال العباد ، وحرية المكلَّف واختياره ، وغير ذلك من المسائل[1]
فالغرض الذي من أجله وضع علم الكلام من قبل علماء الإسلام هو معرفة أصول الدين عن طريق الاستدلال بالعقل والنقل ، ليكون أبناء الدين على علم بالأسس التي بنيت عليها عقائدهم ، إذ التقليد في الأصول غير جائز عند أكثر العلماء - إن لم يكن كلهم - وأنه لا بد على كل مكلف من النظر فيها فهذا هو الهدف الأول من وضع هذا العلم وتدوينه والتأليف فيه ، فهو من العلوم الضرورية للأمة ، لأنه العلم المتكفل لبيان ما على المكلفين الالتزام به من الناحية الاعتقادية[2]
نشوء فكرة علم الكلام الجديد :
تعود بذور التفكير الكلامي الجديد على الساحة الإسلامية إلى القرن التاسع عشر الميلادي ؛ أي إلى زمن شروع التحديِّات الفكرية والثقافية الغربية التي رافقت الاستعمار الغربي الفرنسي والبريطاني للعالم الإسلامي . وقد كان للمستشرقين دورٌ فاعلٌ في تكوين هذا الجوّ العام ؛ نتيجة الانتقادات الحادّة التي وجَّهوها إلى كافَّة مرافق الفكر الإسلامي ، لا سيَّما السُّنَّة النبوية الشريفة .
وقد انبرى جيلٌ من العلماء في تلك الفترة لمواجهة هذا الواقع الفكري المرفوض في الوسط الديني ، وكان أبرز هؤلاء السيد "جمال الدين الأفغاني" في ردِّه على الدهريين .
وجاء بعد ذلك جيلٌ آخر تمثَّل بالشيخ "محمد عبده" ، والشيخ محمد رشيد رضا ، وغيرهم ، فسجَّلوا أبحاثاً هامة على هذا الصعيد ، إلى أنَّ وصل الأمر إلى أمثال العلاَّمة "الطباطبائي" ، وتلميذه الشهيد "مرتضى مطهري" ، إلى الدكتور "علي شريعتي" ، و"سيِّد قطب" ، والسيد "محمد باقر الصدر" ، و"مالك بن نبي" ، وغيرهم ، فأغنوا علم الكلام بالكثير من الدراسات والأبحاث القيِّمة ، مع عشراتٍ من العلماء الآخرين في شتّى أنحاء العالم الإسلامي[3]
لقد شاع على ألسن بعض الجامعيين الجُدد عنوانُ «علم الكلام الجديد» و هم يلهجون به بفم ملؤه الإعجاب والاعتبار، ويبدو لأوّل وهلة أنّ هناك علمين مختلفين أحدهما «الكلام القديم» والآخر «الكلام الجديد» ولكلّ تعريف وموضوع ومسائل وغاية.
ولكن الحقيقة غير ذلك، إذ ليس ثمّة علمان مختلفان، من حيث الموضوع والغاية، بل هو علم واحد يتكامل عَبْر الزمان حسب تكامل الحضارة وتفتّح العقول، وليس ذلك أمراً شاذاً في علم الكلام، بل هو جار في سائر العلوم أيضاً، فعلم النحو مثلاً لم يكن يوم ظهوره إلاّ عدّة مسائل ألقاها علي(عليه السلام)على تلميذه أبي الأسود الدؤلي وأمره بأن ينحو نحوها، ثمّ أُضيف إليه في كلّ عصر مسائل حتّى تكامل وصار علماً متكامل الأطراف.
وكذلك شأن علم الكلام، فلم يكن يوم ظهوره إلاّ عدّة مسائل محدودة كالتوحيد والعدل والقضاء والقدر وما يشبهها، ولكنّه أخذ بالتكامل والتطوّر بسبب الاحتكاكات الثقافية وفي ظلّ سائر العوامل المؤثرة في تكامله.
وعلى ذلك يكون التعبير الصحيح : المسائل الجديدة في علم الكلام لا علم الكلام الجديد.
وأظن ـ و ظنّ الألمعي صواب ـ أنّ الغاية من وصف بعض المسائل بالكلام الجديد، هو تهميش الكلام الإسلامي الذي تكامل عبر الزمان بيد عمالقة الفن وأساتذته بزعم أنّ المدوّنات الكلاميّة لا تلبّي حاجات العصر ولا[4]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ـ علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد ، الدكتور عبد الجبار الرفاعي ، ص42.
[2] ـ الامامة في أهم الكتب الكلامية: السيد علي الحسيني ، ط1، 1413هـ ، مطبعة مهران ـ قم المقدسة ايران ، ص19.
[3] ـ علم الكلام ضرورات النهضة ودواعي التجديد: ص60.
[4] ـ رسائل ومقالات: الشيخ جعفر السبحاني، طبعة مؤسسة الامام الصادق(ع) ، ج5،ص66.