البُنيويَّةُ الرُباعيّة في تزكيّة النفس الإنسانيّة
__________________________
قَدّمَ علماءُ الأخلاق لُبنات أربع وهي (المُشارطة / المرُاقبة / المُحاسبة /المُعاتبة)
تتقوم بها بُنيوية النفس الإنسانية في حَراكها الحياتي قصديّاً وسلوكيا .
ينبغي بالعقل العملي أنْ يتعاطى معها منهجاً وتطبيقا ضبطاً للنفس والسلوك في مُعترك التنازع بين القوى ومقاييسها وحدودها عقلا وشرعا .
وقد فصّل علماء الأخلاق في بيان هذه البُنى الأساسية زيادة في التأسيس والتطبيق والتهذيب قصدا وعملا .
وهي كما يلي :
ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ ِِِِِ
1/ اللُبنة الأولى : المُشارطة :
( وهي أن يُشارطَ (الإنسانُ) النفسَ ويأخذ منها العهدَ والميثاقَ في كل يوم وليلة مرة ألاّ يرتكبَ المعاصي ، ولا يصدر منها شيء يوجب سخط الله ، ولا يقصر في شيء من الطاعات الواجبة ، ولا يترك ما تيسر له من الخيرات والنوافل )
إنَّ من الثابت واقعاً عند الإنسان هو علمه الحضوري والفعلي بوجود نفسه وإدراكها يقيناً وإحساسه ذاتياً بإرادته وميوله وتنازعاته ورغباته وشهواته
وكلُّ ذلك يضعه بحكم العقل العملي المودع فيه إلهيّا في إدراكه لما ينبغي فعله ولما لا ينبغي فعله وبحكم إرشاد الشرع الحكيم ومقتضيات الحكمة العملية
يضعه في منطقة التزكية الأخلاقية القائمة على أساسي التقديم التصوري والتصديقي في العقل والعمل .
((وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ))(223) البقرة
ويوجه علماء الأخلاق في هذه المنطقة (منطقة تزاحم وتنازع قوى النفس )
بإتّباع منهجية المُشارطة أو لغة وثقافة وسلوك الشرط والذي غالبا ما يضعه العقلاء في تعاقداتهم ضماناً لتحقيقها .
وكأنّ الإنسانَ يعيش مع شريكٍ ملازم(النفس) لا ينفك عنه وقوي في خياره وآثاره لا ينبغي التفريط به أو تجاهله أو التغافل عنه
كونه مما يمكن له أنْ يُفرّط بصاحبه أو يضره أو يأمره بالسوء أو يسوّل له أو يضله .
((أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ))(56)الزمر
تلك هي النفس الإنسانية والتي تحتاج في التعاطي معها إلى لغة الشرط والتنبيه وبصورة دائمة وحاضرة .
وهذه المشارطة إنما تكون في طريقي التخلي (التخلي عن الرذائل)
والتحلي (التحلي بالفضائل) أو ما يُعرف بالشرع بترك المعاصي (المُحرّمات) وفعل الواجبات .
2/ اللُبنة الثانية : المُراقبة :
( وهي أن يراقبَ (الإنسان) نفسه عند الخوض في الأعمال ، فيلاحظها بالعين الكالئة (الحارسة) ، فإنها إنْ تركتْ طغتْ وفسدتْ ، ثم يراقب في كل حركة وسكون ، بأنْ يعلم أن الله تعالى مُطلع على الضمائر ، عالم بالسرائر ، رقيب على أعمال العباد ، قائمٌ على كل نفس بما كسبت ، وأنّ سِّر القلب في حقه مكشوف ، كما أنّ ظاهر البشرة للخلق مكشوف ، بل أشد من ذلك )
قال الله سبحانه :
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (1) النساء
وقال : ((أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى )) (14)العلق
وبعدما يُشارطُ الإنسانُ نفسه في عقده معها بشروط التخلي والتحلي
وترك المحرّمات وفعل الواجبات يأتي دور المراقبة والرصد لسلوك النفس في حَراكها الفعلي تقويماً لما يُتوقع منها من الأمر بالسوء وإتباع الهوى والتفريط أو الاستخفاف بالشرط .
فالمراقبة هي أشبه بنظام التحسس الوجداني رصداً لمخلوقٍ(النفس) يمتلك من القوى المتنازعة ما بها يَسعدُ صاحبها أو يَشقى .
و ليتمكن الإنسان من مسك عصا التحكم بالنفس واقعاً وإلاّ إذا نسي الالتفات والتوجه والحضور فسينسى خالقه ويفسق عن أمر ربه .
قال اللهُ تعالى :
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)) الحشر
والقرآن الكريم في باب المراقبة يضعُ حفظ النفس وإصلاحها في أولويات الحَراك التقويمي والبنائي في مسار التزكية النفسيّة قصداً وسلوكا .
وهو ما يُستظهرُ من دلالة ومنطوق ((عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ )) في قوله تعالى:
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ))(105)المائدة
وعليكم : اسم فعل أمر أخذ جانب الإلزام الإرشادي طلباً من الله تعالى لإصلاح النفس والمحافظة عليها .
لينبه اللهُ تعالى على ضرورة الحضور العلمي والعملي في التعاطي مع النفس والتي تتأثر بغيرها وتؤثّر بصاحبها في جانبي الضلال والهدى .
3/ اللُبنة الثالثة :المُحاسَبة:
وهي ( إنَّ العبدَ كما يختار وقتاً في أول كل يوم ليشارط في النفس على
سبيل التوصية بالحق ، ينبغي له أن يختار وقتا آخر كل يوم ليطالب
النفس فيه بما أوصى به ، ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها ، كما
يفعل التجار في آخر كل سنة مع الشركاء .
وهذا أمر لازم على كل سالك لطريق الآخرة معتقد للحساب في يوم القيامة )
وقد ورد في الأخبار
( على العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه عز وجل وساعة يحاسب نفسه ، وساعة يتفكر فيما صنع الله عز وجل إليه ، وساعة يخلو فيها بحظ نفسه من الحلال ، فإن هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجمام للقلوب ، و توزيع لها وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه ، فإن من حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه)
:الخصال:الصدوق:ص525.
إنَّ المُحاسبة هي لُبنة قوّامة تؤسس لإنسان مسؤول ونفس لوّامة
وهي من جملة ما اعتمده علماء الأخلاق والعقلاء وحتى التجّار في معاملاتهم الكسبية .
فبالمحاسبة ترجع النفسُ إلى الحق وتعمل به بعد المشارطة والمراقبة وتستشعر وجود حسيبٍ أكبرَ منها وهو الله تعالى فضلاً عن كونها الحسيب الأول على الإنسان في الجزاء والمصير والحساب .
(( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ))(14)الإسراء
والمُحاسبة هي إحصاء دقيقٍ وعميق لكلّ قصود وفعال النفس الإنسانية وهي القوام الأكبر في بُنية الإنسان صلاحاً وإصلاحاً وتكاملا .
ولها صورها المتكثّرة تطبيقا من الاستغفار والتوبة وحتى المعاقبة وقصد القربة الخالصة لله تعالى نيّة وسلوكا .
4/ اللُبنة الرابعة : المُعاتبة:
( وهي مُعاقبة النفس على تقصيرها ، والمجاهدة بتكليفها الطاعات الشاقة ، وإلزامها الرياضات الشديدة ، فإنه إذا حاسب نفسه ، فوجدها خائنة في الأعمال ، مرتكبة للمعاصي ، مقصرة في حقوق الله ، متوانية بحكم الكسل والبطالة في شيء من الفضائل ، فلا ينبغي أن يهملها ، إذ لو أهملها سهل عليه مقارفة المعاصي ، وأنس بها بحيث عثر بعد ذلك فطامها عنها .
فينبغي للعاقل أنْ يعاتبها أولاً ، ويقول : أفٍ لكِ يا نفس !
هلكتيني وعن قريب تُعذبين في النار مع الشياطين والأشرار
فيا أيتها النفس الأمارة الخبيثة !
أما تستحين وعن عيبكِ لا تنتهين ؟ !
فما أعظم جهلكِ وحماقتكِ !
أما تعرفين أنّ بين يديك الجنة والنار
وأنت صائرةٌ إلى إحداهما عن قريب ؟)
المُعاتبةُ هي لوم الإنسان نفسه حال الإساءة لوماً يستلزم إرجاعها إلى الحق والاستقامة بحيث يُحادثها ذاتيا وإيحائيا بحديث التذكير بالتقصير وعواقبه وبحديث المصير وتوابعه وبحديث التخويف والترهيب .
وللإنسان هنا أن يعاقب نفسه بالمجاهدات الفعليّة من امتثال الطاعات الواجبة والشاقة كالصوم مثلاً أو الامتناع عن اشباع الرغبات المُباحة والتي تحرص عليها النفسُ طلبا .
_____________________________________
انظر: رسائل الشهيد الثاني : الشهيد الثاني: ط ج :ج2:ص803-805.
انظر: جامع السعادات: النراقي :ج3:ص73 -79.
___________________________________
مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف
__________________________
قَدّمَ علماءُ الأخلاق لُبنات أربع وهي (المُشارطة / المرُاقبة / المُحاسبة /المُعاتبة)
تتقوم بها بُنيوية النفس الإنسانية في حَراكها الحياتي قصديّاً وسلوكيا .
ينبغي بالعقل العملي أنْ يتعاطى معها منهجاً وتطبيقا ضبطاً للنفس والسلوك في مُعترك التنازع بين القوى ومقاييسها وحدودها عقلا وشرعا .
وقد فصّل علماء الأخلاق في بيان هذه البُنى الأساسية زيادة في التأسيس والتطبيق والتهذيب قصدا وعملا .
وهي كما يلي :
ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِ ِِِِِ
1/ اللُبنة الأولى : المُشارطة :
( وهي أن يُشارطَ (الإنسانُ) النفسَ ويأخذ منها العهدَ والميثاقَ في كل يوم وليلة مرة ألاّ يرتكبَ المعاصي ، ولا يصدر منها شيء يوجب سخط الله ، ولا يقصر في شيء من الطاعات الواجبة ، ولا يترك ما تيسر له من الخيرات والنوافل )
إنَّ من الثابت واقعاً عند الإنسان هو علمه الحضوري والفعلي بوجود نفسه وإدراكها يقيناً وإحساسه ذاتياً بإرادته وميوله وتنازعاته ورغباته وشهواته
وكلُّ ذلك يضعه بحكم العقل العملي المودع فيه إلهيّا في إدراكه لما ينبغي فعله ولما لا ينبغي فعله وبحكم إرشاد الشرع الحكيم ومقتضيات الحكمة العملية
يضعه في منطقة التزكية الأخلاقية القائمة على أساسي التقديم التصوري والتصديقي في العقل والعمل .
((وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ))(223) البقرة
ويوجه علماء الأخلاق في هذه المنطقة (منطقة تزاحم وتنازع قوى النفس )
بإتّباع منهجية المُشارطة أو لغة وثقافة وسلوك الشرط والذي غالبا ما يضعه العقلاء في تعاقداتهم ضماناً لتحقيقها .
وكأنّ الإنسانَ يعيش مع شريكٍ ملازم(النفس) لا ينفك عنه وقوي في خياره وآثاره لا ينبغي التفريط به أو تجاهله أو التغافل عنه
كونه مما يمكن له أنْ يُفرّط بصاحبه أو يضره أو يأمره بالسوء أو يسوّل له أو يضله .
((أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ ))(56)الزمر
تلك هي النفس الإنسانية والتي تحتاج في التعاطي معها إلى لغة الشرط والتنبيه وبصورة دائمة وحاضرة .
وهذه المشارطة إنما تكون في طريقي التخلي (التخلي عن الرذائل)
والتحلي (التحلي بالفضائل) أو ما يُعرف بالشرع بترك المعاصي (المُحرّمات) وفعل الواجبات .
2/ اللُبنة الثانية : المُراقبة :
( وهي أن يراقبَ (الإنسان) نفسه عند الخوض في الأعمال ، فيلاحظها بالعين الكالئة (الحارسة) ، فإنها إنْ تركتْ طغتْ وفسدتْ ، ثم يراقب في كل حركة وسكون ، بأنْ يعلم أن الله تعالى مُطلع على الضمائر ، عالم بالسرائر ، رقيب على أعمال العباد ، قائمٌ على كل نفس بما كسبت ، وأنّ سِّر القلب في حقه مكشوف ، كما أنّ ظاهر البشرة للخلق مكشوف ، بل أشد من ذلك )
قال الله سبحانه :
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (1) النساء
وقال : ((أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى )) (14)العلق
وبعدما يُشارطُ الإنسانُ نفسه في عقده معها بشروط التخلي والتحلي
وترك المحرّمات وفعل الواجبات يأتي دور المراقبة والرصد لسلوك النفس في حَراكها الفعلي تقويماً لما يُتوقع منها من الأمر بالسوء وإتباع الهوى والتفريط أو الاستخفاف بالشرط .
فالمراقبة هي أشبه بنظام التحسس الوجداني رصداً لمخلوقٍ(النفس) يمتلك من القوى المتنازعة ما بها يَسعدُ صاحبها أو يَشقى .
و ليتمكن الإنسان من مسك عصا التحكم بالنفس واقعاً وإلاّ إذا نسي الالتفات والتوجه والحضور فسينسى خالقه ويفسق عن أمر ربه .
قال اللهُ تعالى :
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19)) الحشر
والقرآن الكريم في باب المراقبة يضعُ حفظ النفس وإصلاحها في أولويات الحَراك التقويمي والبنائي في مسار التزكية النفسيّة قصداً وسلوكا .
وهو ما يُستظهرُ من دلالة ومنطوق ((عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ )) في قوله تعالى:
(( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ))(105)المائدة
وعليكم : اسم فعل أمر أخذ جانب الإلزام الإرشادي طلباً من الله تعالى لإصلاح النفس والمحافظة عليها .
لينبه اللهُ تعالى على ضرورة الحضور العلمي والعملي في التعاطي مع النفس والتي تتأثر بغيرها وتؤثّر بصاحبها في جانبي الضلال والهدى .
3/ اللُبنة الثالثة :المُحاسَبة:
وهي ( إنَّ العبدَ كما يختار وقتاً في أول كل يوم ليشارط في النفس على
سبيل التوصية بالحق ، ينبغي له أن يختار وقتا آخر كل يوم ليطالب
النفس فيه بما أوصى به ، ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها ، كما
يفعل التجار في آخر كل سنة مع الشركاء .
وهذا أمر لازم على كل سالك لطريق الآخرة معتقد للحساب في يوم القيامة )
وقد ورد في الأخبار
( على العاقل ما لم يكن مغلوبا على عقله أن يكون له ساعات : ساعة يناجي فيها ربه عز وجل وساعة يحاسب نفسه ، وساعة يتفكر فيما صنع الله عز وجل إليه ، وساعة يخلو فيها بحظ نفسه من الحلال ، فإن هذه الساعة عون لتلك الساعات واستجمام للقلوب ، و توزيع لها وعلى العاقل أن يكون بصيرا بزمانه ، مقبلا على شأنه ، حافظا للسانه ، فإن من حسب كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه)
:الخصال:الصدوق:ص525.
إنَّ المُحاسبة هي لُبنة قوّامة تؤسس لإنسان مسؤول ونفس لوّامة
وهي من جملة ما اعتمده علماء الأخلاق والعقلاء وحتى التجّار في معاملاتهم الكسبية .
فبالمحاسبة ترجع النفسُ إلى الحق وتعمل به بعد المشارطة والمراقبة وتستشعر وجود حسيبٍ أكبرَ منها وهو الله تعالى فضلاً عن كونها الحسيب الأول على الإنسان في الجزاء والمصير والحساب .
(( وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ))(14)الإسراء
والمُحاسبة هي إحصاء دقيقٍ وعميق لكلّ قصود وفعال النفس الإنسانية وهي القوام الأكبر في بُنية الإنسان صلاحاً وإصلاحاً وتكاملا .
ولها صورها المتكثّرة تطبيقا من الاستغفار والتوبة وحتى المعاقبة وقصد القربة الخالصة لله تعالى نيّة وسلوكا .
4/ اللُبنة الرابعة : المُعاتبة:
( وهي مُعاقبة النفس على تقصيرها ، والمجاهدة بتكليفها الطاعات الشاقة ، وإلزامها الرياضات الشديدة ، فإنه إذا حاسب نفسه ، فوجدها خائنة في الأعمال ، مرتكبة للمعاصي ، مقصرة في حقوق الله ، متوانية بحكم الكسل والبطالة في شيء من الفضائل ، فلا ينبغي أن يهملها ، إذ لو أهملها سهل عليه مقارفة المعاصي ، وأنس بها بحيث عثر بعد ذلك فطامها عنها .
فينبغي للعاقل أنْ يعاتبها أولاً ، ويقول : أفٍ لكِ يا نفس !
هلكتيني وعن قريب تُعذبين في النار مع الشياطين والأشرار
فيا أيتها النفس الأمارة الخبيثة !
أما تستحين وعن عيبكِ لا تنتهين ؟ !
فما أعظم جهلكِ وحماقتكِ !
أما تعرفين أنّ بين يديك الجنة والنار
وأنت صائرةٌ إلى إحداهما عن قريب ؟)
المُعاتبةُ هي لوم الإنسان نفسه حال الإساءة لوماً يستلزم إرجاعها إلى الحق والاستقامة بحيث يُحادثها ذاتيا وإيحائيا بحديث التذكير بالتقصير وعواقبه وبحديث المصير وتوابعه وبحديث التخويف والترهيب .
وللإنسان هنا أن يعاقب نفسه بالمجاهدات الفعليّة من امتثال الطاعات الواجبة والشاقة كالصوم مثلاً أو الامتناع عن اشباع الرغبات المُباحة والتي تحرص عليها النفسُ طلبا .
_____________________________________
انظر: رسائل الشهيد الثاني : الشهيد الثاني: ط ج :ج2:ص803-805.
انظر: جامع السعادات: النراقي :ج3:ص73 -79.
___________________________________
مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف