بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
:
وقفة عند نصّ المحاورة التي دارتْ بين الزهراء وبين سيّد الأوصياء "عليهما السلام"، بعد أن ألقتْ السيدة #الزهراء خُطبتها الفدكيّة المُفصّلة الأولى في المسجد وجرتْ التفاصيل هُناك.. عادت الزهراء بعد ذلك إلى دارها وألقتْ خُطبةً في دارها ظاهرُها العتاب لسيّد الأوصياء.. تقول فيها:
(ثُمّ انكفأتْ وأميرُ المؤمنين يتوقّعُ رُجوعَها إليه، ويتطلّعُ طُلوعها عليهِ، فلمّا استقرّتْ بها الدار - أي رجعتْ إلى البيت - قالتْ لأمير المُؤمنين:
يابن أبي طالب اشتملتَ شمْلَةَ الجنين - وعلى نسخة مشيمةَ الجنين - وقعدتَ حُجرةَ الظنين، نقضتَ قادمة الأجدل فخانك ريشُ الأعزل، هذا ابن أبي قحافة يبتزّني نُحيلةَ أبي - تصغير نِحلة وهي الهدية - وبُلْغة ابنيّ - أي هذا المقدار المُختصر الذي يُصرَفُ في شُؤونهما - لقد أجهدَ في خِصامي، وألفيتهُ ألدَّ في كلامي - أي مُعادياً لي في كلامي - حتَّى حبستني قيْلةُ نصْرها والمهاجرة وصْلها، وغضّتْ الجماعة دُوني طَرْفها، فلا دافعَ ولا مانع، خرجتُ كاظمة وعُدتُ راغمة، أضرعتَ خدَّك يومَ أضعتَ حدَّك، افترستَ الذئاب وافترشتَ التراب، ما كففتَ قائلاً ولا أغنيتَ طائلاً، ولا خيار لي،
ليتني مِتُّ قبل هنيئتي ودُون ذلّتي - قبل أن أُصاب بالذلّ - عذيري الله منهُ عادياً ومنكَ حامياً، ويلاي في كلِّ شارق، ويلاي في كلِّ غارب - أي: لي الويل عند كلّ صباح وعند كلّ غروب - مات العَمَد - تُشير إلى النبيّ - ووهن العَضُد - تُشير إلى عليّ - شكواي إلى أبي وعدواي إلى ربّي! الّلهم إنّك أشدُّ منهم قوّة وحولاً، وأشدُّ بأساً وتنكيلا.
فقال أمير المؤمنين:
لا ويل لكِ ، بل الويل لشانئكِ ، ثُمّ نهنهي عن وجدكِ يا ابنةَ الصفوة ، وبقيّة النبوّة ، فما ونيتُ - أي ضعفتُ - عن دِيني، ولا أخطأتُ مقدوري - أي الذي قُدّر وخُطّط لي مِن قِبَل النبي - فإنْ كنتِ تُريدين البُلْغة - المصارف الحياتيّة اليوميّة - فرزقُكِ مضمون، وكفيلكِ مأمون ، وما أُعِدَّ لكِ أفضلَ ممّا قُطِعَ عنكِ، فاحتسبي الله. فقالتْ: حسبي الله، وأمسكتْ)
[الاحتجاج]
〰〰〰〰〰
[[توضيحات]]
✦ هذهِ الصيغة مِن الزهراء (يا بن أبي طالب) وهي تُخاطبُ سيّد الأوصياء، هي صيغةٌ غاضبة.. فإنَّ عادةَ الزهراء هي أن تُخاطبَ سيّد الأوصياء: "يا أبا الحسن" كما في حديث الكساء الشريف.. ولكن هُنا تُخاطبُ سيّد الأوصياء بصيغةٍ غاضبة.. وسنعرف في هذا الموضوع لِماذا خاطبتْ الزهراء سيّد الأوصياء بهذهِ الصيغةِ الغاضبة.
✦ قولها: (اشتملتَ شمْلَةَ الجنين) أي: جمعتَ نفسكَ مِثل الجنين، وأخفيتَ نفسكَ عن الواقع الخارجي (وكأنّها تُريد أن تقولَ لهُ: أنّكَ اعتزلتَ ما يجري خارج البيت وتركتني لوحدي.. ذهبتُ ألقي خطاباً بين الرجال).
✦ قولها: (وقعدتَ حُجرة الظنين) : الظنين هُو الذي تكثرُ الاتّهاماتُ عليه مِن قِبل الآخرين، ومِن الطبيعي أن يكونَ خائفاً، خُصوصاً حينما تكونُ الاتّهامات مِن أصحاب السُلطة الذين يستطيعون أن يفعلوا ما يُريدون وأن يُنفّذوا تهديدهم. (كأنّها تُريد أن تقول: قعدتَ مُختفياً كذاك المُتّهم الخائف!)
✦ قولها: (نَقضتَ قادمةَ الأجدل، فَخانكَ ريشُ الأعزل) الأجدل: هو النسْر المُحلّق.. هُناك مجموعةٌ مِن الريش في الطيور تُسمَّى (الريش القوادم) تكون في مقدّمةِ أجنحة الطيور، وهي التي تُساعدها على الطيران.. فكأنَّ الزهراء تُريد أن تقول أنَّ أمر سيّد الأوصياء مثل هذا النسْر الذي أزالَ قوادمهُ فهو لا يطير!
وأمَّا الأعزل: فهو الطائرُ حِين تُنتَفُ قوادمُهُ.. فيبقى الزَغَبُ والريشُ الباقي، فيُسمَّى الطائرُ حينئذٍ بالأعزل (فكأنَّ سيّد الأوصياء صارَ كالطائر الأعزل مِن دُون سلاح)!
✦ قولها وهي تتحدّث عن أبي بكر: (لقد أجهد في خصامي) أي أنّهُ بذلَ الجُهْد في مُخاصمتي، والمُخاصمة: هي المُناقشة المُشبَعة بالمُنافرة والعَداوة والمُعاندة..!
✦ قولها (حتّى حبستني قَيْلةُ نصْرها، المُهاجرة وصْلها) قَيلة: اسمُ أمٍّ قديمة في التأريخ للأوس والخزرج.. فالأوس والخزرج أساساً مِن قبيلة واحدة (هُم أبناء عمومة) لكنّهم تفرّقوا بعد ذلك واختلفوا، ووقعتْ السُيوف والدماء فيما بينهم، فكانتْ الأوس وكانتْ الخزرج.. و"قَيلة" هي أمُّ الاثنينِ قديماً.. وهذا التعبيرُ: "حبستني قيلةُ نصرها" يُقال للاستصغار مِن شأنهم.. أمَّا ذكرها للمهاجرةُ فباعتبار أنَّ المُهاجرة مِن قريش، وفيما بين بني هاشم وقُريش صِلة رحم.
✦ قولها: (خرجتُ كاظمة وعُدتُ راغمة) أي: خرجتُ مِن بيتي غاضبةً، أكظمُ غيظي فلم أُظهِر غضبي، بل تَحدّثتُ بحديثِ العقل والمنطق والكتاب، بحديثِ محمّدٍ "صلّى الله عليه وآله" وعُدتُ راغمة: أي عدتُ ذليلة!
✦ قولها وهي تُخاطب سيّد الأوصياء: (أضْرعتَ خدّك يوم أضعتَ حدّك) أي وضعتَ خدّك في موضعَ المهانة (يوم أضعتَ حدّك) أي يوم تركتَ القوم يدوسونَ على حُدودكَ، وهي هُنا تُشير إلى خِلافتهِ "عليه السلام" (
أي إنّك يوم سكتَّ عن خلافتكَ، وعن منصبكَ الذي وضعكَ فيه رسول الله فأنتَ بذلك أضعتَ حدودكَ، وأضرعتَ خدّك).
✦ قولها (افترستَ الذئاب وافترشتَ التُراب) العبارةُ هنا دقيقة جدّاً، لأنَّ الزهراء لم تقلْ: "افترستَ الأسود" وإنّما قالت: الذئاب. لأنَّ الذين يُعادونَ محمّداً وآل محمّد ليسوا بأسود، وإنّما ذئابٌ غادرة!.. وقولها: (وافترشتَ التراب) أي: أنتَ تمتلك القُدرة، فلماذا افترشتَ التُراب ولم تصنع شيئاً؟! وهي بذلك تُشير إلى المهانة والمذلّة.
✦ قولها (ما كففتَ قائلاً، ولا أغنيتَ طائلاً) أي ما رددتَ حتّى على قائلهم الذي يتحدّث ويُجادل.. وأنتَ صاحب الّلسان والمنطق..!! (ولا أغنيتَ طائلاً) أي ما صنعتَ شيئاً للطائلِ الذي يطلبُ الطَول والفَضْل.
✦ قولها (ليتني مِتُّ قبل هُنيئتي ودُون ذلّتي) أي ليتني مِتُّ قبل الّلحظةِ التي دخلتُ فيها على أبي بكر في المسجد.
✦ قولها (عَذيري الله منه عادياً ومنكَ حامياً) يعني اللهُ عاذري إنْ قلتُ فيه - أي في عدوي - ما قلتُ، وقلتُ فيكَ ما قُلت؛ لأنّك أنتَ الذي تحميني ولكنّك قصّرتَ عن حمايتي!
✦ قولها (شكواي إلى أبي وعدواي إلى ربّي) العدوى هُنا هي الشكوى ولكنَّها مصحوبةٌ بالمُطالبةِ بالانتقام، فهي أكثرُ مِن الشكوى!
〰〰〰〰〰
هذهِ المُحاورة بين سيّد الأوصياء والصدّيقة الكبرى "عليهما السلام" لم تكنْ حديثاً سرّياً.. لو كانتْ حديثاً سرّياً لَما وَصَل إلينا.. هذهِ المُحاورة تشتملُ على نُقطتين:
✽ النقطة (1) : هُناك عتابٌ شديدٌ واضح وتقريعٌ وتعنيف مِن الزهراء لسيّد الأوصياء بِحَسَب البناء الّلفظي وبحَسَب طريقة الحوار والمُحادثة التي ذُكرتْ بالأعلى.
✽ النقطة (2) : أنَّ خطابَ أمير المؤمنين في هذهِ المُحاورة يشتملُ على تهدئةِ للوضع، وعلى تسطيحٍ للموضوع (حين يقول لها: نهنهي عن وجدكِ يابنة الصفوة)!
يعني سيّد الأوصياء يقول: أأنتِ تُريدين (البُلْغة) وهي المصارف اليومية؟ إنْ كُنتِ تُريدين ذلك فرزقكِ مضمون (وهذا تسطيح واضح للموضوع) فهل أنَّ الزهراء ذهبتْ إلى المسجد تبحثُ عن مصارف لشؤون الحياة اليومية؟!
هذا هُو المضمون الإجمالي لهذهِ المُحاورة لكلّ مَن يقرأ المُحاورة مُعتمداً في فَهْمهِ فقط على (البيانات الّلغوية) بعيداً عن فَهْم معاريض كلام أهل البيت "عليهم السلام".. وهذا فهمٌ خاطئٌ لكلام أهل البيت.
هذا الفَهم الّلغوي السطحي هو الذي جعل أحدَ مراجع الشيعة يُسيئُ إلى الصدّيقة الكُبرى وينتقصُ مِن مقامها الأقدس مِن حيث لا يشعر.. فقال عنها أنَّها في هذا الحوار مع سيّد الأوصياء "خرجتْ عن حُدود الآداب"..!!! وهي عبارة في غاية السفاهة والحماقة.. وإنّما قال ذلك لأنّهُ لم يَفهم مقصود الزهراء ولا يعرفُ شيئاً مِن معاريض كلام أهل البيت ولحن قولهم، فاعتمد في فَهمهِ على الفَهْم الّلغوي فقط.. وقَطعاً لا يُمكن أن تقف المعاني عند هذهِ الحُدود الظاهرية الّلفظية.. هُناك شيءٌ أعمق وراء هذهِ المعاني.
؛
هذا الخطاب مِن السيدة الزهراء الّذي ظاهرهُ عَتَب وتقريعٌ شديد لأمير المؤمنين إنَّه جُزءٌ مِن الكيد الرحماني (الكيد النبوي) لأنَّ القوم كانوا يتجسَّسون على بيتِ عليٍّ وفاطمة "صلواتُ الله وسلامهُ عليهما" فإنَّ بيتَ الزهراء في المسجد، وهي خطبتْ في المسجد ثُمَّ دخلتْ إلى بيتها المُلاصق للمسجد والقوم يتجسّسون على دارها وهي تعلمُ بذلك.
لذلك أرادتْ الصدّيقة الكُبرى مع سيّد الأوصياء أن يُوصلا رسالتين مِن خلال هذهِ المحاورة إلى الَّذين يتجسّسون على دار الزهراء ويُوصلون المعلومات إلى الحاكمين في ذلك الوقت.
◈ الرسالة الأولى: أنَّ #أميرالمؤمنين لم يكنْ وراءَ برنامجِ السيدة #الزهراء حِين أخذتْ مَجموعةً مِن النساء ودَخلتْ إلى المسجد وألقتْ خُطبتها الفدكيّة وحاورتْ الأنصار والمُهاجرين وجادلتْ !وناقشتْ #الخليفة #وأفحمتهُ #وفضحتْ القوم جميعاً بخطابها البليغ.. #لأنَّ #أبوبكرٍ كان قد أشارَ في كلامهِ إلى ذلك،
#أشار إلى أنَّ أمير المؤمنين هُو المخطِط لهذهِ المسألة وهُو وراء هذهِ الخُطبة الفدكيّة المفصَّلة.!
◈ الرسالة الثانية التي أرادتْ السيدة #الزهراء #وسيّد الأوصياء أن #يُوصلها لهم، هي: أنَّ أميرَ المُؤمنين قد أعرضَ عن حَقِّهِ في الخلافة وهُو يُريد أنْ يُرتِّب أُمورَ بيتهِ بحَسَب ما يمكن أنْ يُرتِّبها.
لأنَّ #الأميرُ #والزهراءُ "صلواتُ اللهِ عليهما" في مواجهةِ خُطَّةٍ طويلةٍ عريضة، وهذا الأسلوب في الحديث بين السيدة #الزهراء #وسيّد الأوصياء هو #جزءٌ مِن المَكر النبوي - كما أشرنا - فهو يُربك تفكير الّذي يُتابع ويُراقب ويتجسّس.. وهذهِ القضيَّة نفسها هي الّتي تجعل الأئمّةَ في بعض الأحيان يُسمُّون أولادهم بأسماء أعدائهم.. القضيَّةُ هِيَ هِي..
هذا جزء من الكيد النبوي، لأنَّ الخَصْم حين يَرى خصْمهُ قد سمَّى أبناءهُ باسمهِ يحدث في بالهِ تصوّر أو على الأقل إرباك بأنَّ هذا الشخص الّذي سمَّى ولدهُ باسْمِ عدوّهِ قد تغيَّر.
كما هو الحالُ في قصَّةِ النبيّ إبراهيم حين سمَّى الكو
كب ربّي وسمَّى القمر ربّي وسمَّى الشمس ربّي مُسايرةً ومُجاراةً لقومهِ في وجهٍ مِن وجوه الآيات وللآياتِ وجوهٌ أخرى.. فذلكَ كان على سبيل المكيدة في الحقّ، أي في الكيد الربّاني.. كما نقرأ في الدعاء: (والْطُفْ لَهُم فِي الْمَكر).. كذلكَ الأئمّة سمُّوا أولادَهم بأسماءِ أعدائهم ولأولادهم أسماءٌ أخرى، لأنَّ الأولاد يُعطَون ألقاباً وكُنى وأسماء وأكثر مِن اسْم.
✸ قد يقول قائل:
ربَّما لا يُصدِّقُ القوم هذه المُحاورة الفاطميّة العَلويّة؟! ونقول: نعم، هذا الاحتمال وارد، ولكن حتَّى لو لم يُصدقوا فإنَّ هذا الكلام سيكسر مِن حدّة القوم.. فلو أنَّ أميرَ المؤمنين والزهراء ظَهَر منهما في هذهِ المحاورة التوعُّد الشديد والتخطيط لأمْرٍ سيكونُ بِشكلٍ مُباشرٍ ومُضادٍّ لهؤلاء فقَطعاً هذا الأمر سيُثيرُ القوم، وإثارتُهم في مثْلِ هذهِ الظروف لا فائدة فيها، فالتهدئةُ ستكونُ أفضل هُنا.. لأنَّ #الأميرُ #والزهراءُ كانا في #مواجهةِ #مُخطّطٍ طويل عريض بدأ مِن يوم كتابة الصحيفة المشؤومة.
:
#الثقافة_الزهرائية
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
:
وقفة عند نصّ المحاورة التي دارتْ بين الزهراء وبين سيّد الأوصياء "عليهما السلام"، بعد أن ألقتْ السيدة #الزهراء خُطبتها الفدكيّة المُفصّلة الأولى في المسجد وجرتْ التفاصيل هُناك.. عادت الزهراء بعد ذلك إلى دارها وألقتْ خُطبةً في دارها ظاهرُها العتاب لسيّد الأوصياء.. تقول فيها:
(ثُمّ انكفأتْ وأميرُ المؤمنين يتوقّعُ رُجوعَها إليه، ويتطلّعُ طُلوعها عليهِ، فلمّا استقرّتْ بها الدار - أي رجعتْ إلى البيت - قالتْ لأمير المُؤمنين:
يابن أبي طالب اشتملتَ شمْلَةَ الجنين - وعلى نسخة مشيمةَ الجنين - وقعدتَ حُجرةَ الظنين، نقضتَ قادمة الأجدل فخانك ريشُ الأعزل، هذا ابن أبي قحافة يبتزّني نُحيلةَ أبي - تصغير نِحلة وهي الهدية - وبُلْغة ابنيّ - أي هذا المقدار المُختصر الذي يُصرَفُ في شُؤونهما - لقد أجهدَ في خِصامي، وألفيتهُ ألدَّ في كلامي - أي مُعادياً لي في كلامي - حتَّى حبستني قيْلةُ نصْرها والمهاجرة وصْلها، وغضّتْ الجماعة دُوني طَرْفها، فلا دافعَ ولا مانع، خرجتُ كاظمة وعُدتُ راغمة، أضرعتَ خدَّك يومَ أضعتَ حدَّك، افترستَ الذئاب وافترشتَ التراب، ما كففتَ قائلاً ولا أغنيتَ طائلاً، ولا خيار لي،
ليتني مِتُّ قبل هنيئتي ودُون ذلّتي - قبل أن أُصاب بالذلّ - عذيري الله منهُ عادياً ومنكَ حامياً، ويلاي في كلِّ شارق، ويلاي في كلِّ غارب - أي: لي الويل عند كلّ صباح وعند كلّ غروب - مات العَمَد - تُشير إلى النبيّ - ووهن العَضُد - تُشير إلى عليّ - شكواي إلى أبي وعدواي إلى ربّي! الّلهم إنّك أشدُّ منهم قوّة وحولاً، وأشدُّ بأساً وتنكيلا.
فقال أمير المؤمنين:
لا ويل لكِ ، بل الويل لشانئكِ ، ثُمّ نهنهي عن وجدكِ يا ابنةَ الصفوة ، وبقيّة النبوّة ، فما ونيتُ - أي ضعفتُ - عن دِيني، ولا أخطأتُ مقدوري - أي الذي قُدّر وخُطّط لي مِن قِبَل النبي - فإنْ كنتِ تُريدين البُلْغة - المصارف الحياتيّة اليوميّة - فرزقُكِ مضمون، وكفيلكِ مأمون ، وما أُعِدَّ لكِ أفضلَ ممّا قُطِعَ عنكِ، فاحتسبي الله. فقالتْ: حسبي الله، وأمسكتْ)
[الاحتجاج]
〰〰〰〰〰
[[توضيحات]]
✦ هذهِ الصيغة مِن الزهراء (يا بن أبي طالب) وهي تُخاطبُ سيّد الأوصياء، هي صيغةٌ غاضبة.. فإنَّ عادةَ الزهراء هي أن تُخاطبَ سيّد الأوصياء: "يا أبا الحسن" كما في حديث الكساء الشريف.. ولكن هُنا تُخاطبُ سيّد الأوصياء بصيغةٍ غاضبة.. وسنعرف في هذا الموضوع لِماذا خاطبتْ الزهراء سيّد الأوصياء بهذهِ الصيغةِ الغاضبة.
✦ قولها: (اشتملتَ شمْلَةَ الجنين) أي: جمعتَ نفسكَ مِثل الجنين، وأخفيتَ نفسكَ عن الواقع الخارجي (وكأنّها تُريد أن تقولَ لهُ: أنّكَ اعتزلتَ ما يجري خارج البيت وتركتني لوحدي.. ذهبتُ ألقي خطاباً بين الرجال).
✦ قولها: (وقعدتَ حُجرة الظنين) : الظنين هُو الذي تكثرُ الاتّهاماتُ عليه مِن قِبل الآخرين، ومِن الطبيعي أن يكونَ خائفاً، خُصوصاً حينما تكونُ الاتّهامات مِن أصحاب السُلطة الذين يستطيعون أن يفعلوا ما يُريدون وأن يُنفّذوا تهديدهم. (كأنّها تُريد أن تقول: قعدتَ مُختفياً كذاك المُتّهم الخائف!)
✦ قولها: (نَقضتَ قادمةَ الأجدل، فَخانكَ ريشُ الأعزل) الأجدل: هو النسْر المُحلّق.. هُناك مجموعةٌ مِن الريش في الطيور تُسمَّى (الريش القوادم) تكون في مقدّمةِ أجنحة الطيور، وهي التي تُساعدها على الطيران.. فكأنَّ الزهراء تُريد أن تقول أنَّ أمر سيّد الأوصياء مثل هذا النسْر الذي أزالَ قوادمهُ فهو لا يطير!
وأمَّا الأعزل: فهو الطائرُ حِين تُنتَفُ قوادمُهُ.. فيبقى الزَغَبُ والريشُ الباقي، فيُسمَّى الطائرُ حينئذٍ بالأعزل (فكأنَّ سيّد الأوصياء صارَ كالطائر الأعزل مِن دُون سلاح)!
✦ قولها وهي تتحدّث عن أبي بكر: (لقد أجهد في خصامي) أي أنّهُ بذلَ الجُهْد في مُخاصمتي، والمُخاصمة: هي المُناقشة المُشبَعة بالمُنافرة والعَداوة والمُعاندة..!
✦ قولها (حتّى حبستني قَيْلةُ نصْرها، المُهاجرة وصْلها) قَيلة: اسمُ أمٍّ قديمة في التأريخ للأوس والخزرج.. فالأوس والخزرج أساساً مِن قبيلة واحدة (هُم أبناء عمومة) لكنّهم تفرّقوا بعد ذلك واختلفوا، ووقعتْ السُيوف والدماء فيما بينهم، فكانتْ الأوس وكانتْ الخزرج.. و"قَيلة" هي أمُّ الاثنينِ قديماً.. وهذا التعبيرُ: "حبستني قيلةُ نصرها" يُقال للاستصغار مِن شأنهم.. أمَّا ذكرها للمهاجرةُ فباعتبار أنَّ المُهاجرة مِن قريش، وفيما بين بني هاشم وقُريش صِلة رحم.
✦ قولها: (خرجتُ كاظمة وعُدتُ راغمة) أي: خرجتُ مِن بيتي غاضبةً، أكظمُ غيظي فلم أُظهِر غضبي، بل تَحدّثتُ بحديثِ العقل والمنطق والكتاب، بحديثِ محمّدٍ "صلّى الله عليه وآله" وعُدتُ راغمة: أي عدتُ ذليلة!
✦ قولها وهي تُخاطب سيّد الأوصياء: (أضْرعتَ خدّك يوم أضعتَ حدّك) أي وضعتَ خدّك في موضعَ المهانة (يوم أضعتَ حدّك) أي يوم تركتَ القوم يدوسونَ على حُدودكَ، وهي هُنا تُشير إلى خِلافتهِ "عليه السلام" (
أي إنّك يوم سكتَّ عن خلافتكَ، وعن منصبكَ الذي وضعكَ فيه رسول الله فأنتَ بذلك أضعتَ حدودكَ، وأضرعتَ خدّك).
✦ قولها (افترستَ الذئاب وافترشتَ التُراب) العبارةُ هنا دقيقة جدّاً، لأنَّ الزهراء لم تقلْ: "افترستَ الأسود" وإنّما قالت: الذئاب. لأنَّ الذين يُعادونَ محمّداً وآل محمّد ليسوا بأسود، وإنّما ذئابٌ غادرة!.. وقولها: (وافترشتَ التراب) أي: أنتَ تمتلك القُدرة، فلماذا افترشتَ التُراب ولم تصنع شيئاً؟! وهي بذلك تُشير إلى المهانة والمذلّة.
✦ قولها (ما كففتَ قائلاً، ولا أغنيتَ طائلاً) أي ما رددتَ حتّى على قائلهم الذي يتحدّث ويُجادل.. وأنتَ صاحب الّلسان والمنطق..!! (ولا أغنيتَ طائلاً) أي ما صنعتَ شيئاً للطائلِ الذي يطلبُ الطَول والفَضْل.
✦ قولها (ليتني مِتُّ قبل هُنيئتي ودُون ذلّتي) أي ليتني مِتُّ قبل الّلحظةِ التي دخلتُ فيها على أبي بكر في المسجد.
✦ قولها (عَذيري الله منه عادياً ومنكَ حامياً) يعني اللهُ عاذري إنْ قلتُ فيه - أي في عدوي - ما قلتُ، وقلتُ فيكَ ما قُلت؛ لأنّك أنتَ الذي تحميني ولكنّك قصّرتَ عن حمايتي!
✦ قولها (شكواي إلى أبي وعدواي إلى ربّي) العدوى هُنا هي الشكوى ولكنَّها مصحوبةٌ بالمُطالبةِ بالانتقام، فهي أكثرُ مِن الشكوى!
〰〰〰〰〰
هذهِ المُحاورة بين سيّد الأوصياء والصدّيقة الكبرى "عليهما السلام" لم تكنْ حديثاً سرّياً.. لو كانتْ حديثاً سرّياً لَما وَصَل إلينا.. هذهِ المُحاورة تشتملُ على نُقطتين:
✽ النقطة (1) : هُناك عتابٌ شديدٌ واضح وتقريعٌ وتعنيف مِن الزهراء لسيّد الأوصياء بِحَسَب البناء الّلفظي وبحَسَب طريقة الحوار والمُحادثة التي ذُكرتْ بالأعلى.
✽ النقطة (2) : أنَّ خطابَ أمير المؤمنين في هذهِ المُحاورة يشتملُ على تهدئةِ للوضع، وعلى تسطيحٍ للموضوع (حين يقول لها: نهنهي عن وجدكِ يابنة الصفوة)!
يعني سيّد الأوصياء يقول: أأنتِ تُريدين (البُلْغة) وهي المصارف اليومية؟ إنْ كُنتِ تُريدين ذلك فرزقكِ مضمون (وهذا تسطيح واضح للموضوع) فهل أنَّ الزهراء ذهبتْ إلى المسجد تبحثُ عن مصارف لشؤون الحياة اليومية؟!
هذا هُو المضمون الإجمالي لهذهِ المُحاورة لكلّ مَن يقرأ المُحاورة مُعتمداً في فَهْمهِ فقط على (البيانات الّلغوية) بعيداً عن فَهْم معاريض كلام أهل البيت "عليهم السلام".. وهذا فهمٌ خاطئٌ لكلام أهل البيت.
هذا الفَهم الّلغوي السطحي هو الذي جعل أحدَ مراجع الشيعة يُسيئُ إلى الصدّيقة الكُبرى وينتقصُ مِن مقامها الأقدس مِن حيث لا يشعر.. فقال عنها أنَّها في هذا الحوار مع سيّد الأوصياء "خرجتْ عن حُدود الآداب"..!!! وهي عبارة في غاية السفاهة والحماقة.. وإنّما قال ذلك لأنّهُ لم يَفهم مقصود الزهراء ولا يعرفُ شيئاً مِن معاريض كلام أهل البيت ولحن قولهم، فاعتمد في فَهمهِ على الفَهْم الّلغوي فقط.. وقَطعاً لا يُمكن أن تقف المعاني عند هذهِ الحُدود الظاهرية الّلفظية.. هُناك شيءٌ أعمق وراء هذهِ المعاني.
؛
هذا الخطاب مِن السيدة الزهراء الّذي ظاهرهُ عَتَب وتقريعٌ شديد لأمير المؤمنين إنَّه جُزءٌ مِن الكيد الرحماني (الكيد النبوي) لأنَّ القوم كانوا يتجسَّسون على بيتِ عليٍّ وفاطمة "صلواتُ الله وسلامهُ عليهما" فإنَّ بيتَ الزهراء في المسجد، وهي خطبتْ في المسجد ثُمَّ دخلتْ إلى بيتها المُلاصق للمسجد والقوم يتجسّسون على دارها وهي تعلمُ بذلك.
لذلك أرادتْ الصدّيقة الكُبرى مع سيّد الأوصياء أن يُوصلا رسالتين مِن خلال هذهِ المحاورة إلى الَّذين يتجسّسون على دار الزهراء ويُوصلون المعلومات إلى الحاكمين في ذلك الوقت.
◈ الرسالة الأولى: أنَّ #أميرالمؤمنين لم يكنْ وراءَ برنامجِ السيدة #الزهراء حِين أخذتْ مَجموعةً مِن النساء ودَخلتْ إلى المسجد وألقتْ خُطبتها الفدكيّة وحاورتْ الأنصار والمُهاجرين وجادلتْ !وناقشتْ #الخليفة #وأفحمتهُ #وفضحتْ القوم جميعاً بخطابها البليغ.. #لأنَّ #أبوبكرٍ كان قد أشارَ في كلامهِ إلى ذلك،
#أشار إلى أنَّ أمير المؤمنين هُو المخطِط لهذهِ المسألة وهُو وراء هذهِ الخُطبة الفدكيّة المفصَّلة.!
◈ الرسالة الثانية التي أرادتْ السيدة #الزهراء #وسيّد الأوصياء أن #يُوصلها لهم، هي: أنَّ أميرَ المُؤمنين قد أعرضَ عن حَقِّهِ في الخلافة وهُو يُريد أنْ يُرتِّب أُمورَ بيتهِ بحَسَب ما يمكن أنْ يُرتِّبها.
لأنَّ #الأميرُ #والزهراءُ "صلواتُ اللهِ عليهما" في مواجهةِ خُطَّةٍ طويلةٍ عريضة، وهذا الأسلوب في الحديث بين السيدة #الزهراء #وسيّد الأوصياء هو #جزءٌ مِن المَكر النبوي - كما أشرنا - فهو يُربك تفكير الّذي يُتابع ويُراقب ويتجسّس.. وهذهِ القضيَّة نفسها هي الّتي تجعل الأئمّةَ في بعض الأحيان يُسمُّون أولادهم بأسماء أعدائهم.. القضيَّةُ هِيَ هِي..
هذا جزء من الكيد النبوي، لأنَّ الخَصْم حين يَرى خصْمهُ قد سمَّى أبناءهُ باسمهِ يحدث في بالهِ تصوّر أو على الأقل إرباك بأنَّ هذا الشخص الّذي سمَّى ولدهُ باسْمِ عدوّهِ قد تغيَّر.
كما هو الحالُ في قصَّةِ النبيّ إبراهيم حين سمَّى الكو
كب ربّي وسمَّى القمر ربّي وسمَّى الشمس ربّي مُسايرةً ومُجاراةً لقومهِ في وجهٍ مِن وجوه الآيات وللآياتِ وجوهٌ أخرى.. فذلكَ كان على سبيل المكيدة في الحقّ، أي في الكيد الربّاني.. كما نقرأ في الدعاء: (والْطُفْ لَهُم فِي الْمَكر).. كذلكَ الأئمّة سمُّوا أولادَهم بأسماءِ أعدائهم ولأولادهم أسماءٌ أخرى، لأنَّ الأولاد يُعطَون ألقاباً وكُنى وأسماء وأكثر مِن اسْم.
✸ قد يقول قائل:
ربَّما لا يُصدِّقُ القوم هذه المُحاورة الفاطميّة العَلويّة؟! ونقول: نعم، هذا الاحتمال وارد، ولكن حتَّى لو لم يُصدقوا فإنَّ هذا الكلام سيكسر مِن حدّة القوم.. فلو أنَّ أميرَ المؤمنين والزهراء ظَهَر منهما في هذهِ المحاورة التوعُّد الشديد والتخطيط لأمْرٍ سيكونُ بِشكلٍ مُباشرٍ ومُضادٍّ لهؤلاء فقَطعاً هذا الأمر سيُثيرُ القوم، وإثارتُهم في مثْلِ هذهِ الظروف لا فائدة فيها، فالتهدئةُ ستكونُ أفضل هُنا.. لأنَّ #الأميرُ #والزهراءُ كانا في #مواجهةِ #مُخطّطٍ طويل عريض بدأ مِن يوم كتابة الصحيفة المشؤومة.
:
#الثقافة_الزهرائية
لماذا عاتبتْ السيدة الزهراء أميرالمؤمنين..!! ولماذا أجابها الأمير بشكلٍ تسطيحي للموضوع..؟!
تعليق