ما برح القرآن العظيم يتبوأ القمة الشامخة في حياة الانسانية ، وما زالت تعليماته الهادفة تنطلق مع الانسان في مسيرته الواعية ، فهو نبع ثرٌّ من المعارف لا يغور ، وهو ألقٌ حيٌّ من الفضائل لا يخبو ، وهو يجمع إلى عمق النهج الديني أروع مظاهر النهج الفني ، فيلتقي هذان الملحظان بقدر يعجز معه فقه البشر على أن يأتي بشيء من مثله ، وكلما تقدمت الحضارة شوطاً في المعرفة والوعي أدركت في القرآن ما لا يدرك في سواه ، ذلك أنه كلام الله المنزل على نبيه المرسل .
والمتخصصون في علوم القرآن وعوالم التأويل وحقائق التفسير أولئك وحدهم الذي يصح لهم فنياً خوض غمار هذا البحر المتلاطم الأمواج ، فيغوصون إلى أعماقه الرهيبة ملتقطين غرر جواهره ، ومكتشفين كنوزه الثمينة ومع مسيرة الاجيال المتحررة يتبلور الجديد النابض من عطاء القرآن ، ويتمحور المجهول في كشوفه الابداعية ، فتتقاطر الأسرار الإلهية زاخرة بالمثل العليا .
القرآن كتاب هداية وتشريع لا شك في هذا ، ولكنه كتاب استقراء لمجاهيل الكون ، وأثباج الطبيعة ، ومفاوز الفضاء ، ومسالك ما تحت الأرض ، وهو أيضاً المصدر الحقيقي الدقيق لتأريخ الديانات السماوية ، وحياة الرسل والأنبياء والشهداء والصديقين ، وهو كذلك النموذج الأرقى في استيعاب مشكلات الأزمنة المتناقضة بين السلب والايجاب ، يجد حلولها ، ويوفر علاجها .
هذا المنظور الرائع للقرآن يوحي بعالمية القرآن ، وهذا الفهم الرصين لمناخ القرآن يقضي بإنسانية رسالته بعيداً عن النظرة الاقليمية الضيقة ، وهذا الواقع المعاصر في تقييم القرآن هو الذي يؤكد حقيقة الصيغ العالمية في مفاهيم القرآن .
في ضوء هذا المنطلق الرحيب نقول مطمئنين :
إن القرآن وإن كان عربي النص إلا أنه عالمي الدلالية ، وهو وإن إنساني الرسالة إلا أنه عربي العبارة . وهو مع هذين الملحظين التكوينيين يبقى شامخاً بلمح من عربيته المحضة الفصحى ، لأن عربيته الخالصة يمكن فيها الكثير من معالم إعجازه بل الاعجاز البلاغي فيه هو الوجه الناصع لملامح الاعجاز المتعددة الظواهر ، وبإنضمامه إلى إعجازه التشريعي والغيبي والاجتماعي والعلمي والاحصائي والصوتي والكوني والاقناعي يترشح نظام الاعجاز الكلي في القرآن .
ولما كان الاعجاز بهذا المستوى التكاملي في شتى المجالات كان القرآن بالمستوى العالمي في بعده الموضوعي .
والبعد العالمي في القرآن محور مستفيض من محاور البحث العلمي المتجدد ، والخوض في مشتقاته الفعلية يستدعي التفرغ إلى عمل أكاديمي متطور ينهض بمؤلف ضخم يلم شتاته ، ويجمع متفرقاته ، ويستقرئ جزئياته .
والخطوط الأولية للموضوع قد تعطي ثمارها التوفيقية ضمن إطار أولي محدد يعنى بالتركيز على ظواهر عالمية القرآن ضمن الاشارة الموحية ، والادراك الفاحص في جملة من المحاور الآتية :
أولاً : إن عالمية الاسلام تعني بالضرورة عالمية القرآن ، وذلك أن القرآن هو رسالة الاسلام ، وهذه العالمية المبرمجة قد خطط لها القرآن نفسه بما لا يقبل الشك في كل آياته التي تشير إلى عالمية الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في رسالته للبشرية جمعاء . قال تعالى :
( قُل يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ آللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ) الأعراف / 158 ، والآية في مقام الأمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في إشعار الناس كافة بالقول لهم أنه رسول الله إليهم ، ومعنى هذا عالمية رسالته ، وإستقطابها شعوب الأرض ومختلف الأمم ، فمحمد بهذا رسول الله إلى الأبيض والأسود والأحمر والأصفر ،وهوؤلاء هم الناس ورسالته شاملة لأفرادهم ، مستغرقة لأجناسهم دون اختصاص بقوم عن قوم ، ولا أمة دون أمة ، يعضده قوله تعالى : ( وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ) سبأ / 28 . فإذا جمعنا له قوله تعالى : ( وَمَا أَرسَلنَاكَ إِلاَّ رَحمَةً لِّلعالَمِينَ « 107 » ) الأنبياء / 107 ، خلص لنا أنه رسول البشرية ، وما إرساله إلا رحمة للعالمين ، وهذا الارسال يحمل في طياته ملامح البشارة الرضية المرضية ، وصرخة النذارة الهادرة المدوية ، ذلك ما يعلنه قوله تعالى : ( إِنَّآ أَرسَلنَاكَ بِالحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً ) البقرة / 119 . ويؤكده قوله تعالى : ( يَأَيُّهاَ آلنَّبِيُّ إِنَّا أَرسَلنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِراً وَنَذِيراً « 45 » ) الأحزاب / 45 . وهنا تضاف الشهادة إلى البشارة والنذارة لتتم حلقة الوصل العالمية في التدرج البياني ليصل إلى ذروته في التبليغ بقوله تعالى : ( وَأَرسَلنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللهِ شَهيداً ) النساء / 79 . وقد وضع الله تعالى على الناس ذاته القدسية شهيداً على هذا الارسال العالمي .
ثانياً : والمنطلق البارز في تشخيص عالمية القرآن نصاً ومضموناً تأكيد القرآن على خطاب الناس ـ كل الناس ـ في تعليماته الإلهية ؛ وهذا المنطلق يتحدث فيه القرآن إلى الناس في مختلف شؤونهم ، ويدعوهم بعامة إلى الأخذ بالأصلح من الأنظمة ازاء تدوير الواقع البشري المتقلب ليقف به على مرفأ الأمان ، ويستقر مستوياً بشاطيء الخلاص ، وأول ما يدعوهم إليه سنن التوحيد المطلق في ظلال ملكوته قال تعالى : ( يَأَيُهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ) البقرة / 21 ، يدعم ذلك الملحظ بالكتاب الذي أخرج كل الناس إلى النور . . ( الر كِتاَبٌ أَنزَلنَهُ إِلَيكَ لِتُخرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ) إبراهيم / 1 . ويوجه هؤلاء الناس نحو الله بإعتبارهم مضطرين له ، فقراء إليه ، وهو في غنى وعز ومنعة عنهم ، يُحمد بغناه ، ويعبد لآياته : ( يَأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاءُ إِلىَ اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِىُّ الحَمِيدُ « 15 » ) فاطر / 15 . وإذا كان الناس بهذه الفاقة ، محتاجين ولا يحتاج إليهم ، فحري بهم أن يتجهوا نحو الله في الشؤون والشجون والآمال ، ولا يتكلوا على الأحلام والأماني ، فوعد الله حق ، ووعد غيره الغرور . قال تعالى : ( يَأَيُّهاَ النَّاسُ إِنَّ وَعدَ اللهِ حَقٌ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا ) فاطر / 5 ، ولا يقف القرآن عند هذا الحد في تذكير الناس وتحذيرهم ، وتقويمهم ومتابعتهم ، بل يتسع في الحديث إليهم ، بما خولهم به الحياة الدنيا ، وما أسبغه عليهم من نعم ظاهرة وباطنة ، وما سخره لهم من أكوان وأديان وظواهر تصب في محيط واحد هو سعادة الناس في دنياهم ، وسلامتهم من الأهوال في آخراهم ، كل أولئك يتمثل في مراصد قرآنية أبرزها :
1 ـ الايحاء بإدراك نعم الله التي لا تحصى ، والتذكير بآلائه التي لا تستقصى ، بما في ذلك النعم المادية والمعنوية .
قال تعالى : ( يَأَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيكُمْ ) فاطر / 3 .
وقال تعالى : ( وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَلَيكُم وَمَا أَنَزَلَ عَلَيكُم مِّنَ الكِتاَبِ ) البقرة / 231 .
وقال تعالى : ( وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللهِ عَلَيكُمْ إِذ كُنتُمْ أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ ) آل عمران / 103 .
وقال تعالى : ( وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللهِ عَلَيكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ ) المائدة / 7 .
وقال تعالى : ( وَاشكُرُوا نِعمَتَ اللهِ إِن كَنتَمْ إِيَّاه تَعْبُدُونَ ) النحل / 114 .
وقال تعالى : ( وَإِن تَعُدُّوا نِعمَتَ اللهِ لاَ تُحصُوهَا إِنَّ آللهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ « 18 » ) النحل / 18 .
وقال تعالى : ( وَأَسبَغَ عَلَيكُم نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) لقمان / 20 ،
حتى قوله تعالى : ( اليَومَ أَكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم وَأَتْمَمتُ عَلَيكُم نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسلامَ دِيناً ) المائدة / 3 .
هذا الحشد الهائل من التأكيد على النعمة يوحي بعظمة قدرها ، وسبوغ رحمتها ، وشيوع مفرداتها ، وشمول ظلالها للناس كافة .
2 ـ الأمر على نحو الاباحة بالتمتع بما خلق الله من الأرزاق الكائنة فيما تنبت الأرض ، وما يخرج منها ، وما يربو فيها ، وما باركه من ثمرها وشجرها ومرافقها وأنهارها ومناخها مما جعله مسخراً للانسان لتيسير مرافق الحياة ، وهو الذي يسره وسخره وفجره وجعله سائغاً هنيئاً مريئاً .
قال تعالى : ( يَأَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي آلأَرضِ حَلَلاً طَيِباً ) البقرة / 168 .
وقال تعالى : ( كُلُوا وَاشرَبُوا مِن رِّزقِ اللهِ وَلاَ تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدِينَ ) البقرة / 60 .
وقال تعالى : ( أَنفِقُوا مِن طَيِّبَتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخرَجنَا لَكُم مِّن الأَرضِ ) البقرة / 267 .
وقال تعالى : ( وَلَقَد مَكَّنّاَكُم فِى الأَرضِ وَجَعَلنَا لَكُم فِيهَا مَعَيِشَ ) الأعراف / 10 .
وقال تعالى : ( وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن رِّزقٍ فَأَحيَا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِهَا ) الجاثية / 5 .
وقال تعالى : ( وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزقُهَا ) هود / 6 .
وقال تعالى ( هُو أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرضِ وَاستَعمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ) هود / 61 .
وقال تعالى : ( وَفِي الأَرضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعنَابٍ وَزَرْعٌ ) الرعد / 4 .
وقال تعالى : ( وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِى الأَرضِ مُخْتَلِفاً أَلوَنُهُ ) النحل / 13 .
إن هذا التأكيد على الأرض وما أخرج منها إنما يكون للبشر كافة فهو الذي أنشأهم منها ، وهو الذي رزقهم فيها ، وهو الذي سخرها لهم .
3 ـ بعد ما سيره القرآن من النعم وإستثمار الأرض ، وما أظهره له من التوسع وبحبوحة النعيم حذرهم الله ظلمهم في الحياة الدنيا ، وأنذرهم العذاب في الحياة الأخرى ، ووجه العناية بهذا الملحظ ليكف الناس عن الباطل ، وليتوجه الجمع نحو الحق .
قال تعالى : ( وَلَو يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيهَا مِن دَابَّةٍ ) النحل / 61 .
وقال تعالى : ( وَيَومَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيهِ يَقُولُ يَالَيتَنِي اتَّخَذتَ مَعَ آلرَّسُولِ سَبِيلاً *) الفرقان / 27 .
وقال تعالى : ( وَكَم قَصَمْنَا مِن قَريَةٍ كَانَت ظَالِمَةً ) الأنبياء / 11 .
وقال تعالى : ( وَكَذَلكِ أَخذَ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ ) هود / 102 .
وقال تعالى : ( وَلَو تَرَى إِذِ آلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ المَوتِ ) الأنعام / 93 .
وقال تعالى : ( وَلاَ تَحسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعمَلُ الظَّلِمُونَ ) إبراهيم / 42 .
وقال تعالى : ( وَمَا كُنَّا مُهلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهلُهَا ظَالِمُونَ ) القصص / 59 .
وقال تعالى : ( وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ) البقرة / 270 .
وقال تعالى : ( وَاللهُ لاَ يَهْدِى القَومَ الظَّالِمِينَ ) آل عمران / 86 .
وقال تعالى : ( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَينَهُم أَن لَّعنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ) الأعراف / 44 .
وقال تعالى : ( فَانظُر كَيفَ كَانَ عَقِبَةُ الظَّالِمِينَ ) يونس / 39 .
وهذا التقريع على الظلم ، والوصف له ، والتحدث عن مآله لا يخص مجتمعاً دون آخر ، ولا يختص بأمة دون أمة ، فهو موجه للناس كل الناس للابتعاد عن معالمه ومهالكه .
4 ـ ويتحدث القرآن عن الظواهر الكونية ، والآيات السماوية ويجعل من ذلك مناراً لأولى النهى ، وحديثاً للتدبر والتفكر والتبصر والاعتبار لذوي الألباب والعقول :
قال تعالى : ( الَّذِينَ يَذكُرُونَ اللهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِم وَيِتِفِكَّرُونَ فِي خَلقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ رَبَّنَا مَا خَلَقتَ هَذَا بَطِلاً سُبحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * ) آل عمران / 191 .
وقال تعالى : ( اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَ اسْتَوَى عَلَى العَرشِ وَسَخَّرَ الشَّمسَ وَالقَمَرَ كُلٌ يَجرِي لأَجَلٍ مُّسَمّىً ) الرعد / 2 .
وقال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ آثْنَيْنِ يُغْشِي الَّليْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِقَومٍ يَتَفَكَّرُونَ * ) الرعد / 3 .
وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ البَرقَ خَوفاً وَطَمَعاً وَيُنشِيءُ بلسَّحَابَ الثِّقَالَ * وَيُسَبِّحُ آلرَّعدُ بِحَمْدِهِ وَالمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرسِلُ آلصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُم يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَهُوَ شَدِيِدُ المِحَالِ * ) الرعد / 12 ـ 13 .
وقال تعالى : ( قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا تُغنِي الأَيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَومٍ لاَّ يُؤمِنُونَ * ) يونس / 101 .
وقال تعالى : ( وَءَايَةٌ لَّهُمُ آلَّليلُ نَسلَخُ مِنهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظلِمُونَ * وَالشَّمسُ تَجرِي لِمُستَقَرٍ لَّهَا ذَلِكَ تَقدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرجُونِ القَدِيمِ * لاَ الشَّمسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدرِكَ القَمَرَ وَلاَ الَّليْلُ سَابِقٌ آلنَّهَارِ وَكُلٌ فِي فَلَكٍ يَسبَحُونَ *) يس / 37 ـ 40 .
وقال تعالى : ( يَسئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَللحَجِّ ) البقرة / 189 .
إن هذه الإرهاصات في عالم السموات والأرض والعرش والشمس والقمر ومد الأرض وخلق الرواسي واصطفاق الأنها وزوجية الكائنات والثمرات وحياة الشمس والقمر والأهلة ، كل أولئك ما سخره الله للناس بعامة ، وللمؤمنين بخاصة بقصد الاعتبار والاستبصار .
5 ـ وأخيراً أمر القرآن الناس بدرء الفساد والمكر في الأرض ، ونعى جريمة القتل ، فآعتبر قتل النفس قتلاً للناس ، وعد إحياء الفرد الانساني إحياء للناس أيضاً ، وبذلك تتكامل الصورة العالمية للقرآن في أرسخ حدودها الأفقية :
قال تعالى : ( مِن أَجلِ ذَلِكَ كَتَبنَا عَلَى بَنِي إِسرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفسًا بِغَيرِ نَفسٍ أَو فَسَادٍ فِي الأَرضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَن أَحيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحيَا النَّاسَ جَمِيعاً ) المائدة / 32 .
وقد يكون هذا القتل وذلك الإحياء مادياً أو معنوياً ، وكلاهما واردان في مقام التفصيل ، والتعليل ليس هذا موقعه .
6 ـ ولك أن تعجب كل العجب لترى القرآن يجعل أهم شعيرة من شعائره وهو الحج ، والبيت الحرام وهو أول بيت وضع للناس ، والأذان إلى الحج كل أولئك للناس كافة لا للمسلمين وحدهم
قال تعالى : ( وَللهِ عَلَى النَّاس حِجُّ البَيتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلاً ) آل عمران / 97 .
والحج كما يجب على المسلمين ، فإنه واجب على الكافرين ، إلا أن الكافر يجب عليه الحج ولا يصح منه لا شتراط الايمان في الأداء ،
وقال تعالى : ( وَإِذا جَعَلنَا البَيتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمناً ) البقرة / 125 .
وقال تعالى : ( وَأَذَنٌ مِّنَ آللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَومَ الحَجِّ الأَكبَرِ ) التوبة / 3 .
ثالثاً : وتتأكد عالمية القرآن في اطار إهتماماته القصوى بالانسان ، فهو يتابعه ويلاحقه منذ خلقته وتكوينه وولادته حتى حياته ومعاشه إلى حين وفاته ومدفنه ونشره وحشره وعاقبته ، ومعنى هذا أن القرآن ذو عناية خاصة بمسيرة الكائن الانساني منذ البداية وهو معنيٌّ أيضاً بمصير الانسان الجماعي حتى النهاية .
ففي خلق الانسان وإيجاده خليفة في الأرض ، هناك مدركان بارزان : المدرك الابداعي في التكوين الخلقي من الأرض ، كخلق آدم عليه السلام ؛ والمدرك الرتيب في الخلق عن طريق التزاوج فالتناسل ، وفي هذه المسافة المتباعدة بين الخلقين قد اختصرت الحقيقة التكوينية كلها .
وقال تعالى : ( إِذ قَالَ رَبُّكَ لِلمَلاَئِكَةِ إِنيِ خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينِ * ) ص / 71 .
وقال تعالى متحدثاً عما تحقق : ( وَلَو تَرَى إِذِ المُجرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِم عِندَ رَبِّهِم رَبَّنَا أَبصَرنَا وَسَمِعنَا فَارجِعنَا نَعمَل صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ * ) المؤمنون / 12 .
فبين تعالى الأصل في الخلق من الطين ، وهو عنصر أرضي يحمل بين طياته عناصر أرضية أخرى ، فهو مجموعة عناصر تتمثل فيها الأرض بمركباتها ، وهو البداية الابتداعية لهذا الايجاد المتباعد الأطراف في التركيب والتكوين والتأسيس بما يستوعبه هذا الكلي العام من ملايين الجزيئات المعقدة في العدد والكمية والوزن والمدارك جسمياً وعقلياً ونفسياً وتصويراً وتخييلاً وقابليات ومعدات وأجهرةٌ وتجاويف وعصيات وحفيات وأقواس وجينات وخلايا وأعصاب وعضلات ما ظهر من ذلك وما خفي مما لا يحيط به الادراك الحسّيّ كثيراً . والذي أجمله تعالى بقوله :
( الَّذِي أَحسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رَّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصَرَ وَالأَفئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشكُرُونَ *) السجدة / 7 ـ 9 .
ولنقف قليلاً عند الآية الأولى التي تتحدث عن الملحظ الإيجادي في الخلق لا على نحو المثال ، ولا على صيغة من وجود سابق ، إذ لا وجود هناك لهذا المخلوق الجديد لأنه بعد لم يوجد ، فلما وجد قيل له بأنه الانسان .
قال تعالى : ( هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهرِ لَمْ يَكُن شَيئاً مَّذكُوراً *) الانسان / 1 .
والتفسير الأولي أن الانسان جسد وروح ، أي أنه مركب من حقيقتين متغايرتين ، وحينما إتحدا كان الانسان كائناً حياً ، فإذا افترقا كان هذا الانسان نفسه ميتاً وعاد جثماناً ، وهذا وإن كان صحيحاً في حد ذاته ، ومقدماته تبني عن نتائجه ، إلا أن القرآن العظيم يومي إلى أبعد من هذا تحديداً حينما جعل الانسان حقيقة واحدة ، فهو إنسان بروحه وبدنه ، وهو أنسان حين مفارقة روحه لبدنه ، فمثله كمثل الماء والتراب حينما يكونان حقيقة واحدة عند التماسك أو عند الانحلال .
وقوله تعالى : ( قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ آلمَوتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُم ) السجدة / 11 .
فيه دلالة على أن الانسان هو نفس الانسان ، فإذا اتصلت الروح بجسده فهو حيٌّ ، وإذا انفصلت عنه فهو ميت ، إذن هو إنسان في الحالين ، والنص القرآني في مجموعة دلالاته « يفيد أن الروح التي يتوفاها ويأخذها قابض الأرواح هي التي يعبر عنها بلفظة « كم » وهو الانسان بتمام حقيقته لا جزء من مجموع » (1) . ويصور هذا الملحظ « لم يكن شيئاً مذكوراً » . فهذا الانسان بالطريق الاعجازي في الخلق إنما كان طيناً لازباً يندك في طول هذه الارض وعرضها ، فلم يكن ذا ذكر فهو غير متعين ولا محدد ، وهو حينما صور هذا التصوير البديع ، في خلقه الأول ، وولجته الروح بأمره تعالى ، عاد إنساناً معلوماً وموجوداً فكان مذكوراً ، فهو باللحاظ الأول شيء غير مذكور ، وهو باللحاظ الثاني كيان مذكور ، وهذا ما تفسره رواية الإمام الباقر عليه السلام : قال : « كان مذكوراً في العلم ، ولم يكن مذكوراً في الخلق » (3) . وفي رواية أخرى عنه عليه السلام رواها زرارة بن أعين في تفسير جزء الآية ، يقول الباقر عليه السلام : « كان شيئاً ولم يكن مذكوراً » (4) . فالانسان كان شيئاً في علم الله وتقديره ، وإن كان معدوماً بعد لم يوجد ، ثم صار شيئاً مذكوراً بعد خلقه وتكوينه ، سواءً أنظرنا في ذلك إلى الطريق الاعجازي في الخلق ، أو الطريق الفطري في التكوين المتسلسل المنظور إليه في قوله تعالى : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحسَنِ تَقوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسفَلَ ساَفِلِينَ * ) التين / 4 ـ 5 .
وهذا أيضاً طريق إعجازي محض أن يخلق من هذه المادة الميتة إنساناً متكاملاً في أحسن تقويم فكان ذا هيئة حسنة ، وصورة مترفة ، وروعة نادرة ، حتى عاد مستوياً أيام شبابه ونضارته مثلاً ، ثم ردّ إلى الهرم والشيخوخة ، وورد مورد العجز والكبر ، فتسافل في خلقه من قوة إلى ضعف ، ومن نضارة إلى إنهدام ، ومن جمال الفتوة إلى تلاشي القوة ، فبعد أن كان ذا هيئة مشرقة وضاءة إستبدلها بالكبر والانحناء والخور .
ولكن الشذرات الثمينة المتناثرة في القرآن الكريم ، تقتضي الاضافة لهذا الفهم ـ وإن كان حقاً في واقعه ـ وتريد منا أن نرتفع إلى المستوى الأعظم الذي يحدب على تبليغه القرآن بياناً إلهياً شمولياً لا يغادر شيئاً ، وذلك : أن الانسان قد خلق بإرادة الله تعالى ولطف عنايته خلقاً خاصاً فكان نموذجاً راقياً للتقويم والثبات والكمال ، وهذا كله يقتضي له ان يتصاعد بروحه وتفكيره وتقدير إلى أعلى عليين ، وهو ما قدره له الله تعالى لو تمثل الشكر لنعمه المتواترة ، اعتداداً بهذا العطاء الفياض في الخلق صورة وعلماً وإرادة وتفكيراً واختياراً وإبداعاً وفلسفة ، فهو بهذا حريّ بأن يعرج بمستواه الخلقي في كل وجوه الخلق الظاهرة والباطنة ، المعروفة لديه والمجهولة إلى حيث يصبح من أهل السعادة والنّعيم السرمدي الخالد . ولكن هذا الانسان ـ إلا القليل من جنسه ـ قد إنحط بنزعانه اللاإنسانية وسلوكه المنحرف إلى سلخ معنى الانسانية عن نفسه فردّ إلى أسفل سافلين ، وهو نهاية ما يمكن أن يردّ به الله إنساناً بإنحطاطه إلى الدرجات السفلى المخصصة لأهل العذاب والشقاء والانهيار التام ، فكتب على نفسه الانحدار والانزلاق في الهوة السحيقة التي كان ينبغي له أن يتجنبها ويكون في أمن من مزلقتها وتدهورها .
هذا الطرح الموضوعي لمعنى الآية هو الذي يلائم الاستثناء المنقطع بعد الآيتين في قوله تعالى : ( إِلاَّ لَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ *) التين / 6 .
بدليل أن حكم الخلق التركيبي للانسان يستوي فيه المؤمن والكافر ، الموحد والملحد ، الصادق والمنافق ، بدليل
قوله تعالى : ( وَمَن نُّعَمِّرهُ نُنُكِسْهُ فِي الخَلْقِ أَفَلاَ يَعقِلُونَ « 68 » ) يس / 68 .
و « من » من أدوات العموم ، فكل معمّر من الناس ينتكس في الخلق .
هذه هي الحقيقة الأولى ؛ والحقيقة الثانية أن لله خلقاً آخر من الناس ليس من الطين ، وليس من طريق التزاوج التلقيحي ، ولكنه خلق إعجازي آخر بإرادته التكوينية المطلقة ، ونموذج هذا الخلق هو عيسى بن مريم عليه السلام ،
قال تعالى : ( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كَن فَيَكُونُ * ) آل عمران / 59 .
قال ابن عباس والحسن وقتادة : « هذه الآية نزلت في وفد نجران : السيد والعاقب ، قالا للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : هل رأيت ولداً من غير ذكر ؟ » (4) . فبدأ بيان ذلك بالرد على هؤلاء بالأصل التركيبي للأنسان وهو التراب ، وبالأب الأكبر للبشر وهو آدم ، فخاطب القرآن الذائقة الفطرية بالمنطق الفطري ، واستنزل الحجة الصغرى بالحجة الكبرى ، وأبان أن منطق الأعجاز في الخلق يختلف عن المنطق الطبيعي في التكوين لدى التزاوج والتلاقح والتناسل ، فالأصل التركيبي للبشر هو التراب ، وهذا ما يقاس عليه عيسى عليه السلام في التكوين ، فآدم : نشأته وتكوينه مباشران لم يسبقا بقانون طبيعي وكذلك عيسى ، وكلاهما خاضعان للأرادة التكوينية من قبل الله تعالى « كن فيكون » ، وهذا سر الحياة الذي لا يعلمه إلا الله ، دون التقاء ذكر بأنثى ، أو تلاقح خلية ببيضة ، وذلك طريق الأخصاب ، وسنن الانجاب (5) .
والقرآن يكاد يستقطب الحديث عن المدرك الطبيعي والاعجازي في خلق الأنسان في جزئيات دقيقة تغوص في عمق الموضوع جذباً وإستئناساً ووقوفاً عند أمثل مظاهر ، وأبرز جوانبه الكلي ، مشيراً بادء ذي بدء إلى الأصلين معاً كما في
قوله تعالى حاكياً : ( أَكَفَرتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ من نُّطفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) الكهف / 37 .
ومفرعاً على ذلك في تأكيد مراحل الحقيقتين معاً
بقوله تعالى : ( هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن تُرابٍ ثُمَّ مِن نُّطفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخرِجُكُم طِفلاً ثُمَّ لِتَبلُغُوا أَشُدَّكُم ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى مِن قَبلُ وَلِتَبلُغُوا أَجَلاً مُّسَمىً وَلَعَلَّكُم تَعقِلُونَ * ) المؤمن / 67 .
ويتبلور هذا الملحظ شيوعاً بالاستدلال على البعث يوم القيامة من جهة ، والاعتبار بتقلبات الخلقة وتطويرها من حقيقة إلى حقيقة أخرى ، حتى تنتهي مراحل العمر بالعودة إلى أرذله أو بالوفاة ، يتمثل ذلك في
قوله تعالى : ( يَأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُم فِي رَيبٍ مِّنَ البَعثِ فَإِنَّا خَلَقنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضغَةٍ مُّخَلَقَةٍ وَغَيرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُم وَنُقِرُّ فِي الأَرحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مَّسَمًّى ثُمَّ نُخرِجُكُم طِفلاً ثُمَّ لِتَبلُغُوا أَشُدَّكُم وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرذَلِ العُمُرِ لِكَيْلاَ يَعلَمَ مِن بَعدِ عِلمٍ شَيئاً وَتَرَى الأَرضَ هَامِدَةٍ فَإِذَا أَنزَلنَا عَلَيهَا المَاءَ اهتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كَلِّ زَوجٍ بَهِيجٍ * ) الحج / 5 .
أرأيت هذه الحيثيات المنوعة في مراحل الانشاء المتعددة ، ثم قف عندها قليلا لتجدها عالمية الايجاد لأبناء البشر كافة ، فهي حقيقة فوق الحقائق ، ومنظور إنساني لم يتأقلم ، وقاعدة عامة في الاسترسال التكويني بكل مقوماته لهذا الانسان المخلوق كما هو عليه في
قوله تعالى : ( وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسَنَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلنَهُ نُطفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقنَا النُّطفَةَ عَلَقَةً فَخَلقَنَا آلعَلَقَةَ مُضغَةً فَخَلَقنَا آلمُضغَةَ عِظَمًا فَكَسَونَا العِظَمَ لَحمًا ثُمَّ أَنشَأنَهُ خَلقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحَسَنُ الخَالِقِينَ « 14 » ) المؤمنون / 12 ـ 14 .
ويتابع القرآن مطلق الانسان في الحياة فيذكره بضعفه الواهن فيقول : ( وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا ) النساء / 28 .
ويقيمه وهو يتعرض للبلاء فيلتجئ إلى الله مخلصاً له الدين كما في
قوله تعالى : ( وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَو قَاعِداً ) يونس / 12 .
ويمثل غطرسته في ضد هذا فيصوره وقد أنعم الله عليه معرضاً ، قال تعالى : ( وَإِذا أَنعَمنَا عَلَى لإِنسَانِ أَعرَضَ وَنَئَا بِجَانِبِهِ ) الاسراء / 83 .
ثم بعد هذا يجعله ميزاناً فيما بينه وبين نفسه كما في قوله تعالى : ( بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفسِهِ بَصِيرَةٌ * ) القيامة / 14 .
ثم يشير إلى طبيعته في التمرد وتجاوز الحدود ظلماً وكفراناً كما في قوله ( إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومُُ كَفَّارُُ ) إبراهيم / 34 .
ويعبر عنه مستفضعاً ما جبلت عليه نفسه عناداً وإصراراً وطغياناً بما قال تعالى : ( قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكفَرَهُ * ) عبس / 17 .
وحقق القرآن مع الانسان فيما يبقى له ، وما يتواجد معه ، بعد مفارقته الدنيا ووفوده على الله تعالى متحدثاً عما ينفعه فيما عمل فقال : ( وَأَن لَّيسَ لِلإِنسَانِ إلاّ مَا سَعَى * ) النجم / 39 .
وأشار أنه سوف يتذكر ذل
( يَومَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى * ) النازعات / 35 .
ومع كل هذا التقويم لا يترك القرآن الإنسان دون عظة وعبرة ونصح كريم :
( أَيَحسَبُ الإِنسَانُ أَن يُترَكَ سُدًى * ) القيامة / 36 .
فيهزه من الأعماق ليقف به على تجاوزه وتعديه بما يكشف عنه
قوله تعالى : ( يَأَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ * ) الانفطار / 6 .
وقد يقال في جواب هذا أنه ألهمه الجواب الناجع : غرني يا رب كرمك . وهذا فضل جديد يضاف للأفضال السابقة ، وهنا يتطامن هذا الطاغوت لينظر إلى أولياته في التكوين ، ليكبح من جماح نفسه ، ويخفف من غلواء جبروته فيصكه الله تعالى
بقوله : ( فَليَنظُرِ الإِنسَانَُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ * يَخرُجُ مِن بَينِ الصُّلبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجعِهِ لَقَادِرًً * ) الطارق / 5 ـ 8 .
فإذا رجع إلى الله ، ووقف للحساب الجديد ، هنالك :
( يَقُولُ الإِنسَانُ يَومَئِذٍ أَينَ المَفَرُّ * كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَومَئِذٍ المُستَقَرُّ * يُنَبَّؤُا الإِنسَانُ يَومَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * ) القيامة / 10 ـ 13 .
وهنا يصطدم هذا الانسان الغر الجاهل المتعنت الضعيف بالحقيقة الهائلة الكبرى إذ يقف بين يدي أعماله وذنوبه وجهاً لوجه ، لا ستار ولا حجاب ، ولا إستقالة :
( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخرِجُ لَهُ يَومَ القِيَامَةِ كِتَاباً يَلقَاهُ مَنشُوراً * ) الاسراء / 13 .
هذه المفاجأة لجنس الانسان إلا المتقين يجب أن يقف بإزائها وقفة الصامد الخبير ، فأعماله متمثلة أمامه ، وأفعاله وأقواله متجسدة في قوالبها لديه ، والشاهد هو الحاكم ، والحاكم هو الله ، وكفى في ذلك شدة وروعة وترويعاً وذهولاً ، لهذا فقد حذر هذا الانسان من أهوال ذلك اليوم ومشاهده ، قال تعالى : ( يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم إِنَّ زَلزَلَةَ السَّاعَةِ شَيءٌ عَظِيمٌ * يَومَ تَرَونَهَا تَذهَلُ كُلُّ مُرضِعةٍ عَمَّا أَرضَعَت وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَملٍ حَملَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَرَى وَمَا هُم بِسُكَرَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ * ) الحج / 1 ـ 2 .
إنها الواقعة والراجفة والطامة والنازلة الكبرى ، تصدق في كل جزئياتها ، وتجد في كل ساعاتها ، فلا كذب ولا لعب :
( إِذَا وَقَعَتِ لوَاقِعَةُ * لَيسَ لِوَقعَتِهَا كَاذِبَةٌ * ) الواقعة / 1 ـ 2 .
هنالك يمتاز الناس إلى أزواج ثلاثة كما ينص القرآن العظيم :
( وَكُنتُم أَزوَاجاً ثَلاَثَةٍ * فَأَصْحَابُ المَيمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيمَنَةِ * وَأَصْحَابُ المَشْئَمَةِ مَا أَصْحَابُ المَشْئَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ * فِي جَنّاَتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةُُ مِّنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلُُ مِّنَ الأَخِرِينَ * ) الواقعة / 7 ـ 14 .
وذلك أن الناس يوم الحشر بهذا الاعتبار يصنفون إلى : أصحاب اليمين ، وأصحاب الشمال ، والسابقين . فأهل الجنة هم أصحاب اليمين ، وأهل النار هم أصحاب الشمال ، والسابقون هم تلك الطبقة العليا التي اهتبلت فرصة الحياة الدنيا فقفزت باتجاه واحد نحو الله وحده ، سبقوا إلى الايمان ، وسبقوا إلى الخيرات ، وسبقوا إلى العبادة بأنصع مظاهرها فتسنموا الدرجة الراقية في الزلفى . وفي هذا الضوء تنقسم ساحة المحشر للعباد إلى منحنيات متميزة حينئذ : أصحاب الجنة / أصحاب النار / رجال الأعراف ، وحينئذ تصدر النداءات المتداولة بين هذه الأصناف النازلة في الساحة ، بعد عرفان كل شيء ، ورفع الحجب والأستار ، والوقوف عند الحقيقة الهائلة .
قال تعالى : ( وَنَادَى أَصْحَابُ الجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَد وَجَدنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًا فَهَل وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُم حَقًا قَالُوا نَعَم فَأَذَّنَ مُؤَذِنُُ بَينَهُم أَن لَّعنَةُ اللهِ عَلَى آلظَّالِمِينَ * ) الاعراف / 44 .
وفي قبال هذا النداء الضخم المشتمل على كثير من الاستظهار والتحدي والتشفي والاطمئنان المتكامل يصدر النداء الآخر :
( وَنَادَى أَصحَابُ النَّارِ أَصحَابَ الجَنَّةِ أَن أَفِيضُوا عَلَينَا مِنَ المَاءِ أَو مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قَالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الكَافِرينَ * ) الاعراف / 50 . فكل أماني هؤلاء الطغاة شيء من الماء أو قليل من الرزق ، ويجبهون يأسا وحرمانا وبعدا بأن الله حرمهما على الكافرين .
وهنا يتجلى دور رجال الاعراف الريادي في المنزلة والحجة وقرع الدليل بالدليل ، وتتحقق تلك المنزلة الرفيعة لهؤلاء الرجال « وبينهما حجاب وعلى الاعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم » . فهؤلاء في حالة وجود الحجاب الحاجز بين أهل الجنة وأهل النار ، وهناك السماك المرتفع الذي يطل منه أصحاب الأعراف على الجمع ، وهؤلاء أنفسهم لهم صلاحية متميزة خاصة عرفوا بها ، إنهم يعرفون أهل الجنة بسيماهم ، وأهل النار بسيماهم ، فهي خاصية كبرى فريدة ، لا تقاربها خاصية أخرى يومئذ ، تلك الخاصية تنبئ عن القرب الملكوتي من الله تعالى ، وتتحدث عن التصرف بأمره تعالى ، فهم يشرفون على الجمع في ساحة البعث ، فيعرفون كل ذات بالسمة المجردة لها ، والمعرفة بها من الأولين والآخرين ، سواء في ذلك من كان منهم في أعلى عليين ، ومن هبط منهم وانحدر أسفل سافلين .
وهنا يتحدّد الوعد الآلهي الحق بأنهم المنصورون ، وأنهم المقربون ، وأنهم الشفعاء ، وأنهم الشهداء ، وذلك في تمام الآية مباشرة : ( وَنَادَوا أَصْحَابَ الجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيكُم لَم يَدخُلُوهَا وَهُم يَطمَعُونَ ) الاعراف / 46 .
فهذا النداء بهذا الامر إنما تحصل قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة ، وهم يطمعون بدخولها ، وصيغة النداء سلام عليكم . ولا تنفس يومئذ ولا تكلم « هذا يوم لا ينطقون » . وحين إعتلاء هذه الحالة آفاق المحشر ، تنحدر الأبصار للطرف الآخر :
(* وَإِذَا صُرِفَت أَبصَارُهُم تِلقَاءَ أَصحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجعَلنَا مَعَ القَومِ الظِّالِمِينَ * ) الأعراف / 47 .
وقد يقال بأن هذا دعاء أصحاب الأعراف ولا مانع من ذلك أن يتعوذ المؤمن من الكون مع الظالمين ؛ ولكن التدبر في السياق ، وهو يريد أن يتحدث عن منزلة رجال الأعراف وموقعهم في ذلك اليوم يوحي بأن الضمير في « أبصارهم » و « قالوا » يعود إلى أهل الجنة ، لأنهم في تلك الحال يدعون ويتضرعون كما هو شأن الأبرار ، والتوقيت قبل دخول أهل الجنة الجنة ، وقبل دخول أهل النار النار أيضاً .
وهنا تبدو الحقيقة الأخرى في خطاب أصحاب الأعراف رجالاً من أهل النار :
( وَنَادَى أَصحَابُ الأَعرَافِ رِجَالاً يَعرِفُونَهُم بِسِيمَاهُم قَالُوا مَا أَغنَى عَنكُم جَمعُكُم وَمَا كُنتُم تَستَكبِرُونَ * ) الأعراف / 48 .
هذا النداء الصادر من أصحاب الأعراف للجمع المتكبر من الجبابرة . . فيه تقريع لهم ، وشماتة بهم ، وسخرية بواقعهم ، وتأنيب على ظنهم ، وقد تقطعت بهم الأسباب بعد ذاك التطاول والشموخ والاستعلاء ، فما أغنى عنهم ما جمعوا من العدة والعدد ، والخول والخدم ، والمال والعقار ، كلها ذهبت هباءً ، وتطايرت في مهب الاحلام ، فلا جمع ولا استكبار ، بل خنوع وخضوع ، وذل وإذلال ، وليت الأمر وقف بهم عند هذا الملحظ بل صكهم الاستفهام التقريري بالاشارة إلى أهل الجنة بما أفاضه أهل الأعراف :
( أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقسَمتُم لاَ يَنَالُهُمُ اللهُ بِرَحمَةٍ ) الأعراف / 49 .
« أي هؤلاء هم الذين كنتم تجزمون قولاً أنهم لا يصيبهم فيما يسلكونه من طريق العبودية خير ، وإصابة الخير هي نيله تعالى إياهم برحمة ، ووقوع النكرة ـ برحمة ـ في حيز النفي يفيد استغراق النفي للجنس ، وقد كانوا ينفون عن المؤمنين كل خير » (6) .
ثم تعالى صوت أهل الاعراف لأولئك المستضعفين من المؤمنين ، بتفويض خاص ، وبأمر خاص من الله دون ريب قائلين لهم
( ادخًلُوا الجَنَّةَ لاَ خَوفٌ عَلَيكُم وَلاَ أَنتُم تَحزَنُونَ ) الأعراف / 49 .
وهو أمر من رجال الأعراف لأصحاب الجنة بدخول الجنة بعد تقرير حالهم عند الكفرة بالاستفهام ، وكان الأمر نهائياً بتخويل نهائي لا يجزأ ولا ينشطر ، ولا يرد ولا يبدل ، لأنه إقترن بإشاءة الله وإرادته ، ولا رادّ لذلك .
إذن من هم رجال الأعراف ، وأصحاب الاعراف في سورة الأعراف ؟
المروي عن الامام الباقر أنه قال : « هم أكرم الخلق على الله تبارك وتعالى » (7) . وهذا إجمال يفصله الامام الباقر نفسه ويبينه في رواية أخرى وقد سئل ما يعني بقوله تعالى « وعلى الاعراف رجال » ، قال الباقر عليه السلام : « ألستم تعرفون عليكم عرفاء على قبائلكم ليعرفوا من فيها من صالح أو طالح ، قلت بلى : فنحن أؤلئك الرجال الذين يعرفون كلاً بسيماهم » (8) .
وهم لدى المفسرين : إما أن يكونوا رجالاً مخصوصين بالحباء الكامل لأنهم في أعلى درجات السابقين ، فكانوا في أرقى درجات القربى من الله تعالى ، وهم النبي وأهل البيت عليهم السلام . وإما أن يكونوا من تساوت حسناتهم وسيئاتهم في قول ساذج ، وهذا الملحظ لا يقع أصلاً فليس هناك من تتساوى سيئاته وحسناته يوم القيامة قطعاً ، لأن الحسنات يذهبن السيئات ، فالحسنات جديرة برفع المسيء إلى درجة المحسن ، إذا أحسن بعد توبة نصوح ، والسيئات العظمى قد تحبط الحسنات ، فيدنو المحسن من الهاوية لو كانت لديه حسنات إذا حبطت أعماله ، ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ، ومن جاء بالسيئة فلا يجزي إلا سيئة مثلها ، هذا كله وغير هذا يقوي النظر والقول بعدم تساوي الحسنات والسيئات وهو الذي يحكم به العقل والشرع والعرف .
فإذا أضفنا إلى هذه المدارك ثقل الموازين وخفة الموازين يوم القيامة ، علمنا أن هناك قسمين لا ثالث لهما ، وهذان القسيمان هما أهل الحسنات فيما تثقل به الموازين وهم أهل الجنة ، وأهل السيئات فيما تخف به الموازين وهم أهل النار ، كما تصرح بذلك الآيات :
قال تعالى : ( وَالوَزنُ يَومَئِذٍ الحَقُ فَمَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ آلمُفلِحُونَ * وَمَن خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِئَايَتِنَا يَظلِمُونَ * ) الأعراف / 8 ـ 9 .
وقال تعالى : ( فَمَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ * وَمَن خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * ) المؤمنون / 102 ـ 103 .
وقال تعالى : ( فَأَمَّا مَن ثَقُلَت مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَن خَفَّت مَوَازِينُهُ * فَأُمُهُ هَاوِيةٌ * وَمَا أَدراَكَ مَا هِيَه * نَارٌ حَامِيَةٌ * ) القارعة / 6 ـ 11 .
وهذا من أقطع الأدلة على رفض القول بتساوي الحسنات والسئيات .
وهناك قول للمفسرين بأن رجال الأعراف هم الملائكة في صورة الرجال يعرفون أهل الجنة والنار ، ويكونون خزنة الجنة والنار ، أو يكونون حفظة الأعمال الشاهدين بها في الآخرة (9) .
ويرد هذا القول بأمور :
الأول : أنه صرف لظاهر القرآن بدون قرينة تدل على التجوز في تسمية الملائكة رجالاً .
الثاني : لم يجر في القرآن ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، ولا عند العرب إعتبار الملائكة رجالاً ، ولو بالاشارة .
الثالث : القرآن يتحدث عن واجبات الملائكة يوم القيامة بالتنفيذ وإطاعة الأوامر ، ولم يتحدث عن مثل هذه الصلاحيات المطلقة لهم ، بل هم يفعلون ما يؤمرون .
بقي الاحتمال الأول أنهم الرجال المقربون ذوو المنزلة العظمى جزاءً وفاقاً بما كانوا يعملون ، وهو ما يساعد عليه السياق القرآني في إبانة فضلهم وبيان قيمتهم وقدرهم ذلك اليوم ، وهو أيضاً ما يدل عليه الاعتبار والقبول للروايات الصحيحة المسندة ، وهما معاً ـ السياق القرآني والرواية الصحيحة ـ السبيل إلى فهم القرآن فهماً بعيداً عن التحمل في مثل هذه المقامات .
ففي صحيحة أبي بصير عن الامام جعفر بن محمد الصادق أنه قال في تفسير الآية « نحن أصحاب الاعراف من عرفنا فمآله إلى الجنة ، ومن أنكرنا فمآله إلى النار » (10) .
وعن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأمير المؤمنين : « يا علي كأني بك يوم القيامة وبيدك عصا عوسج تسوق قوماً إلى الجنة وآخرين إلى النار » (11) .
ويؤيده ما رواه أبو القاسم الحسكاني عن علي عليه السلام ، وقد سأله ابن الكوا عن الآية ، فقال أمير المؤمنين : « ويحك يا ابن الكوا نحن نقف يوم القيامة بين الجنة والنار فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنة ، ومن أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار » (12) .
وهذا بحد ذاته يشكل بعداً عالمياً لقيادة أهل البيت عليهم السلام ، إذ يتحدث بها القرآن في بعده العالمي عن الناس كافة لدى الجمع الاستيعابي للبشرية على صعيد القيامة .
المحور الرابع : بقي أن نبتعد بك عن المناخ الجدلي والاحتجاجي في عالمية القرآن إلى المناخ الكوني العام في عالميته التي لا تحد ولا تحتجز بل تمتد وتتسع لتشمل الأفاق والمشارق والمغارب ، والأبعاد الفضائية ، والمسافات الكونية الهائلة التي قد يعجز البشر عن الاحاطة بكثير من معاييرها الدقيقة .
1 ـ فحينما يريد أن يقرب القرآن تصور البعد بين الحقيقتين المحسوستين إدراكاً يحدد ذلك بأطول مسافة يدركها الحدس العلمي
فيقول : ( حَتَّى إِذَا جَآءَنَا قَالَ يَالَيتَ بَينِي وَبَينَكَ بُعدَ آلمَشرِقَينِ فَبِئسَ القَرِينُ * ) الزخرف / 38 .
فالمراد هنا أما أن يكون بعد مشرقي الشمس والقمر ، أو بعد مشرقي الشمس في الصيف والشتاء ، وكلاهما مقاس في الفضاء ، ولكنه غير معروف لدى أهل الأرض جميعاً ، وإنما هو معروف لدى المتخصصين بالبعد الفلكي أو المسح الأرضي ، أما إذا أعتبرنا تلك المسافة إنما تقاس على سطح الأرض ، فيقتضي الأمر أن يراد بها جزئَي الكرة الأرضية ليلاً ونهاراً ، فالمشرق يكوّن بعده نصف المسافة والمغرب يكوّن النصف الآخر ، بمعنى حدوث المشرق في نصف الكرة الأرضي وحدوث غروبها في النصف الآخر ، وهو ما يعتبر لكل منهما نصف محيط الأرض ، فما كان ليلاً كان النصف الأول وما كان نهاراً كان النصف الثاني .
2 ـ وحينما يريد القرآن أن يعطي القوة غير المحدودة في تفصيلات الأبعاد الهائلة غير المحسوبة فإنه يقول :
( فَلاَ أُقسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * ) المعارج / 40 .
فالشمولية بهذا القسم العظيم تمتد لتتسع لمشارق الأرض ومغاربها ، ومشارق القمر ومغاربه ، ومشارق الشمس ومغاربها ، ومشارق الكواكب ومغاربها ، ومشارق النجوم ومغاربها ، وكلما يمكن تصوره في الوجدان مما له مشارق ومغارب في كل الأفلاك مما يقتضي عالمية التصوير للعوالم كافة في أبعادها الحسابية التي لا يتحقق حصرها ولا تخمينها مسافات ومساحات وأبعاداً . فإذا علمنا أن أقرب نجم منا يبعد حوالي ( 8 ، 41 ) مليون مليون كيلومتر عن الشمس ، فما هو رأيك في أبعد نجم عنا ، وكيف يتم رصد ذلك زمنياً وحسابياً ورياضياً ، لذلك عمدوا إلى قياس ذلك بالسنوات الضوئية ، والمراد بها ما يقطعه الضوء في السنة ، فإذا عرفت أن سرعة الضوء هي ( 300 ) ألف كيلومتر في الثانية ، كانت سرعته في السنة ( 460 ، 9 ) مليون مليون كيلومتر . وهي السنة الضوئية .
3 ـ وحينما يريد القرآن منك أن تتأمل بعض الظواهر الكونية في الرعد والبرق والظلمات والأمواج والسراب والالتماع في المفاوز ، تندفع في ظلاله العجيبة وأنت أكثر إندهاشاً مما ترى ، وأنت أكثر إبتهاجاً فيما تتوصل إليه من المشاهد العالمية المجردة عن الطلاء والتزويق بل هي حقائق هائلة مدركة بالحس والوجدان دون حاجة إلى إستدلال أو برهان أو شواهد
قال تعالى : ( أَو كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعدٌ وَبَرقٌ يَجعَلُونَ أَصَابِعَهُم فِي ءَاذَانِهِم مِّنَ الصَّاوَعِقِِ حَذَرَ المَوتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالكَفِرينَ * يَكَادُ البَرقُ يَخطَفُ أَبصَارَهُم كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوا فِيهِ وَإِذَا أَظلَمَ عَلَيهِم قَامُوا وَلَو شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمعِهِم وَأَبصَارِهِم إِن اللهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ * ) البقرة / 19 ـ 20 .
وهذا المثل القرآني ، وهو في سياق التعبير عن حيرة المنافقين ، يستقطب إستعمال ما هو شائع ومعروف في بقاع الأرض المختلفة وآفاق السماء ، مما يفهمه أهل المعمورة ، ويترصدون مخاوفه وأهواله ، فالمثل هنا عالمي الدلالة غنيٌّ بضمامة التصوير ، ورعب الأضواء الكاشفة والغامضة ، والانهمار الانصبابي للمطر تدفعه ظلمات عاصفة بأصوات الرعد ، وأمواج البرق ، وعصف الرياح ، وظلمة المناخ ، فانحجب الضياء وتلاشى الأمان حتى بالغوا في إدخال أصابعهم في آذانهم نتيجة لاصطكاك الصواعق بأجرام السحاب ، وما يحدثه ذلك من هزات وأصوات ، والله محيط بهم من كل جانب إحاطة تحصى عليهم كل شيء فوق حقيقة الاحاطة الزمانية والمكانية والكتلة وسرعة الضوء ، فأين يذهبون ؟ والبرق يأخذ بأبصارهم ، ويستلب نورها كلمح البصر ، وهم في حيرة وتردد لا يملكون من الأمر شيئاً (13) . هذا المناخ المتلاطم عالمي المصداق والمفهوم ، إنساني الفهم والتصور .
4 ـ وهناك من أمثال القرآن ما تقف عنده متأملاً مترصداً ، ولنتائجه خاشعاً متحققاً ، يأخذ بيدك إلى حياة أوسع ، وتصور أشمل ، وتدقيق أروع ، تلمس من خلال ذلك كله رسالة القرآن العالمية ، أنت الآن إزاء مثلين متراصفين في سورة واحدة ، يتحدث الأول منهما عن حياة الصحراء والسراب الخادع فيها ، وما يترشح في ضوء ذلك من معنى إيحائي يتمثله العربي في باديته ، ويتمرسه البدوي في حياته .
قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعمَالُهُم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحسَبُهُ الظَّمئَانُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَم يَجِدهُ شَيئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفّاَهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ * ) النور / 39 .
فالمثل القرآني تصوير بالتمثيل التشبيهي لأعمال الكافرين مشبهة بذلك السراب المنتشر في الصحراء ، يتخيله الظامئ ماءً ، ويكتشفه لدى التحقيق التماعاً خلّباً ، وهو بأمس الحاجة إلى الماء ، ولا ماء ، فهو لا يجده ولكنه يجد الله عنده فيوفيه الحساب بسرعة مذهلة ، ولك أن تتصور هذا السراب في صحراء نجد وبادية الحجاز وطرق الشام . هذا الفهم العربي الخالص لهذا المناخ يتقاطع بمناخ آخر تتحدث عنه البحار الهادرة في محيط كالمحيط الأطلسي أو الهادي ، وتتجلى صوره في بلاد كبلاد الضباب الدائم والظلمات المتراكبة والسحاب الجاثم ، مما لا عهد به للعرب ، ولا علاقة له بأثباج جزيرة العرب .
قال تعالى : ( أَو كَظُلُمَاتٍ فِي بَحرٍ لُّجِّيٍّ يَغشاَهُ مَوجٌ مِّن فَوقِهِ مَوجٌ مِن فَوقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعضُهَا فَوقَ بَعضٍ إِذَا أَخرَجَ يَدَهُ لَم يَكَد يَرَاهَا وَمَن لَّم يَجعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ * ) النور / 40 .
هذه ظلمات في بحر لجي لا قعر له ولا ساحل ، عميق غزير المادة تحوطه الأمواج المتدافعة ، ويعلوه السحاب الثقال ، وتملؤه الظلمات المرعبة ، ظلمة الليل ، وظلمة البحر ، وظلمة الغمام ، حتى ليخطئ الانسان فيه تشخيص يديه ، فلا يرى ذلك أصلاً (14) .
هذا المثل إذن ليس كسابقه فهو يتحدث عن تراث خاص متميز ، في مناخ خاص متميز ، يغوص إلى أعماق البحار ، ويتأمل في جغرافية المحيطات ، وتمرس في ظواهر إمتصاص الضوء وخفاء الأنوار .
المثل الأول : بدوي بطبيعته العربية المحضة .
المثل الثاني : غربي بطبيعته المناخية الخالصة .
ألا تخشع عند هذه الظاهرة الكبرى لتفيد منها : أن القرآن يتحدث إلى كل جيل في كل الأرض ، ليتجاوز الحدود الاقليمية إلى البعد العالمي الرحيب .
أما أنا فلا أعتقد غير هذا ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الدكتور محمد حسين علي الصغير
(1) الطباطبائي ، تفسير الميزان : 20 / 139 .
(2) (3) الطبرسي : مجمع البيان : 5 / 406 .
(4) الطوسي ، التبيان في تفسير القرآن : 3 / 482 .
(5) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 296 .
(6) الطباطبائي ، الميزان : 8 / 132 .
(7) المصدر نفسه : 8 / 144 .
(8) العياشي ، التفسير : 1 / 280 .
(9) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 2 / 423 .
(10) الطباطبائي ، الميزان : 8 / 144 .
(11) (12) الطبرسي ، مجمع البيان : 2 / 423 .
(13) المؤلف ، الصورة الفنية في المثل القرآني : 293 .
(14) ظ : المؤلف ، الصورة الفنية : 282 + مالك بن نبي ، الظاهرة القرآنية : 356 .