بلاغية المفردة في نهج البلاغة
علي حسين الخباز
عندما تكون المفردة البلاغية منسجمة داخل الخطاب الفكري، وخاصة حين تنضوي تحت راية المجازة، التي بدورها تمثل التجسيد الواعي للإمكانية البلاغية، وجوهر المحتوى الفكري قد يأخذنا الانبهار لتوالي مثل هذه المفردات، التي لاشك إنها تحمل الأصالة البلاغية.
وأمام هذه (الإندهاشية)، يمتلكنا إحساس بالقصور عن فهم المفردة المبدعة، وقد لا يكون الزمن هو الفارق الوحيد بين تاريخ التحرير الخطابي، ولحظة القراءة، وإنما تخلف الأجيال عن احتواء مفاهيم القصد الأولية ـ تغيير المنطوق نفسه، بتأثرات العجمية المستوردة والتي تشابكت داخل لغتنا الأم ـ والأهم من هذا، هو فارق الوعي بين شخصية المنتج المبدعة، وشخصية القارئ، وينعكس أيضا على تحويل الذات الخاصة الى منتوج عام، ليصبح الناتج؛ أن البيئة التي احتوت المنتوج، هي ليست بنفس بلاغة وصفاء البيئة التي احتوت القراءة الآن على الأقل...
ولا اعتقد إن ثمة صعوبة كان يعاني منها المتلقي الشفهي في القرن الهجري الأول، لفهم معنى بعض مفردات قول الإمام علي عليه السلام حين يقول: (فَلتَكُنِ الدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ أَصْغرَ منْ حُثَالَة الْقَرَظ وقُرَاضَة الجَلَمِ... الحثالة: تعني القشر، وما لا خير فيه. والقرظ: ورق السلم أو ثمر السنط، نوع من الشجر، كان يدبغ بثمره .
والجلم بالتحريك: مقراض يجز به الصوف، وقراضته: تعني ما يتساقط عند القرض والجزـ فهو يطالبهم باحتقار الدنيا، بعد التقسيم المتقدم، لم يصيبوا منها إلا العناء، وكل ما كان شأنه أن يأوي الأشرار، ويجافي الأخيار، فهو أجدر بالاحتقار.
ومثل هذا النمط البلاغي يتميز به سيد البلغاء الإمام علي عليه السلام دون سواه، حيث ارتقى التعامل المفرداتي الى خصوصية الأسلوب، كنموذج بلاغي متقدم، وبعد هذا كله يأتي من ينسبها الى معاوية، تشبثا بخلق تاريخ لشخصية هزيلة، عُرفت بالمكر والدهاء، وليست في البلاغة .
وإذا كان من يعتقد إن لديه البلاغة الممكنة، التي لا نقدر أن ننكرها عليه، لكننا نؤمن ويؤمن معنا اغلبهم، إن مستوى البلاغة التي بحوزة معاوية، لا تصل في كل الأحوال إلى نوع من التشابه، أمام بلاغة مولاي الإمام علي (ع)، وهذا الاعتراض ورد عند الكثير ممن رد به على مثل هذا التجاوز الجائر، ومنهم الشيخ محمد عبده في شرح نهج البلاغة، ويقول: أين الذهب من الرغام، والعذب من الأجاج .
وقد دل على ذلك الدليل الخريت والرغام: يعني التراب، والخريت الحاذق في الدلالة. وقد نقد الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ، حيث ذكر في كتابه (البيان والتبيين) ونسب هذه الجمل التي ذكرناها الى معاوية، وتصل به حد الجفاف، انه يعقب على ما كتب ليضمر المعنى الملتوي، فيقول: وهو بكلام علي أشبه، وبمذهبه في تصنيف الناس وبالأخبار، عمّا هم عليه من القهر والإذلال، ومن التقية والخوف .
إذن هو أول من سعى لكشف مخادعته، وبين اختلاف المفهومين بين معاوية وعلي (ع) في إمكانية الوعي العام، بتصنيف الناس.
وبعد هذا دل على التناقض في حيثيات استيعاب الهم العام بين الشخصيتين، فكيف يشكو القهر وبهذه الدقة من هو بنفسه يسوم القهر للناس؟ وكيف يشكو الإذلال، وبهذه الدقة من يسوم الى الناس الإذلال؟ ويعود بعد ذلك كله ليقول، هو بنفسه وليس سواه: ومتى وجدنا معاوية يسلك في كلامه مسلك الزهاد ومذاهب العباد؟ ولا اعتقد إن هوية مثل هذا التعامل البلاغي مع المفردة، وقوة الحبكة اللغوية، التي يجلها الجاحظ نفسه، وبطنها لعنة الحقد، وعدم الصحوة أمام مغزى الأمانة والإخلاص، في نقل الواقع كحقيقة لابد منها، فهو يقول عليه السلام في إحدى خطاباته: (وكَأَنَّ قُلُوبَكُمْ مَألُوسَة فَأَنتمْ لا تَعْقلـُونَ مَا أَنْتُمْ لِي بِثِقَةٍ سَجِيسَ اللَّيَالِي) والمألوسة: تعني المخلوطة بمس من الجنون .
والسَجيس: كلمة تقال بمعنى أبدا، وسجيس أصله من سجس الماء: بمعنى تغير وكدر، وكان أصل الاستعمال: ما دامت الليالي بظلامها. أي مادام الليل ليلا، ويقال سجيس لا وجس بفتح الجيم وضمها، وسجيس عجيس بمعنى أبدا: أي أنهم ليسوا ثقات عنده بحيث من الممكن أن يركن إليهم بها وقوله عليه السلام: (وأيمُ الله إِنِّي لأظـُنُّ بكُمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ الوَغَى واسْتَحَرَّ المَوْتُ قَدِ انفَرَجتمْ عَنِ ابْنِ أَبي طَالِبٍ انفِرَاجَ الرَّأسِ) .
فنحن بالتأكيد سنحتاج الى تفسير معنى مفردة حمس: التي تأتي بمعنى اشتد. والوغى: الحرب. واستحر: بلغ غاية حدته. أو قوله انفراج الرأس: أي انفراجا لا التئام بعده، فان الرأس إذا انفرج عن البدن، أو انفرج احد شقيه عن الآخر لم يعد للالتئام.. ويقدر من بين تلك الاستخدامات (المفرداتية) الصعبة، أن يكوِّن جملا سردية فهو يقول(ع): (أَنْتَ فَكنْ ذَاكَ إنْ شئْتَ فَأَمَّا أَنَا فَوَالله دُونَ أَنْ أُعْطِيَ ذَلِكَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيَّةِ تَطِيرُ مِنْهُ فَرَاش الهَامِ وتَطِيحُ السَّوَاعِدُ والأَقْدَامُ ويَفْعَلُ الله بَعْدَ ذَلِكَ ما يَشاءُ) وهذا هو الخطاب العام، لكل من يمكن عدوه من نفسه، ويروى انه كان خطابا موجها للأشعث بن قيس، عندما قال له: هلا فعلت فعل ابن عفان؟ فأجابه بقوله: (إن فعل ابن عفان لمخزاة على من لا دين له...) والمشرفية: هي السيوف التي تنسب الى مشارف قرى من ارض العرب، تدنو من الريف ولا يقال في النسبة إليها مشارفي ......
****************************