بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته الأمة بين رضا فاطمة وسخطها
نصوص ملقحة ضد الشك:
هنا قضية تخص فاطمة الشريفة عليها السلام مفادها: أن رضاها وسخطها كفتا ميزان لمعرفة رشد النفوس من ضلالها..
وهذه القضية توجد في صناديق بريد الحديث الشريف وهي كتب الرواية والنقل عن رسول الأمانة، وأمين الرسالة، البشير النذير صلى الله عليه واله، وسوف نقدم باقة منها ونجعلها فاتحة تأمل في الشخصية التي تسابقت مع علي عليه السلام في رهان العظمة والسؤدد ذلك السباق الذي كان حق التحكيم فيه لرسول الله صلى الله عليه واله حتى قال حاسما الجولة: "" أنت يا فاطمة أحب وعلي أعز "" !!
مقطع تلاوة للنصوص:
"" إن فاطمة شجنة مني يؤذيني ما آذاها ويسرني ما أسرها""[1]، و "" ...يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها ""[2]، و "" بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما أذاها ""[3]، و ""فاطمة شعرة مني فمن آذى شعرة مني فقد أذاني ومن آذاني فقد آذى الله ...""[4]، و "" إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك ""[5]، قال صاحب طرز الوفا في فضائل آل المصطفى: وإسناده حسن[6].
وأنت أيها المسلم ما عجبك بحديث يروى عن تسعة وخمسين راويا [7]، أليس هذا العدد قاهرا للتشكيك، ولا تشكيك طبعا..
أليس كل هذه الطرق وهذه النغمات معبرا للقلب إلى التصديق واليقين بارتفاع قيمة جوهرة القدس على القيمة ذاتها ؟
تصفح بعض طرقه عندنا ضمن موسوعة بحار الأنوار للعلامة المجلسي " قد سره "، فستشاهد كيف خرجت هذه المعاني الفاطمية فوق أجزاء متفرقة من سطح بحار الأنوار، كما تنتؤ الجزر في مواقع متفرقة من سطح البحر !
ولك أن تشهد على طرقه عند الأنداد بقراءة الموضع الخاص بترجمتها من كتاب الإصابة لابن حجر العسقلاني .
ما تظن بتعدد اللفظ ؟
إن بعض العقول التي لا صبر لها على طول التأمل، ولا قدم ثابتة لها في الدراسة ولا فهم تنهض به في استلام الدلالات البعيدة والقريبة للنص، تحاول التخلص من أسر البحث بتبريرات عابرة و قاصرة ..
ومن أبناء هذه الفئة من ربما يتناول حديث المناسبة فيقول في توجيه اختلاف ألفاظه ما قيل في نظرائه أنه:
تعدد قوالب، وتنوع كلمات لمعنى واحد، وقصد فارد ؟!
ولكنه ظن خائب، وقول غير صائب ..
بل إن ثمة حقيقة تتحرك في المتون والصياغات المتعددة لهذه القضية الجليلة، وما تلك الأوصاف والكلمات إلا مواضع خطوات تلك الحركة !
وحتى نقرب العدسة أكثر فتتضح الصورة .. أبدي للسادة الفضلاء هذا التفسير وهو:
أن الفعل الخاطئ الذي تواجه به الصديقة الكبرى من قبل غيرها سيكون له واحد من درجتين حسب الضعف والشدة، وإنه لا محالة سيستدعي ردة فعل موازية ومعاكسة (كما هو القانون) فما تكرهه فاطمة وهو من الدرجة الدانية في القبح هو صاحب العلاقة بقوله صلى الله عليه واله"" يغضبها ""، وما يكون من الدرجة الشديدة من القبح فله علاقة بقوله: "" يسخط لسخطها"".
كما أن للفعل الخاطئ الذي يعارض به أسراء الجهل و وجهاء الظلام سيدة نساء هذه الأمة قد تكون له درجتان أيضا ولكن حسب الظهور والخفاء، فيكون بعد الخطأ الظاهر ردة فعل ظاهرة تصل إلى نسبة الإيذاء "" ويؤذيني ما آذاها ""، بينما الخطأ الخافي لا تتعد نسبة عائد الفعل وردته عندها الارتياب : "" يريبني ما يريبها "" !!
وقد يكون الفعل من حقيقة أخلاقية صرفة، فالمقارف له لم يتجاوز سوى الحدود الأخلاقية فقط ، فهذا وإن كان مخالفة لكنه لن يكون في نفس فاطمة عائد كبير في رتبة الغضب فضلا عن السخط ..
بل إن الفعل الحسن من الأخلاقيات سيسكب على نفسها زلالَ البهجة ويُفـَتـّقُ الأسارير، وهو المساوي لقول من قول الله فيه الصلوات الزاكيات: "" ويبسطني ما يبسطها ""، بينما ستتفاعل نفسها مع عديم الحسن من الفعال بالانقباض فقط ، ويساوي هذا الشطر الآخر من الحديث: "" ويقبضني ما يقبضها "".
و نستخلص من المجموع أن النبي عليه وعلى آله أفضل التحيات أراد أن يخبر عن أن فاطمة الزاهرة سلام الله عليها هي حدقة عينه التي يرى بها حجم ولون ومدى الأفعال مما يخطه الناس على أرض الواقع أفرادا وجماعاتا، وأن عائد كل فعل و مردود كل تحرك سيقع في نفسه الشريفة بذات الدرجة التي تقع في نفس فاطمة عليها السلام .
تنهدات مشفقة:
إن أسلوب النبي الخاتم عليه صلوات العالم، جاء لافتا من حيث أنه لم يكف عن اقتحام مسامع أمته بهذا الحديث، فكان مستمرا في تكراره و في الأوان المتباعدة، وهذا ما يثير الفضول العلمي، فالعاقل الذي يراقب أحداث تلك الحقبة لا يمكن أن يستقر به حال قبل أن يكشف عما لهذه الوظيفة النبوية المؤقتة من أسرار !!
فالواقع جدير بأن يُـرسم حوله علامة استفهام كبيرة
ولن يكون استفهاما منقطعا عن الجواب..
بل هو استفهام يجد جوابه حاضرا !
وهو: أنه صلى الله عليه واله عالج العقول من حوله لتفهم أن فاطمة شأن من شؤون الغيب التي لا تصاب بالعقول المحضة .. لأن إتباع الموقف بالموقف، وإرداف الكلمة بالكلمة، وتبديل الوصف مكان الوصف، (كما استمعنا في مقطع التلاوة للنصوص) له مفهوم التزامي ومدلول ثاني وهو أن هذا الموصوف (أي الزهراء) ليس مما تلحظه كل العيون، أو تبلغ حقيقته الظنون الصرفة .
إذن . . فهذا التمرير والتكرير للقضية الواحدة ذو هدف وذو موضوع !
ثمرة العصمة:
لقد أدى النبي ونصح حتى رعى عقولا لا تزال في طور النشوء إذ كانت تعيش في أرض بايعت الأمية َوالجاهلية َ بيعة ً مؤبدة ً فجاء محمد النور صلى الله عليه واله ليحل هذه البيعة من أعناقهم، ويحملـَهم إلى الجنة على أقتاب التزكية والعلم {ويزكيهم ويعلمهم}، فكان منه أفضل الأساليب وأشفعُها في الهدف، حيث الغزو لعقولهم ونفوسهم برفق ولطف ومن طرق تسامحه معهم أنه لم يعبدهم بأسماء الحقائق وألفاظِـها فطالما تجنب العناوين مما يغص به مساغ العقول !
فلم يطلق صوته باسم العصمة في حق عترته الماجدة، لا و لا فاطمة َعليها السلام، إلا ما كان يخرج منه همسا في آذان خلص أصحابه الموفون بعهدهم لعلي عليه السلام كسلمان، والمقداد، وأبي ذر، وعمار، ومن قفى أثرهم...
والعذر في ذلك أنه شيء لا تستسهله القلوب.. بل هو من الأمور التي يحتاج التصريح بها إلى حصانة أو عاصم {والله يعصمك من الناس}، لأن فضح هذه الأمور على الملأ توغر صدر الحاسد وترج شيطان الحاقد، وسيكون أول الفلتان رمي السادة الأمناء بكل شين ومين رغبة في تكذيب أقواله فيهم ؟!
ولا غرو فكم ألصقوا من الذم بدرته الطاهرة فاطمة، وبنجم أفق الرسالة الخالدة وصيهِ وبقيتهِ فيهم علي بن أبي طالب عليهما السلام.. أم كم ٍ ذم ٍ كان طائرا وسائرا في الناس لمبالغة الرسول صلى الله عليه واله فيه وهو يبين طرد هذا وذاك ممن استحق الطرد وقتئذ.. ولكن قد أشركت فيه الأقلام والألسن من بعدُ فصار الطريد يتعبدها بوضع الأحاديث والمدائح في نزاهته وقربه من رسول الله لتذهب الحقيقة أيدي سبأ ؟!
فلهذا السبب تعيينا أتخذ النبي المطهر الوفي صلى الله عليه واله الطبع الهادئ لجلوسه في هذه الزاوية من الرسالة فلم يتعامل مع هذه الأسرار الثمينة ببيع الجملة، ولكن تراه يفرق الحقيقة على المناسبات، ويقسطها على الأيام، فكان أن ذرّ لقاحَها في الهواء ليحمله إلى القلوب النجيبة والخالصة من كل شوب..
وقد نرى أن الهواء يحمل من اللقاح الطيب الكثير ثم يعصف بكل أنواع الشجر، ولكن لا تستجيب له سوى النخلة التي هي أكرم أنواع الشجر فتجازي رسل الهواء واللقاح بأكمام الثمر..
فكانت التجزئة في الطرح والكناية في الاشارة عونا وفيا له في الأمر الذي أراده صلى الله عليه واله..
فإذا قال في حق أسرته وحامّته فإن أقصى القول عنده: "" من أعتصم بهم نجا ومن تخلف عنهم هوى ""[8].
وإذا مال بلسانه إلى أهل بيته فلا يزيد على :"" أهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ""[9]. وإذا نصح بمشايعتهم، ومتابعتهم لم ينتخب كلمة سوى:"" لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ""[10].
وإذا تصدق على ظامئ بشيء من دلائهم الروية قال: "" فلا تقدموهما لتهلكوا ولا تعلموهما فإنهما أعلم منكم""[11]، ...وهلم سقيا !!
وإن هذا التألف للعقول والنفوس المعتاصة هو استرشاد بكتاب الله العظيم الذي جزأ حقيقة عصمة النبي وقدمها على صفقات للعقل العربي الجافي آنذاك، فلم يكشف الغطاء عن عصمة النبي ولم ينر الشبهة فيها دفعة واحدة ولكن ابتدأ بالإشارة يقول تقدست أسماؤه: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}، ثم يقف في مقطع زمني آخر ويعطيه ما يلائمه من التوضيح الذي لا يصل إلى التصريح وإن كان أبلغ منه فأنزل سبحانه:{ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم فانتهوا}، وستجد نفس الشكل في نصحه للمؤمنين من حول الرسول صلى الله عليه واله: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول...}.
مع أن كلنا يظن بادئ بدء أن التصريح بالعصمة بالاسم أقرب للحسم وأنه طريق مختصر وسريع في نقل غذاء الوحي إلى محطات القلوب، ولكنها صراحة لو جرى اللسان بها لاستمع إليه بعضهم وعلى قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا..
وبعد كل ما فتحنا سمعنا عليه من الكلام السابق نستطيع أن نقف على السؤال اللحوح على تفكيرنا:
لما لم يصرح الكتاب العزيز بالعصمة ليكفي المؤمنين شر الضلال؟
ونعطيه ــ بموجب التمهيد السابق ــ تقدير ضعيف ؟!
بل يجعلنا أقدر على مناقشته بأنه لو استجاب القرآن أو النبي العدنان لهذا التصور لتردى الكثير في أعماق الضلال ؟!
إذن فالنبي الأشفع صلى الله عليه واله لم يتخلى ــ كما القرآن ــ عن خطة التحدر والتدرج..
على أن فاطمة الراضية المرضية لما رأت التحدي لعصمتها والطعن في ملكتها النفسية التي طالما كان يذود عنها النبي صلى الله عليه واله وقفت لتجلي الأمر وجردت الحقيقة عندما استبدلت الإشارة بالعبارة:
"" اعلموا أني فاطمة وابي محمد ... لا أقول ما أقول غلطا ولا أفعل ما أفعل شططا"".
أصداء فقهية وتاريخية:
لقد قدس السادة الأطايب ـــ أولياء أمره ونهيه ـــ هذه العلاقة بين مشاعر الرسول وبضعته البتول، والتي تعني ــ كما فهمنا ــ التوافق في الاستقبال فلا يكون من الرضا أو البهجة نصيب لقلب أحدهما مع عزل الآخر.. كما لا يجوز بحال أن يلتاع أحدهما بحزن أو ألم ويعفى عنه الآخر.
لذا فإن سلالة المحامد والمعالي عليهم السلام قد أكرموا هذه العقيدة التي ألقى مرساتها الرسول صلى الله عليه واله وفـَـعّلوها تطبيقا من بعد نظرية..
فتراهم وسعوا لها مجالس الفقه ونسجوا للناس منها الأحكام والأعلام..
فمما أدب الإمام الصادق عليه أصحابه قوله للسكوني الذي قال له ولدت لي أبنة:"" ما سميتها؟ قلت فاطمة قال آه آه ثم وضع يده على جبهته ... إلى أن قال: أما إذا سميتها فاطمة فلا تسبها ولا تلعنها ولا تضربها "".[12]
ومما ساق إليه أصحابه أيضا قوله: "" لا يحل لأحد أن يجمع بين اثنتين من ولد فاطمة عليها السلام إن ذلك يبلغها فيشق عليها ""[13].
وأما عن فقهائنا فإن من لم يخضع لدلالة الحرمة منهم قد سلم بالكراهة ولم يحاور فيها فتراه مسلما بها أبدا معللا ذلك باحتمال تطرق الأذى لقلب فاطمة عليها السلام .
وأعجب ما في المطاف ..
ولقد جال دوي هذا الشعار الكريم ــ رضا فاطمة وسخط فاطمة ــ ولم يستطع الزمن أن يراهن على انقطاعه، واعترفت له أيادي الجور والتحريف بفشل كل المخادعات التي اهتمت بقطع الشعور بين نفوس الناس ونفس بضعة المصطفى ، بل إن تحسس رضاها تجاوز المؤالف إلى المخالف لها سلام الله عليها فتراه يغلب على نفوسهم أحايينا من الوقت فيلينون معه وإن تلاشى عن قلوبهم في أحايين أخرى؛ لأن الحق قد تنشق له قلوب خصومه عنوة وقهرا، فتنهزم أمامه سرائرهم الملوثة، وإن كانت غلبة لا تدوم ونصرا لا يطول، ولهذا أنت تشاهد المفارقات الكثيرة التي قد تفوق الخيال في حياة المخالفين لأهل البيت عليهم السلام وسنتعرف هنا على لمة من الحكايات التاريخية التي يسمع فيها صدى "" فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرها "".
1 دخل عبد الله بن الحسن بن علي يوما على عمر بن عبد العزيز وهو حدث السن، وله وفرة فرفع عمر مجلسه وأقبل عليه وقضى حوائجه ثم أخذ بعكنة من عكنه فغمزها حتى أوجعه وقال أذكرها عندك للشفاعة فلما خرج ليم على ما فعل به فقال حدثني الثقة حتى كأني اسمعه من رسول الله ص إنما فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرها وأنا أعلم أن فاطمة لو كانت حية لسرها ما فعلت بابنها...
2 حكى التقي الفاسي عن بعض الأئمة أنه كان يبالغ في تعظيم شرفاء المدينة النبوية على مشرفهم ومشرفها أفضل الصلاة والسلام وسبب تعظيمه لهم أنه كان منهم شخص اسمه مطير مات فتوقف عن الصلاة عليه لكونه كان يلعب بالحمام فرأى النبي صلى الله عليه واله في النوم ومعه فاطمة ابنته الزهراء فأعرضت عنه فاستعطفها حتى أقبلت عليه وعاتبته قائلة له أما يسع جاهنا مطيرا..
3 وحكى الجمال عبد الغفار الأنصاري المعروف بابن نوح عن أم نجم الدين بن مطروح وكانت من الصالحات قالت حصل لنا غلاء بمكة أكل الناس فيه الجلود وكنا ثمانية عشر نفسا فكنا نعمل مقدار نصف قدح نكتفي به فجاءنا اربع عشرة قفة من الدقيق ففرق زوجي عشرة على اهل مكة وأبقى لنا أربعة فنام فانتبه يبكي فقلت له ما بالك؟ قال رأيت الساعة فاطمة الزهراء عليها السلام وهي تقول لي: يا سراج تأكل البر وأولادي جياع ؟؟[14]
---------------------اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته الأمة بين رضا فاطمة وسخطها
نصوص ملقحة ضد الشك:
هنا قضية تخص فاطمة الشريفة عليها السلام مفادها: أن رضاها وسخطها كفتا ميزان لمعرفة رشد النفوس من ضلالها..
وهذه القضية توجد في صناديق بريد الحديث الشريف وهي كتب الرواية والنقل عن رسول الأمانة، وأمين الرسالة، البشير النذير صلى الله عليه واله، وسوف نقدم باقة منها ونجعلها فاتحة تأمل في الشخصية التي تسابقت مع علي عليه السلام في رهان العظمة والسؤدد ذلك السباق الذي كان حق التحكيم فيه لرسول الله صلى الله عليه واله حتى قال حاسما الجولة: "" أنت يا فاطمة أحب وعلي أعز "" !!
مقطع تلاوة للنصوص:
"" إن فاطمة شجنة مني يؤذيني ما آذاها ويسرني ما أسرها""[1]، و "" ...يقبضني ما يقبضها ويبسطني ما يبسطها ""[2]، و "" بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما أذاها ""[3]، و ""فاطمة شعرة مني فمن آذى شعرة مني فقد أذاني ومن آذاني فقد آذى الله ...""[4]، و "" إن الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك ""[5]، قال صاحب طرز الوفا في فضائل آل المصطفى: وإسناده حسن[6].
وأنت أيها المسلم ما عجبك بحديث يروى عن تسعة وخمسين راويا [7]، أليس هذا العدد قاهرا للتشكيك، ولا تشكيك طبعا..
أليس كل هذه الطرق وهذه النغمات معبرا للقلب إلى التصديق واليقين بارتفاع قيمة جوهرة القدس على القيمة ذاتها ؟
تصفح بعض طرقه عندنا ضمن موسوعة بحار الأنوار للعلامة المجلسي " قد سره "، فستشاهد كيف خرجت هذه المعاني الفاطمية فوق أجزاء متفرقة من سطح بحار الأنوار، كما تنتؤ الجزر في مواقع متفرقة من سطح البحر !
ولك أن تشهد على طرقه عند الأنداد بقراءة الموضع الخاص بترجمتها من كتاب الإصابة لابن حجر العسقلاني .
ما تظن بتعدد اللفظ ؟
إن بعض العقول التي لا صبر لها على طول التأمل، ولا قدم ثابتة لها في الدراسة ولا فهم تنهض به في استلام الدلالات البعيدة والقريبة للنص، تحاول التخلص من أسر البحث بتبريرات عابرة و قاصرة ..
ومن أبناء هذه الفئة من ربما يتناول حديث المناسبة فيقول في توجيه اختلاف ألفاظه ما قيل في نظرائه أنه:
تعدد قوالب، وتنوع كلمات لمعنى واحد، وقصد فارد ؟!
ولكنه ظن خائب، وقول غير صائب ..
بل إن ثمة حقيقة تتحرك في المتون والصياغات المتعددة لهذه القضية الجليلة، وما تلك الأوصاف والكلمات إلا مواضع خطوات تلك الحركة !
وحتى نقرب العدسة أكثر فتتضح الصورة .. أبدي للسادة الفضلاء هذا التفسير وهو:
أن الفعل الخاطئ الذي تواجه به الصديقة الكبرى من قبل غيرها سيكون له واحد من درجتين حسب الضعف والشدة، وإنه لا محالة سيستدعي ردة فعل موازية ومعاكسة (كما هو القانون) فما تكرهه فاطمة وهو من الدرجة الدانية في القبح هو صاحب العلاقة بقوله صلى الله عليه واله"" يغضبها ""، وما يكون من الدرجة الشديدة من القبح فله علاقة بقوله: "" يسخط لسخطها"".
كما أن للفعل الخاطئ الذي يعارض به أسراء الجهل و وجهاء الظلام سيدة نساء هذه الأمة قد تكون له درجتان أيضا ولكن حسب الظهور والخفاء، فيكون بعد الخطأ الظاهر ردة فعل ظاهرة تصل إلى نسبة الإيذاء "" ويؤذيني ما آذاها ""، بينما الخطأ الخافي لا تتعد نسبة عائد الفعل وردته عندها الارتياب : "" يريبني ما يريبها "" !!
وقد يكون الفعل من حقيقة أخلاقية صرفة، فالمقارف له لم يتجاوز سوى الحدود الأخلاقية فقط ، فهذا وإن كان مخالفة لكنه لن يكون في نفس فاطمة عائد كبير في رتبة الغضب فضلا عن السخط ..
بل إن الفعل الحسن من الأخلاقيات سيسكب على نفسها زلالَ البهجة ويُفـَتـّقُ الأسارير، وهو المساوي لقول من قول الله فيه الصلوات الزاكيات: "" ويبسطني ما يبسطها ""، بينما ستتفاعل نفسها مع عديم الحسن من الفعال بالانقباض فقط ، ويساوي هذا الشطر الآخر من الحديث: "" ويقبضني ما يقبضها "".
و نستخلص من المجموع أن النبي عليه وعلى آله أفضل التحيات أراد أن يخبر عن أن فاطمة الزاهرة سلام الله عليها هي حدقة عينه التي يرى بها حجم ولون ومدى الأفعال مما يخطه الناس على أرض الواقع أفرادا وجماعاتا، وأن عائد كل فعل و مردود كل تحرك سيقع في نفسه الشريفة بذات الدرجة التي تقع في نفس فاطمة عليها السلام .
تنهدات مشفقة:
إن أسلوب النبي الخاتم عليه صلوات العالم، جاء لافتا من حيث أنه لم يكف عن اقتحام مسامع أمته بهذا الحديث، فكان مستمرا في تكراره و في الأوان المتباعدة، وهذا ما يثير الفضول العلمي، فالعاقل الذي يراقب أحداث تلك الحقبة لا يمكن أن يستقر به حال قبل أن يكشف عما لهذه الوظيفة النبوية المؤقتة من أسرار !!
فالواقع جدير بأن يُـرسم حوله علامة استفهام كبيرة
ولن يكون استفهاما منقطعا عن الجواب..
بل هو استفهام يجد جوابه حاضرا !
وهو: أنه صلى الله عليه واله عالج العقول من حوله لتفهم أن فاطمة شأن من شؤون الغيب التي لا تصاب بالعقول المحضة .. لأن إتباع الموقف بالموقف، وإرداف الكلمة بالكلمة، وتبديل الوصف مكان الوصف، (كما استمعنا في مقطع التلاوة للنصوص) له مفهوم التزامي ومدلول ثاني وهو أن هذا الموصوف (أي الزهراء) ليس مما تلحظه كل العيون، أو تبلغ حقيقته الظنون الصرفة .
إذن . . فهذا التمرير والتكرير للقضية الواحدة ذو هدف وذو موضوع !
ثمرة العصمة:
لقد أدى النبي ونصح حتى رعى عقولا لا تزال في طور النشوء إذ كانت تعيش في أرض بايعت الأمية َوالجاهلية َ بيعة ً مؤبدة ً فجاء محمد النور صلى الله عليه واله ليحل هذه البيعة من أعناقهم، ويحملـَهم إلى الجنة على أقتاب التزكية والعلم {ويزكيهم ويعلمهم}، فكان منه أفضل الأساليب وأشفعُها في الهدف، حيث الغزو لعقولهم ونفوسهم برفق ولطف ومن طرق تسامحه معهم أنه لم يعبدهم بأسماء الحقائق وألفاظِـها فطالما تجنب العناوين مما يغص به مساغ العقول !
فلم يطلق صوته باسم العصمة في حق عترته الماجدة، لا و لا فاطمة َعليها السلام، إلا ما كان يخرج منه همسا في آذان خلص أصحابه الموفون بعهدهم لعلي عليه السلام كسلمان، والمقداد، وأبي ذر، وعمار، ومن قفى أثرهم...
والعذر في ذلك أنه شيء لا تستسهله القلوب.. بل هو من الأمور التي يحتاج التصريح بها إلى حصانة أو عاصم {والله يعصمك من الناس}، لأن فضح هذه الأمور على الملأ توغر صدر الحاسد وترج شيطان الحاقد، وسيكون أول الفلتان رمي السادة الأمناء بكل شين ومين رغبة في تكذيب أقواله فيهم ؟!
ولا غرو فكم ألصقوا من الذم بدرته الطاهرة فاطمة، وبنجم أفق الرسالة الخالدة وصيهِ وبقيتهِ فيهم علي بن أبي طالب عليهما السلام.. أم كم ٍ ذم ٍ كان طائرا وسائرا في الناس لمبالغة الرسول صلى الله عليه واله فيه وهو يبين طرد هذا وذاك ممن استحق الطرد وقتئذ.. ولكن قد أشركت فيه الأقلام والألسن من بعدُ فصار الطريد يتعبدها بوضع الأحاديث والمدائح في نزاهته وقربه من رسول الله لتذهب الحقيقة أيدي سبأ ؟!
فلهذا السبب تعيينا أتخذ النبي المطهر الوفي صلى الله عليه واله الطبع الهادئ لجلوسه في هذه الزاوية من الرسالة فلم يتعامل مع هذه الأسرار الثمينة ببيع الجملة، ولكن تراه يفرق الحقيقة على المناسبات، ويقسطها على الأيام، فكان أن ذرّ لقاحَها في الهواء ليحمله إلى القلوب النجيبة والخالصة من كل شوب..
وقد نرى أن الهواء يحمل من اللقاح الطيب الكثير ثم يعصف بكل أنواع الشجر، ولكن لا تستجيب له سوى النخلة التي هي أكرم أنواع الشجر فتجازي رسل الهواء واللقاح بأكمام الثمر..
فكانت التجزئة في الطرح والكناية في الاشارة عونا وفيا له في الأمر الذي أراده صلى الله عليه واله..
فإذا قال في حق أسرته وحامّته فإن أقصى القول عنده: "" من أعتصم بهم نجا ومن تخلف عنهم هوى ""[8].
وإذا مال بلسانه إلى أهل بيته فلا يزيد على :"" أهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف ""[9]. وإذا نصح بمشايعتهم، ومتابعتهم لم ينتخب كلمة سوى:"" لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ""[10].
وإذا تصدق على ظامئ بشيء من دلائهم الروية قال: "" فلا تقدموهما لتهلكوا ولا تعلموهما فإنهما أعلم منكم""[11]، ...وهلم سقيا !!
وإن هذا التألف للعقول والنفوس المعتاصة هو استرشاد بكتاب الله العظيم الذي جزأ حقيقة عصمة النبي وقدمها على صفقات للعقل العربي الجافي آنذاك، فلم يكشف الغطاء عن عصمة النبي ولم ينر الشبهة فيها دفعة واحدة ولكن ابتدأ بالإشارة يقول تقدست أسماؤه: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}، ثم يقف في مقطع زمني آخر ويعطيه ما يلائمه من التوضيح الذي لا يصل إلى التصريح وإن كان أبلغ منه فأنزل سبحانه:{ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم فانتهوا}، وستجد نفس الشكل في نصحه للمؤمنين من حول الرسول صلى الله عليه واله: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول...}.
مع أن كلنا يظن بادئ بدء أن التصريح بالعصمة بالاسم أقرب للحسم وأنه طريق مختصر وسريع في نقل غذاء الوحي إلى محطات القلوب، ولكنها صراحة لو جرى اللسان بها لاستمع إليه بعضهم وعلى قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا..
وبعد كل ما فتحنا سمعنا عليه من الكلام السابق نستطيع أن نقف على السؤال اللحوح على تفكيرنا:
لما لم يصرح الكتاب العزيز بالعصمة ليكفي المؤمنين شر الضلال؟
ونعطيه ــ بموجب التمهيد السابق ــ تقدير ضعيف ؟!
بل يجعلنا أقدر على مناقشته بأنه لو استجاب القرآن أو النبي العدنان لهذا التصور لتردى الكثير في أعماق الضلال ؟!
إذن فالنبي الأشفع صلى الله عليه واله لم يتخلى ــ كما القرآن ــ عن خطة التحدر والتدرج..
على أن فاطمة الراضية المرضية لما رأت التحدي لعصمتها والطعن في ملكتها النفسية التي طالما كان يذود عنها النبي صلى الله عليه واله وقفت لتجلي الأمر وجردت الحقيقة عندما استبدلت الإشارة بالعبارة:
"" اعلموا أني فاطمة وابي محمد ... لا أقول ما أقول غلطا ولا أفعل ما أفعل شططا"".
أصداء فقهية وتاريخية:
لقد قدس السادة الأطايب ـــ أولياء أمره ونهيه ـــ هذه العلاقة بين مشاعر الرسول وبضعته البتول، والتي تعني ــ كما فهمنا ــ التوافق في الاستقبال فلا يكون من الرضا أو البهجة نصيب لقلب أحدهما مع عزل الآخر.. كما لا يجوز بحال أن يلتاع أحدهما بحزن أو ألم ويعفى عنه الآخر.
لذا فإن سلالة المحامد والمعالي عليهم السلام قد أكرموا هذه العقيدة التي ألقى مرساتها الرسول صلى الله عليه واله وفـَـعّلوها تطبيقا من بعد نظرية..
فتراهم وسعوا لها مجالس الفقه ونسجوا للناس منها الأحكام والأعلام..
فمما أدب الإمام الصادق عليه أصحابه قوله للسكوني الذي قال له ولدت لي أبنة:"" ما سميتها؟ قلت فاطمة قال آه آه ثم وضع يده على جبهته ... إلى أن قال: أما إذا سميتها فاطمة فلا تسبها ولا تلعنها ولا تضربها "".[12]
ومما ساق إليه أصحابه أيضا قوله: "" لا يحل لأحد أن يجمع بين اثنتين من ولد فاطمة عليها السلام إن ذلك يبلغها فيشق عليها ""[13].
وأما عن فقهائنا فإن من لم يخضع لدلالة الحرمة منهم قد سلم بالكراهة ولم يحاور فيها فتراه مسلما بها أبدا معللا ذلك باحتمال تطرق الأذى لقلب فاطمة عليها السلام .
وأعجب ما في المطاف ..
ولقد جال دوي هذا الشعار الكريم ــ رضا فاطمة وسخط فاطمة ــ ولم يستطع الزمن أن يراهن على انقطاعه، واعترفت له أيادي الجور والتحريف بفشل كل المخادعات التي اهتمت بقطع الشعور بين نفوس الناس ونفس بضعة المصطفى ، بل إن تحسس رضاها تجاوز المؤالف إلى المخالف لها سلام الله عليها فتراه يغلب على نفوسهم أحايينا من الوقت فيلينون معه وإن تلاشى عن قلوبهم في أحايين أخرى؛ لأن الحق قد تنشق له قلوب خصومه عنوة وقهرا، فتنهزم أمامه سرائرهم الملوثة، وإن كانت غلبة لا تدوم ونصرا لا يطول، ولهذا أنت تشاهد المفارقات الكثيرة التي قد تفوق الخيال في حياة المخالفين لأهل البيت عليهم السلام وسنتعرف هنا على لمة من الحكايات التاريخية التي يسمع فيها صدى "" فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرها "".
1 دخل عبد الله بن الحسن بن علي يوما على عمر بن عبد العزيز وهو حدث السن، وله وفرة فرفع عمر مجلسه وأقبل عليه وقضى حوائجه ثم أخذ بعكنة من عكنه فغمزها حتى أوجعه وقال أذكرها عندك للشفاعة فلما خرج ليم على ما فعل به فقال حدثني الثقة حتى كأني اسمعه من رسول الله ص إنما فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرها وأنا أعلم أن فاطمة لو كانت حية لسرها ما فعلت بابنها...
2 حكى التقي الفاسي عن بعض الأئمة أنه كان يبالغ في تعظيم شرفاء المدينة النبوية على مشرفهم ومشرفها أفضل الصلاة والسلام وسبب تعظيمه لهم أنه كان منهم شخص اسمه مطير مات فتوقف عن الصلاة عليه لكونه كان يلعب بالحمام فرأى النبي صلى الله عليه واله في النوم ومعه فاطمة ابنته الزهراء فأعرضت عنه فاستعطفها حتى أقبلت عليه وعاتبته قائلة له أما يسع جاهنا مطيرا..
3 وحكى الجمال عبد الغفار الأنصاري المعروف بابن نوح عن أم نجم الدين بن مطروح وكانت من الصالحات قالت حصل لنا غلاء بمكة أكل الناس فيه الجلود وكنا ثمانية عشر نفسا فكنا نعمل مقدار نصف قدح نكتفي به فجاءنا اربع عشرة قفة من الدقيق ففرق زوجي عشرة على اهل مكة وأبقى لنا أربعة فنام فانتبه يبكي فقلت له ما بالك؟ قال رأيت الساعة فاطمة الزهراء عليها السلام وهي تقول لي: يا سراج تأكل البر وأولادي جياع ؟؟[14]
[1] معاني الأخبار:303.
[2] المناقب لابن شهر آشوب:3/ 112،
[3] البخاري:4/ 210.
[4] المستدرك للنيسابوري:3/ 154.
[5] الطبراني: المعجم الكبير:1/ 108.
[6] طرز الوفا في فضائل آل المصطفى:256.
[7] الغدير:7/
[8] مقتل الحسين للخوارزمي:59.
[9] الحاكم النيسابوري:3/ 149.
[10] راجع المراجعات: 49- 50.
[11] الدر المنثور:2/ 60.
[12] الكافي: 6/ 48.
[13] الوسائل:14/ ب 26.
[14] الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي:232و242و243.