وجدت زحاماً أمام دارنا ظهراً، بعد عودتي من مقابلة عمل للتوظيف في إحدى الشركات.. توجه إليّ جاري، وعلامات الحزن والأسى على محياه: أعظم الله لك الأجر بأبيك..! تلقيتُ الخبر مثل صاعقة تنقض على أعتى البنايات وتحيلها رماداً.. أبي مات..؟ كيف ذلك..؟ لقد عمل على توظيفي تواً في إحدى الشركات..! لم يستوعب جاري ما أقول.. أخذني جانباً، وأخذ بمواساتي، وقال: البقاء لله يا حسن، وأنت إنسان مؤمن، وأبوك كان رجلاً طيباً وحكيماً، سندعو له بالمغفرة، وأن يسكنه فسيح جناته.. وألهمكم الصبر والسلوان.. قل لي يا حسن، ما قصة الشركة والتوظيف، وكيف وظفك أبوك فيها..؟
أخذت نفساً عميقاً، مستذكراً كل كلمة قالها لي أبي، عبر مراحل حياتي الطويلة معه..
قلت له: خرجت صباحاً قاصداً الشركة للمقابلة، عسى أن أحظى بفرصة عمل تعينني في مشوار حياتي، تفاجأت أن الشركة فارغة من الأشخاص، لم يكن بها أحد، وشاهدت المياه تطفو من الحديقة الخارجية، يبدو أن الفلاح قد نسي الحنفية التي كانت تملأ الحوض، ففاض وصار يملأ الحديقة وخارجها، حتى كاد أن يصل الى الممرات..! قمت بنقل الانبوب الى الحوض الآخر الفارغ، وقللت من قوة الماء؛ لكي يمتلئ هو الآخر تدريجياً، قبل مجيء الفلاح ويغلق الحنفية.. فقد كان أبي يوصيني دائماً بتجنب الاسراف بالمياه، فهي نعمة وهبتها لنا السماء لنحافظ عليها. ويذكرني بالحديث الشريف: "لا تسرف بالماء ولو كنت على نهر جارٍ".
مضيت الى الباب وأمسكت المقبض وجدته يتحرك، ويكاد ينقلع من مكانه، تذكرت أبي الذي كان يوصيني بعدم ترك الأشياء عاطلة بدون تصليح: إن أمكنك تصليح أي شيء يا ولدي، قم بذلك، ولا تبخل بجهد أو مال، سواء في بيتك أو في أي مكان آخر يخدم مصلحة الجميع. أمسكت المقبض، وأرجعته الى مكانه الصحيح وأصلحته، فصار يعمل جيداً..كان الأمر بسيطاً جداً.. ولكن هكذا حال أغلب الناس، منشغلون بأمورهم الخاصة، وليس أمامهم متسع حتى لرفع حجر عن الطريق..!
دخلت الى الاستعلامات، كانت خالية من الموظفين، لكن المصابيح كلها مضاءة، والوقت صباحاً، تذكرت أبي الذي كان دائماً ما يطفئ المصابيح الزائدة عن الحاجة، فقمت بإطفاء مجموعة منها، وصعدت الى الطابق الثاني حيث المقابلة، فوجدت جمعاً كبيراً من المتقدمين للوظيفة، وكلهم من الشباب الأنيق بملابسهم الراقية، وكان بعضهم من حملة الشهادات العالية من خارج العراق..!
قلت مع نفسي: كيف سيقبلون بي وسط هذا الحشد من الشباب الأجمل والأكفأ..؟ لكني تفاجأت من أمر المقابلة، فكلما دخل أحدهم خرج ممتعضاً من عدم قبوله، وفي النهاية أصابني اليأس، وقبل قراري بالانصراف، فوجئت بمناداة اسمي، فدخلت فرأيت اللجنة وهم يبتسمون بوجهي..!
قال لي أحدهم: متى تحب أن تلتحق بالعمل..؟ تصورت أن الأمر فيه سخرية، لكني تذكرت أبي الذي كان يوصيني دائماً بالثقة بالنفس، وعدم الاستهانة بقدراتها، فقلت لهم: متى ما نجحت بالمقابلة، فسألتحق بالعمل.
فقال لي رئيس اللجنة: إنك مقبول يا ولدي، ولم نجد أحرص منك على ممتلكات الشركة، فقد كنا نراك عبر الكاميرات، كيف أغلقت ماء الحنفية قبل غرق الحديقة والممرات، وكيف أصلحت الباب، وكيف أطفأت الأنوار الكثيرة المضاءة، لقد كان اختبارنا للمتقدمين عملياً، وليس نظرياً، وأنت الوحيد من بين المتقدمين أقدمت على ذلك، وقد نجحت بالاختبار فعلاً.. فنحن نريد موظفاً يفكر بالمصلحة العامة، ولديه قلب طيب، وسعة أفق.. مبارك لك يا ولدي.
انهمرت الدموع على خدي: نعم، يا جاري العزيز.. لقد فعلت وصاياه (رحمه الله) فعلتها بي، وكانت سبباً بتوظيفي، فأبي من قادني للنجاح في كل مفاصل الحياة، وكان حاضراً معي بكل لحظة.