مذكرة إلقاء القبض:
استيقظ من نومه على صوت بائع الخضروات: "طماطة، خيار، بطاطة"، رمق الساعة بنظرة، تأفَّف.
ابتعد البائع، عاد الرجل إلى وسادته.
لحظات، مرّ بائع الغاز واضعاً معزوفة جميلة، تمتم قائلاً: موسيقى وليس أصواتاً مزعجة، فهي بالتأكيد أجمل.
يروم أنْ ينام مجدداً، أنْ يستمتع بساعاتٍ نوم أخرى، نادى بائع جوَّال: "بطارية، طباخ، مبردة".
وضع الوسادة على وجهه ضاغطاً بقوَّة على أذنه، بعد هُنَيهاتٍ أفزعه رجل وهو ينادي بالقرب من داره: "خبز يابس، طحين، سكر".
جلس في فراشه، مسك حافة بطانيته ونفضها، تلفت يميناً وشمالاً، هدأ الضجيج في الخارج، رجع إلى فراشه قائلاً: "كأنني في سوقٍ، اليوم عطلة يا رب".
السَّاعات الأولى للصُّبح تشهد دبيباً وحركة للكسبة، وفجأة سمع صوت صِبْيَة يلعبون كرة القدم في الحيّ، فنسيم الصَّباح العليل يشجعهم على ممارسة هوايتهم هذه، وكم من مرَّة اتَّخذوا خطأ بابه هدفاً..!.
نهض واجماً، عصفور نومه طار بعيداً.
وضع إبريق الشَّاي على النار، غسل وجهه، تناول إفطاره وجبينه مقطباً، تحرك باتِّجاه التِّلفاز فتحه، أخذ ينتقل بين القنوات.
شرع بالتثاؤب، لكن طرق الباب أعاد له نشاطه، كانت متسولة، دفع لها القليل، طالبت بالمزيد، صاح بها أنَّ الرَّاتب محدود، وما تجنيه في يومٍ أكثر من راتبه الشَّهري.
ما أن غادرت حتَّى جاءه صياح بائع الحلوى: "شعر بنات، شعر بنات".
أصبحت الشَّمس في كبدِ السَّماء، غطتْ أشعتها كلّ بقعة في الحيّ، إلَّا تلك البقع التي كانت الأشجار تجود عليها بظِلالِها الوارفة.
ثمَّ تناهى إلى مسامعه صوت صِبْيَة واقفين جنب مسكنه الصغير، بدت عيناه جامدة من الحركة، ويداه تضغط بِشدَّةِ على جهاز تحكم التلفاز، شعر بالاختناق، تنفس بعمقٍ.
نهض مسرعاً وتحرك صوب الباب وفتحها، رأى صبياً أنيقاً ممسكاً بسيكارة، كان يتحذلق في كلامه والصِبْيَة حوله يتجمعون، قال له الرَّجل مشيراً بيده: "اذهب إلى بيتِكَ وخذْ أصدقاءكَ، وتحدثْ هناك".
استشاط ابن الجيران غضباً، رمى سيكارته وسحقها بحذائه بينما الصِبْيَة ينظرون إليه كأنَّهم يطالبونه بموقفٍ حازمٍ يليق بحال أقاربه.
لم يكترث الرَّجل النَّعسان له، غلق الباب، أطفأ الأنوار، ذهب ليخلد للنوم.
بعد ساعات استيقظ مفزوعاً وخُيّل إليه أنَّ الباب قد خُلِع من شدَّة الطَّرق، فتحه،
كان الصَّبي محاطاً بحماية وسيارات مُصفّحة، وأفراد من الشُّرطة، مع مذكرة إلقاء القبض عليه بتهمة الإساءة للصَّبي وإرهاب أصدقائهِ..!.
الضوء الأخضر:
مطلع كلّ صباح يرصد السيارات التي تقف عند إشارة المرور الضوئية، ذات يوم لمح سيارة فارهة، ركض باتجاهها، رش سائلاً من قنينة بلاستيكية يحملها على الزجاجة الأمامية، هوى بجسمه الصغير عليها ليمسحها بماسحة صغيرة، ثمّ بقطعة قماش مرسلاً نظرات استعطاف لصاحبها الأنيق الذي كان منشغلاً بابنهِ، ليسترعي انتباهه طرق النافذة التي كانت مغلقة، رمقه بنظرة ثمّ تقدم بسيارته للأمام، تبعه الطفل راكضاً بنعليه الممزقتين يستجدي أجرة عمله التبرعي، كاد أن يلحق بها لولا الضوء الأخضر الذي سمح بالانطلاق بسرعة، وغابت عن عين الصبي، عاد أدراجه إلى نقطة انطلاقه وهو ينفض القطعة التي في يديه وعيناه ترسل النظرات هنا وهناك ليرصد أخرى، ويعيد الكَّرة مجدداً.
(وَخزَة):
في صباح شتائي كانت واقفة تتفحص حقيبتها، تدير رأسها شمالاً ويميناً، اقتربْتُ منها فسألتني دبوساً، أعطيتها واحداً احملُهُ لحجابي، جلسَت القرفصاء تنظر للحقيبة من جهتها اليمنى، كان طرفاها قد انفصلا عن بعض، أمسكَتِ الدبوس لترتق به الفتق ولم تفلحْ في إدخاله، أخذْتُهما منها، اضطررْتُ لإخراج بعض كتبها، كان مخطوط عليها مرحلة الابتدائية.
بعينيها الصغيرتين، تنتظر أن أحلَّ لها مشكلتها، ناولْتُها كتبها، أبصرت جواربها كانتْ وبر الصوف بادية عليها يغوصان بحذاء صيفي قديم، اختلسْتُ النظر للباسها المدرسي الذي بدا أكبر من حجمها.
أولجْتُ الدبوس وأغلقتُه، نبّهتها أنّه قد يُفتح وتتعرض لوخزه، ابتسمَتْ ببراءة أكلها الذبول، وضعَتْ حزام الحقيبة على كتفها، انصرفَتْ مبتعدة، كنْتُ أتابعها بنظري، أراها تحاول أن تسند أسفل الحقيبة براحة يديها، تتحسس بين الفينة والأخرى موضع الدبوس، انتبهتُ لحركة يدها السريعة وسحبها للأعلى أنّها ووخزت، ظلت عيناي ملتصقة بجسدها الصغير وحملها حتى دخلتْ بنايةً مكتوباً عليها: (مدرسة الأيتام)..!.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــ
زينب فخري