اللهم صل على محمد وآل محمد
أَيُّهَا اَلنَّاسُ، إِنَّا قَدْ أَصْبَحْنَا فِي دَهْرٍ عَنُودٍ ( جائر )، وَزَمَنٍ كَنُودٍ ( كفور )،
يُعَدُّ فِيهِ اَلْمُحْسِنُ مُسِيئاً، وَيَزْدَادُ اَلظَّالِمُ فِيهِ عُتُوّاً ( كبراً )، لاَ نَنْتَفِعُ بِمَا عَلِمْنَا، وَلاَ نَسْأَلُ عَمَّا جَهِلْنَا، وَلاَ نَتَخَوَّفُ قَارِعَةً ( خطباً عظيماً ) حَتَّى تَحُلَّ بِنَا.
فَالنَّاسُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَصْنَافٍ:
منْهُمْ مَنْ لاَ يَمْنَعُهُ اَلْفَسَادَ في الأرْضِ إِلاَّ مَهَانَةُ نَفْسِهِ ( حقارتها )، وَكَلاَلَةُ حَدِّهِ ( كلالة حدّ السيف توقفه عن القطع)، وَنَضِيضُ وَفْرِهِ ( قلّة ماله )
ومِنْهُمْ اَلْمُصْلِتُ لِسَيْفِهِ ( الماضي في الأمور بقوّته )، وَاَلْمُعْلِنُ بِشَرِّهِ، وَاَلْمُجْلِبُ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ ( المُستعين على الأمر بالجمع )، قَدْ أَشْرَطَ نَفْسَهُ ( أي أعدّ نفسه )، وَأَوْبَقَ دِينَهُ ( أي أهلكه ) لِحُطَامٍ يَنْتَهِزُهُ ( من الدنيا )، أَوْ مِقْنَبٍ يَقُودُهُ ( المقنب جمع من الخيل )، أَوْ مِنْبَرٍ يَفْرَعُهُ ( أي يعلوه ).
وَلَبِئْسَ اَلْمَتْجَرُ أَنْ تَرَى اَلدُّنْيَا لِنَفْسِكَ ثَمَناً، وَمِمَّا عِنْدَ اَللَّهِ عِوَضاً !
ومِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ اَلدُّنْيَا بِعَمَلِ اَلْآخِرَةِ، وَلاَ يَطْلُبُ اَلْآخِرَةَ بِعَمَلِ اَلدُّنْيَا، قَدْ طَامَنَ مِنْ شَخْصِهِ، وَقَارَبَ مِنْ خَطْوِهِ، وَشَمَّرَ مِنْ ثَوْبِهِ، وَزَخْرَفَ مِنْ نَفْسِهِ لِلْأَمَانَةِ، وَاِتَّخَذَ سِتْرَ اَللَّهِ ذَرِيعَةً إِلَى اَلْمَعْصِيَةِ.
ومِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَهُ عَنْ طَلَبِ اَلْمُلْكِ ضُؤُولَةُ نَفْسِهِ ( أي حقارتها )، وَاِنْقِطَاعُ سَبَبِهِ، فَقَصَرَتْهُ اَلْحَالُ عَلَى حَالِهِ، فَتَحَلَّى بِاسْمِ اَلْقَنَاعَةِ، وَتَزَيَّنَ بِلِبَاسِ أَهْلِ اَلزَّهَادَةِ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي مَرَاحٍ ( المكان الذي تأوي إليه الماشية بالليل ) وَلاَ مَغْدًى ( هو الذي يأوي إليه بالغداة ).
وَبَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ اَلْمَرْجِعِ، وَأَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ اَلْمَحْشَرِ، فَهُمْ بَيْنَ شَرِيدٍ ( مطرود ) نَادٍّ ( ذاهب على وجهه )، وَخَائِفٍ مَقْمُوعٍ ( ذليل )، وَسَاكِتٍ مَكْعُومٍ ( المسدود فمه )، وَدَاعٍ مُخْلِصٍ، وَثَكْلاَنَ ( حزين ) مُوجَعٍ،
قَدْ أَخْمَلَتْهُمُ اَلتَّقِيَّةُ، وَشَمِلَتْهُمُ اَلذِّلَّةُ، فَهُمْ فِي بَحْرٍ أُجَاجٍ، أَفْوَاهُهُمْ ضَامِزَةٌ ( ساكتة )، وَقُلُوبُهُمْ قَرِحَةٌ، وَقَدْ وَعَظُوا حَتَّى مَلُّوا، وَقُهِرُوا حَتَّى ذَلُّوا، وَقُتِلُوا حَتَّى قَلُّوا،
فَلْتَكُنِ اَلدُّنْيَا فِي أَعْيُنِكُمْ أَصْغَرَ مِنْ حُثَالَةِ اَلْقَرَظِ ( ورقٌ يُدبغ به )، وَقُرَاضَةِ اَلْجَلَمِ ( أي ما تساقط من " الجلم " الذي هو مقراض تجزُّ به أوبار الإبل )، وَاِتَّعِظُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، قَبْلَ أَنْ يَتَّعِظَ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، وَاُرْفُضُوهَا ذَمِيمَةً ( أي الدنيا )، فَإِنَّهَا رَفَضَتْ مَنْ كَانَ أَشْغَفَ بِهَا مِنْكُمْ.
________________
من خُطَب أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة.
تعليق