الوعظ في خطب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
بديهيا" إن ما تفرزه كل مرحلة من مراحل الحياة في المجالين، الفكري والعلمي ومن نتاج أدبي، يعد رهين الأحداث السياسية والتطورات الاجتماعية والثقافية لتلك المرحلة، وكان بظهور الدعوة الجديدة، صدى عميقاً يجلجل في دنيا الأحداث وهو أسمى وأجل، ألا وهو ظهور الإسلام والمتتبع لهذا الظهور العظيم في تأريخ أمتنا، يجد أن الخطابة قد أدت دوراً بارزاً إزاء هذا الحدث وما أفرزه من تطورات سياسية أخرى كظهور أفكار سياسية، وكتل المعارضة والأقطاب المؤيدة للدعوة الجديدة، ولما كان سيف هذه المرحلة في الدعوة هو الإقناع والبيان والتشريع إذاً لابد من أن يشمله تطور هائل عبر مراحل التطور الفكري والأدبي للأمة لأسباب كثيرة لا مجال لحصرها، ولكنها بلغت الذروة على عهد الإمام علي عليه السلام لسخونة الأحداث وكثرة الحروب إذ ((ارتقت الخطابة في عهد الإمام علي عليه السلام ارتقاءً واضحاً وصارت سلاحاً قوياً يلجأ إليه الخليفة وخصمه؛ ليثيران بها الأنصار، ويحفزان النفوس إلى الغارة والحروب، ولقد خلّف لنا هذا العصر قدراً كبيراً من الخطب، لم يؤثر مثله طوال عهد الخلفاء الراشدين؛ وليس ذلك بعجيب؛ فإن المسلمين لم يقفوا موقفاً يحتاج إلى الخطابة كهذا الموقف الذي وقفوه أيام الإمام علي عليه السلام ))([1]) فلم يحارب المسلمون، قبل هذه المرحلة بعضهم بعضاً، وإنما وحدوا سيوفهم لمحاربة الكفر والضلالة لنشر راية الإسلام، و إعلاء كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) التي تملأ قلوبهم وتمدهم بالروح المعنوية معززةً الإيمان بالله , والتقوى، وتحدوهم بتلك العقيدة السامية أن لهم إحدى الحسنيين؛ إما النصر وإما الشهادة التي تعني الجنة والنعيم، وكان وازعهم في هذا أو ذاك، قلب يدفعهم وعقيدة تقودهم فما احتاجوا يوماً إلى خطبة رنانة في محاربة الفرس والروم يطول فيها القول المقرون بالسجع والبلاغة وما إلى ذلك، وإنما كان الجهاد هو العامل الوحيد الذي يحفزهم، وتملأ قلوبهم الثقة بالنصر، معتقدين في ذلك أن الله سبحانه وتعالى يمدهم بروح من لدنه، وأن المجاهد منهم تنتظره الجنة، وما يغنمه من العدو من الفيء والغنائم ((أما اليوم فهم مدعوون لحرب قومٍ لا يشركون بالله، ولا ينكرون محمداً، بل هم على دينهم وعقيدتهم، ومن جنسهم وملتهم ولذلك كان الموقف الجديد في حاجة إلى خطيب يبرر حرب المسلم لأخيه المسلم، وقتل العربي بني قومه العرب))([2]) وكان الإمام علي عليه السلام على كثرة مشاغله مع خصومه،وهو المعين للضعيف والجذوة المتقدة للخلفاء الراشدين وهو لا يبخل عليهم في مشورة ٍ أو إبداء رأي في موقف تقتضيه مصلحـــة المسلمين ((وكان الإمام يسير مع الخلفاء الراشدين سيرة الناصح المرشد، المخلص في نصحه وإرشاده، فهو لا يبخل عليهم بعلمه، ولا يكتم رأيه ونصحه))([3]) وذلك لأنه على جانب كبير من العلم والمعرفة وهو ((الزهد والفصاحة وفي الحكمة والخطابة ثمرة منشئه الرفيعة، وبيئته العجيبة، وحياته الخصبة، وتجاربه الجليلة في الحياة، فكان حكيماً تتفجر الحكمة من بيانه، وخطيباً تتدفق البلاغة على لسانه وواعظاً ملأ السمع والقلب))([4]) والأمر لا يقف عند هذا الحد، وإنما يمتد إلى خصال ذاته، التي يتصف بها الإمام عليه السلام من منزلة رفيعة عند الرسول صلى الله عليه وآله والصحابة والمسلمين وقادته، وهو على جانب كبير من التقوى والزهد والورع، ومما حدا به أن ينال خطوة كبيرة لدى الرسول صلى الله عليه وآله والخلفاء.
والمتتبع لخطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يجد فيها أثر الوعظ المقرون بمعاني القرآن الكريم ((التي كان يرغب الخطباء في اقتباسها كما كانوا يرغبون في إرسال الحكم؛ وقد نفخت فيها العاطفة الدينية والحزبية بشدة، واهتم الخطباء للتأثير والإقناع اهتماماً واسعاً))([5]) والمتناول لخطب الإمام علي أغراض خطبه، يجد فيها أثراً للسياسة ومعنى ذلك أنه يساير الناس ويسايسهم دون المساومة في الدين والعقيدة، وبذا ينزع إلى واقع السياسة في إطار ديني شامل ((فإن خطب الإمام علي عليه السلام كانت تتطور بفعل واقعه السياسي، تنزع عنه وتصدر عنه، ممثلة آراءه وعقيدته في ما يطرأ على المسلمين، فهو حيناً يشير وينصح، وحيناً آخر يعظ ويبشر، وفي معظم الأحيان، يحض ويحرض، دون أن يتخلى عن النزعة الدينية، والتي استأثرت بخطبه وارتبطت بها ارتباطها بالأغراض السياسية))([6]) ولم يقف الإمام علي عليه السلام يوماً في إرشاد الناس ووعظهم، بل كان كثيراً ما يميل لإرشاد نفسه وتهديدها خشية الله تعالى، وتهذيب ذاته وسوف نتناول ذلك في أثناء خطبه. و بذا تحتل خطب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام المقام الأول في خطب التراث العربي بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله حتى وصفه الدكتور علي الوردي في وعاظ السلاطين بأنه ((أشتهر عن علي أنه كان أول واعظ بليغ في الإسلام))([7]) وجاء في نهج البلاغة منه قوله: ((إن علياً يقوم في التراث العربي مقام سليمان الحكيم، حيث تجمع حول أسمه عدد لا يحصى من الحكم والمواعظ والأمثال، ووجد أسمه محفوراً على كثير من السيوف في القرون الوسطى))([8]) وهو في كل ذلك يرشد الناس إلى سواء السبيل والصراط المستقيم، مبيناً شرع الله تارةً وتارةً يرشدهم إلى طريق النجاة والفوز ممثلا ً بقوله ) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُم الْمُفْلِحُون(،([9]) ((لأن الذي يقوم به يبين شرع الله للناس ويصلح به دنياهم وآخرتهم، ويربي وجدانهم،ويهذب نفوسهم، ويرشدهم إلى طريق الفوز، والخروج من آلام هذه الحياة))([10]) وعليه فقد جاءت خطبه عليه السلام جامعة شاملة فهي ((تجلو القلوب، وتهذب البصائر، وتسمو بالإنسان إلى أسمى مراتب الكمال، وكان لها التأثير البالغ في نفوس العارفين والمتقين))([11])
والمتتبع في خطب الامام عليه السلام يجد فيها الاهداف واضحة في الوعظ والارشاد ((وهي اصدق صورة لنفس الامام عليه السلام اودعها اعطرما في قلبه من التقوى والحقيقة المرتكزة على ايمان وثيق بالله، واعجاب بمخلوقاته وكمالاته، وزهد بالخيرات الزائلة، وايمان الامام علي عليه السلام ناطق في كل موعظة من مواعظه، فهي معطرة بذكر الله، تتصاعد منها صلوات حارة جميلة))([12])
وكيف لايكون كذلك وهو المتربي في كنف الرسول محمّد صلى الله عليه وآله فهوعلى جانب كبير من الخصال الحميدة، في دينه ودنياه فقد حمل ما حمله الرسول صلى الله عليه وآله وكان حريا" بأن تنعكس تلك الخصال الحميدة جملة" وتفصيلا" على كل ما يقوله الامام عليه السلام صور الوعظ والارشاد، وان تطبع بصماتها على خطبة ورسائله (فهو لايرى رأيا"، ولا يقضي بحكم، حتى يكون مشبعا" بروح الدين، يفيد منه للوعظ وبث روح التقوى، واقامة السنن، ولئن كان معظم خطبه يرجح بين الدين والسياسة، فأن ثمة خطب دينية، زهدية خالصة، ينصرف فيها الى تعظيم شأن الخالق، داعيا" المؤمنين للتخلي عن قناع الدنيا لايغرهم بها الغرور، ولا يخادعهم طيفها وسرابها، فهي مدبرة مولية حائلة، زائلة))([13])
وكان عليه السلام يتفاعل مع التأريخ وأحداثه تفاعلا "حيا" ايجابيا" في اصدار خطبه الوعظيه ((لا كمؤرخ، وانما بأعتباره رجل عقيدة ورسالة، ورجل دولة حاكما"، ولم يكن يستخدم التأريخ كمادة وعظية فقط وانما يستهدف أيضا" منه، النقد السياسي والتربية السياسية لمجتمعه والتوجيه الحضاري لهذا المجتمع))([14])
وكان يهدف من خلال كل ذلك الى ان يكون المسلمون مجتمعا" مثاليا" يخلو من الأحقاد والضغائن وتسوده المحبة والمودة والالتزام المطلق بالاسلام وتعاليمه السمحة لتكون حياتهم في الدنيا حياة عمل وقولا" الى دار الاخرة والاستقرار في الجنة بعد الحياة الدنيا التي كانت دار عمل واختبار.
منشور في: مجلة أهل البيت عليهم السلام العدد 7
بتصرف
1- ((الخطابة في عهد علي بن أبي طالب)) / الأستاذ أحمد أحمد بدوي / مجلة الرسالة / العدد 211 / للسنة 1356هـ –1937 م / القاهرة.
[2]- ((الخطابة في عهد علي بن أبي طالب)) / الأستاذ أحمد أحمد بدوي / مجلة الرسالة / العدد 211 / للسنة 1356هـ –1937 م / القاهرة.
[3] - حياة امير المؤمنين في عهد النبي / السيد محمد صادق الصدر / مطبعة دار الكتب / ط2/ بيروت – لبنان / 1391هـ – 1972 م.
[4] - الحياة الادبية في عصر صدر الاسلام / د. محمد عبد المنعم خفاجي / دار الكتاب اللبناني / ط2/ بيروت / 1980 م.
[5] تاريخ الادب العربي / حنا الفاخوري/ المطبعة البوليسية / ط2/ بيروت /1.-
[6] - فن الخطابة وتطوره عند العرب / ايليا حاوي / دار الثقافة / بيروت – لبنان / (دت).
[7] - وعاظ السلاطين / د. علي الوردي / دار كوفان / ط2/ لندن / 1999م
[8] - شرح نهج البلاغة / ابن ابي الحديد (ت 656 هـ) / تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم / مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه / ط2/ مصر/ 1385 هـ – 1965م.
[9] - ال عمران ـ الايه: 104
[10] - الخطابة (اصولها. تاريخها في ازهر عصورها عند العرب) الامام الحافظ محمد ابو زهرة / دار الفكر العربي / ط 1/ القاهرة /1934 م
[11] - موسوعة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب / باقر شريف القرشي / مطبعة دار الحسنين للطباعة والنشر /ط1/ 1422هـ.
[12] - تاريخ الادب العربي / حنا الفاخوري/ المطبعة البوليسية / ط2/ بيروت /1.
[13] - فن الخطابة وتطوره عند العرب / ايليا حاوي / دار الثقافة / بيروت – لبنان / (دت).
[14] - دراسات في نهج البلاغة / محمد مهدي شمس الدين / دار الزهراء/ ط3/ بيروت – لبنان / 1392هـ – 1972 م.
بديهيا" إن ما تفرزه كل مرحلة من مراحل الحياة في المجالين، الفكري والعلمي ومن نتاج أدبي، يعد رهين الأحداث السياسية والتطورات الاجتماعية والثقافية لتلك المرحلة، وكان بظهور الدعوة الجديدة، صدى عميقاً يجلجل في دنيا الأحداث وهو أسمى وأجل، ألا وهو ظهور الإسلام والمتتبع لهذا الظهور العظيم في تأريخ أمتنا، يجد أن الخطابة قد أدت دوراً بارزاً إزاء هذا الحدث وما أفرزه من تطورات سياسية أخرى كظهور أفكار سياسية، وكتل المعارضة والأقطاب المؤيدة للدعوة الجديدة، ولما كان سيف هذه المرحلة في الدعوة هو الإقناع والبيان والتشريع إذاً لابد من أن يشمله تطور هائل عبر مراحل التطور الفكري والأدبي للأمة لأسباب كثيرة لا مجال لحصرها، ولكنها بلغت الذروة على عهد الإمام علي عليه السلام لسخونة الأحداث وكثرة الحروب إذ ((ارتقت الخطابة في عهد الإمام علي عليه السلام ارتقاءً واضحاً وصارت سلاحاً قوياً يلجأ إليه الخليفة وخصمه؛ ليثيران بها الأنصار، ويحفزان النفوس إلى الغارة والحروب، ولقد خلّف لنا هذا العصر قدراً كبيراً من الخطب، لم يؤثر مثله طوال عهد الخلفاء الراشدين؛ وليس ذلك بعجيب؛ فإن المسلمين لم يقفوا موقفاً يحتاج إلى الخطابة كهذا الموقف الذي وقفوه أيام الإمام علي عليه السلام ))([1]) فلم يحارب المسلمون، قبل هذه المرحلة بعضهم بعضاً، وإنما وحدوا سيوفهم لمحاربة الكفر والضلالة لنشر راية الإسلام، و إعلاء كلمة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) التي تملأ قلوبهم وتمدهم بالروح المعنوية معززةً الإيمان بالله , والتقوى، وتحدوهم بتلك العقيدة السامية أن لهم إحدى الحسنيين؛ إما النصر وإما الشهادة التي تعني الجنة والنعيم، وكان وازعهم في هذا أو ذاك، قلب يدفعهم وعقيدة تقودهم فما احتاجوا يوماً إلى خطبة رنانة في محاربة الفرس والروم يطول فيها القول المقرون بالسجع والبلاغة وما إلى ذلك، وإنما كان الجهاد هو العامل الوحيد الذي يحفزهم، وتملأ قلوبهم الثقة بالنصر، معتقدين في ذلك أن الله سبحانه وتعالى يمدهم بروح من لدنه، وأن المجاهد منهم تنتظره الجنة، وما يغنمه من العدو من الفيء والغنائم ((أما اليوم فهم مدعوون لحرب قومٍ لا يشركون بالله، ولا ينكرون محمداً، بل هم على دينهم وعقيدتهم، ومن جنسهم وملتهم ولذلك كان الموقف الجديد في حاجة إلى خطيب يبرر حرب المسلم لأخيه المسلم، وقتل العربي بني قومه العرب))([2]) وكان الإمام علي عليه السلام على كثرة مشاغله مع خصومه،وهو المعين للضعيف والجذوة المتقدة للخلفاء الراشدين وهو لا يبخل عليهم في مشورة ٍ أو إبداء رأي في موقف تقتضيه مصلحـــة المسلمين ((وكان الإمام يسير مع الخلفاء الراشدين سيرة الناصح المرشد، المخلص في نصحه وإرشاده، فهو لا يبخل عليهم بعلمه، ولا يكتم رأيه ونصحه))([3]) وذلك لأنه على جانب كبير من العلم والمعرفة وهو ((الزهد والفصاحة وفي الحكمة والخطابة ثمرة منشئه الرفيعة، وبيئته العجيبة، وحياته الخصبة، وتجاربه الجليلة في الحياة، فكان حكيماً تتفجر الحكمة من بيانه، وخطيباً تتدفق البلاغة على لسانه وواعظاً ملأ السمع والقلب))([4]) والأمر لا يقف عند هذا الحد، وإنما يمتد إلى خصال ذاته، التي يتصف بها الإمام عليه السلام من منزلة رفيعة عند الرسول صلى الله عليه وآله والصحابة والمسلمين وقادته، وهو على جانب كبير من التقوى والزهد والورع، ومما حدا به أن ينال خطوة كبيرة لدى الرسول صلى الله عليه وآله والخلفاء.
والمتتبع لخطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يجد فيها أثر الوعظ المقرون بمعاني القرآن الكريم ((التي كان يرغب الخطباء في اقتباسها كما كانوا يرغبون في إرسال الحكم؛ وقد نفخت فيها العاطفة الدينية والحزبية بشدة، واهتم الخطباء للتأثير والإقناع اهتماماً واسعاً))([5]) والمتناول لخطب الإمام علي أغراض خطبه، يجد فيها أثراً للسياسة ومعنى ذلك أنه يساير الناس ويسايسهم دون المساومة في الدين والعقيدة، وبذا ينزع إلى واقع السياسة في إطار ديني شامل ((فإن خطب الإمام علي عليه السلام كانت تتطور بفعل واقعه السياسي، تنزع عنه وتصدر عنه، ممثلة آراءه وعقيدته في ما يطرأ على المسلمين، فهو حيناً يشير وينصح، وحيناً آخر يعظ ويبشر، وفي معظم الأحيان، يحض ويحرض، دون أن يتخلى عن النزعة الدينية، والتي استأثرت بخطبه وارتبطت بها ارتباطها بالأغراض السياسية))([6]) ولم يقف الإمام علي عليه السلام يوماً في إرشاد الناس ووعظهم، بل كان كثيراً ما يميل لإرشاد نفسه وتهديدها خشية الله تعالى، وتهذيب ذاته وسوف نتناول ذلك في أثناء خطبه. و بذا تحتل خطب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام المقام الأول في خطب التراث العربي بعد النبي محمد صلى الله عليه وآله حتى وصفه الدكتور علي الوردي في وعاظ السلاطين بأنه ((أشتهر عن علي أنه كان أول واعظ بليغ في الإسلام))([7]) وجاء في نهج البلاغة منه قوله: ((إن علياً يقوم في التراث العربي مقام سليمان الحكيم، حيث تجمع حول أسمه عدد لا يحصى من الحكم والمواعظ والأمثال، ووجد أسمه محفوراً على كثير من السيوف في القرون الوسطى))([8]) وهو في كل ذلك يرشد الناس إلى سواء السبيل والصراط المستقيم، مبيناً شرع الله تارةً وتارةً يرشدهم إلى طريق النجاة والفوز ممثلا ً بقوله ) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُم الْمُفْلِحُون(،([9]) ((لأن الذي يقوم به يبين شرع الله للناس ويصلح به دنياهم وآخرتهم، ويربي وجدانهم،ويهذب نفوسهم، ويرشدهم إلى طريق الفوز، والخروج من آلام هذه الحياة))([10]) وعليه فقد جاءت خطبه عليه السلام جامعة شاملة فهي ((تجلو القلوب، وتهذب البصائر، وتسمو بالإنسان إلى أسمى مراتب الكمال، وكان لها التأثير البالغ في نفوس العارفين والمتقين))([11])
والمتتبع في خطب الامام عليه السلام يجد فيها الاهداف واضحة في الوعظ والارشاد ((وهي اصدق صورة لنفس الامام عليه السلام اودعها اعطرما في قلبه من التقوى والحقيقة المرتكزة على ايمان وثيق بالله، واعجاب بمخلوقاته وكمالاته، وزهد بالخيرات الزائلة، وايمان الامام علي عليه السلام ناطق في كل موعظة من مواعظه، فهي معطرة بذكر الله، تتصاعد منها صلوات حارة جميلة))([12])
وكيف لايكون كذلك وهو المتربي في كنف الرسول محمّد صلى الله عليه وآله فهوعلى جانب كبير من الخصال الحميدة، في دينه ودنياه فقد حمل ما حمله الرسول صلى الله عليه وآله وكان حريا" بأن تنعكس تلك الخصال الحميدة جملة" وتفصيلا" على كل ما يقوله الامام عليه السلام صور الوعظ والارشاد، وان تطبع بصماتها على خطبة ورسائله (فهو لايرى رأيا"، ولا يقضي بحكم، حتى يكون مشبعا" بروح الدين، يفيد منه للوعظ وبث روح التقوى، واقامة السنن، ولئن كان معظم خطبه يرجح بين الدين والسياسة، فأن ثمة خطب دينية، زهدية خالصة، ينصرف فيها الى تعظيم شأن الخالق، داعيا" المؤمنين للتخلي عن قناع الدنيا لايغرهم بها الغرور، ولا يخادعهم طيفها وسرابها، فهي مدبرة مولية حائلة، زائلة))([13])
وكان عليه السلام يتفاعل مع التأريخ وأحداثه تفاعلا "حيا" ايجابيا" في اصدار خطبه الوعظيه ((لا كمؤرخ، وانما بأعتباره رجل عقيدة ورسالة، ورجل دولة حاكما"، ولم يكن يستخدم التأريخ كمادة وعظية فقط وانما يستهدف أيضا" منه، النقد السياسي والتربية السياسية لمجتمعه والتوجيه الحضاري لهذا المجتمع))([14])
وكان يهدف من خلال كل ذلك الى ان يكون المسلمون مجتمعا" مثاليا" يخلو من الأحقاد والضغائن وتسوده المحبة والمودة والالتزام المطلق بالاسلام وتعاليمه السمحة لتكون حياتهم في الدنيا حياة عمل وقولا" الى دار الاخرة والاستقرار في الجنة بعد الحياة الدنيا التي كانت دار عمل واختبار.
منشور في: مجلة أهل البيت عليهم السلام العدد 7
بتصرف
1- ((الخطابة في عهد علي بن أبي طالب)) / الأستاذ أحمد أحمد بدوي / مجلة الرسالة / العدد 211 / للسنة 1356هـ –1937 م / القاهرة.
[2]- ((الخطابة في عهد علي بن أبي طالب)) / الأستاذ أحمد أحمد بدوي / مجلة الرسالة / العدد 211 / للسنة 1356هـ –1937 م / القاهرة.
[3] - حياة امير المؤمنين في عهد النبي / السيد محمد صادق الصدر / مطبعة دار الكتب / ط2/ بيروت – لبنان / 1391هـ – 1972 م.
[4] - الحياة الادبية في عصر صدر الاسلام / د. محمد عبد المنعم خفاجي / دار الكتاب اللبناني / ط2/ بيروت / 1980 م.
[5] تاريخ الادب العربي / حنا الفاخوري/ المطبعة البوليسية / ط2/ بيروت /1.-
[6] - فن الخطابة وتطوره عند العرب / ايليا حاوي / دار الثقافة / بيروت – لبنان / (دت).
[7] - وعاظ السلاطين / د. علي الوردي / دار كوفان / ط2/ لندن / 1999م
[8] - شرح نهج البلاغة / ابن ابي الحديد (ت 656 هـ) / تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم / مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه / ط2/ مصر/ 1385 هـ – 1965م.
[9] - ال عمران ـ الايه: 104
[10] - الخطابة (اصولها. تاريخها في ازهر عصورها عند العرب) الامام الحافظ محمد ابو زهرة / دار الفكر العربي / ط 1/ القاهرة /1934 م
[11] - موسوعة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب / باقر شريف القرشي / مطبعة دار الحسنين للطباعة والنشر /ط1/ 1422هـ.
[12] - تاريخ الادب العربي / حنا الفاخوري/ المطبعة البوليسية / ط2/ بيروت /1.
[13] - فن الخطابة وتطوره عند العرب / ايليا حاوي / دار الثقافة / بيروت – لبنان / (دت).
[14] - دراسات في نهج البلاغة / محمد مهدي شمس الدين / دار الزهراء/ ط3/ بيروت – لبنان / 1392هـ – 1972 م.
تعليق