سيرة الرسول الاعظم (ص) في نهج البلاغة
قال تعالى في محكم كتابه: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)([1]).
انّ النبوة سلسلةُ هدايةٍ ربّانيّةٍ، وشعلة نورانيّة أنارت درب البشرية، منذ أن سكن الإنسان هذه المعمورة، وستستمر إلى نهاية المطاف على يد أمناء وأوصياء خاتم النبوة.
قال أميرالمؤمنين(ع) : «ولَمْ يُخْلِ الله سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ، أَوْ حُجَّةٍ لازِمَةٍ، أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ، رُسُلٌ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، ولا كَثْرَةُ الْـمُكَذِّبِينَ لَـهُمْ، مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ، عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْـقُرُونُ ومَضَتِ الدُّهُورُ وسَلَفَتِ الآبَاءُ وخَلَفَتِ الأبْنَاءُ.»([2]).
سبب الحاجة إلى الأنبياء:
لقديماً ما سمعنا شبهة منكري النبوة من انّ النبي إما يأتي بما يوافق العقل فلا فائدة فيه ولا حاجة إليه، وإما يأتي بما يخالف العقل فيجب ردّه، وعليه لا حاجة للأنبياء.
وفي الجواب نقول:
1ـ انّ العقل لا يتمكن أن يحيط علماً بجميع الأمور، إذ له نطاق عمل محدود، بالإضافة إلى انّ ضوء العقل قد يخبو بسبب اقتراف الذنوب وسيطرة الأهواء، وفي ذلك يقول أميرالمؤمنين (ع): «كَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ تَحْتَ هَوَى أَمِيرٍ»([3]).
وفي كتابه (ع) إلى شريح القاضي لما اشترى داراً بثمانين ديناراً، وعظه الإمام بموعظة بليغة جاء في آخرها: «شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ الْـعَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ الْـهَوَى، وسَلِمَ مِنْ عَلائِقِ الدُّنْيَا»([4]).
إذاً العقل لوحده ـ ومن دون استعانة بالوحي ـ لا يتمكن من سلوك طريق الهداية للمخاطر التي تحيط به، حتى لو سلّمنا انّ بعض ما جاء به الوحي وصل إليه العقل وأدركه قبله، فحينئذٍ يكون دليل الوحي مؤكداً لدليل العقل وهذا لا ضير فيه.
2ـ انّ الله تعالى لم يخلق الإنسان عبثاً، وهو القائل: (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)([5])، وقال تعالى أيضاً: (وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)([6])، وقال أميرالمؤمنين (ع): «وَاعْلَمُوا عِبَادَ الله أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً ولَمْ يُرْسِلْكُمْ هَمَلاً»([7]).
فعدم العبثية في الخلقة، ولزوم المعرفة والعبادة، تقتضي وصول أوامر الخالق ونواهيه إلى الناس، وهذا لا يتحقق إلّا عبر الأنبياء والرسل، بعد عجز الإنسان عن الاتصال المباشر بالخالق، وكذلك بالمخلوقات الغيبيّة كالملائكة.
3ـ إتمام الحجة وتعليم العباد، فقد قال أميرالمؤمنين (ع): «واصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى الْـوَحْي مِيثَاقَهُمْ، وعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لـَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ الله إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّهُ، واتَّخَذُوا الأنْدَادَ مَعَهُ، واجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، واقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، ويُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، ويَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، ويُثِيرُوا لَـهُمْ دَفَائِنَ الْـعُقُولِ، ويُرُوهُمْ آيَاتِ الْـمَقْدِرَةِ: مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ، ومِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ، ومَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وآجَالٍ تُفْنِيهِمْ، وأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ، وأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ»([8]).
وقال (ع) أيضاً: «ولِيُقِيمَ الْـحُجَّةَ بِهِ [أي آدم(ع)] عَلَى عِبَادِهِ، ولَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ، ويَصِلُ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْـحُجَج عَلَى ألْـسُنِ الْـخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، ومُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالاتِهِ، قَرْناً فَقَرْناً»([9]).
وقال (ع): «بَعَثَ الله رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ، وجَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ، لِئَلا تَجِبَ الْـحُجَّةُ لَـهُمْ بِتَرْكِ الاعْذَارِ إِلَيْهِمْ، فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ الْـحَقِّ»([10]).
صعوبة الامتحان:
إنّ الله سبحانه وتعالى بعث أنبياءه، وطلب من عباده الإيمان بهم والأخذ بقولهم، مع ما خصّ الأنبياء بصفات روحانية عظيمة.
وقد امتاز الأنبياء أيضاً بالفقر وقلّة ذات اليد عموماً، وفيه حكمة ربانية دقيقة، وهي أن يكون الإيمان بالله خالصاً لوجهه الكريم لايشوبه طمع أو خوف دنيوي كما هو الحال في الاستسلام للملوك والسلاطين.
وبهذا الصدد يقول أميرالمؤمنين (ع) بعد ما يذكر استهزاء فرعون بموسى وهارون لما دخلا عليه بمدارع الصوف، فاستحقرهما وقال: هلّا ألقي عليهما اساورة من ذهب، وهنا يقول الإمام (ع):
«ولَوْ أَرَادَ الله سُبْحَانَهُ لأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَـهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ، ومَعَادِنَ الْـعِقْيَانِ، ومَغَارِسَ الْـجِنَانِ، وأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ، ووُحُوشَ الأرَضِينَ لَفَعَلَ، ولَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْـبَلاءُ، وبَطَلَ الْـجَزَاءُ، وَاضْمَحَلَّتِ الأنْبَاءُ، ولَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْـمُبْتَلَيْنَ، ولا اسْتَحَقَّ الْـمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْـمُحْسِنِينَ، ولا لَزِمَتِ الأسْمَاءُ مَعَانِيَهَا، ولَكِنَّ الله سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ، وضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الأعْيُنُ مِنْ حَالاتِهِمْ، مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلأ الْـقُلُوبَ والْـعُيُونَ غِنًى، وخَصَاصَةٍ تَمْلأ الأبْصَارَ والأسْمَاعَ أَذًى. ولَوْ كَانَتِ الأنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لا تُرَامُ، وعِزَّةٍ لا تُضَامُ، ومُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ، وتُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ، لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْـخَلْقِ فِي الاعْتِبَارِ، وأَبْعَدَ لَـهُمْ فِي الاسْتِكْبَارِ، ولَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ، أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ، فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً، والْـحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً. ولَكِنَّ الله سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ، والتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ، والْـخُشُوعُ لِوَجْهِهِ، والاسْتِكَانَةُ لأَمْرِهِ، والاسْتِسْلامُ لِطَاعَتِهِ، أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ، وكُلَّمَا كَانَتِ الْـبَلْوَى والاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْـمَثُوبَةُ والْـجَزَاءُ أَجْزَلَ»([11]).
وفي خطبة أخرى يشير أميرالمؤمنين (ع) إلى زهد بعض الأنبياء وفقرهم ويقول: «وَإِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ الله إذ يقول: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» والله مَا سَأَلَهُ إِلا خُبْزاً يَأْكُلُهُ، لأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الأرْضِ، ولَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْـبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ لِهُزَالِهِ وتَشَذُّبِ لَحْمِهِ. وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ صَاحِبِ الْـمَزَامِيرِ، وقَارِئِ أَهْلِ الْـجَنَّةِ، فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْـخُوصِ بِيَدِهِ، ويَقُولُ لِجُلَسَائِهِ: أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا، ويَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى بنِ مَرْيَمَ،(ع)، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْـحَجَرَ، ويَلْبَسُ الْـخَشِنَ، ويَأْكُلُ الْـجَشِبَ، وكَانَ إِدَامُهُ الْـجُوعَ، وسِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْـقَمَرَ، وظِلالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الأرْضِ ومَغَارِبَهَا، وفَاكِهَتُهُ ورَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الأرْضُ لِلْبَهَائِمِ، ولَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ، ولا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ، ولا مَالٌ يَلْفِتُهُ، ولا طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلاهُ، وخَادِمُهُ يَدَاهُ»([12]).
([1]) النساء: 165.
([2]) نهج البلاغة، الخطبة: 1.
([3]) نهج البلاغة، قصار الحكم: 201.
([4]) نهج البلاغة، الكتاب: 3.
([5]) ص: 27.
([6]) الذاريات: 56.
([7]) نهج البلاغة، الخطبة: 195.
([8]) نهج البلاغة، الخطبة: 1.
([9]) نهج البلاغة، الخطبة 90.
([10]) نهج البلاغة، الخطبة: 144.
([11]) نهج البلاغة، الخطبة: 192.
([12]) نهج البلاغة، الخطبة: 160.
سلسلة في رحاب نهج البلاغة (10)
تاليف السيد هاشم الميلاني
قال تعالى في محكم كتابه: (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً)([1]).
انّ النبوة سلسلةُ هدايةٍ ربّانيّةٍ، وشعلة نورانيّة أنارت درب البشرية، منذ أن سكن الإنسان هذه المعمورة، وستستمر إلى نهاية المطاف على يد أمناء وأوصياء خاتم النبوة.
قال أميرالمؤمنين(ع) : «ولَمْ يُخْلِ الله سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ، أَوْ حُجَّةٍ لازِمَةٍ، أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ، رُسُلٌ لا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، ولا كَثْرَةُ الْـمُكَذِّبِينَ لَـهُمْ، مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ، أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ، عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْـقُرُونُ ومَضَتِ الدُّهُورُ وسَلَفَتِ الآبَاءُ وخَلَفَتِ الأبْنَاءُ.»([2]).
سبب الحاجة إلى الأنبياء:
لقديماً ما سمعنا شبهة منكري النبوة من انّ النبي إما يأتي بما يوافق العقل فلا فائدة فيه ولا حاجة إليه، وإما يأتي بما يخالف العقل فيجب ردّه، وعليه لا حاجة للأنبياء.
وفي الجواب نقول:
1ـ انّ العقل لا يتمكن أن يحيط علماً بجميع الأمور، إذ له نطاق عمل محدود، بالإضافة إلى انّ ضوء العقل قد يخبو بسبب اقتراف الذنوب وسيطرة الأهواء، وفي ذلك يقول أميرالمؤمنين (ع): «كَمْ مِنْ عَقْلٍ أَسِيرٍ تَحْتَ هَوَى أَمِيرٍ»([3]).
وفي كتابه (ع) إلى شريح القاضي لما اشترى داراً بثمانين ديناراً، وعظه الإمام بموعظة بليغة جاء في آخرها: «شَهِدَ عَلَى ذَلِكَ الْـعَقْلُ إِذَا خَرَجَ مِنْ أَسْرِ الْـهَوَى، وسَلِمَ مِنْ عَلائِقِ الدُّنْيَا»([4]).
إذاً العقل لوحده ـ ومن دون استعانة بالوحي ـ لا يتمكن من سلوك طريق الهداية للمخاطر التي تحيط به، حتى لو سلّمنا انّ بعض ما جاء به الوحي وصل إليه العقل وأدركه قبله، فحينئذٍ يكون دليل الوحي مؤكداً لدليل العقل وهذا لا ضير فيه.
2ـ انّ الله تعالى لم يخلق الإنسان عبثاً، وهو القائل: (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)([5])، وقال تعالى أيضاً: (وَمَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)([6])، وقال أميرالمؤمنين (ع): «وَاعْلَمُوا عِبَادَ الله أَنَّهُ لَمْ يَخْلُقْكُمْ عَبَثاً ولَمْ يُرْسِلْكُمْ هَمَلاً»([7]).
فعدم العبثية في الخلقة، ولزوم المعرفة والعبادة، تقتضي وصول أوامر الخالق ونواهيه إلى الناس، وهذا لا يتحقق إلّا عبر الأنبياء والرسل، بعد عجز الإنسان عن الاتصال المباشر بالخالق، وكذلك بالمخلوقات الغيبيّة كالملائكة.
3ـ إتمام الحجة وتعليم العباد، فقد قال أميرالمؤمنين (ع): «واصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى الْـوَحْي مِيثَاقَهُمْ، وعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لـَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ الله إِلَيْهِمْ، فَجَهِلُوا حَقَّهُ، واتَّخَذُوا الأنْدَادَ مَعَهُ، واجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، واقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ، فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ، ووَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ، لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، ويُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، ويَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، ويُثِيرُوا لَـهُمْ دَفَائِنَ الْـعُقُولِ، ويُرُوهُمْ آيَاتِ الْـمَقْدِرَةِ: مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ، ومِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ، ومَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وآجَالٍ تُفْنِيهِمْ، وأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ، وأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ»([8]).
وقال (ع) أيضاً: «ولِيُقِيمَ الْـحُجَّةَ بِهِ [أي آدم(ع)] عَلَى عِبَادِهِ، ولَمْ يُخْلِهِمْ بَعْدَ أَنْ قَبَضَهُ مِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَيْهِمْ حُجَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ، ويَصِلُ بَيْنَهُمْ وبَيْنَ مَعْرِفَتِهِ، بَلْ تَعَاهَدَهُمْ بِالْـحُجَج عَلَى ألْـسُنِ الْـخِيَرَةِ مِنْ أَنْبِيَائِهِ، ومُتَحَمِّلِي وَدَائِعِ رِسَالاتِهِ، قَرْناً فَقَرْناً»([9]).
وقال (ع): «بَعَثَ الله رُسُلَهُ بِمَا خَصَّهُمْ بِهِ مِنْ وَحْيِهِ، وجَعَلَهُمْ حُجَّةً لَهُ عَلَى خَلْقِهِ، لِئَلا تَجِبَ الْـحُجَّةُ لَـهُمْ بِتَرْكِ الاعْذَارِ إِلَيْهِمْ، فَدَعَاهُمْ بِلِسَانِ الصِّدْقِ إِلَى سَبِيلِ الْـحَقِّ»([10]).
صعوبة الامتحان:
إنّ الله سبحانه وتعالى بعث أنبياءه، وطلب من عباده الإيمان بهم والأخذ بقولهم، مع ما خصّ الأنبياء بصفات روحانية عظيمة.
وقد امتاز الأنبياء أيضاً بالفقر وقلّة ذات اليد عموماً، وفيه حكمة ربانية دقيقة، وهي أن يكون الإيمان بالله خالصاً لوجهه الكريم لايشوبه طمع أو خوف دنيوي كما هو الحال في الاستسلام للملوك والسلاطين.
وبهذا الصدد يقول أميرالمؤمنين (ع) بعد ما يذكر استهزاء فرعون بموسى وهارون لما دخلا عليه بمدارع الصوف، فاستحقرهما وقال: هلّا ألقي عليهما اساورة من ذهب، وهنا يقول الإمام (ع):
«ولَوْ أَرَادَ الله سُبْحَانَهُ لأَنْبِيَائِهِ حَيْثُ بَعَثَهُمْ أَنْ يَفْتَحَ لَـهُمْ كُنُوزَ الذِّهْبَانِ، ومَعَادِنَ الْـعِقْيَانِ، ومَغَارِسَ الْـجِنَانِ، وأَنْ يَحْشُرَ مَعَهُمْ طُيُورَ السَّمَاءِ، ووُحُوشَ الأرَضِينَ لَفَعَلَ، ولَوْ فَعَلَ لَسَقَطَ الْـبَلاءُ، وبَطَلَ الْـجَزَاءُ، وَاضْمَحَلَّتِ الأنْبَاءُ، ولَمَا وَجَبَ لِلْقَابِلِينَ أُجُورُ الْـمُبْتَلَيْنَ، ولا اسْتَحَقَّ الْـمُؤْمِنُونَ ثَوَابَ الْـمُحْسِنِينَ، ولا لَزِمَتِ الأسْمَاءُ مَعَانِيَهَا، ولَكِنَّ الله سُبْحَانَهُ جَعَلَ رُسُلَهُ أُولِي قُوَّةٍ فِي عَزَائِمِهِمْ، وضَعَفَةً فِيمَا تَرَى الأعْيُنُ مِنْ حَالاتِهِمْ، مَعَ قَنَاعَةٍ تَمْلأ الْـقُلُوبَ والْـعُيُونَ غِنًى، وخَصَاصَةٍ تَمْلأ الأبْصَارَ والأسْمَاعَ أَذًى. ولَوْ كَانَتِ الأنْبِيَاءُ أَهْلَ قُوَّةٍ لا تُرَامُ، وعِزَّةٍ لا تُضَامُ، ومُلْكٍ تُمَدُّ نَحْوَهُ أَعْنَاقُ الرِّجَالِ، وتُشَدُّ إِلَيْهِ عُقَدُ الرِّحَالِ، لَكَانَ ذَلِكَ أَهْوَنَ عَلَى الْـخَلْقِ فِي الاعْتِبَارِ، وأَبْعَدَ لَـهُمْ فِي الاسْتِكْبَارِ، ولَآمَنُوا عَنْ رَهْبَةٍ قَاهِرَةٍ لَهُمْ، أَوْ رَغْبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِمْ، فَكَانَتِ النِّيَّاتُ مُشْتَرَكَةً، والْـحَسَنَاتُ مُقْتَسَمَةً. ولَكِنَّ الله سُبْحَانَهُ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ الاتِّبَاعُ لِرُسُلِهِ، والتَّصْدِيقُ بِكُتُبِهِ، والْـخُشُوعُ لِوَجْهِهِ، والاسْتِكَانَةُ لأَمْرِهِ، والاسْتِسْلامُ لِطَاعَتِهِ، أُمُوراً لَهُ خَاصَّةً لا تَشُوبُهَا مِنْ غَيْرِهَا شَائِبَةٌ، وكُلَّمَا كَانَتِ الْـبَلْوَى والاخْتِبَارُ أَعْظَمَ كَانَتِ الْـمَثُوبَةُ والْـجَزَاءُ أَجْزَلَ»([11]).
وفي خطبة أخرى يشير أميرالمؤمنين (ع) إلى زهد بعض الأنبياء وفقرهم ويقول: «وَإِنْ شِئْتَ ثَنَّيْتُ بِمُوسَى كَلِيمِ الله إذ يقول: «رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ» والله مَا سَأَلَهُ إِلا خُبْزاً يَأْكُلُهُ، لأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ بَقْلَةَ الأرْضِ، ولَقَدْ كَانَتْ خُضْرَةُ الْـبَقْلِ تُرَى مِنْ شَفِيفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ لِهُزَالِهِ وتَشَذُّبِ لَحْمِهِ. وَإِنْ شِئْتَ ثَلَّثْتُ بِدَاوُدَ صَاحِبِ الْـمَزَامِيرِ، وقَارِئِ أَهْلِ الْـجَنَّةِ، فَلَقَدْ كَانَ يَعْمَلُ سَفَائِفَ الْـخُوصِ بِيَدِهِ، ويَقُولُ لِجُلَسَائِهِ: أَيُّكُمْ يَكْفِينِي بَيْعَهَا، ويَأْكُلُ قُرْصَ الشَّعِيرِ مِنْ ثَمَنِهَا. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِي عِيسَى بنِ مَرْيَمَ،(ع)، فَلَقَدْ كَانَ يَتَوَسَّدُ الْـحَجَرَ، ويَلْبَسُ الْـخَشِنَ، ويَأْكُلُ الْـجَشِبَ، وكَانَ إِدَامُهُ الْـجُوعَ، وسِرَاجُهُ بِاللَّيْلِ الْـقَمَرَ، وظِلالُهُ فِي الشِّتَاءِ مَشَارِقَ الأرْضِ ومَغَارِبَهَا، وفَاكِهَتُهُ ورَيْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ الأرْضُ لِلْبَهَائِمِ، ولَمْ تَكُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ، ولا وَلَدٌ يَحْزُنُهُ، ولا مَالٌ يَلْفِتُهُ، ولا طَمَعٌ يُذِلُّهُ، دَابَّتُهُ رِجْلاهُ، وخَادِمُهُ يَدَاهُ»([12]).
([1]) النساء: 165.
([2]) نهج البلاغة، الخطبة: 1.
([3]) نهج البلاغة، قصار الحكم: 201.
([4]) نهج البلاغة، الكتاب: 3.
([5]) ص: 27.
([6]) الذاريات: 56.
([7]) نهج البلاغة، الخطبة: 195.
([8]) نهج البلاغة، الخطبة: 1.
([9]) نهج البلاغة، الخطبة 90.
([10]) نهج البلاغة، الخطبة: 144.
([11]) نهج البلاغة، الخطبة: 192.
([12]) نهج البلاغة، الخطبة: 160.
سلسلة في رحاب نهج البلاغة (10)
تاليف السيد هاشم الميلاني
تعليق