بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
قال تعالى: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (البروج: 4-8).
لطالما كانت مشكلة المشركين مع الموحّدين هي أنّهم لم يصدّقوا أنّ فوق عالمهم الماديّ عالماً آخر، ولم يصدّقوا أنّ هناك إلهاً واحداً لا يُرى ولا يُوصف ولا يُحدّ، فقد اعتادت عقولهم تحديد آلهة باطلة بحجر أو رسم. في عالمٍ اعتاد أهله المادة دليلاً على الوجود، أنّى لهم السموّ عليها؟! لذلك كانت مهمّة الأنبياء شاقّة في إحياء فطرة الإنسان الباعثة على السموّ بروحه فوق بدنه. وأوّل الطريق الإيمان بإله غيبيّ، منزّه عن حدود المادة ونقصها، من آمن به عقلاً ووجداناً، سمت روحه.
* أصحاب الأخدود: مؤمنون بالغيب
ورد عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "بعث الله نبيّاً حبشيّاً إلى قومه، فقاتلهم، فقتل أصحابه وأُسروا، وخدّوا لهم أخدوداً من نار، ثم نادوا: من كان من أهل ملّتنا فليعتزل، ومن كان على دين هذا النبيّ فليقتحم النار، فجعلوا يقتحمون النار، وأقبلت امرأة معها صبيّ لها، فهابت النار، فقال لها صبيّها: اقتحمي. (قال فاقتحمت النار. وهم أصحاب الأخدود"(1).
إنّ هذه المواجهة كانت نتيجة إيمان منشؤه غيبيّ، ففعلُ الإيمان فعلٌ إنسانيٌّ إراديٌّ؛ وبالتالي يكون الإنسان هو محور العمليّة الإيمانيّة والاعتقاديّة.
إنّ الايمان شعلة تتوقّد في القلب، ليست من سنخ الألفاظ والمقولات الكلاميّة والتركيبيّة، بل هي حالة عابرة للألفاظ والتعابير، حالة وجوديّة، وجدانيّة، قلبيّة نورانيّة اطمئنانيّة، محلّها القلب، تزيد وتنقص، وعندما تغمر القلب تغيّر مجرى حياة الإنسان نحو الله تعالى، كما في قصّة أصحاب الأخدود.
* الغيب ووعي الإيمان
تكمن قيمة أن يكون الإيمان فعلاً اختياريّاً إراديّاً أن يكون المؤمن به هو الأكثر قوّةً؛ فقد ورد عن خضر بن عمرو قال: "قال أبو عبد الله عليه السلام: إنّ المؤمن أشدّ من زبر الحديد، إنّ الحديد إذا دخل النار لان، وإنّ المؤمن لو قُتل ونُشر ثمّ قُتل ونُشر، لم يتغيّر قلبه"(2).
وهذا يكشف عن أنّ الإيمان نوع من الارتباط والتعلّق الواعي بالذات الإلهيّة المقدّسة؛ وبالتالي تتحقّق العبادة الواعية لله تعالى التي ترى في التألّم الإنسانيّ قرباً عباديّاً؛ لأنّ المؤمن عندما يستقرّ الإيمان بالله تعالى في قلبه، سيعيش لأجل هذا الإيمان، وسيبذل دمه وروحه ووقته له. ولو لم يتحقّق التعلّق الواعي بالذات الإلهيّة المقدّسة لصار التجمّل في تأدية العبادات كالصلاة والصوم والجهاد وغيرها شعوراً بالعذاب الفاقد للحظة الألم الممزوجة بالشعور بالرضى والأمل. وليس من الحكمة في شيء أن يقضي المرء حياته من أجل قناعة مترنّحة أو مشكوكة ومضطربة.
إذاً، يمكن لنا أن نتحدّث عن هذه القوّة (الإيمان)، بوصفها إحدى بركات التصديق بعالم الغيب، لنرى صور تأثيرها وفعلها في حياة الإنسان، شرط أن يكون محورها هو: الإيمان بالله.
* فعل الإيمان ولوحة كربلاء
ورد في حديث للإمام الحسين عليه السلام قوله: "هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله"(3). يُظهِر هذا القول أنّ المصاب صار هيّناً على الإمام الحسين عليه السلام رغم دمويّته، وما ذلك إلّا لأنّه بعين الله. وهنا، يجدر التوقّف عند العلاقة بين الإيمان وتهوين المصاب على قلبه المقدّس، الذي سببه أنّه بعين الله تعالى. وهذه العبارة المباركة "أنّه بعين الله" تشير إلى البُعد الإيمانيّ الإلهيّ.
فالإيمان بالله هوّن المصيبة. ويبرز المشهد بنحو أوضح في لسان حاله: "وأيتمت العيال لكي أراك..". وهذا يكشف عن حقيقة وهي أنّ أفعال كربلاء (هيهات منّا الذلّة، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل..، خرجت لطلب الإصلاح...، ومثلي لا يبايع مثله...) هي مظاهر سلوكيّة للإيمان بالله عزّ وجل. وبالتالي فإنّ كلّ فعل كربلائيّ كان فعلاً تقرُّبيّاً في خطّ المسير إلى الله تعالى. وكذلك فعل العبّاس عليه السلام عندما أراد أن يشرب غَرفة من الماء، فتذكّر عطش الحسين عليه السلام وأهل بيته، ورمى الماء من يده.
إنّ شعلة الإيمان الإلهيّ في صدور الكربلائيّين قد خَطّت بأحداث كربلاء لوحة إلهيّة بدماء الحسين عليه السلام وأصحابه، ما جعلها منارة مقدّسة لكلّ أحرار العالم.
* آثار الإيمان بالله تعالى على النَّفس الإنسانيّة
1- تكامل النفس
لا شك في أنّ ارتباط الموجود الناقص بالكامل وتوجّهه إليه موجب للتكامل. والتديّن ليس في حقيقته سوى ارتباط الكائن الناقص بالموجود الكامل، المطلق في كماله. فالإيمان بهذا الموجود العظيم الكامل، والتوجّه إليه يوجب تكامل الإنسان ورقيّه إلى قمّة الكمال المعنويّ والروحيّ الإنسانيّ.
2- الشعور بالقداسة
إنّ الإيمان بالله تعالى يفيض على القانون قداسة تحمل الناس على مراعاته إذا عرفوا أنّه صادر عن الله تعالى. فهناك شعور إنسانيّ بتقديس القانون، وشعور بأنّهم في حضرته سبحانه وهم مراقبون، وأنّهم مسؤولون، وهذا يولّد إحساساً باليقظة والتنبّه وترك الغفلة؛ وبالتالي عندما يطبّقون القانون يطبقونه لأنّه عبادة يُتقرّب بها إلى الله، مع شعور إنسانيّ بالخشية.
عند ذلك لا يمكن أن يُعصى الله ولو كان الإنسان وحيداً لا يراه أحد.
3- مقاومة الألم
ومن جهة أخرى، فإنّ دون درب الإيمان الجهاد والعمل الموجب للآلام، غير أنّ الشعور بالألم عندما يمتزج بنور الإيمان تتولّد القدرة على الصَّبر، فإنّ مثل هذا الصَّبر يكون في سبيل الإيمان بالله تعالى، فلا يغدو الألم حينذاك عذاباً ولا وجعاً لا ينتهي.
والقدرة على الصَّبر المنبثقة من الإيمان أهمّ من الصَّبر، باعتبار أنّ الصَّبر عندها يكون فعلاً إيمانيّاً. وقيمة ذلك اعتدال المزاج والمشاعر في الوجدان الإنسانيّ؛ وعليه، فلا تحقّق للجزع والاضطراب والتزلزل...
ولا تتأتّى القدرة على الصبر إلّا بصدق الإيمان بالله تعالى، وبذلك فإنّ دواء الألم في نفس المتألّم كامن في نفس النفس، وهو القدرة على الصبر، المنبثق من الإيمان، والذي يولّد في القلب عزماً وتحمّلا مغموراً بالشعور بالرضوان والأمل، فيكون الصبر عندها مرغوباً؛ لأنه مطلوب بذاته، وبذلك يغدو الألم طريقاً إلى الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون﴾ (البقرة: 155).
ومن ناحية أخرى، فإن طبيعة الحياة هي طبيعة امتحانيّة؛ قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (الملك: 2). وهذا يكشف عن أنّه طالما صدقت الحياة الإنسانية فإنّ البلاء ملازم لها، إلى أن تصفو الروح صفاءً يؤهّلها لذلك اللقاء المقدّس، وهو اللقاء الأخير، وهو (وإنّا إليه راجعون). وعليه، فالطبع على الألم والطبع على الصبر عليه متلازمان في خط مسار خلاص الإنسانية في مسيرتها الوجودية نحو مآلاتها الأخرويّة المتعلقة بالله تعالى ولقائه.
4- تولّد الفضائل في النفس
تنمية الفضائل تكون في النفس؛ لأنّ نور الإيمان يجعل في النفس نوراً، والحياة لا تتجزّأ، فهي وحدة واحدة وجميع شؤونها مترابطة، وكلّ شيء فيها يؤثّر بالآخر، فلا يمكن أن يكون المجتمع فاسداً في ثقافته السياسيّة، وقضائه، وأخلاقه، ثمّ يكون سليماً في دينه مثلاً. وعليه، فإنّ وحدة الحياة وترابطها تقتضيان وحدة الفضائل وترابطها.
فمن الخطأ العمل على منهجيّة تجزئة الفضائل؛ لأنّ الملكة النفسيّة إن تحقّقت اندفع المرء اندفاعاً لفضائل متنوّعة، مثلاً: لو تحقّقت ملكة العدالة ستتحقّق حتماً الصلاة والصيام والصدق والأمانة وغيرها، وسيترك جزماً الكذب والنفاق والمحرّمات.
إنّ أرضية الملكات الفاضلة هي الإيمان بالله تعالى. والمعادلة: كلّما زاد الإيمان قويت الفضائل، وكلّما ضعف الإيمان ضعفت الفضائل وحلّت محلّها الرذائل، فمن غير الأرضيّة العقائديّة لا حياة لها.
وفي هذا السياق، يظهر الأصل المحوريّ الذي يجب البناء عليه وهو الإيمان بالله تعالى بلحاظ معرفته وحقيقته، ومراتبه، والآثار المترتّبة عليه، وكيفيّة زيادته، وعلاقته بالفضائل الأخرى.
* ملحق: آثار الإيمان المترابط مع العمل الصالح في الدنيا والآخرة
من آثار الإيمان بالله تعالى في الدنيا
جزاء الضعف
إِلاَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (سبأ: 37)
الهداية إلى الصراط المستقيم
وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (الحج: 54)
الاستخلاف في الأرض
وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ (النور: 55)
الدفاع عن الذين آمنوا
إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (الحج: 38)
عدم استوائهم مع الفاسقين
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ (السجدة: 18)
خير البرية
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (البيّنة: 7)
عدم الخوف
فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً (الجن: 13)
النصرة
وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (الروم: 47)
الهداية إلى الطيب من القول والهداية إلى صراط الحميد
إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (الحج: الآيتان 23و24)
نيل الدرجات العلى
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلاَ (طه: 75)
لهم في الجنّة ما يشاؤون
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (الشورى: 22)
1.المحاسن، البرقي، ج 1، ص 250.
2. (م، ن)، ص 251.
3. اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس، ص7
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
قال تعالى: ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ (البروج: 4-8).
لطالما كانت مشكلة المشركين مع الموحّدين هي أنّهم لم يصدّقوا أنّ فوق عالمهم الماديّ عالماً آخر، ولم يصدّقوا أنّ هناك إلهاً واحداً لا يُرى ولا يُوصف ولا يُحدّ، فقد اعتادت عقولهم تحديد آلهة باطلة بحجر أو رسم. في عالمٍ اعتاد أهله المادة دليلاً على الوجود، أنّى لهم السموّ عليها؟! لذلك كانت مهمّة الأنبياء شاقّة في إحياء فطرة الإنسان الباعثة على السموّ بروحه فوق بدنه. وأوّل الطريق الإيمان بإله غيبيّ، منزّه عن حدود المادة ونقصها، من آمن به عقلاً ووجداناً، سمت روحه.
* أصحاب الأخدود: مؤمنون بالغيب
ورد عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "بعث الله نبيّاً حبشيّاً إلى قومه، فقاتلهم، فقتل أصحابه وأُسروا، وخدّوا لهم أخدوداً من نار، ثم نادوا: من كان من أهل ملّتنا فليعتزل، ومن كان على دين هذا النبيّ فليقتحم النار، فجعلوا يقتحمون النار، وأقبلت امرأة معها صبيّ لها، فهابت النار، فقال لها صبيّها: اقتحمي. (قال فاقتحمت النار. وهم أصحاب الأخدود"(1).
إنّ هذه المواجهة كانت نتيجة إيمان منشؤه غيبيّ، ففعلُ الإيمان فعلٌ إنسانيٌّ إراديٌّ؛ وبالتالي يكون الإنسان هو محور العمليّة الإيمانيّة والاعتقاديّة.
إنّ الايمان شعلة تتوقّد في القلب، ليست من سنخ الألفاظ والمقولات الكلاميّة والتركيبيّة، بل هي حالة عابرة للألفاظ والتعابير، حالة وجوديّة، وجدانيّة، قلبيّة نورانيّة اطمئنانيّة، محلّها القلب، تزيد وتنقص، وعندما تغمر القلب تغيّر مجرى حياة الإنسان نحو الله تعالى، كما في قصّة أصحاب الأخدود.
* الغيب ووعي الإيمان
تكمن قيمة أن يكون الإيمان فعلاً اختياريّاً إراديّاً أن يكون المؤمن به هو الأكثر قوّةً؛ فقد ورد عن خضر بن عمرو قال: "قال أبو عبد الله عليه السلام: إنّ المؤمن أشدّ من زبر الحديد، إنّ الحديد إذا دخل النار لان، وإنّ المؤمن لو قُتل ونُشر ثمّ قُتل ونُشر، لم يتغيّر قلبه"(2).
وهذا يكشف عن أنّ الإيمان نوع من الارتباط والتعلّق الواعي بالذات الإلهيّة المقدّسة؛ وبالتالي تتحقّق العبادة الواعية لله تعالى التي ترى في التألّم الإنسانيّ قرباً عباديّاً؛ لأنّ المؤمن عندما يستقرّ الإيمان بالله تعالى في قلبه، سيعيش لأجل هذا الإيمان، وسيبذل دمه وروحه ووقته له. ولو لم يتحقّق التعلّق الواعي بالذات الإلهيّة المقدّسة لصار التجمّل في تأدية العبادات كالصلاة والصوم والجهاد وغيرها شعوراً بالعذاب الفاقد للحظة الألم الممزوجة بالشعور بالرضى والأمل. وليس من الحكمة في شيء أن يقضي المرء حياته من أجل قناعة مترنّحة أو مشكوكة ومضطربة.
إذاً، يمكن لنا أن نتحدّث عن هذه القوّة (الإيمان)، بوصفها إحدى بركات التصديق بعالم الغيب، لنرى صور تأثيرها وفعلها في حياة الإنسان، شرط أن يكون محورها هو: الإيمان بالله.
* فعل الإيمان ولوحة كربلاء
ورد في حديث للإمام الحسين عليه السلام قوله: "هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله"(3). يُظهِر هذا القول أنّ المصاب صار هيّناً على الإمام الحسين عليه السلام رغم دمويّته، وما ذلك إلّا لأنّه بعين الله. وهنا، يجدر التوقّف عند العلاقة بين الإيمان وتهوين المصاب على قلبه المقدّس، الذي سببه أنّه بعين الله تعالى. وهذه العبارة المباركة "أنّه بعين الله" تشير إلى البُعد الإيمانيّ الإلهيّ.
فالإيمان بالله هوّن المصيبة. ويبرز المشهد بنحو أوضح في لسان حاله: "وأيتمت العيال لكي أراك..". وهذا يكشف عن حقيقة وهي أنّ أفعال كربلاء (هيهات منّا الذلّة، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل..، خرجت لطلب الإصلاح...، ومثلي لا يبايع مثله...) هي مظاهر سلوكيّة للإيمان بالله عزّ وجل. وبالتالي فإنّ كلّ فعل كربلائيّ كان فعلاً تقرُّبيّاً في خطّ المسير إلى الله تعالى. وكذلك فعل العبّاس عليه السلام عندما أراد أن يشرب غَرفة من الماء، فتذكّر عطش الحسين عليه السلام وأهل بيته، ورمى الماء من يده.
إنّ شعلة الإيمان الإلهيّ في صدور الكربلائيّين قد خَطّت بأحداث كربلاء لوحة إلهيّة بدماء الحسين عليه السلام وأصحابه، ما جعلها منارة مقدّسة لكلّ أحرار العالم.
* آثار الإيمان بالله تعالى على النَّفس الإنسانيّة
1- تكامل النفس
لا شك في أنّ ارتباط الموجود الناقص بالكامل وتوجّهه إليه موجب للتكامل. والتديّن ليس في حقيقته سوى ارتباط الكائن الناقص بالموجود الكامل، المطلق في كماله. فالإيمان بهذا الموجود العظيم الكامل، والتوجّه إليه يوجب تكامل الإنسان ورقيّه إلى قمّة الكمال المعنويّ والروحيّ الإنسانيّ.
2- الشعور بالقداسة
إنّ الإيمان بالله تعالى يفيض على القانون قداسة تحمل الناس على مراعاته إذا عرفوا أنّه صادر عن الله تعالى. فهناك شعور إنسانيّ بتقديس القانون، وشعور بأنّهم في حضرته سبحانه وهم مراقبون، وأنّهم مسؤولون، وهذا يولّد إحساساً باليقظة والتنبّه وترك الغفلة؛ وبالتالي عندما يطبّقون القانون يطبقونه لأنّه عبادة يُتقرّب بها إلى الله، مع شعور إنسانيّ بالخشية.
عند ذلك لا يمكن أن يُعصى الله ولو كان الإنسان وحيداً لا يراه أحد.
3- مقاومة الألم
ومن جهة أخرى، فإنّ دون درب الإيمان الجهاد والعمل الموجب للآلام، غير أنّ الشعور بالألم عندما يمتزج بنور الإيمان تتولّد القدرة على الصَّبر، فإنّ مثل هذا الصَّبر يكون في سبيل الإيمان بالله تعالى، فلا يغدو الألم حينذاك عذاباً ولا وجعاً لا ينتهي.
والقدرة على الصَّبر المنبثقة من الإيمان أهمّ من الصَّبر، باعتبار أنّ الصَّبر عندها يكون فعلاً إيمانيّاً. وقيمة ذلك اعتدال المزاج والمشاعر في الوجدان الإنسانيّ؛ وعليه، فلا تحقّق للجزع والاضطراب والتزلزل...
ولا تتأتّى القدرة على الصبر إلّا بصدق الإيمان بالله تعالى، وبذلك فإنّ دواء الألم في نفس المتألّم كامن في نفس النفس، وهو القدرة على الصبر، المنبثق من الإيمان، والذي يولّد في القلب عزماً وتحمّلا مغموراً بالشعور بالرضوان والأمل، فيكون الصبر عندها مرغوباً؛ لأنه مطلوب بذاته، وبذلك يغدو الألم طريقاً إلى الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون﴾ (البقرة: 155).
ومن ناحية أخرى، فإن طبيعة الحياة هي طبيعة امتحانيّة؛ قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ (الملك: 2). وهذا يكشف عن أنّه طالما صدقت الحياة الإنسانية فإنّ البلاء ملازم لها، إلى أن تصفو الروح صفاءً يؤهّلها لذلك اللقاء المقدّس، وهو اللقاء الأخير، وهو (وإنّا إليه راجعون). وعليه، فالطبع على الألم والطبع على الصبر عليه متلازمان في خط مسار خلاص الإنسانية في مسيرتها الوجودية نحو مآلاتها الأخرويّة المتعلقة بالله تعالى ولقائه.
4- تولّد الفضائل في النفس
تنمية الفضائل تكون في النفس؛ لأنّ نور الإيمان يجعل في النفس نوراً، والحياة لا تتجزّأ، فهي وحدة واحدة وجميع شؤونها مترابطة، وكلّ شيء فيها يؤثّر بالآخر، فلا يمكن أن يكون المجتمع فاسداً في ثقافته السياسيّة، وقضائه، وأخلاقه، ثمّ يكون سليماً في دينه مثلاً. وعليه، فإنّ وحدة الحياة وترابطها تقتضيان وحدة الفضائل وترابطها.
فمن الخطأ العمل على منهجيّة تجزئة الفضائل؛ لأنّ الملكة النفسيّة إن تحقّقت اندفع المرء اندفاعاً لفضائل متنوّعة، مثلاً: لو تحقّقت ملكة العدالة ستتحقّق حتماً الصلاة والصيام والصدق والأمانة وغيرها، وسيترك جزماً الكذب والنفاق والمحرّمات.
إنّ أرضية الملكات الفاضلة هي الإيمان بالله تعالى. والمعادلة: كلّما زاد الإيمان قويت الفضائل، وكلّما ضعف الإيمان ضعفت الفضائل وحلّت محلّها الرذائل، فمن غير الأرضيّة العقائديّة لا حياة لها.
وفي هذا السياق، يظهر الأصل المحوريّ الذي يجب البناء عليه وهو الإيمان بالله تعالى بلحاظ معرفته وحقيقته، ومراتبه، والآثار المترتّبة عليه، وكيفيّة زيادته، وعلاقته بالفضائل الأخرى.
* ملحق: آثار الإيمان المترابط مع العمل الصالح في الدنيا والآخرة
من آثار الإيمان بالله تعالى في الدنيا
جزاء الضعف
إِلاَ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (سبأ: 37)
الهداية إلى الصراط المستقيم
وَإِنَّ اللهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (الحج: 54)
الاستخلاف في الأرض
وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرْضِ (النور: 55)
الدفاع عن الذين آمنوا
إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (الحج: 38)
عدم استوائهم مع الفاسقين
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لاَ يَسْتَوُونَ (السجدة: 18)
خير البرية
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (البيّنة: 7)
عدم الخوف
فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً (الجن: 13)
النصرة
وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (الروم: 47)
الهداية إلى الطيب من القول والهداية إلى صراط الحميد
إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (الحج: الآيتان 23و24)
نيل الدرجات العلى
وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلاَ (طه: 75)
لهم في الجنّة ما يشاؤون
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (الشورى: 22)
1.المحاسن، البرقي، ج 1، ص 250.
2. (م، ن)، ص 251.
3. اللهوف في قتلى الطفوف، ابن طاووس، ص7
تعليق