(اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم.. اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل النقم.. اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم.. اللهم اغفر لي الذنوب التي تحبس الداء.. اللهم اغفر لي الذنوب التي تنزل البلاء..) دعاء كميل.
معنى الذنب عند أمير المؤمنين(ع) لا يتضمن المعصية، كما سنلمسه من البيانات التالية:
اولاً: راينا في قوله الآنف، الفقرة التالية، والتي يستقبح فيها حالاً لا تناسب شموخه وجديته في عبوديته لله، وكونه خليفة كأجمل ما خلق الله تعالى في الكون من المخلوقات، إذ هي رسالة الإنسان على هذا الكوكب: (... ويأكل عليّ من زاده فيهجع، قرت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة...).
والمعروف أن يأكل أحد من زاده فيهجع فذلك عمل طبيعي لا معصية فيه، إلا أن يكون علياً(ع)، فإن للذنب عنده حدود اكبر إلى كل ما ينال منه شموخه في عز الله تعالى الذي يعز به خواصه من اوليائه.
ثانياً: زهد أمير المؤمنين(ع) واحتقاره للدنيا بما لا يساويه ولا يوازيه احد، تجعل رؤياه في تقييم الأعمال غير ما نراه ويزحف عنده حد الذنب إلى كل ما تستقبحه روحه السامية إلى كل ما تصالح(ع) من حب الدنيا، إذ يصف(ع) الدنيا وأهلها فيقول عنها إنها جيفة:
(اقبلوا على جيفة افتضحوا باكلها واصطلحوا على حبها، ومن عشق شيئاً أعشى بصره وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة ويسمع باذن غير سميعة، قد خرقت الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه وولهت عليها نفسه، فهو عبد لها ولمن في يده شيء منها)(14).
إذاً فهو(ع) يرى ما لا نرى قد رفع صدق عبوديته لله القصور عن عقله.. وما تصالحنا عليه من حب للدينا فأعشى ابصارنا واصم اسماعنا واخرق عقولنا وامرض قلوبنا وانقادت إليه نفوسنا... كل هذا الذي اصابنا لم يصب علياً شيء منه.. فهو لا يعيش الغفلة التي نحياها، بل يحيا لربه الذي يعرفه،فهو منه على حياء عظيم مما يرى من فعلنا في التكالب على الجيفة والاصطلاح على حبها.
ثالثاً: أمير المؤمنين(ع): جدّي غاية الجدية في عبوديته لله، مما جعله يستوفي في كيانه كامل بعد عقيدته الروحي، نرى ذلك في تأمل قوله(ع):
(فمن ذا بعد ابليس يسلم على الله بمعصيته).. وقوله(ع): (وما بين الله وأحد من خلقه هواده).. وقوله(ع): (ما كان الله ليدخل الجنة بشراً بأمر اخرج به منها ملكاً إن حكمه في أهل السماء واهل الأرض لواحد)(15).
إن جدّيته(ع) في العبودية لله هي التي منحته اللاهوادة في طلب رضا الله سبحانه وتعالى، المنعم بلا حدود لأنعمه، فكيف الجد بتحصيل الشكر؟! والمحسن بلا حدود لاحسانه.. فكيف الجد بالاحسان كما احسن الله إلينا؟!
وإن جدية الإمام علي(ع) في عبوديته لله تعالى، اظلته(ع) بالعظمة والقوة في قدرته على البيان. وفي الجلد والبطش في جنب الله في ساحات الوغى مع تضائله أمام ربه في محرابه تذللاً وحياءً وبكاءً واستغفاراً.
والآن صار واضحاً أن عبادة أمير المؤمنين(ع) إنما تزداد نصوعاً ونقاءاً بما يدعو الله به من مظاهر الندم وطلب المغفرة وهذا بحد ذاته دليل نقاء العبادة وصفائها من أن يشوبها الكبر والعجب. فالمتكبر موسوم بالعصيان.. والمعجب بنفسه موسوم بعدم الندم، ذلك لأنه كيف يطيع المتكبر وهو في موقع معصية، وكيف يندم المعجب بنفسه وهو معجب بها.. ثم بعد ذلك كيف يأتي الاستغفار مع المعصية ومع عدم الندم؟!!
في جانب آخر نجد أن كل جلف من علوج الدنيا، ومن مترفيها، قلوبهم قاسية لا يذكرون الله ولا يندمون على قبيح فعل سادرون في غيهم حتى يقبرهم الموت.
رابعاً: انه(ع) يملك نفسه لدرجة انه جعلها تهش إلى القرص - كما مر معنا - مأدوماً بالملح.. وهو أيضا يقول: (والله لقد رقعت مدرعتي هذه حتى استحييت من راقعها ولقد قال لي قائل ألا تنبذها فقلت اغرب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى)(16).
ومما لنا به بيان هنا، مثال قوله(ع) اللهم اغفر لي الذنوب التي تغير النعم.
ترى ولو كان معيارنا للذنب وللنعم كما نرى نحن، فهل يخاف(ع) من أن تتغير مدرعته التي استحيى من راقعها، أو من أن يتغير القرص المأدوم بالملح؟! أو بما هو عليه من خصومة مع الدنيا واحتقار لزخارفها يخاف أن يفقد شيئاً منها!؟
إن الذنوب التي يطلب أمير المؤمنين مغفرتها - كما أشرنا - ليست المعاصي وإنما هو أن لا يشعر بالذنب اتجاه العظيم الذي لا يعلم عظمته جل شأنه غير النبي(ص) وعلي(ع). وإن اكثر الناس شعوراً بالذنب وحساسية له هو المعصوم بل واقل الناس شعوراً بالذنب هو المجرم، بل وينعدم الشعور بالذنب عند الموغلين بالاجرام والمعاصي.
إن اظهار الندم وطلب المغفرة هو بحد ذاته حصن من أكبر الذنوب واخطرها وهو الكبر والعجب والحيف.
14 - نهج البلاغة، ج1، ص211.
15 - نهج البلاغة، ج2، ص138.
16 - نهج البلاغة، ج2، ص60.
من كتاب ( تاملات ف نهج البلاغة )
تعليق