الشيخ المفيد قدّس سرّه
.. فأمّا الجهاد الذي ثبتتْ به قواعد الإسلام، واستقرّت بثبوتها شرائع الملّة والأحكام، فقد تخصّص منه أمير المؤمنين عليه السلام بما اشتهر ذكره في الأنام، واستفاض الخبر به بين الخاصّ والعامّ، ولم تختلف فيه العلماء، ولا تنازع في صحّته الفهماء، ولا شكّ فيه إلّا غافلٌ لم يتأمّل الأخبار، ولا دفعه ممّن نظر في الآثار، إلا معاند بهّات لا يستحيي من العار.
فمن ذلك ما كان منه عليه السلام في غزاة بدر المذكورة في القرآن، وهي أوّل حرب كان بها الامتحان، وملأت رهبتها صدور المعدودين من المسلمين في الشجعان، وراموا التأخّر عنها لخوفهم منها وكراهتهم لها، على ما جاء به محكم الذكر في البيان، حيث يقول جلّ جلاله فيما قصّ به من نبأهم على الشرح والبيان: ﴿كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ الأنفال:5-6، في الآي المتّصلة بذلك إلى قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ الأنفال:47، إلى آخر السورة. فإنّ الخبر عن أحوالهم فيها يتلو بعضه بعضاً، وإن اختلفت ألفاظه واتفقت معانيه.
وكان من جملة خبر هذه الغزاة، أنّ المشركين حضروا بدراً مصرّين على القتال، مستظهرين فيه بكثرة الأموال، والعدد والعدّة والرجال، والمسلمون إذ ذاك نفر قليل عددهم هناك، حضرته طوائف منهم بغير اختيار، وشهدته على الكره منها له والاضطرار، فتحدّتهم قريش بالبراز ودعتهم إلى المصافّة والنزال، واقترحت في اللقاء منهم الأكفاء، وتطاولت الأنصار لمبارزتهم، فمنعهم النبيّ صلّى الله عليه وآله من ذلك، وقال لهم: «إنّ القومَ دعَوا الأكفاء منهم»، ثمّ أمر عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام، بالبروز إليهم، ودعا حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث - رضي الله عنهما - أن يبرزا معه.
فلمّا اصطفّوا لهم لم يتبيّنهم القوم، لأنّهم كانوا قد تغفّروا [أي لبسوا المغافر، والمغفر: زرد ينسج من الدرع على قدر الرأس، يلبس تحت القلنسوة] فسألوهم: من أنتم، فانتسبوا لهم، فقالوا: أكفاء كرام.
ونشبت الحرب بينهم، وبارز الوليد أميرَ المؤمنين عليه السلام، فلم يَلْبَثْهُ حتى قتله، وبارز عتبة حمزة رضي الله عنه، فقتله حمزة، وبارز شيبة عبيدة رحمه الله فاختلفت بينهما ضربتان، قطعت إحداهما فخذ عبيدة، فاستنقذه أمير المؤمنين عليه السلام بضربة بدَر بها شيبة فقتله، وشركه في ذلك حمزة رضوان الله عليه، فكان قتْل هؤلاء الثلاثة أوّل وهن لحق المشركين، وذلٍّ دخل عليهم، ورهبة اعتراهم بها الرعب من المسلمين، وظهر بذلك أمارات نصر المسلمين.
ثمّ بارز أمير المؤمنين عليه السلام، العاص بن سعيد بن العاص، بعد أن أحجم عنه مَن سواه، فلم يلبثه أن قتله.
وبرز إليه حنظلة ابن أبي سفيان فقتله.
وبرز بعده طعيمة بن عديّ فقتله.
وقتل بعده نوفل بن خويلد، وكان من شياطين قريش.
ولم يزل عليه السلام يقتل واحداً منهم بعد واحدٍ، حتى أتى على شطر المقتولين منهم، وكانوا سبعين قتيلاً؛ تولّى كافّة مَن حضر بدراً من المؤمنين مع ثلاثة آلاف من الملائكة المسوّمين قتل الشطر منهم، وتولّى أمير المؤمنين قتل الشطر الآخر وحده، بمعونة الله له وتوفيقه وتأييده ونصره، وكان الفتح له بذلك وعلى يديه، وخُتم الأمر بمناولة النبيّ صلّى الله عليه وآله، كفّاً من الحصى، فرمى بها في وجوههم، وقال: «شاهتِ الوجوه»، فلم يبقَ أحدٌ منهم إلّا ولّى الدُّبُرَ لذلك منهزماً، وكفى اللهُ المؤمنين القتال بأمير المؤمنين عليه السلام وشركائه، في نصرة الدين من خاصّة الرسول عليه وآله السلام، ومَن أيّدهم به من الملائكة الكرام عليهم التحية والسلام، كما قال الله عزّ وجلّ: ﴿.. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا﴾ الأحزاب:25.
أسماء الذين قتلهم أمير المؤمنين في بدر
أثبت رواة العامّة والخاصّة معاً أسماء الذين تولّى أمير المؤمنين عليه السلام قتلهم ببدر من المشركين، على اتّفاقٍ فيما نقلوه من ذلك واصطلاح، فكان ممّن سمَّوه:
- الوليد بن عتبة، كما قدّمناه، وكان شجاعاً جريئاً فاتكاً وقّاحاً، تهابه الرجال.
- والعاص بن سعيد، وكان هولاً عظيماً تهابه الأبطال. وهو الذي حاد عنه عمر بن الخطاب، وقُصّته فيما ذكرناه مشهورة، ونحن نثبتها فيما نورده بعدُ إن شاء الله.
- وطعيمة بن عديّ بن نوفل، وكان من رؤوس أهل الضلال.
- ونوفل بن خويلد، وكان من أشدّ المشركين عداوةً لرسول الله صلّى الله عليه وآله، وكانت قريش تقدّمه وتعظّمه وتطيعه... ولمّا عرف رسول الله صلّى الله عليه وآله، حضوره بدراً، سأل الله عزّ وجلّ أن يكفيه أمره، فقال: «اللّهمّ اكفِني قتلَ ابن خويلد»،فقتله أمير المؤمنين عليه السلام.
- وزمعة بن الأسود.
- والحارث بن زمعة.
- والنضر بن الحارث بن عبد الدار.
- وعمير بن عثمان بن كعب بن تيم، عمّ طلحة بن عبيد الله.
- وعثمان ومالك ابنا عبيد الله، أخوا طلحة بن عبيد الله.
- ومسعود بن أبي أميّة بن المغيرة.
- وقيس بن الفاكه بن المغيرة.
- وحذيفة بن أبي حذيفة بن المغيرة.
- وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة.
- وحنظلة ابن أبي سفيان.
- وعمرو بن مخزوم.
- وأبو المنذر بن أبي رفاعة.
- ومنبه بن الحجّاج السهمي.
- والعاص بن منبه.
- وعلقمة بن كلدة.
- وأبو العاص بن قيس بن عديّ.
- ومعاوية بن المغيرة بن أبي العاص.
- ولوذان بن ربيعة.
- وعبد الله بن المنذر بن أبي رفاعة.
- ومسعود بن آمنة بن المغيرة.
- وحاجب بن السائب بن عويمر.
- وأوس بن المغيرة بن لوذان.
- وزيد بن مليص.
- وعاصم بن أبي عوف.
- وسعيد بن وهب، حليف بني عامر.
- ومعاوية بن عامر بن عبد القيس.
- وعبد الله بن جميل بن زهير بن الحارث بن أسد.
- والسائب بن مالك.
- وأبو الحكم بن الأخنس.
- وهشام بن أبي أميّة بن المغيرة.
فذلك خمسة وثلاثون رجلاً، سوى مَن اختُلف فيه، أو شرك أميرُ المؤمنين عليه السلام فيه غيرَه، وهم أكثر من شطر المقتولين ببدر، على ما قدّمناه.
من أخبار بدر
من مختصر الأخبار التي جاءت بشرح ما أثبتناه:
* «..عن حارث بن مضرب، قال: سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السلام، يقول: لقد حضرنا بدراً وما فينا فارسٌ غير المقداد بن الأسود، ولقد رأيتَنا ليلةَ بدرٍ وما فينا إلّا مَن نام، غيرَ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنّه كان منتصباً في أصل شجرةٍ يصلّي ويدعو حتّى الصباح».
* «..عن أبي رافع مولى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال: لمّا أصبح الناس يوم بدر، اصطفّت قريش؛ أمامها عتبة بن ربيعة، وأخوه شيبة، وابنة الوليد، فنادى عتبة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقال: يا محمّد، أَخْرِج إلينا أكْفاءَنَا من قريش. فبدر إليهم ثلاثة من شبّان الأنصار فقال لهم عتبة: من أنتم؟ فانتسبوا له، فقال لهم: لا حاجة بنا إلى مبارزتكم، إنّما طلبنا بني عمّنا.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله، للأنصار: ارجعوا إلى مواقفكم.
ثمّ قال: قم يا عليّ، قم يا حمزة، قم يا عبيدة، قاتلوا على حقّكم الذي بعث اللهُ به نبيَّكم، إذ جاؤوا بباطلهم ليُطفئوا نور الله.
فقاموا فصفّوا للقوم، وكان عليهم البيض [جمع بيضة وهي التي تغطي رأس المقاتل] فلم يُعرَفوا، فقال لهم عتبة: تكلّموا، فإن كنتم أكفاءنا قاتلناكم.
فقال حمزة: أنا حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسدُ رسوله. فقال عتبة: كُفْوٌ كريم.
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: أنا عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب.
وقال عبيدة: أنا عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.
فقال عتبة لابنه الوليد: قم يا وليد، فبرز إليه أميرُ المؤمنين عليه السلام، وكانا إذ ذاك أصغريّ الجماعة سنّاً، فاختلفا ضربتين، أخطأت ضربة الوليد أمير المؤمنين عليه السلام، واتّقى بيده اليسرى ضربة أمير المؤمنين عليه السلام فأبانتها. فرُوي أنّه كان يذكر بدراً وقتله الوليد، فقال في حديثه: كأنّي أنظرُ إلى وميضِ خاتمه في شماله، ثمّ ضربتُه ضربةً أخرى فصرعته وسلبتُه، فرأيت به رَدعاً من خَلوق، [أي أثرَ الطِّيب] فعلمتُ أنه قريب عهدٍ بعرس.
ثمّ بارز عتبة حمزة رضي الله عنه فقتله حمزة.
ومشى عبيدة - وكان أسنّ القوم - إلى شيبة، فاختلفا ضربتين، فأصاب ذُباب سيف [طرف السيف الذي يُضرَب به] شيبة عضلة ساق عبيدة فقطعتها، واستنقذه أمير المؤمنين عليه السلام وحمزة منه، وقتلا شيبة، وحُمل عبيدة من مكانه فمات بالصفراء» [الصفراء: وادٍ بين مكة والمدينة].
* «..عن أبي جعفر (الباقر) عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لقد تعجبّتُ يومَ بدرٍ من جرأة القوم، وقد قتلتُ الوليد بن عتبة، وقَتل َحمزةُ عتبة، وشركتُهُ في قتل شيبة، إذ أقبل إليّ حنظلة بن أبي سفيان، فلمّا دنا منّي ضربتُه ضربةً بالسيف فسالت عيناه، فلزم الأرض قتيلاً».
* «..عن صالح بن كيسان، قال: مرّ عثمان بن عفان بسعيد بن العاص، فقال: انطلق بنا إلى... عمر بن الخطاب نتحدّث عنده، فانطلقا.
قال (ابن العاص): فأمّا عثمان فصار إلى مجلسه الذي يشتهيه، وأما أنا فملتُ في ناحية القوم، فنظر إليّ عمر وقال: ما لي أراك كأنّ في نفسك عَلَيَّ شيئاً؟ أتظنّ أنّي قتلتُ أباك؟ واللهِ لوددتُ أنّي كنتُ قاتله، ولو قتلته لم أعتذر من قتل كافر، لكنّي مررتُ به يوم بدرٍ فرأيته يبحث للقتال كما يبحث الثور بقرنه، وإذا شدقاه قد أزبدا كالوَزَغ، فلمّا رأيت ذلك هبتُه ورغتُ عنه، فقال: إلى أين يا ابن الخطاب؟ وصمد له عليٌّ فتناوله، فوالله ما رمتُ مكاني حتّى قتله.
قال: وكان عليٌّ عليه السلام حاضراً في المجلس، فقال: اللهمّ غَفْراً، ذهبَ الشركُ بما فيه، ومحا الإسلامُ ما تقدّم، فما لك تُهيِّجُ الناس؟! فكفّ عمر.
قال سعيد: أما إنّه ما كان يسرّني أن يكون قاتلُ أبي غير ابن عمّه عليّ بن أبي طالب. وأنشأ القوم في حديثٍ آخر».
* «..عن عروة بن الزبير: إنّ عليّاً عليه السلام أقبل يوم بدر نحو طعيمة بن عديّ بن نوفل، فشجره بالرمح، وقال له: والله لا تخاصِمُنا في الله بعد اليوم أبداً».
* «.. عن الزهري، قال: لمّا عرف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، حضور نوفل بن خويلد بدراً، قال: اللّهمّ اكفني نوفلاً. فلمّا انكشفت قريش رآه عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وقد تحيّر لا يدري ما يصنع، فصمد له ثمّ ضربه بالسيف فنشب في حَجَفَتِه[التِّرس إذا كان من جِلد] فانتزعه منها، ثمّ ضرب به ساقه، وكانت درعه مشمَّرةً فقطعها، ثمّ أجهز عليه فقتله.
فلمّا عاد إلى النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، سمعه يقول: مَن له علمٌ بنوفل؟
فقال له: أنا قتلتُه يا رسولَ الله. فكبّر النبيّ صلّى الله عليه وآله، وقال: الحمدُ لله الذي أجاب دعوتي فيه».
نشير إلى أن هذا النصّ مقتطف من الجزء الأول من كتاب (الإرشاد) للشيخ المفيد وبتصرّف
تعليق