إذا كان استقبال شهر رمضان للمؤمن فرصةً للانفتاح على الآفاق الرَّحبة الإلهيَّة في امتداد المعاني الرّوحيّة الّتي يُراد له أن يعيشها في روحه وفي وجدانه، فإنّ وداع شهر رمضان قد يحمل له بعضاً من الألم واللّوعة، فيما يفتقده من أجواء، أو يخسره من نتائج على مستوى الثّواب الإلهيّ على الأعمال الّتي يحتويها هذا الشّهر في واجباته ومستحبّاته، ما يجعل الإنسان خاضعاً للمشاعر السلبيّة، تماماً كما لو كان في واحةٍ خضراء وانتقل إلى صحراء قاحلة، لأنّ الزّمن القادم قد يختزن في داخله بعض الفرص، ولكنّها لن ترقى إلى فرصة هذا الشّهر المبارك، الّذي جعله الله شهره الّذي يُدخل فيه عباده إلى ضيافته الرّوحيّة، فيما يسبغه عليهم من الألطاف، ويفيض عليهم من الرحمات، ويمنحهم من البركات، بما يفتح لهم فيه أبواب جنّاته، ويقودهم إلى ساحات رضوانه. شهر رمضان هو الموسم الّذي ينفتح على كلِّ قضايا الإنسان وحاجاته، فيما يحقِّقه الله له منها، مما يتناسب مع مواقع صلاحه في دنياه وآخرته، ولذلك كان المحروم، هو الّذي حُرم غفران الله في هذا الشّهر العظيم، كما جاء في خطبة رسول الله(ص)، الّتي استقبل بها شهر رمضان في آخر جمعة من شعبان. ولكنَّ الإمام زين العابدين(ع) في أسلوب الدّعاء يتَّجه في المسألة اتجاهاً آخر، حيث يفتح وعي الإنسان المؤمن على النّتائج الكبيرة الّتي حصل عليها فيه، ويحرِّك المشاعر الحميمة الّتي تجعل بين شعور الإنسان وبين أيّام هذا الشّهر رابطةً قويّة تؤدّي إلى اختزان المعاني الرّوحيّة في كيانه، فلا تذهب بذهاب هذا الشّهر، بل تعمل على التّخطيط للاستفادة منها في إغناء الزّمن القادم في غيره من الشّهور، بكلّ ما يحمله من الخصائص الفريدة الّتي يمكن أن يحملها الزّمن من خلال العمق الإنساني في معرفة الله والشّعور بالمسؤوليّة. وفي ضوء ذلك، لا يكون الزّمن مجرّد لحظات طائرة في الفراغ، بل يكون قيمةً تمتلئ بالإنسان في فكره وشعوره وحركته في الحياة، حيث يأخذ الزَّمن من الإنسان معناه وروحه، كما يأخذ الإنسان منه حركته وخطّ سيره، وبذلك يفقد الزّمن معناه التجريديّ كعنصر مستقلّ في إعطاء الحياة خطّها الطّويل، بل يكون شيئاً في الإنسان فيما يكون الإنسان شيئاً فيه، في عمليّة تداخلٍ وامتداد. ثمّ يثير التطلّع الفكريّ والرّوحيّ في ابتهال الإنسان لله أن يمدَّ في عمره ليلتقي برمضان جديد في فرصةٍ جديدةٍ للعمل والحياة. ولعلّ قيمة هذا الدّعاء في بعض فقراته، من الناحية الفنيّة، أنّه يحوِّل الشهر إلى كائنٍ حيّ صديقٍ في مشاعره ومواقفه، فيخاطبه كما يخاطب صديقه، ويتحدَّث إليه بالجانب الشّعوريّ الّذي يتفجّر في الوجدان حبّاً وحزناً وتطلّعاً إلى اللّقاء الجديد. وهو في الوقت نفسه، يأخذ من العناوين الكبيرة لإيحاءات هذا الشَّهر، عناوين متحرِّكة للحياة الّتي يستمرّ في مواجهتها بمنطق المسؤوليَّة، لتبقى معه في النّتائج الحاسمة لقضيّة المصير الأبديّ في موقفه أمام الله، في ما يريده الله منه من مواقف وأعمال.
كنّا في شهر رمضان نعيش في هذه الجولة الروحية التي يرتفع فيها الإنسان إلى الله ويتحرّك في رحاب آياته، ويعيش حركة الحب له الذي يمتزج فيه الرجاء والخوف، باعتبار أنّه ليس الحب العاطفي الذي ينبض به القلب، ولكنه الحب الذي يعيش فيه الإنسان المسؤولية أمام من يحب، ذلك أنّ حب الله مسؤولية وليس نبضة قلب وخفقة إحساس. وقد حدّثنا الله عن ذلك في قوله سبحانه وتعالى فيما وجّه به الخطاب إلى رسوله (ص) (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران/ 31)، فحب الله حركة في العقل وانفتاح في القلب وانطلاقة في الواقع، ولذلك فإنك إذا أحببت الله فإنك تحبه في خط رسالته، والرسالة تقول لك افعل هذا ليرضى الله عنك حتى تحصل على محبته (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) وإذا لم تفعله فإنك تحصل على سخطة تماماً كما هو الحب في الدنيا، فإذا كنت تسيء إلى من تحب فمن الطبيعي أن يسخط عليك من تحب، وقد قال ذلك الشاعر وربما ينسب القول إلى الإمام زين العابدين (ع):
تعصي الله وأنت تظهر حبه *** هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لاطعته *** إنّ المحب لمن يحب مطيع
ولذلك فإنّ حبنا لله هو حب يختزن في داخله الخوف ممن نحب إذا انحرفنا عن أصول الحب والرجاء لمن نحب، وإذا انسجمنا مع أصول الحب كنا في جولة الحب مع الله نحبه فنترك طعامنا وشرابنا ولذّاتنا ليحبنا أكثر قربة إليه سبحانه لنكون قريبين إليه أكثر.
معراج الصلاة الروحي:
ونصلي بين يديه لنعطي أرواحنا هذا النوع من المعراج الروحي الذي يجعل الروح تصفو أوّلاً وتسمو وتتصاعد وتصعد إلى أن تجلس وتتمرغ بالحب بين يدي الله لتكون الصلاة كما أرادها رسول الله (ص) حركة شكر يشكر فيها الإنسان ربه من خلال نعمة العقل التي أعطته فكرة الحقّ في الحياة، ونعمة القلب التي أعطته العاطفة التي تجعل حياته حياة طيبة ليّنة منفتحة على قلوب النّاس الآخرين وعلى حياتهم، وعلى كلّ ما أفاض الله عليه في كلّ حاجاته في الحياة. إنّ الإنسان يصلي فيذكر ربه ويعمل على أساس أن يكرر عقيدته في صلاته، فالشهادتان تردان في الاذان وفي الإقامة وفي التشهد وتشهد التسليم، بحيث إنّ هذا التأكيد للعقيدة يتجذّر في وعي المصلي وفي وجدانه، حتى يتذكر عمق العقيدة في توحيد الله تعالى ورسالة رسول الله (ص) فيبقى في كلّ صلاة كما لو كان في حالة طوارئ فكرية أمام كلّ من يريد أن يبعده عن التوحيد، فقد التقى بالتوحيد في صلاته، أو يبعده عن الرسالة فقد أعطته الصلاة وعي رسالته. وهكذا تتمثل ربك بأنّه رب العالمين، وأنّه الرحمن الرحيم وأنّه مالك يوم الدين، وأنّه المستعان وحده والمعوّل عليه وحده والهادي إلى الصراط المستقيم والعظيم الذي تسبّح بحمده وعظمته والأعلى وما إلى ذلك. وفي ذلك تكون الصلاة حركة في عقلنة الحب، بحيث أنك تحب ربك من خلال ما تعيشه في صلاتك من صفات ربك، وما تؤديه في صلاتك من تجسيد عبوديتك في إسبال يديك وفي انحناء ظهرك وفي سجود جبهتك.
صيامٌ وقيام:
عشنا في صلوات شهر رمضان فيما أعطانا الله وفيما فرضه علينا وفيما استحبه لنا في الليل والنهار. ولذلك كان شهر رمضان شهر الصيام والقيام، فأنت تدعو ربك لتذكره فتتحدث معه، أعنّا على صيامه وقيامه لأنّ الصيام إذا لم ينفتح على القيام قد يكون مجرد حالة سلبية في داخل ذاتك لا تعطيك شيئاً.
أدعية شهر رمضان:
ثمّ تنطلق الجولة الواسعة الغنية بكلّ الفكر وبكلّ الروح وبكلّ الحياة وبكلّ المشاعر والأحاسيس والعواطف وبكلّ الخطوط وبكلّ المبادئ في أدعية شهر رمضان، هذه الثروة الفكرية الروحية الحركية التي إذا تعمّقت فيها رأيت أنّ الدعاء يمثل حركة ثقافية تمونك بكلّ تفاصيل العقيدة وبكلّ امتدادات الحركة في الحياة وتمونك بأن تفهم داخلية نفسك هل أنت تطيع ربك أو تعصيه. فعلى أي أساس تقوم الطاعة وعلى أي أساس تبنى المعصية؟ هذا هو السؤال. وهكذا نجد أنّ الإنسان العاصي في حياته يحاول من خلال الدعاء في شهر رمضان أن يعلن أنّ معصيته لا تعني الابتعاد عن إيمانه وأنّ معصيته لا تعني التمرد على ربه، وأنّ معصيته لا تعني الاستهانة بربه وإنما تعني حالة من خطرات النفس حالة طارئة من خلال ما يحدث للإنسان "إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف ولا لعقوبتك متعرّض ولا لوعيدك متهاون ولكن خطيئة عرضت" – ليس لها عمق في النفس، لأنّ عمق النفس هو الإيمان والإيمان لا يسمح للإنسان في كلّ جذوره في الذات أن يتكبّر على ربّه أو أن يبتعد عن طاعته "ولكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي" – والنفس أمّارة بالسوء – "وغلبني هواي" والهوى يصدّ الإنسان عن الحقّ "وأعانني عليها شقوتي" هذه العناصر الداخلية التي قد تجعل الإنسان شقياً من خلال كلّ هذه التراكمات التي تزحف إلى عقله وقلبه وحياته. وهكذا نلتقي في الأدعية في المعنى الذي يجعل الإنسان يتدلل على ربه بحيث يشعر كما لو كان طفلاً يلعب بين يديه ويتدلل عليه "اللّهمّ إنّ عفوك عن ذنبي وتجاوزك عن خطيئتي وصفحك عن ظلمي وسترك على قبيح عملي وحلمك عن كثير جرمي عندما كان من خطأي وعمدي أطمعني في أن أسألك مالا استوجبه منك الذي رزقتني من رحمتك وأريتني من قدرتك وعرّفتني من إجابتك فصرت أدعوك آمناً" – كما لو كنت لا أعيش أي أساس للخوف – "وأسألك مستأنساً لا خائفاً ولا وجلاً، مدلاً عليك فيما قصدت فيه إليك، فإن أبطأ عني عتبت بجهلي عليك، ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور".
استحضار الفيوضات:
وهكذا ينطلق الإنسان ليستحضر في نفسه كلّ فيوضات ربّه في حياته الداخلية الخارجية وفي الناس من حوله. تصور إنك في دعاء صغير واحد تختصر كلّ ما يعيشه الناس من مشاكل وآلام وأوضاع سلبية حتى إنك تفكر في الراقدين في القبور لتطلب من الله أن يعطيهم الفرح "اللّهمّ أدخل على أهل القبور السرور، اللّهمّ إغن كلّ فقير، اللّهمّ اشبع كلّ جائع، اللّهمّ اكسُ كلّ عريان، اللّهمّ اقض دين كلَّ مدين، اللّهمّ فرّج عن كلّ مكروب، اللّهمّ ردّ كلّ غريب، اللّهمّ فكَّ كلَّ أسير، اللّهمّ أصلح كلّ فاسد من أمور المسلمين، اللّهمّ أشف كلّ مريض، اللّهمّ سد فقرنا بغناك، اللّهمّ غير سوء حالنا بحسن حالك، اللّهمّ إقضِ عنّا الدين وأغننا من الفقر إنك على كلّ شيءٍ قدير". ماذا يمثل هذا الدعاء؟ إنّه يمثلك وأنت تستحضر في وعيك وفي وجدانك كلّ هموم العالم، ونلاحظ أنّه لم يتحدث عن المؤمنين فحسب بل عن كلّ فقير وكلّ جائع وكلّ عريان، مما يعني أنك قبل أن تدعو تفيض إنسانيتك في نفسك فتحمل هموم كلّ المرضى وكلّ الجائعين وكلّ المدينين وكلّ الغرباء وكل الذين يعانون مشكلة في الحياة، وبهذا تتربى إنسانيتك لتستحضر في نفسك كلمة الإمام عليّ (ع) في حديثه مع مالك الأشتر (رض) "فإنّ الناس صنفان إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق".
امتزاج الفكر بالروح:
لذلك ففي كلّ هذه الأدعية التي تتضرع بها في النهار وفي الليل وفي السحر حامداً مسبحاً مستغفراً ذاكراً مهللاً مكبراً منفتحاً في كلّ آلامك تفرشها بين يدي ربك، لابدّ لنا أن نختزن ذلك كلّه وأن نتثقف بذلك كلّه لأنّ ذلك يمثل ثقافة يمتزج فيها الفكر بالروح وتمتزج فيها حركة الدنيا بحركة الآخرة، فأنت لا تبتعد عن دنياك عندما تطلب من الله أن يرزقك وأن يمنحك الصحة والعافية والولد والأمن وما إلى ذلك. ولكنك تجعل ذلك كلّه في اتجاه الآخرة، وبذلك فأنت تعيش في دنياك آخرتك كما تعيش في مادتك روحك وفي فكرك عاطفتك. وهذه هي قيمة الثقافة الإسلامية التي جاء بها القرآن، فهي ليست ثقافة معلّبة ولكنها ثقافة تقتحم الإنسان. إقرأوا القرآن جيداً لتجدوا أنّ القرآن يحدّثكم عن الجانب الفكري بالأسلوب العاطفي، ويحدثكم عن الجانب العاطفي بما لا يبتعد عن حركة الفكر ويحدثك عن الله ليتقرب الله إليك في وعيك فتشعر إنّ الله معك في نومك ويقظتك، وإنّ الله معك في مرضك وفي عافيتك وإنّ الله معك في خوفك وأمنك (لا تخزن إنّ الله معنا) (التوبة/ 40)، وتشعر بأنّ هذا الإحساس العميق بمعيّة الله هو الذي يعطيك السكينة التي يفيضها الله عليك من خلال الاندماج في رحاب ربك. وهكذا لابدّ لنا من أن نجعل الدعاء حالة يومية عندنا، حتى أنّ أغلب أدعية شهر رمضان ليست مخصوصة في معانيها ومضمونها في شهر رمضان، فعندما نقرأ (دعاء الافتتاح) مثلاً فإنّه دعاء تستطيع أن تفتتح به خطوتك ويومك وروحك إلى ربك، وبحيث تتحرك مع الله في كلّ صفاته وتنفتح على الرسالة في الرسول (ص) وعلى الولاية في الأئمة (ع) وتنفتح على كلّ حالة الجهاد والصراع حتى تصل إلى أن تعلن رغبتك إلى الله في دولة إسلامية يعزّ الله بها الإسلام وأهله، ويذل بها النفاق وأهله وتتحول فيها إلى داعية إلى طاعة الله، وأن تكون مشروع قائد في سبيل الله لتحصل بذلك على كرامة الله، ثمّ لتختم ذلك بأن تطلب من الله أن يعرّفك الحقّ ولتكون كلّ حركة حياتك بالحقّ بحيث يكون الحقّ هو سرّ حياتك.
الحاجة إلى الزاد الروحي:
لذلك إنّنا بحاجة إلى هذا الزاد الروحي، وهذا الدعاء الغنيّ بالمعطيات لأنّه فيه ثقافة الروح وفيه ثقافة العقل وفيه حركية العقيدة في كلّ تفاصيلها، سواءً كانت العقيدة بالله أو بالرسول أو باليوم الآخر أو بأولياء الله. إنّنا نقرأ إسلامنا في هذا التراث من الدعاء، لذلك لا تجعلوا الدعاء مجرد موسم تدخلونه في وقت معيّن أو زمان معيّن لأنّ الله قال لنا (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر/ 60)، ولأنّ الله قال لنا من دون وقت ومن دون مكان (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) (البقرة/ 186)، ولأنّ الله هددنا على بعض التفاسير (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) (الفرقان/ 77)، والمقصود بها الدعاء كما هو القرينة في الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر/ 60). والدعاء هو هذه العبادة التي تختلف عن كلّ العبادات لأنّ كلّ عبادة لها زمانها، ولأنّ بعض العبادات لها مكانها، ولكن الدعاء هو العبادة المتحركة التي تملك تحديدها من دون أن يعيّن الله لك ذلك، وإن كان يستحب لك ذلك، إنك تملك وحدك أن تدعو، فعندما تنام يمكن لك أن تودّع اليقظة بدعاء ربما يتحوّل إلى أحلامك وأنت نائم، وأن تنام تحت رعاية الله سبحانه وتعالى، ولتدعو عند يقظتك، ولتدعو وأنت تأكل وأنت تشرب وأنت تمارس لذّاتك وأنت تتحرك مع الناس، وأنت تبدأ عملك وتتحرك في تجاربك مع الناس لتدعو لأبويك ولقرابتك ولأوليائك لمن حولك ولتعيش حركة دعائية توحي بها إلى نفسك.
الجدب الروحي:
لذلك ففي هذا الجدب الروحي الذي نعيشه في هذه الصحراء القاحلة التي تعيش في داخل عقولنا وقلوبنا، هذه الصحراء التي ليس فيها إلا لفح السموم وليس إلا غبار التراب، قد نحتاج إلى هذا الخصب الروحي، وقد نحتاج إلى هذه الينابيع الروحية، قد نحتاج إلى الإحساس بحضور الله في عقولنا ليشرق الله في عقولنا بالحقّ الذي يشمل العقل كلّه وليشرق الله في قلوبنا بالمحبة التي تنفتح على القلب كلّه وليشرق الله في حياتنا بالصدق والاستقامة التي تهدي حياتنا إلى الصراط المستقيم. إنّ شهر رمضان كان الخزان الذي يحتوي ذلك كلّه وقد مضى ومضت لياليه، والسؤال هنا: ماذا بقي لنا منه حتى لا نكون مثل من تحدث عنهم الإمام عليّ (ع) في "نهج البلاغة" "كم من صائم ليس له من صيامه إلّا الجوع والظمأ" – إنّه عاش الصيام جثة بلا روح وكم من قائم أو "وكم من قائم ليس له من قيامه إلّا السهر والعناء حبذا نوم الأكياس وإفطارهم"، لأنّ القضية هي أنك كلما كنت كيّساً أكثر وعاقلاً أكثر وواعياً أكثر فإنك تعرف كيف تصلي جيداً وكيف تصوم جيداً، فإذا أفطرت كان فطرك في طاعة، وإذا تخففت من الصلاة كان تخففك في طاعة.
إنّ قصة شهر رمضان هي قصة أن ننمو أكثر وأن ننفتح أكثر، وأن نتحرك في إسلامنا أكثر وأن نحب الناس أكثر وأن تكون مسؤوليتنا في الحياة أكثر ليحبّنا الله أكثر. وبذلك نلتقي بالعيد في مفهومه الإسلاميّ "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وشكره وقيامه" قبله لأنّه صيام الوعي ولأنّه قيام العبودية، قبله لأنّه الصيام الذي يعيش الإنسان فيه مع الله والقيام الذي يعرج الإنسان فيه بروحه إلى الله، وعندما نعيش مع الله فأين كلّ تلك الوحول الأخلاقية والنفسية والمادية في حياتنا، إنّنا نعيش مع الصفاء ومع النقاء ومع كلّ الينابيع المتدفقة من الله سبحانه وتعالى وهي ينابيع الفكر والروح والحركة والحياة، فتعالوا من أجل أن نعيش السنة رمضاناً في معنى رمضان وإن ابتعد عنا زمان رمضان.
فالصوم مدرسة للمحبّة والتعاون والعطف لتسود الأُلفة وتتحقّق السعادة لأبناء المجتمع. فالصوم يخرج المسلم من البغضاء والأحقاد ليطهِّر نفسه من الأرجاس، فبالصوم تُصقل الروح وتبرز شفافيتها لتسمو بالمجتمع عن عالم المادة إلى عالم القيم السامية والمعاني الرفيعة. وهكذا جميع العبادات تبني الإنسان البناء الحقيقي، ليتكوّن من خلاله ذلك المجتمع الذي تسوده روح الأُخوّة والأُلفة والتعاون والتحابب والمودّة والإخلاص والتآزر والأمانة، خالياً من الأحقاد والبغضاء والحسد والغيبة والنميمة والفرقة والتباعد. فلو تحقّقنا كثيراً في مجتمع تجتمع فيه هذه الصفات كيف سيكون ذلك المجتمع وكم تتوفّر فيه السعادة؟ انّه لمجتمع آمِن مطمئن وغيور متكاتف متعاون قوي متماسك مؤمن تتنزّل عليه البركات من السماء والأرض: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ...) (الأعراف/ 96). فمن الغايات السامية للصوم هي إعداد القلوب للتقوى والشفافية والخشية من الله تعالى. وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم، إنّها التقوى. فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة طاعة لله وإيثاراً لرضاه، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلّع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها، يتّجهون إليه عن طريق الصيام. فالصوم مدرسة للتدريب على الصبر ليتمكّن المسلم من مواجهة الحياة المغرية وليصارع في سبيل الحقّ ويتحمل في سبيل الله الأذى. والصوم يثبِّت الفرد على الطريق ويعلِّمه الإخلاص لله، لأنّها أحد العبادات التي لا يدخلها الرِّياء ويمنح الإنسان ملكة مراقبة الله تعالى في كلّ لحظة. والصوم مدرسة ترويض الإنسان وتقوِّي المجتمع على تحدي كلّ أنواع الظلم والشرّ والضلال.
من صفحة البلاغ
كنّا في شهر رمضان نعيش في هذه الجولة الروحية التي يرتفع فيها الإنسان إلى الله ويتحرّك في رحاب آياته، ويعيش حركة الحب له الذي يمتزج فيه الرجاء والخوف، باعتبار أنّه ليس الحب العاطفي الذي ينبض به القلب، ولكنه الحب الذي يعيش فيه الإنسان المسؤولية أمام من يحب، ذلك أنّ حب الله مسؤولية وليس نبضة قلب وخفقة إحساس. وقد حدّثنا الله عن ذلك في قوله سبحانه وتعالى فيما وجّه به الخطاب إلى رسوله (ص) (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) (آل عمران/ 31)، فحب الله حركة في العقل وانفتاح في القلب وانطلاقة في الواقع، ولذلك فإنك إذا أحببت الله فإنك تحبه في خط رسالته، والرسالة تقول لك افعل هذا ليرضى الله عنك حتى تحصل على محبته (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) وإذا لم تفعله فإنك تحصل على سخطة تماماً كما هو الحب في الدنيا، فإذا كنت تسيء إلى من تحب فمن الطبيعي أن يسخط عليك من تحب، وقد قال ذلك الشاعر وربما ينسب القول إلى الإمام زين العابدين (ع):
تعصي الله وأنت تظهر حبه *** هذا لعمرك في الفعال بديع
لو كان حبك صادقاً لاطعته *** إنّ المحب لمن يحب مطيع
ولذلك فإنّ حبنا لله هو حب يختزن في داخله الخوف ممن نحب إذا انحرفنا عن أصول الحب والرجاء لمن نحب، وإذا انسجمنا مع أصول الحب كنا في جولة الحب مع الله نحبه فنترك طعامنا وشرابنا ولذّاتنا ليحبنا أكثر قربة إليه سبحانه لنكون قريبين إليه أكثر.
معراج الصلاة الروحي:
ونصلي بين يديه لنعطي أرواحنا هذا النوع من المعراج الروحي الذي يجعل الروح تصفو أوّلاً وتسمو وتتصاعد وتصعد إلى أن تجلس وتتمرغ بالحب بين يدي الله لتكون الصلاة كما أرادها رسول الله (ص) حركة شكر يشكر فيها الإنسان ربه من خلال نعمة العقل التي أعطته فكرة الحقّ في الحياة، ونعمة القلب التي أعطته العاطفة التي تجعل حياته حياة طيبة ليّنة منفتحة على قلوب النّاس الآخرين وعلى حياتهم، وعلى كلّ ما أفاض الله عليه في كلّ حاجاته في الحياة. إنّ الإنسان يصلي فيذكر ربه ويعمل على أساس أن يكرر عقيدته في صلاته، فالشهادتان تردان في الاذان وفي الإقامة وفي التشهد وتشهد التسليم، بحيث إنّ هذا التأكيد للعقيدة يتجذّر في وعي المصلي وفي وجدانه، حتى يتذكر عمق العقيدة في توحيد الله تعالى ورسالة رسول الله (ص) فيبقى في كلّ صلاة كما لو كان في حالة طوارئ فكرية أمام كلّ من يريد أن يبعده عن التوحيد، فقد التقى بالتوحيد في صلاته، أو يبعده عن الرسالة فقد أعطته الصلاة وعي رسالته. وهكذا تتمثل ربك بأنّه رب العالمين، وأنّه الرحمن الرحيم وأنّه مالك يوم الدين، وأنّه المستعان وحده والمعوّل عليه وحده والهادي إلى الصراط المستقيم والعظيم الذي تسبّح بحمده وعظمته والأعلى وما إلى ذلك. وفي ذلك تكون الصلاة حركة في عقلنة الحب، بحيث أنك تحب ربك من خلال ما تعيشه في صلاتك من صفات ربك، وما تؤديه في صلاتك من تجسيد عبوديتك في إسبال يديك وفي انحناء ظهرك وفي سجود جبهتك.
صيامٌ وقيام:
عشنا في صلوات شهر رمضان فيما أعطانا الله وفيما فرضه علينا وفيما استحبه لنا في الليل والنهار. ولذلك كان شهر رمضان شهر الصيام والقيام، فأنت تدعو ربك لتذكره فتتحدث معه، أعنّا على صيامه وقيامه لأنّ الصيام إذا لم ينفتح على القيام قد يكون مجرد حالة سلبية في داخل ذاتك لا تعطيك شيئاً.
أدعية شهر رمضان:
ثمّ تنطلق الجولة الواسعة الغنية بكلّ الفكر وبكلّ الروح وبكلّ الحياة وبكلّ المشاعر والأحاسيس والعواطف وبكلّ الخطوط وبكلّ المبادئ في أدعية شهر رمضان، هذه الثروة الفكرية الروحية الحركية التي إذا تعمّقت فيها رأيت أنّ الدعاء يمثل حركة ثقافية تمونك بكلّ تفاصيل العقيدة وبكلّ امتدادات الحركة في الحياة وتمونك بأن تفهم داخلية نفسك هل أنت تطيع ربك أو تعصيه. فعلى أي أساس تقوم الطاعة وعلى أي أساس تبنى المعصية؟ هذا هو السؤال. وهكذا نجد أنّ الإنسان العاصي في حياته يحاول من خلال الدعاء في شهر رمضان أن يعلن أنّ معصيته لا تعني الابتعاد عن إيمانه وأنّ معصيته لا تعني التمرد على ربه، وأنّ معصيته لا تعني الاستهانة بربه وإنما تعني حالة من خطرات النفس حالة طارئة من خلال ما يحدث للإنسان "إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا بربوبيتك جاحد ولا بأمرك مستخف ولا لعقوبتك متعرّض ولا لوعيدك متهاون ولكن خطيئة عرضت" – ليس لها عمق في النفس، لأنّ عمق النفس هو الإيمان والإيمان لا يسمح للإنسان في كلّ جذوره في الذات أن يتكبّر على ربّه أو أن يبتعد عن طاعته "ولكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي" – والنفس أمّارة بالسوء – "وغلبني هواي" والهوى يصدّ الإنسان عن الحقّ "وأعانني عليها شقوتي" هذه العناصر الداخلية التي قد تجعل الإنسان شقياً من خلال كلّ هذه التراكمات التي تزحف إلى عقله وقلبه وحياته. وهكذا نلتقي في الأدعية في المعنى الذي يجعل الإنسان يتدلل على ربه بحيث يشعر كما لو كان طفلاً يلعب بين يديه ويتدلل عليه "اللّهمّ إنّ عفوك عن ذنبي وتجاوزك عن خطيئتي وصفحك عن ظلمي وسترك على قبيح عملي وحلمك عن كثير جرمي عندما كان من خطأي وعمدي أطمعني في أن أسألك مالا استوجبه منك الذي رزقتني من رحمتك وأريتني من قدرتك وعرّفتني من إجابتك فصرت أدعوك آمناً" – كما لو كنت لا أعيش أي أساس للخوف – "وأسألك مستأنساً لا خائفاً ولا وجلاً، مدلاً عليك فيما قصدت فيه إليك، فإن أبطأ عني عتبت بجهلي عليك، ولعل الذي أبطأ عني هو خير لي لعلمك بعاقبة الأمور".
استحضار الفيوضات:
وهكذا ينطلق الإنسان ليستحضر في نفسه كلّ فيوضات ربّه في حياته الداخلية الخارجية وفي الناس من حوله. تصور إنك في دعاء صغير واحد تختصر كلّ ما يعيشه الناس من مشاكل وآلام وأوضاع سلبية حتى إنك تفكر في الراقدين في القبور لتطلب من الله أن يعطيهم الفرح "اللّهمّ أدخل على أهل القبور السرور، اللّهمّ إغن كلّ فقير، اللّهمّ اشبع كلّ جائع، اللّهمّ اكسُ كلّ عريان، اللّهمّ اقض دين كلَّ مدين، اللّهمّ فرّج عن كلّ مكروب، اللّهمّ ردّ كلّ غريب، اللّهمّ فكَّ كلَّ أسير، اللّهمّ أصلح كلّ فاسد من أمور المسلمين، اللّهمّ أشف كلّ مريض، اللّهمّ سد فقرنا بغناك، اللّهمّ غير سوء حالنا بحسن حالك، اللّهمّ إقضِ عنّا الدين وأغننا من الفقر إنك على كلّ شيءٍ قدير". ماذا يمثل هذا الدعاء؟ إنّه يمثلك وأنت تستحضر في وعيك وفي وجدانك كلّ هموم العالم، ونلاحظ أنّه لم يتحدث عن المؤمنين فحسب بل عن كلّ فقير وكلّ جائع وكلّ عريان، مما يعني أنك قبل أن تدعو تفيض إنسانيتك في نفسك فتحمل هموم كلّ المرضى وكلّ الجائعين وكلّ المدينين وكلّ الغرباء وكل الذين يعانون مشكلة في الحياة، وبهذا تتربى إنسانيتك لتستحضر في نفسك كلمة الإمام عليّ (ع) في حديثه مع مالك الأشتر (رض) "فإنّ الناس صنفان إمّا أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق".
امتزاج الفكر بالروح:
لذلك ففي كلّ هذه الأدعية التي تتضرع بها في النهار وفي الليل وفي السحر حامداً مسبحاً مستغفراً ذاكراً مهللاً مكبراً منفتحاً في كلّ آلامك تفرشها بين يدي ربك، لابدّ لنا أن نختزن ذلك كلّه وأن نتثقف بذلك كلّه لأنّ ذلك يمثل ثقافة يمتزج فيها الفكر بالروح وتمتزج فيها حركة الدنيا بحركة الآخرة، فأنت لا تبتعد عن دنياك عندما تطلب من الله أن يرزقك وأن يمنحك الصحة والعافية والولد والأمن وما إلى ذلك. ولكنك تجعل ذلك كلّه في اتجاه الآخرة، وبذلك فأنت تعيش في دنياك آخرتك كما تعيش في مادتك روحك وفي فكرك عاطفتك. وهذه هي قيمة الثقافة الإسلامية التي جاء بها القرآن، فهي ليست ثقافة معلّبة ولكنها ثقافة تقتحم الإنسان. إقرأوا القرآن جيداً لتجدوا أنّ القرآن يحدّثكم عن الجانب الفكري بالأسلوب العاطفي، ويحدثكم عن الجانب العاطفي بما لا يبتعد عن حركة الفكر ويحدثك عن الله ليتقرب الله إليك في وعيك فتشعر إنّ الله معك في نومك ويقظتك، وإنّ الله معك في مرضك وفي عافيتك وإنّ الله معك في خوفك وأمنك (لا تخزن إنّ الله معنا) (التوبة/ 40)، وتشعر بأنّ هذا الإحساس العميق بمعيّة الله هو الذي يعطيك السكينة التي يفيضها الله عليك من خلال الاندماج في رحاب ربك. وهكذا لابدّ لنا من أن نجعل الدعاء حالة يومية عندنا، حتى أنّ أغلب أدعية شهر رمضان ليست مخصوصة في معانيها ومضمونها في شهر رمضان، فعندما نقرأ (دعاء الافتتاح) مثلاً فإنّه دعاء تستطيع أن تفتتح به خطوتك ويومك وروحك إلى ربك، وبحيث تتحرك مع الله في كلّ صفاته وتنفتح على الرسالة في الرسول (ص) وعلى الولاية في الأئمة (ع) وتنفتح على كلّ حالة الجهاد والصراع حتى تصل إلى أن تعلن رغبتك إلى الله في دولة إسلامية يعزّ الله بها الإسلام وأهله، ويذل بها النفاق وأهله وتتحول فيها إلى داعية إلى طاعة الله، وأن تكون مشروع قائد في سبيل الله لتحصل بذلك على كرامة الله، ثمّ لتختم ذلك بأن تطلب من الله أن يعرّفك الحقّ ولتكون كلّ حركة حياتك بالحقّ بحيث يكون الحقّ هو سرّ حياتك.
الحاجة إلى الزاد الروحي:
لذلك إنّنا بحاجة إلى هذا الزاد الروحي، وهذا الدعاء الغنيّ بالمعطيات لأنّه فيه ثقافة الروح وفيه ثقافة العقل وفيه حركية العقيدة في كلّ تفاصيلها، سواءً كانت العقيدة بالله أو بالرسول أو باليوم الآخر أو بأولياء الله. إنّنا نقرأ إسلامنا في هذا التراث من الدعاء، لذلك لا تجعلوا الدعاء مجرد موسم تدخلونه في وقت معيّن أو زمان معيّن لأنّ الله قال لنا (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر/ 60)، ولأنّ الله قال لنا من دون وقت ومن دون مكان (فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) (البقرة/ 186)، ولأنّ الله هددنا على بعض التفاسير (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا) (الفرقان/ 77)، والمقصود بها الدعاء كما هو القرينة في الآية (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر/ 60). والدعاء هو هذه العبادة التي تختلف عن كلّ العبادات لأنّ كلّ عبادة لها زمانها، ولأنّ بعض العبادات لها مكانها، ولكن الدعاء هو العبادة المتحركة التي تملك تحديدها من دون أن يعيّن الله لك ذلك، وإن كان يستحب لك ذلك، إنك تملك وحدك أن تدعو، فعندما تنام يمكن لك أن تودّع اليقظة بدعاء ربما يتحوّل إلى أحلامك وأنت نائم، وأن تنام تحت رعاية الله سبحانه وتعالى، ولتدعو عند يقظتك، ولتدعو وأنت تأكل وأنت تشرب وأنت تمارس لذّاتك وأنت تتحرك مع الناس، وأنت تبدأ عملك وتتحرك في تجاربك مع الناس لتدعو لأبويك ولقرابتك ولأوليائك لمن حولك ولتعيش حركة دعائية توحي بها إلى نفسك.
الجدب الروحي:
لذلك ففي هذا الجدب الروحي الذي نعيشه في هذه الصحراء القاحلة التي تعيش في داخل عقولنا وقلوبنا، هذه الصحراء التي ليس فيها إلا لفح السموم وليس إلا غبار التراب، قد نحتاج إلى هذا الخصب الروحي، وقد نحتاج إلى هذه الينابيع الروحية، قد نحتاج إلى الإحساس بحضور الله في عقولنا ليشرق الله في عقولنا بالحقّ الذي يشمل العقل كلّه وليشرق الله في قلوبنا بالمحبة التي تنفتح على القلب كلّه وليشرق الله في حياتنا بالصدق والاستقامة التي تهدي حياتنا إلى الصراط المستقيم. إنّ شهر رمضان كان الخزان الذي يحتوي ذلك كلّه وقد مضى ومضت لياليه، والسؤال هنا: ماذا بقي لنا منه حتى لا نكون مثل من تحدث عنهم الإمام عليّ (ع) في "نهج البلاغة" "كم من صائم ليس له من صيامه إلّا الجوع والظمأ" – إنّه عاش الصيام جثة بلا روح وكم من قائم أو "وكم من قائم ليس له من قيامه إلّا السهر والعناء حبذا نوم الأكياس وإفطارهم"، لأنّ القضية هي أنك كلما كنت كيّساً أكثر وعاقلاً أكثر وواعياً أكثر فإنك تعرف كيف تصلي جيداً وكيف تصوم جيداً، فإذا أفطرت كان فطرك في طاعة، وإذا تخففت من الصلاة كان تخففك في طاعة.
إنّ قصة شهر رمضان هي قصة أن ننمو أكثر وأن ننفتح أكثر، وأن نتحرك في إسلامنا أكثر وأن نحب الناس أكثر وأن تكون مسؤوليتنا في الحياة أكثر ليحبّنا الله أكثر. وبذلك نلتقي بالعيد في مفهومه الإسلاميّ "إنما هو عيد لمن قبل الله صيامه وشكره وقيامه" قبله لأنّه صيام الوعي ولأنّه قيام العبودية، قبله لأنّه الصيام الذي يعيش الإنسان فيه مع الله والقيام الذي يعرج الإنسان فيه بروحه إلى الله، وعندما نعيش مع الله فأين كلّ تلك الوحول الأخلاقية والنفسية والمادية في حياتنا، إنّنا نعيش مع الصفاء ومع النقاء ومع كلّ الينابيع المتدفقة من الله سبحانه وتعالى وهي ينابيع الفكر والروح والحركة والحياة، فتعالوا من أجل أن نعيش السنة رمضاناً في معنى رمضان وإن ابتعد عنا زمان رمضان.
فالصوم مدرسة للمحبّة والتعاون والعطف لتسود الأُلفة وتتحقّق السعادة لأبناء المجتمع. فالصوم يخرج المسلم من البغضاء والأحقاد ليطهِّر نفسه من الأرجاس، فبالصوم تُصقل الروح وتبرز شفافيتها لتسمو بالمجتمع عن عالم المادة إلى عالم القيم السامية والمعاني الرفيعة. وهكذا جميع العبادات تبني الإنسان البناء الحقيقي، ليتكوّن من خلاله ذلك المجتمع الذي تسوده روح الأُخوّة والأُلفة والتعاون والتحابب والمودّة والإخلاص والتآزر والأمانة، خالياً من الأحقاد والبغضاء والحسد والغيبة والنميمة والفرقة والتباعد. فلو تحقّقنا كثيراً في مجتمع تجتمع فيه هذه الصفات كيف سيكون ذلك المجتمع وكم تتوفّر فيه السعادة؟ انّه لمجتمع آمِن مطمئن وغيور متكاتف متعاون قوي متماسك مؤمن تتنزّل عليه البركات من السماء والأرض: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ...) (الأعراف/ 96). فمن الغايات السامية للصوم هي إعداد القلوب للتقوى والشفافية والخشية من الله تعالى. وهكذا تبرز الغاية الكبيرة من الصوم، إنّها التقوى. فالتقوى هي التي تستيقظ في القلوب وهي تؤدي هذه الفريضة طاعة لله وإيثاراً لرضاه، والمخاطبون بهذا القرآن يعلمون مقام التقوى عند الله ووزنها في ميزانه، فهي غاية تتطلّع إليها أرواحهم، وهذا الصوم أداة من أدواتها، وطريق موصل إليها، يتّجهون إليه عن طريق الصيام. فالصوم مدرسة للتدريب على الصبر ليتمكّن المسلم من مواجهة الحياة المغرية وليصارع في سبيل الحقّ ويتحمل في سبيل الله الأذى. والصوم يثبِّت الفرد على الطريق ويعلِّمه الإخلاص لله، لأنّها أحد العبادات التي لا يدخلها الرِّياء ويمنح الإنسان ملكة مراقبة الله تعالى في كلّ لحظة. والصوم مدرسة ترويض الإنسان وتقوِّي المجتمع على تحدي كلّ أنواع الظلم والشرّ والضلال.
من صفحة البلاغ
تعليق