(إذا أرجعنا الفلسفة لمعناها.. فإننا سنكتشف أن للشعر إحالات فلسفية مضيئة ستجد مقبولية؛ كونها مقدمة بأسلوب يُعدّ الأقرب للمزاج العام)
حاوره: علي الخباز
شاعر عرفته ساحات الابداع كشاعر مبدع اعتلى منصات الشعر صوتاً قوياً، وتنامت منجزاته التي شيدها بالصبر والمثابرة والخبرة الناهضة به كاسم من أسماء الشعرية العراقية المعروفة في كربلاء.. حوار سيكون خصباً بالتأكيد مع الشاعر عادل علوان الصويري، نلاحظ قبل الولوج الى العوالم الانطباعية أن شعرية الصويري ترتكز على نفس فلسفي، فهل يعد هذه الفلسفة احالة شعرية؟
الشاعر عادل الصويري:ـ أعتقد أن الشعرَ في جوهره فلسفة تُخَفَّفُ جمالياً؛ لتنأى التعقيد والمتكلف من القول مقدمة للمتلقي مائدة معرفية تأملية. وإذا أرجعنا الفلسفة لمعناها بوصفها بحثاً عن حقيقة أو طلباً لمعرفة، فإننا سنكتشف أن للشعر إحالات فلسفية مضيئة ستجد مقبولية؛ كونها مقدمة بأسلوب يعد الأقرب للمزاج العام.
على الصعيد الشخصي أسعى لنقل تصوراتي وخصوصيتي مكاناً وموروثاً ومعتقداً إلى أماكن وثقافات أخرى عبر بوابة الفلسفة مستغلاً تداخلها مع فهمي للشعر؛ لتبديد الصورة القاتمة المأخوذة عن المدن التي يغلب عليها طابع القداسة والتدين، وكأنَّ هاتين الخاصيتين سُبَّةٌ للابتعاد عن المعاصرة بحسب بعض الآراء التي أجدها قاصرة على أحسن الظن، فالسبب الذي يجعل ألمانياً يؤلف كتاباً في جماليات النقوش الكربلائية والزخارف على جدران الأضرحة المقدسة، هو ذاته الذي يجعل ابن المدينة الشاعر يقدم إيحاءات مدينته الملتصقة به يومياً بأسلوب يقترب من الأمزجة الأخرى، لا انفصال بين الشعر والفلسفة، لكن الأهم كيف نتفلسف شعراً.
- أو ترى فعلاً أنَّ هذيان الشعر موت؟ أم حقيقة لابد أن نقف عندها طويلاً؟
مفردة الهذيان تعد إشكالية في الشعر المعاصر، وتقابلها مفردة الغموض، وأعتقد أنَّ شيوع هاتين المفردتين في الدراسات مع التكاسل النقدي عن تأصيل الثانية (الغموض) بحيث نتحدث عن غموض فني، جعلت الولوج للمشهد الشعري متاحاً بحيث صار من السهل على أي شخص أن يكون شاعراً، بل واسماً مهماً؛ لأنه يكتب الأشياء التي لا يفهمها هو نفسه خصوصاً مع ما تتيحه مواقع التواصل الاجتماعي من تقنيات توصيل، فضلاً عن ركوب موجة التنكر للخصوصية الثقافية تحت يافطات الحداثة وما بعدها، وكل هذه المعطيات جعلت من المجانية الكتابية هي المهيمنة والمطلة من نافذة الهذيان.
وهنا لا أدعو لكتابة مباشرة مكشوفة بعيدة عن امكانيات التصرف الابداعي، بل أدعو إلى وسطية تلفظ الهذيان، وتحتضن الغموض الفني الذي يتيح الكشف عن مقصدية الشاعر في مجاورته للألفاظ، وإنشاء قيم علاقاتية جديدة، فالهذيان يُعجل بموت الشاعر لا الشعر في حال صار مشروعاً عشوائياً لفعل الكتابة.
- ما هو الانزياح؟ هل هو عملية خلق.. أم توالد موحيات ذهنية، ماذا يعني أن نزيح مفردة لنضع مكانها أخرى، هل يحسب الانزياح من المتخيل.. أم من حرفيات الواقع، وخلو الشعر من الانزياح كيف سيكون؟
الانزياح أسلوب تعبيري يمنح الجملة الشعرية أبعاداً جديدة تتجاوز السائد، وهذا المصطلح متداول بكثرة؛ لتعدد اتجاهاته بين والدلالة واللغة، ومثل هذه الاتجاهات نجد لها حضوراً مكثفاً في القرآن الكريم لتوليد معان من المعنى الواحد لأغراض بلاغية، ومن الطبيعي أن يحتل الانزياح مساحة واسعة من خريطة الشعر.. نعم كما تفضلت هو خلق، وكذلك هو توالد موحيات ذهنية، أما خلو الشعر منه فأعتقده سيجعل الشاعر إزاء قضية تعويضه باللجوء لتقنيات أخرى ستفتقد الانزياح حتماً.
- هل من المعيب أن يكون الشاعر شاعرا للمراثي، وهل تمثل المراثي مسألة الاخفاق الشعري، أين تقف حدود قصيدة المراثي؟
سأبدأُ من الشق الثاني من سؤالك، وأقول بأن لا حدود تتوقف عندها القصيدة حتى وإن كانت رثائية، والقول بأن الرثاء إخفاق شعري لا أجده صحيحاً، فالرثاء حالة شعورية إنسانية يؤكدها جواب ذلك الأعرابي الذي سُئل: "ما بال المراثي أجود أشعاركم.. فأجاب: لأننا نقول وأكبادنا تحترق".
لكن ذلك لا يعني أن يكون الرثاء اليوم قائماً على أنساق طللية، خصوصاً إذا تعلق بقضية مهمة كقضية المراثي الحسينية، إذ أننا نعتقد أنَّ معادلاً فكرياً يجب أن يحضر ليعاضد جانب الرثاء العاطفي، والمتابع اليوم يلمس أن بعض خطباء المنابر يستحضرون هذا المعادل في محاضراتهم فكيف بالشعر؟
- شعراء قصيدة النثر يتهمون شعراء القصيدة العمودية بالنظم، وشعراء قصيدة العمود يتهمون شعراء قصيدة النثر بعبثية المعنى، أين أنت بين الاتهامين، خاصة وأنك تكتب النوعين إضافة إلى القصيدة الشعبية؟
موضوعة الشكلانية الشعرية والاتهامات المتبادلة بين طرفيها تخفت قليلاً وتشتعل كثيراً، والأفضل هو تحويل الاتهامات لحوار منتج، وأنا مع تكريس هذا الحوار، العمود اليوم لم يعد نظماً بل صار تأملاً وأسئلة، وهذه مسألة يدركها النثريون قبل غيرهم، وأظن هذه القضية هي سبب أرقهم الحالي، وهي التي تُشعل فيهم جذوة الجدل الشكلاني غير المعرفي.
ونفس الموضوع ينطبق على الجانب الآخر من الشعراء العموديين الذين جمدوا على الوزن والقافية، ولم يلتحقوا بركب التطور الهائل للقصيدة العمودية الذي صار العراقيون أنموذجاً ماثلاً له، وألقى بظلاله على بعض التجارب الشعرية في لبنان والسعودية، فمثلما ينتقصون من النثريين، ينتقصون كذلك من أهل العمود الجديد وهم في هذا متماهون مع النثريين من باب (عدو عدوي صديقي)، وأنا شاهد على هذه الحالة الأخيرة..!
- هل إجادة الشعر الشعبي تكون دافعاً للولوج لعوالم كتابة القصيدة العمودية؟ وهناك سؤال ملح من شعراء كربلاء عن أسباب مغادرتك الشعر الشعبي تماماً؟
الانتقال من شعر اللهجة المحكية إلى شعر اللغة؛ سببه إيصال الأفكار إلى مديات أبعد من المحلية التي قد تواجه صعوبة في فهم اللهجة العراقية، بالنسبة لي أفادتني تجربة الشعر الشعبي وأكسبتني مهارة التواصل مع المتلقي، وتوظيف الموروث الشعبي في ريف عين التمر والطقوس الدينية الكربلائية في قصائد ذات أبعاد كونية وهو ما جعل لي - بشهادة قليلين - بصمة خاصة. أما عن الشق الثاني من السؤال أقول: لم أغادر كتابة الشعر الشعبي بل غادرت مشهده فقط.
- هل تحتاج المهرجانات الشعرية لشعراء من نمط خاص، وماذا يحتاج شاعر المهرجان من أدوات إبداعية؟ كيف ترى دور اعلام العتبات المقدسة في مسيرة الابداع الثقافي اليوم؟
يمكن ذلك، لكن في حالات نادرة تتعلق بإحياء بعض المناسبات، والتي يمكن أن يشارك فيها شعراء خارج هذا النمط الخاص الذي يمكن أن يسبب تململاً بسبب تكراره، في نظري يجب أن يكون الشاعر نفسه في مهرجان أو ندوة.. بصراحة، هو دور يراوح بين احترافية عالية في التنظيم والضيافة اللائقة والعناوين اللافتة والمتجددة من جهة، وبين طريقة اختيار ضيوف المهرجانات من جهة أخرى.
وهنا أتحدث عن الجانب الشعري لا البحثي؛ لأن المؤتمرات البحثية تسير بوتيرة متصاعدة ومنتجة، ويمكن أن ألقي اللوم على بعض الزملاء الذين لا يتواصلون مع الدعوات المقدمة لهم من إعلام العتبات لدرجة أن بعضهم لا يعرف بوجود متاحف ومكتبات في العتبات المقدسة.
مانشيتات
* السبب الذي يجعل ألمانياً يؤلف كتاباً في جماليات النقوش الكربلائية والزخارف على جدران الأضرحة المقدسة، هو ذاته الذي يجعل ابن المدينة الشاعر يقدم إيحاءات مدينته الملتصقة به يومياً بأسلوب يقترب من الأمزجة الأخرى.
* خلو الشعر من الانزياح سيجعل الشاعر إزاء قضية تعويضه باللجوء لتقنيات أخرى ستفتقد الانزياح حتماً.
* الرثاء حالة شعورية إنسانية يؤكدها جواب ذلك الأعرابي الذي سُئل: "ما بال المراثي أجود أشعاركم.. فأجاب: لأننا نقول وأكبادنا تحترق".