هكذا فجأة وقف امامي رجل كهل، يتأمل باستغراب في تضاريس وجهي ويدقق في هندامي الغريب بالنسبة اليه، والناس تجمهروا حولي مستغربين من شكلي غير المألوف عندهم...
:- أنت من أين يا رجل؟
:- غريب ازمنة، جاء زمانكم ليبحث عن شاهدة رأت بعينها يقظة التواريخ.
:- أوه.. أتبحث عن امرأة؟ من هي... ما اسمها؟
:- نعم، جئت أبحث عن امرأة، هي ابنة هذا الزمان.
ردد الناس المتجمهرون:- من؟
:- جئت أبحث عن جرداء..!
الرجل الكهل، وخلفه الصبية والناس المتجمهرون:- عن أية جرداء جئت تبحث؟
:- جئت أبحث عن جرداء بنت سمير.
:- زوجة مَنْ تكون؟
:- انها زوجة هرثمة بن سليم.
الكل صاحوا سوية:ـ أوه.. انها هناك.. وإذا بامرأة من بين الرواق تصيح...
:- من هذا الذي جاء يبحث عني؟
نظرت اليها واذا بها امرأة رغم كبر عمرها ما زالت تحتفظ بهيبة جمالها وقوة شخصيتها،
قلت مرتبكا بعض الشيء:- أنا يا خالة...
أجابت ببشاشة وجه:- أهلاً بك.. مَن تكون؟ ومن اين أتيت؟
:- أنا يا سيدتي رجل موال لأهل البيت (عليهم السلام)، ومن شيعة سيدي ومولاي أبي الحسن (عليه السلام)، ومن انصار الحسين (عليه السلام) جئت من مستقر مرقده المبارك كربلاء، أجوب الأزمنة بحثاً عن شهادة ضمير حي، عاصر الأحداث ورأى وآمن...
قالت بحنو:- أمهلني لحظة كي استرد انفاسي، فأنا عرفت ما الذي جئت تبحث عنه؟ (وبعد برهة من الصمت) قالت:- أنا امرأة شيعية ولي زوج يدعى هرثمة، هو هرثمة بن سليم، وهذا الرجل الذي هو زوجي قد خانه يقينه، لا يمتلك في حق مولاي أمير المؤمنين (عليه السلام) سوى الريب والظنون وكلام الباطل في حقه الشريف، فهو ضيع البصيرة التي بإمكانها أن تجعله إنساناً، لكن لو تدري أن النصرة تحتاج الى توفيق... نعم، الى حظ كبير، زوجي ذهب الى قتال صفين بصحبة مولاي امير المؤمنين، فرحت كثيرا انه سيكون قرب البرهان الحقيقي لكل ايمان، لكنه بعدما عاد وقف امامي ليقول:- أيعجبك ما فعل صاحبكم؟
قلت:- مَنْ؟
قال:- علي بن أبي طالب..!
أكملت جملته:- (عليه السلام).
:- ونحن نسير في الصحراء مررنا ببقعة من بقاع الارض لا تختلف عن اية ارض اخرى، وزادت الدهشة عند الرجال حين توضأ ثم صلى ونحن ننظر، بعد ذلك اخذ تربها وشمه وقال: (واهاً لك ايتها التربة، ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب)، تهامس حينها القوم فيما بينهم، فمنهم من ازداد يقينا بنبوءة امام، ومنهم من شط به العقل فتاه...
:- وزوجك؟
ابتسمت الجرداء حينها وقالت: ثق ان الايمان بولاية علي واهل بيته (عليهم السلام) يحتاج الى حظ كبير، هو وقف امامي مستهزئاً ليقول:- هل هذا الرجل يعلم الغيب؟
قلت لها:- وماذا قلت له؟
:- دعنا منك ايها الرجل، فان مولاي أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقل إلا حقا...
كنت اتمنى ان يمد الله في عمري لأرى هذا اليوم وأقول لهرثمة:- مولاي ومولاك الامام علي كان يتحدث عن هذا اليوم، كنت اتمنى ان اقول له يوما هذا أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهذه نبوآته، الحجة بينة لمن يعقل، لكن نصرة علي مثلما قلت لك تحتاج الى بصيرة مدركة، قلت لها:- انك عشت هذا اليوم الموعود، ورأى زوجك بعينيه كربلاء وهي تفور بدم الشهداء المذبوحين.
:- سار الى كربلاء مع جيش ابن زياد.
:- وهل قاتل الحسين (عليه السلام) بعد كل الذي رآه وسمعه؟
:- ما إن نزل كربلاء.. ورأى تلك البقعة التي وقف عليها يوما مع مولاي امير المؤمنين (عليه السلام)، كبرت ردة فعله، فقرر مقابلة الحسين (عليه السلام).
:- ارحتيني يا خالة...
:- لا تستعجل الاحداث، ودعني اكمل لك شهادتي على اكمل وجه.. وقف امام المولى أبي عبد الله وسلم عليه قائلاً:- كنت يا مولاي جنديا في صفين مع أبيك الخليفة، ومررنا على هذه البقعة فقال:- (واهاً لك ايتها التربة، ليحشرن منك قوم يدخلون الجنة بغير حساب).
قال الإمام الحسين (عليه السلام):- دع عنك ما سمعت، ودعني اسألك: هل انت معنا أم علينا؟
صحت منفعلاً:- وماذا اجابه زوجك؟
:- اجابه لا معك ولا عليك، اذ تركت اهلي وولدي واخاف عليهم من ابن زياد، واستأذن الحسين وولى هارباً.. غرقت المرأة ببكائها وهي تقول بحشرجة صوت مكلوم:- ألم أقل لك أن نصرة اهل البيت (عليهم السلام) تحتاج الى حظ كبير..؟!
تعليق