السؤال: بحث تفصيلي حول رزية الخميس وما يدور حولها أتمنى منكم الرد على هذا القول المذكور في أحد مواقع أهل السنة يرد فيه حديث الهجر الذي قاله عمر. ************************* السؤال ما صحة الخبر أو الأثر الذي نسمعه من الشيعة في سبّهم لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب, وهو إنّه عند وفاة النبي (ص) - أو في أيامه الأخيرة - أمر أن يؤتى له بقرطاس وقلم ليكتب للناس كتاباً لا يضلوا بعده أبداً, وعند ذلك تدخَّل عمر بن الخطاب, وقال: إنّه (أي النبي) ليهجر, ومعنى يهجر أي يهذي والعياذ بالله, وقال (أي عمر) : حسبنا كتاب الله, فهذا مخالف لأمر الرسول (ص). هذه رواية الشيعة التي يرددونها! أرجو التوضيح. الجواب الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله, وبعد: الحديث المشار إليه في السؤال أخرجه البخاري (3168), ومسلم (1637) من حديث سَعِيدِ بنِ جُبَيرٍ قَالَ: قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: يَومُ الخَمِيسِ وَمَا يَومُ الخَمِيسِ ثُمَّ بَكَى حَتَّى بَلَّ دَمعُهُ الحَصَى... ومن المعلوم أنّ النبي (ص) في مرضه الذي توفي فيه عزم على أن يكتب كتاباً يتضمن استخلاف أبي بكر, ففي صحيح البخاري (5666), ومسلم (2387) من حديث عَائِشَةَ قَالَت: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِه ِ: ادعِي لِي أَبَا بَكرٍ أَبَاكِ وَأَخَاكِ ... وعن ابن أبي مليكة قال: سُئِلَت عائشة مَن كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مُستَخلِفًا لَو استَخلَفَهُ؟ قَالَت: أَبُو بَكرٍ... أخرجه مسلم (2385). ثمّ إنّه حصل التنازع والاختلاف عنده (ص), واشتبه الأمر على عمر هل غلب على النبي (ص) الوجع, أم لم يغلب عليه الوجع ؟ فيكون كلامه من الكلام المعروف الذي يجب قبوله, ولم يجزم عمر بذلك, والشك جائز على عمر إذ لا معصوم إلّا النبي (ص), والنبي (ص) قد عزم على أن يكتب الكتاب, فلما حصل الاختلاف والتنازع, وحصل الشك علم أن الكتاب لا يحصل به المقصود, وقد علم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه كما قال : "يَأبَى اللَّهُ وَالمُؤمِنُونَ إِلَّا أَبَا بَكرٍ", ولو أراد النبي (ص) أن يكتب الكتاب, وكان هذا ممّا يجب تبليغه وبيانه للناس لم يمنعه من ذلك أحد لا عمر ولا غيره . قال الإمام البيهقي في كتابه دلائل النبوة (7/184) : " قصد عمر بن الخطاب بما قال التخفيف على رسول الله (ص) حين رآه قد غلب عليه الوجع, ولو كان ما يريد النبي (ص) أن يكتب لهم شيئاً مفروضاً لا يستغنون عنه لم يتركه باختلافهم ولغطهم لقول الله عز وجل : (( بَلِّغ مَا أُنزِلَ إِلَيكَ مِن رَّبِّكَ )) (المائدة:67), كما لم يترك تبليغ غيره بمخالفة من خالفه, ومعاداة من عاداه, وإنّما أراد ما حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أن يكتب استخلاف أبي بكر, ثمّ ترك كِتبَته اعتماداً على ما علم من تقدير الله تعالى...., وقال : يأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكرٍ, ثمّ نبّه أمّته على خلافته باستخلافه إياه في الصلاة حين عجز عن حضورها". وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : "الذي وقع في مرضه كان من أهون الأشياء وأبينها, وقد ثبت في الصحيح أنّه قال لعائشة في مرضه : ادعي لي أباك وأخاك حتّى أكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه الناس من بعدي" ثم قال: يأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر, فلمّا كان يوم الخميس همَّ أن يكتب كتاباً فقال عمر : ماله أهجر؟ فشّك عمر هل هذا القول من هجر الحمى؟ أو هو ممّا يقول على عادته؟ فخاف عمر أن يكون من هجر الحمى, فكان هذا ممّا خفى على عمر, كما خفى عليه موت النبي (ص) بل أنكره, ثمّ قال بعضهم هاتوا كتاباً, وقال بعضهم لا تأتوا بكتاب, فرأى النبي (ص) أنّ الكتاب في هذا الوقت لم يبق فيه فائدة ؛ لأنّهم يشكون هل أملاه مع تغيره بالمرض أم مع سلامته من ذلك, فلا يرفع النزاع, فتركه, ولم تكن كتابة الكتاب ممّا أوجبه الله عليه أن يكتبه أو يبلغه في ذلك الوقت ؛ إذ لو كان كذلك لما ترك (ص) ما أمره الله به, لكن ذلك ممّا رآه مصلحة لدفع النزاع في خلافة أبي بكر, ورأى أن الخلاف لا بدّ أن يقع, وقد سأل ربّه لأمّته ثلاثاً فأعطاه اثنتين, ومنعه واحدة, سأله أن لا يهلكهم بسنة عامة, فأعطاه إياها, وسأله أن لا يسلط عليهم عدواً من غيرهم, فأعطاه إياها, وسأله أن لا يجعل بأسهم بينهم, فمنعه إياها, وهذا ثبت في الصحيح. وقال ابن عباس : الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين أن يكتب الكتاب ؛ فإنّها رزية أي مصيبة في حقّ الذين شكوا في خلافة أبي بكر رضي الله عنه, وطعنوا فيها, وابن عباس قال ذلك لمّا ظهر أهل الأهواء من الخوارج والروافض ونحوهم, وإلّا فابن عباس كان يفتي بما في كتاب الله,, فإن فلم يجد في كتاب الله فبما في سنّة رسول الله, فإن لم يجد في سنّة رسول الله (ص) فبما أفتى أبو بكر وعمر... ثمّ إنّ النبي (ص) ترك كتابة الكتاب باختياره, فلم يكن في ذلك نزاع, ولو استّمر على إرادة الكتاب ما قدر أحد أن يمنعه.... ومن جهل الرافضة أنّهم يزعمون أن ذلك الكتاب كان كتابه بخلافة علي, وهذا ليس في القصة ما يدل عليه بوجه من الوجوه, ولا في شيء من الحديث المعروف عند أهل النقل أنّه جعل علياً خليفة كما في الأحاديث الصحيحة ما يدل على خلافة أبي بكر . ثمّ يدعون مع هذا أنّه كان قد نصّ على خلافة علي نصّاً جلياً قاطعاً للعذر, فإن كان قد فعل ذلك فقد أغنى عن الكتاب, وإن كان الذين سمعوا ذلك لا يطيعونه, فهم أيضاً لا يطيعون الكتاب, فأيّ فائدة لهم في الكتاب لو كان كما زعموا" (ينظر: منهاج السنة (6/315-318)). وقال رحمه الله في موضع آخر : "عمر رضي الله عنه قد ثبت من علمه وفضله ما لم يثبت لأحد غير أبي بكر, ففي صحيح مسلم عن عائشة –رضي الله عنها- عن النبي (ص) أنّه كان يقول : قد كان في الأمم قبلكم مُحَدَّثون, فإن يكن في أمتي أحد فعمر" . قال ابن وهب : تفسير "محدثون" ملهمون . وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي (ص) قال: "إنّه قد كان فيما مضى قبلكم من الأمم مُحدَّثون, وإنّه إن كان في أمتي هذه منهم فإنّه عمر بن الخطاب" . وفي لفظ للبخاري : "لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلَّمون من غير أن يكونوا أنبياء, فإن يكن في أمتي منهم أحد فعمر" . وفي الصحيح عن ابن عمر عن النبي (ص) قال : بينا أنا نائم إذ رأيت قدحا أُتيت به فيه لبن, فشربت منه حتّى أني لأرى الرَّيَّ يخرج من أظفاري, ثمّ أعطيت فضلي عمر بن الخطاب, قالوا : فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: العلم". وفي الصحيحين عن أبي سعيد قال : قال رسول الله (ص) : بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليَّ وعليهم قمص, ومنها ما يبلغ الثدي, ومنها ما يبلغ دون ذلك, ومرّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرّه "قالوا ما أوَّلت ذلك يا رسول الله؟ قال : الدين" . وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : قال عمر: وافقت ربي في ثلاث : في مقام إبراهيم, وفي الحجاب, وفي أسارى بدر". وللبخاري عن أنس قال : قال عمر : "وافقت ربي في ثلاث, أو وافقني ربي في ثلاث : قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلَّى فنزلت : (( وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبرَاهِيمَ مُصَلًّى )) (البقرة:125), وقلت: يا رسول الله يدخل عليك البَرُّ والفاجر, فلو أمرت أمّهات المؤمنين بالحجاب, فأنزل الله آية الحجاب, وبلغني معاتبة النبي (ص) بعض أزواجه, فدخلت عليهم فقلت: إن انتهيتنّ, أو ليبدلنّ الله رسوله خيراً منكن حتّى أتت إحدى نسائه فقالت : يا عمر أما في رسول الله (ص) ما يعظ نساءه حتّى تعظهن أنت, فأنزل الله : (( عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبدِلَهُ أَزوَاجًا خَيرًا مِّنكُنَّ )) (التحريم:5). وأمّا قصة الكتاب الذي كان رسول الله (ص) يريد أن يكتبه, فقد جاء مبيّناً كما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله (ص) في مرضه : ادعي لي أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً, فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى, ويأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر . وفي صحيح البخاري عن القاسم بن محمّد قال قالت عائشة: وارأساه فقال رسول الله (ص) لو كان وأنا حي فاستغفر لك وأدعو لك, قالت عائشة : واثكلاه, والله إنّي لأظنك تحب موتي, فلو كان ذلك لظللت آخر يومك مُعَرِّساً ببعض أزواجك, فقال رسول الله (ص) : "بل أنا وارأساه, لقد هممت أن أرسل إلى أبي بكر وابنه وأعهد : أن يقول القائلون أو يتمنى المتمنون, ويدفع الله ويأبى المؤمنون . وفي صحيح مسلم عن ابن أبي مليكة, قال: سمعت عائشة وسُئلت: مَن كان رسول الله (ص) مستخلفاً لو استخلف؟ قالت : أبو بكر, فقيل لها: ثمّ من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر قيل لها : ثمّ من بعد عمر؟ قالت : أبو عبيدة عامر بن الجراح, ثمّ انتهت إلى هذا, وأمّا عمر فاشتبه عليه هل كان قول النبي (ص) من شدة المرض أو كان من أقواله المعروفة, والمرض جائز على الأنبياء, ولهذا قال: ماله أهجر؟ فشك في ذلك ولم يجزم بأنّه هجر, والشك جائز على عمر ؛ فإنّه لا معصوم إلّا النبي (ص), لا سيّما وقد شكّ بشبهة, فإنّ النبي (ص) كان مريضاً, فلم يدر أكلامه كان من وهج المرض كما يعرض للمريض, أو كان من كلامه المعروف الذي يجب قبوله؟ وكذلك ظن أنّه لم يمت حتّى تبين أنّه قد مات, والنبي (ص) قد عزم على أن يكتب الكتاب الذي ذكره لعائشة, فلمّا رأى أن الشك قد وقع علم أن الكتاب لا يرفع الشك, فلم يبق فيه فائدة, وعلم أن الله يجمعهم على ما عزم عليه, كما قال : ويأبى الله والمؤمنون إلّا أبا بكر, وقول ابن عباس : ( إنّ الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله (ص) وبين أن يكتب الكتاب), يقتضي أن هذا الحائل كان رزية وهو رزية في حقّ من شكّ في خلافة الصديق, أو اشتبه عليه الأمر ؛ فإنّه لو كان هناك كتاب لزال هذا الشك, فأمّا من علم أن خلافته حقّ فلا رزية في حقّه ولله الحمد . ومَن توهمّ أن هذا الكتاب كان بخلافة علي, فهو ضال بإتفاق عامة الناس من علماء السنّة والشيعة, أمّا أهل السنّة فمتفقون على تفضيل أبي بكر وتقديمه, وأمّا الشيعة القائلون بأن عليًّا كان هو المستحق للإمامة فيقولون : إنّه قد نصّ على إمامته قبل ذلك نصّاً جلياً ظاهراً معروفاً, وحينئذٍ فلم يكن يحتاج إلى كتاب . وإن قيل: إنّ الأمّة جحدت النصّ المعلوم المشهور فلأن تكتم كتاباً حضره طائفة قليلة أولى وأحرى, وأيضاً فلم يكن يجوز عندهم تأخير البيان إلى مرض موته, ولا يجوز له ترك الكتاب لشك من شك, فلو كان ما يكتبه في الكتاب ممّا يجب بيانه وكتابته, لكان النبي (ص) يبّينه ويكتبه, ولا يلتفت إلى قول أحدٍ, فإنّه أطوع الخلق له, فعُلم أنّه لمّا ترك الكتاب لم يكن الكتاب واجباً, ولا كان فيه من الدين ما تجب كتابته حينئذٍ ؛ إذ لو وجب لفعله, ولو أنّ عمر رضي الله عنه اشتبه عليه أمر, ثمّ تبيّن له, أو شكَّ في بعض الأمور, فليس هو أعظم ممّن يفتي ويقضي بأمور, ويكون النبي (ص) قد حكم بخلافها مجتهداً في ذلك, ولا يكون قد علم حكم النبي (ص) ؛ فإنّ الشكّ في الحقّ أخف من الجزم بنقيضه, وكلّ هذا إذا كان باجتهاد سائغ كان غايته أن يكون من الخطأ الذي رفع الله المؤاخذه به" منهاج السنة (6/20-26). وقال المازري : "إنّما جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع صريح أمره لهم بذلك ؛ لأنّ الأوامر قد يقارنها ما ينقلها من الوجوب فكأنه ظهرت منه قرينة دلت على أنّ الأمر ليس على التحتم بل على الاختيار, فاختلف اجتهادهم وصمم عمر على الامتناع لما قام عنده من القرائن بأنّه (ص) قال ذلك عن غير قصد جازم, وعزمه (ص) كان إمّا بالوحي وإما بالاجتهاد, وكذلك تركه إن كان بالوحي, فبالوحي, وإلّا فبالاجتهاد أيضا". ينظر: فتح الباري (8/133). وهذه النصوص عن هؤلاء العلماء الأجلاء توضح المقصود بالحديث, وتدحض افتراءات الشيعة وتلبيسهم وتنقصهم لعمر بن الخطاب . هذا والله أعلم. ************************* الجواب: يكون جوابنا عمّا ورد في هذا السؤال - المشار إليه - وجوابه على نقاط: النقطة الأولى: لم تكن الرواية المعروفة برزية يوم الخميس - والوصف بالرزية كان من راويها ابن عباس - من مرويات الشيعة, وإنّما هي رواية معروفة في صحاح أهل السنّة, وكتبهم الحديثية يروونها بألسنة مختلفة, فقد رواها البخاري في باب مرض النبي (صلى الله عليه وآله) من صحيحه الجزء الخامس الصفحة السابعة والثلاثون بعد المائة, وفي باب (قول المريض قوموا عنّي) في الجزء الخامس الصفحة التاسعة, وهكذا رواها في باب قول النبي (صلى الله عليه وآله) (لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء) في الجزء الثامن الصفحة الواحدة والستون بعد المائة.. وأيضاً رواها مسلم في صحيحه (كتاب الوصية) الجزء الخامس الصفحة الثالثة والسبعون بأكثر من طريق, وأيضاً رواها أحمد في مسنده في الجزء الأوّل, الصفحة الرابعة والعشرون بعد الثلاثمائة, وفي مواضع أخرى, وأيضا رواها غير هؤلاء من محدّثي أهل السنّة . وكذلك القول : بأنّ قائل كلمة (هجر) في هذه الحادثة إنّما هو عمر بن الخطاب وليس أحد غيره لم يكن من مرويات الشيعة وأقوالهم, وإنّما هذا هو قول علماء أهل السنّة, وسننقل إليك أقوالهم فيما بعد . ونريد أن نقول هنا أنّ الحادثة هي تنبأ بنفسها عن نفسها, بأنّ قائل تلك الكلمة القارصة في حقّ الجناب الأقدس للنبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) لم يكن سوى عمر بن الخطاب, وليس أحد غيره. فاليك جملة من صور هذه الحادثة يمكنك الجمع بينها لتنتهي إلى هذه النتيجة : ففي الرواية التي يرويها البخاري في باب كراهية الخلاف ج8ص 161 جاء ما نصّه : ((وأختلف أهل البيت فاختصموا, فمنهم مَن يقول : قرّبوا يكتب لكم رسول الله (صلى الله عليه وآله) كتاباً لن تضلوا بعده, ومنهم من يقول ما قال عمر, فلمّا أكثروا اللغط والاختلاف عند النبي (صلى الله عليه وآله) قال لهم : (قوموا عنّي) (انتهى). فهذه الرواية, لم تصرّح باسم قائل مناهض في الواقعة لمسألة تقديم الكتاب ليكتبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) سوى عمر, وأن الذين تكلموا في هذا الجانب إنّما كانوا يتابعون في ذلك ما قاله عمر . فالسؤال : الذي ينبغي الإجابة عليه هنا هو : ماذا قال عمر؟ والجواب: إنّ بعض الروايات - كرواية البخاري في (باب قول المريض قوموا عنّي) ج7 ص9 - تصرّح بأن عمر قال : إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) غلبه الوجع, وعندنا كتاب الله حسبنا . وبعض الروايات حين لا تذكر بأنّ القائل هو عمر, تصرّح بأنّ الكلمة التي قيلت في وجه النبي هي كلمة (يهجر), كما في هذه الرواية التي يرويها مسلم في صحيحة في باب ترك الوصية ج5ص76 : ((... قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ائتوني بالكتف والدواة (أو اللوح والدواة) أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده ابداً, فقال أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهجر)) (انتهى). فإذا جمعنا بين هذه الرواية والرواية التي رواها البخاري - وهي ممّا رواه مسلم أيضاً في نفس الباب المشار إليه سابقاً - التي تقول أنّه كان هناك فريقان عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعضهم يقول قدموا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) يكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً, وبعضهم يقول ما قال : عمر . نخرج بنتيجة - بلحاظ أنّه لم يكن قول هؤلاء سوى ترديد لما قاله عمر . وقد كان من قولهم (بصريح الرواية المتقدمة) كلمة (يهجر) - إنّ ما قاله عمر في وجه رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنّما هو كلمة (يهجر) لا غير . هذا هو الذي يقتضيه الجمع بين هذه الروايات, وهي لا تحتاج إلى كثير عناء للوصول إلى هذه النتيجة. ولم تكن الرواية التي ذكرت بأن عمر كان قد قال : إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) غلبه الوجع إلّا تعبيراً آخر عن كلمة (يهجر), وقد ذكر بعض المؤرخين أن هذه التعبير إنّما كان بالمعنى عن الكلمة التي قالها عمر وليس باللفظ الصريح, كهذه الرواية التي يرويها الجواهري - وهو من علماء أهل السنة في كتابه (السقيفة وفدك ص76), وابن أبي الحديد - وهو معتزلي من أهل السنة أيضاً - في شرح على نهج البلاغة ج6ص51: ((لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة, وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب, قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ائتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعدي, فقال عمر كلمة معناها أن الوجع قد غلب على رسول الله (صلى الله عليه وآله). (انتهى). وعلى أية حال, فقد صرّح جملة علماء أهل السنّة بذلك وقالوا : ليس من قائل لتلك الكلمة القارصة سوى عمر بن الخطاب . كتصريح ابن تيمية في (منهاج السنّة) في الجزء السادس, الصفحة 315. وابن الأثير في (نهاية غريب الحديث) في الجزء الخامس, الصفحة 246, في مادة (هجر). وأيضاً صرّح بذلك اللغوي الشهير ابن المنظور الأفريقي في (لسان العرب) الجزء الخامس, الصفحة 250 مادة (هجر). وكذلك ابن الجوزي في كتابه (تذكرة الخواص), الصفحة 099 والغزالي في (سر العالمين) الصفحة 40. والشهاب الخفاجي في (شرحه على الشفا نسيم الرياض), الجزء الرابع, الصفحة 278. وهكذا تعرف أن هذه الحادثة لم تكن من مرويات الشيعة, بل من مرويات أهل السنة, وفي أوثق كتبهم! وإن التصريح بأن قائل كلمة (يهجر) عمر بن الخطاب يمكن الوصول إليه من خلال أدنى تأمل في الألفاظ التي جاءت بها ألسنة الحادثة عند أهل السنة. وأيضاً يوجد هناك جملة من علماء أهل السنة قد صرّحوا بأن ليس من قائل لتلك الكلمة سوى عمر بن الخطاب لا غير كما ذكرنا ذلك. نعم, أجتهد المصرّحون (بل جاهدوا) في تمرير هذه العثرة - التي لا تقال ما بقيت السماوات والارضين - والذب عن (الخليفة), فقالوا: إن ما قاله عمر هو كلمة (أهجر) بصيغة الاستفهام, ومعنى كلامه: هل أختلف كلامه بسبب المرض (على سبيل الاستفهام)؟ كما صرّح بذلك ابن تيمية وابن الأثير وغيرهما - . ولكن لا ندري هل تخف الوطأة وتقل البشاعة بهذا التصريح فيما لو جاء على سبيل الإنشاء دون الإخبار, مع أن ابن الأثير يذكر بكل وضوح بأنّ المراد منها على هذا التعبير : هل تغير كلامه وأختلط لأجل ما به من المرض؟ (قال) : وهذا أحسن ما يقال فيه ولا يجعل إخباراً فيكون إمّا من الفحش أو الهذيان. والقائل كان عمر, ولا يظن به بذلك (المصدر المتقدم). ولا ندري كيف نتصور ما رواه ابن الأثير هنا من التفريق بين الإنشاء والإخبار لكلمة (هجر), وهل تراه يختلف معنى الاختلاف والاختلاط في كلام المريض, عن معنى الهذيان فيما لو قيلت هذه الكلمة بالإخبار دون الإنشاء...؟! إننا لا نجد فرقاً في ذلك بل المعنى واحد, فالذي يخلط في كلامه وهو في حال المرض يقال عنه أنّه يهذي, وإذا أردنا أن نحول هذا المعنى إلى الاستفهام فنقول : ماذا به, هل تراه يهذي؟ فلا يوجد فرق في نسبة الهذيان من هذه الكلمة سواء قيلت إخباراً وإنشاءاً ... بل نجد أنّ البخاري قد سد على القوم هذه التأويلات والتمحلات وذكر رواية له في باب جوائز الوفد من كتاب السير والجهاد ج4, ص 31 تفيد بأنّ هذه الكلمة قد قيلت في وجه النبي الأقدس (صلى الله عليه وآله) إخباراً لا إنشاء: ((.. فقال: اشتد برسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعه يوم الخميس, فقال : (ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً),
يتبع
يتبع
تعليق