ارتدّوا على أدبارهم
!
قالت السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام): " أَلَئِنْ مات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أَمتُّم دينه؟!!... تلك نازلة أعلن بها كتاب الله قبل موته، وأنبأكم بها قبل وفاته، فقال: ( وَما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ )(1)(2).
وقال مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام): " حتّى إذا قبض الله رسوله، رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي أُمروا بمودّته، ونقلوا البناء على رصِّ أساسه، فبنوه في غير موضعه.. معادن كل خطيئة، وأبواب كلّ ضارب في غمرة، قد ماروا في الحيرة، وذهلوا في السكرة، على سنّة من آل فرعون.. من منقطع إلى الدنيا راكن، أو مفارق للدين مباين "(3).
ودلّتنا النصوص المتواترة ـ بين الفريقين ـ إلى هذا الانقلاب الذي أُشير إليه في القرآن وصرّحت به الأحاديث وقام عليه الوجدان.. وإليك بعض ما ورد في المقام:
____________
1. شرح نهج البلاغة 16/212.
2. آل عمران (3): 144.
3. نهج البلاغة: 65، الخطبة 150 ; شرح نهج البلاغة: 9/132 ; بحار الأنوار: 29/616.
ثمّ قال: " ألا وإنّ أوّل الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، وإنّه يجاء برجال من أُمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربّ أصحابي..! فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: ( وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ )(3) فيقال: إنّ هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم "(4).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا فرطكم على الحوض، وليرفعنّ إليّ رجال منكم حتّى إذا أهويت إليهم لأناولهم اختلجوا دوني، فأقول: أي ربّ أصحابي..! فيقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك "(5).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ليردن على الحوض رجال ممّن صاحبني، حتّى إذا رأيتهم ورفعوا إليّ اختلجوا دوني، فلأقولن: أي ربّ! أصحابي أصحابي! فليقالن لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك ".
وفي بعض الروايات: " فأقول سحقاً لمن بدّل بعدي "(6).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " أنا فرطكم على الحوض، مَنْ مَرّ عليّ شرب، ومَنْ شرب لم
____________
1. أي جرداً لا شعر لهم، وفي بعضها: غرلاً، وهو جمع الأغرل أي الأغلف.
2. الأنبياء (21): 104.
3. المائدة (5): 117.
4. راجع! سنن النسائي: 4/117 ; مسند أحمد: 1/235، 253 ; البخاري: 4/110، 142 ـ 143 و 5/191 ـ 192، 240 و 7/195 ; مسلم: 8/157 ; سنن الترمذي: 4/38 و 5/4 ; كنز العمال: 14/358 ; البداية والنهاية: 2/116 ; الدرّ المنثور: 2/349.
5. البخاري: 8/87.
6. مسلم: 7/70 ـ 71.
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي ".
أو قال: " من أُمّتي " فَيُحلَّؤُن(2) عن الحوض، فأقول: يا ربّ أصحابي! فيقول: لا علم لك بما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أعقابهم القهقرى "(3).
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " بينا أنا قائم [على الحوض] إذا زمرة.. حتّى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال لهم: هلم، قلت: إلى أين؟! قال: إلى النار والله، فقلت: وما شأنهم؟! قال: إنّهم قد ارتدّوا على أدبارهم القهقرى..
ثم إذا زمرة اُخرى حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني بينهم، فقال لهم: هلمّ، فقلت: إلى أين؟! قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم قال: إنّهم قد ارتدّوا على أدبارهم.. فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم "(4).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ترد عليَّ أُمّتي الحوض وأنا أذود الناس كما يذود الرجل إبل الرجل عن إبله... وليصدن عنّي طائفة منكم فلا يصلون، فأقول: يا ربّ! هؤلاء من أصحابي، فيجيئني ملك فيقول: وهل تدري ما أحدثوا بعدك؟! "(5).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّي على الحوض أنتظر من يرد عليّ منكم، ليقتطعن دوني رجالاً فلأقولنَّ: أي ربّ منّي ومن أُمّتي، يقول إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم "(6).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّي على الحوض أنظر من يرد عليّ منكم وسيؤخذ ناس
____________
1. البخاري: 7/207 ـ 208 و 8/87 ; مسلم: 7/66.
2. أي: يُمنعون من وروده.
3. البخاري: 7/208.
4. البخاري: 7/208.
5. مسلم: 1/149 ـ 150.
6. مسلم: 7/66.
وفي رواية: فأقول: أصحابي!.. فيقال: هل شعرت ما عملوا بعدك، والله ما برحوا يرجعون على أعقابهم "(1).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجّة الوداع: " لا ألفينّكم ترجعون بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض "(2).
قال أُبيّ بن كعب: كنّا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنّما وجهنا واحد، فلما قُبض نظرنا هكذا وهكذا(3).
وقال أنس: ما نفضنا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الأيدي ـ إنّا لفي دفنه ـ حتّى أنكرنا قلوبنا(4).
وعن أبي وائل، عن حذيفة قال: قلت: يا أبا عبد الله! النفاق اليوم أكثر أم على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: فضرب بيده على جبهته وقال: أوه! وهو اليوم ظاهر، إنّهم كانوا يستخفونه على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)(5).
____________
1. البخاري: 7/209 ; مسلم: 7/66 ; وراجع أيضاً: مسند أحمد: 1/257 و 3/18، 39، 384 و 6/121 ; مسلم: 7/68 ; البخاري: 7/206 ـ 210 و 8/86 ; سنن ابن ماجه: 2/1440 ; المستدرك: 2/447 و 4/74 ـ 75 ; مجمع الزوائد: 3/85 و 10/364 ـ 365 ; كنز العمّال: 1/387 و 4/543 و 11/132 و 176 ـ 177 و 14/417 ـ 419 و 434.
2. سنن النسائي: 7/126 ـ 128 ; مسند أحمد: 1/230، 402 و 2/85، 87، 104 و 4/351، 358، 366 و 5/39، 44 ـ 45 و 49، 68، 73 ; سنن الدارمي: 2/69 ; البخاري: 1/38 و 2/191 ـ 192 و 5/126 و 6/236 و 7/112 و 8/16، 36، 91 ; مسلم: 1/58 و 5/108 ; سنن ابن ماجه: 13002 ; سنن أبي داود: 2/409 ; سنن الترمذي: 3/329 ; سنن البيهقي: 5/140 و 6/92، 97 و 8/20 ; المستدرك: 1/191.
3. ابن ماجه ونعيم بن حماد في الفتن، عنهما جامع الأحديث: 17/524.
4. مسند أبي يعلى الموصلي: 6/51.
5. البحر الزخّار المعروف بمسند البزاز: 7/303 ـ 304 (ط المدينة) وراجع البخاري: 8/100 ; كنز العمال: 1/367. أقول: راجع أيضاً ما ذكرناه من الروايات في الجواب على إنكار نسبة الهجوم إلى الصحابة في أول الفصل السادس.
وفي هذا ما يستدلّ به على أنّ الأصحاب قد اختلفوا من بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)فمنهم من آمن ومنهم من كفر، لاتّفاق الفريقين على أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: " والّذي نفسي بيده لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، والقذّة بالقذّة ".
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " كلّ ما كان في الأمم السالفة فإنّه يكون في هذه الأمّة مثله، حذو النعل بالنعل، والقذّة بالقذّة "(2).
والعجب مما رواه ابن عساكر عن ابن عباس قال: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)ـ وعنده أبو بكر وعمر وعثمان ومعاوية ـ إذ أقبل علي (عليه السلام) فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)لمعاوية: " أتحبّ علياً؟ " قال: نعم. قال: " انها ستكون بينكم هنيهة ". قال معاوية: فما بعد ذلك يا رسول الله..؟! قال: " عفوالله ورضوانه..! " قال: رضينا بقضاء الله ورضوانه... فعند ذلك نزلت هذه الآية: ( وَلَوْ شاءَ اللّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ )(3).
____________
1. البقرة (2): 253.
2. رواهما كثير من أهل السنة راجع مسند أحمد: 2/527 و 4/125 ; صحيح البخاري: 4/144 (ط دار الفكر) ; المستدرك: 1/37، 129 (ط دار المعرفة) ; النهاية لابن الأثير: 1/357 ; كنز العمال: 1/211 و 11/253 ; شرح نهج البلاغة: 9/286. وتجد الروايتين في كثير من مصادرنا، بل حكم بصحّتهما في إعلام الورى: 476 ; كشف الغمة: 2/545 ; مختصر بصائر الدرجات: 205 ; تأويل الآيات: 402 ; الصوارم المهرقة: 195.
3. الدر المنثور: 1/322.
التنصيص على إمامة أمير المؤمنين (عليه السلام)(1)
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصرّح بخلافة أمير المؤمنين (عليه السلام) وإمامته ـ بنصِّ من الله تعالى ـ طيلة حياته ومن اليوم الذي دعا أقاربه إلى الإسلام(2)، وفي السنة العاشرة من الهجرة أمر الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحجّ بالنّاس، فحجّ معه جمع كثير من المسلمين في تلك السنة.
فلمّا دخل مكّة وأقام بها يوماً واحداً، هبط جبرئيل (عليه السلام) بأوّل سورة
____________
1. يعرف كلّ عاقل أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يستحيل أن يترك أُمته سدى، ويهمل أمرهم بعده ولم يدبّر لهم تدبيراً صحيحاً يمنعهم عن الاختلاف في الدين و الدنيا، فإنّه لو لم يكن نبيّاً وكان سلطاناً عاقلاً لم يرض بذلك في رعيّته، فكيف وهو رئيس العقلاء؟!، أفترضى أن تقول: إنّه أهمل أمر الأُمّة حتّى ينجرّ الأمر إلى ما وقع في السقيفة وغيرها من الاختلافات، وتشعّبت فرق كثيرة يكفّر بعضهم بعضاً، ويحارب بعضهم بعضاً، وتهراق دماء آلاف من المسلمين في طلب الخلافة.. إلى وقائع كثيرة تراها حتّى اليوم؟! أكان أبو بكر أعرف بأمر الأمّة حيث عرف لزوم تعيين الخليفة ولكن النبي لم يعرف؟! نعم لا سبيل إلى هذا التوهّم أبداً. وأمّا نصّه على خلافة أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأنّه الوصي، ووليّ كلّ مؤمن ومؤمنة بعده.. وغير ذلك، فوردت فيها روايات متواترة بين الشيعة وأهل السنة، ودلالتها واضحة بيّنة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
راجع الغدير، إحقاق الحقّ وملحقاته، عبقات الأنوار.. وغيرها.
2. كما ورد في ذيل الآية الشريفة (وأنذر عشريتك الأقربين) (الشعراء (26): 214) ورواه غير واحد من أهل السنّة وحكموا بصحّتها، راجع الغدير: 2/278 ـ 284.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا جبرئيل! وما هذه الفتنة؟! " فقال: يا محمّد! إنّ الله يقرئك السلام، ويقول: إنّي ما أرسلت نبيّاً إلاّ أمرته عند انقضاء أجله أن يستخلف على أُمّته من بعده من يقوم مقامه، ويحيي لهم سنّته وأحكامه، وهو يأمرك أن تنصب لأُمّتك من بعدك علي بن أبي طالب (عليه السلام) وتَعْهَد إليه، فهو الخيلفة القائم برعيّتك وأُمّتك إن أطاعوا وإن عصوه.. وسيفعلون ذلك، وهي الفتنة التي تلوت الآي فيها، وإنّ الله عزّ وجلّ يأمرك أن تعلّمه جميع ما علّمك وتستحفظه جميع ما حفظك واستودعك، فإنّه الأمين المؤتمن، يا محمّد! إنّي اخترتك من عبادي نبياً واخترته لك وصيّاً ".
وكان من عزم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقيم عليّا (عليه السلام) وينصبه للناس بالمدينة، فنزل جبرئيل فقرأ عليه ( يأَيُّها الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّاسِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِيْنَ )(2).
فنزل بغدير خم وصلى بالناس وأمرهم أن يجتمعوا إليه، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ فأبلغ في الموعظة، ونعى إلى الأُمّة نفسه، وقال: " قد دُعيت ويوشك أن أُجيب وقد حان منّي خفوق من بين أظهركم، وإنّي مخلف فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا من بعدي ; كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنّهما
____________
1. العنكبوت (29) 1 ـ 4.
2. إرشاد القلوب: 328 ـ 331 ; عنه بحار الأنوار: 28/95 ـ 98. والآية في سورة المائدة (5): 67.
لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض "(1).
ودعا عليّاً (عليه السلام) ورفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يد علي اليسري بيده اليمنى ورفع صوته بالولاء لعليّ (عليه السلام) على الناس أجمعين، وفرض طاعته عليهم، وأمرهم أن لا يتخلّفوا عليه بعده، وخبّرهم أنّ ذلك عن أمر الله عزّ وجلّ(2).
ثمّ نادى بأعلى صوته: " ألستُ أولى بكم منكم بأنفسكم..؟ قالوا: اللّهمّ بلى، فقال لهم ـ على النسق من غير فصل وقد أخذ بضبعي أمير المؤمنين (عليه السلام)فرفعهما حتّى بان بياض إبطيهما ـ: " فمن كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه، اللّهمَّ وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله "، ثمّ نزل (صلى الله عليه وآله وسلم)وكان وقت الظهيرة فصلّى ركعتين، ثمّ زالت الشمس فأذّن مؤُذِّنه لصلاة الظهر فصلّى بهم الظهر وجلس (عليه السلام) في خيمته وأمر عليّاً (عليه السلام) أن يجلس في خيمة له بإزائه، ثمّ أمر المسلمين أن يدخلوا عليه فوجاً فوجاً.. فيهنّئوه بالمقام ويسلّموا عليه بإمرة المؤمنين، ففعل الناس ذلك كلّهم، ثمّ أمر أزواجه وسائر نساء المؤمنين معه أن يدخلن عليه ويسلّمن عليه بإمرة المؤمنين، ففعلن، وكان فيمن أطنب في تهنيته بالمقام عمر بن الخطاب وأظهر له من المسرّة به: وقال فيما قال: بخ بخ لك يا علي! أصبحت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة(3)!.
الصحيفة الملعونة
واجتمع قوم من المنافقين وتحالفوا وتعاقدوا على أن لا يطيعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما عرض عليهم من ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعده، فلمّا
____________
1. اتفق الفريقان على نقل حديث الثقلين، راجع عبقات الأنوار، وخلاصة العبقات ج 1 و 2.
2. إرشاد القلوب: 331 ; عنه بحار الأنوار: 28/98.
3. الإرشاد: 1/175 ـ 177 ; عنه بحار الأنوار: 21/386 ـ 388.
رجعوا من الحجّ ودخلوا المدينة كتبوا صحيفة بينهم، وكان أوّل ما في الصحيفة النكث لولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) وأنّ الأمر إلى أبي بكر وعمر وأبي عبيدة وسالم معهم ليس بخارج منهم(1)، وشهد بذلك أربعة وثلاثون رجلاً أصحاب العقبة وعشرون رجلاً آخر، واستودعوا الصحيفة أبا عبيدة ابن الجرّاح وجعلوه أمينهم عليها.
قال حذيفة: حدّثتني أسماء بنت عميس الخثعيمة امرأة أبي بكر: إنّ القوم اجتمعوا في منزل أبي بكر فتآمروا في ذلك، وأسماء تسمعهم وتسمع جميع ما يدبّرونه في ذلك حتّى اجتمع رأيهم على ذلك، فأمروا سعيد بن العاص الأموي فكتب هو الصحيفة باتفاق منهم.
وأهمّ ما فيها: هذا ما اتّفق عليه الملأ من أصحاب محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) من المهاجرين والأنصار بعد أن أجهدوا في رأيهم، وتشاوروا في أمرهم نظراً منهم إلى الإسلام وأهله، ليقتدي بهم من يأتي بعدهم.
إنّ الله لمّا أكمل دينه قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إليه من غير أن يستخلف أحداً وجعل الاختيار إلى المسلمين يختارون لأنفسهم من وثقوا برأيه ونصحه لهم، والذي يجب على المسلمين عند مضيّ خليفة من الخلفاء أن يجتمع ذوو الرأي والصلاح فيتشاوروا في أُمورهم، فمن رأوه مستحقّاً للخلافة ولّوه أُمورهم.
فإن ادّعى مدّع أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استخلف رجلاً بعينه نصبه للناس ونصّ
____________
1. أقول: وهذا هو السرّ فيما قاله عمر قبل وفاته: لو كان أبو عبيدة حيّاً استخلفته... لو كان سالم حيّاً استخلفته. وفي بعض المصادر ذكر معاذ بن جبل أيضاً، راجع مسند أحمد: 1/18 ; الإمامة والسياسة: 1/28 ; الطبري: 4/277 ; الكامل لابن الاثير: 3/65 ; المستدرك للحاكم: 3/268 ; تاريخ الإسلام للذهبي: 3/56 و 172 ; شرح نهج البلاغة: 1/190 و 16/265 ; كنز العمّال: 5/738 و 12/675 و 13/215 ـ 216 ; العقد الفريد: 4/274 ; جامع الأحاديث: 13/369، 373، 379، 382، 399.
ولا يكون قربى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبب استحقاق الخلافة والإمامة لأنّ الله يقول: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ )(1).
فمن كره ما ذُكر وفارق جماعة المسلمين فاقتلوه كائناً من كان!!..
ثمّ دُفعت الصحيفة إلى أبي عبيدة بن الجراح ليوجّه بها إلى مكّة(2).
ثمّ انصرفوا.. وصلّى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس صلاة الفجر، ثمّ جلس في مجلسه يذكر الله تعالى حتىّ طلعت الشمس، فالتفت إلى أبي عبيدة بن الجرّاح فقال له: " بخ بخ من مثلك وقد أصبحت أمين هذه الأُمّة! " ثمّ تلا: ( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ )(3) " لقد أشبه هؤلاء رجال في هذه الأُمة ( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ) "(4).
ثمّ قال: " لقد أصبح في هذه الأُمّة في يومي هذا قوم ضاهوهم في صحيفتهم التي كتبوها علينا في الجاهلية وعلّقوها في الكعبة، وإنّ الله تعالى يمتّعهم ليبتليهم ويبتلي من يأتي بعدهم تفرقة بين الخبيث والطيّب، ولو لا أنّه سبحانه أمرني بالإعراض عنهم للأمر الذي هو بالغه لقدّمتهم فضربت أعناقهم.
قال حذيفة: فوالله لقد رأينا هؤلاء النفر ـ عند قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه المقالة ـ وقد أخذتهم الرعدة فما يملك أحد منهم نفسه شيئاً، ولم يخفَ على أحد
____________
1. الحجرات (49): 13.
2. فلم تزل الصحيفة في الكعبة مدفونة إلى أوان عمر بن الخطاب فاستخرجها من موضعها وهي الصحيفة التي أشار إليها أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا توفي عمر، فوقف به وهو مسجّى بثوبه، فقال: " ما أحبّ إليّ أن ألقى الله بصحيفة هذا المسجّى ".
3. البقرة (2): 79.
4. النساء (4): 108.
أقول: وإلى هذا أشار أُبي بن كعب في كلمته المشهورة: ألا هلك أهل العقدة والله ما آسي عليهم إنّما آسي على من يضلّون(2).
____________
1. إرشاد القلوب: 333 ـ 336 عنه بحار الأنوار: 28/101 ـ 106.
2. سنن النسائي: 2/88 ; مسند أحمد: 5/140 ; المستدرك للحاكم: 2/226 (وأشار إليها في 3/305) ; الطبقات لابن سعد: 3/ ق 2/61 ; حلية الأولياء: 1/252 ; شرح نهج البلاغة: 20/24 ; النهاية لابن الاثير: 3/270.
ورواها من الإمامية: الإيضاح ص 378 ; المسترشد: 28 ـ 29 ; الفصول المختارة: 90 عنه بحار الأنوار: 10/296 ; الصراط المستقيم: 3/154 و 257 عنه بحار الأنوار: 28/122.
ثم أنك تجد في غير واحد من المصادر التصريح أو الإشارة إلى تعاهد القوم على صرف الأمر من بني هاشم إلى أنفسهم، وفي كثير منها أُشير إلى الصحيفة، راجع كتاب سليم: 86 ـ 87، 92، 118 ـ 119، 164 ـ 165، 168، 222 ـ 226 ; تفسير العياشي: 1/274 ـ 275 و 2/200 ; المسترشد: 413 ; الكافي: 1/391، 420 ـ 421 و 4/545 و 8/179 ـ 180، 334، 379 ; تفسير القمي: 1/142، 173، 175، 301 و 2/289، 308، 356، 358 ; الاستغاثة: 171 ـ 172 ; الخصال: 171 ; معاني الاخبار: 412 ; أمالي المفيد: 112 ـ 113 ; المسائل العكبرية: 77 ـ 78 ; الفصول المختارة: 90 ; تقريب المعارف: 227، 367 (تبريزيان) ; المناقب: 3/212 ـ 213 ; بشارة المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم): 197 ; الاحتجاج: 62 (في ضمن خطبة الغدير) 84 ـ 86، 150 ـ 151 ; شرح نهج البلاغة: 2/37، 60 (عن الشيعة) و 20/298 ; الاقبال: 445، 458 ; اليقين: 355 ; إرشاد القلوب: 332، 336، 341، 391 ـ 392 ; الصراط المستقيم: 1/290 و 2/94 ـ 95، 300، 3/118، 150، 153 ـ 154 ; مختصر البصائر: 30 ; المقنع للسد آبادي: 58، 115 ; التحصين: 537 ـ 538 ; مثالب النواصب: 92 ـ 96 ; تأويل الآيات: 139، 214، 532، 539، 554، 646، وراجع بحار الأنوار: 22/546 و 28/85، الباب الثالث، 280 و 30/12، 122، 125، 127 ـ 133، 162، 194، 216، 264 ـ 265، 271، 405 و31/416 ـ 417، 419 و 53/75.
أقول: ويدلّك على تعاقد القوم وتدبيرهم في أمر الخلافة من قبل أُمور:
الأوّل: إحالة كل واحد من أبي بكر وعمر وأبي عبيدة أمر الخلافة إلى الآخر وعرض البيعة عليه، من دون مشاورة سائر الناس، فهل يكون اتّفاق هؤلاء الثلاثة وبعض من عاونهم إجماع المسلمين؟!
وهل كانوا وكلاء المسلمين في انتخاب الخليفة؟! هل يكون اعتبار الشورى مختصاً بتشاور هؤلاء؟!
الثاني: إنكار عمر وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل مجيء أبي بكر لإغفال الناس عن أمر الخلافة، فما زال يتكلّم ويتوعّد المنافقين ـ بزعمه ـ، حتّى ازبدّ شدقاه(2)!!.. وسكوته بعد مجيء أبي بكر.
وفي رواية: وجلس عمر حين رأى أبا بكر مقبلاً إليه(3)، بل في غير واحد من المصادر أنه دعا إلى بيعة أبي بكر عقيب ذلك من دون فصل(4).
الثالث: مسارعة أبي بكر إلى الكلام عقيب ذكر وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وترشيحه نفسه لأمر الخلافة، وفي رواية إنّه قال: ألا وإنّ محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) قد مضى لسبيله، ولابدّ لهذا الأمر من قائم يقوم به، فدبّروا وانظروا وهاتوا ما عندكم رحمكم
____________
1. راجع الكافي: 8/179 ـ 180، 334 ; الصراط المستقيم: 3/153.
2. تاريخ الخميس: 2/167 ; جامع الاحاديث الكبير: 13/260.
3. كنز العمال: 7/245.
4. الطبقات لابن سعد: 2/ ق 2/54 ; مسند أحمد: 6/220 ; أنساب الأشراف: 2/238 ; السيرة، لابن كثير: 4/480 ; تاريخ الإسلام، للذهبي: 1/564 ; نهاية الارب: 18/387 ; مجمع الزوائد: 9/32 ; كنز العمال: 7/232 ; جامع الأحاديث: 13/16.
الرابع: مواضع من كلام عمر حين حكاية قضايا السقيفة، مثل قوله: هيأت كلاماً(2).. أو: وكنت قد زوّرت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها..
وفي بعض الروايات: أُريد أن أُقدمها بين يدي أبي بكر(3).. فإنّها تدلّ على توطئتهم مسبقاً في أمر الخلافة، وتدبيرهم لها، نعم لتلبيس الأمر على الناس يقول عمر: والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلاّ قالها في بديهته.
أو قولته المشهورة: كانت بيعة أبي بكر فلتة.
وقد صرّح عثمان ـ في أوّل مرّة صعد المنبر ـ، بأنّ أبا بكر وعمر كانا يهيّئان أنفسهما للخلافة ; قال الجاحظ وغيره: إنّ عثمان صعد المنبر فارتجّ عليه.. فقال: إنّ أبا بكر وعمر كانا يعدّان لهذا المقام مقالاً.. سآتيكم الخطبة على وجهها!!(4).
الخامس: إنّ عمر هو الذي كان يحثّ أبا بكر أن يصعد المنبر، فلم يزل به حتّى صعد المنبر(5)، وفي رواية أنس: لقد رأيت عمر يزعج أبا بكر إلى المنبر إزعاجاً(6).. ثمّ تراه يصعد المنبر ويتكلّم قبل أبي بكر ويدعو الناس إلى
____________
1. كتاب الردّة، للواقدي: 31 ; الفتوح، لأحمد بن أعثم: 1/4 ; المواقف للإيجي، مع شرح الجرجاني: 3/575.
2. البخاري: 4/194 ; الطبقات: 2/ ق 2/55.
3. مسند أحمد: 1/56 ; البخاري: 8/27 ; السنن الكبرى، للبيهقي: 8/142 ; العقد الفريد: 4/258 (ط مصر) ; البداية والنهاية: 5/266 ; كنز العمال: 5/645.
4. أنساب الأشراف: 6/131 (ط دار الفكر) ; البيان والتبين للجاحظ: 1/345 (ط دار الكفر) ; شرح نهج البلاغة: 13/13 ; بحار الأنوار: 31/245.
5. البخاري: 8/126 ; سيرة ابن كثير: 4/492 ; البداية و النهاية: 5/268.
6. المغازي، للواقدي: 135 ; الآحاد والمثاني: 1/77 ; المصنف لعبد الرزّاق: 5/438.
السادس: تولّى عمر جميع الأُمور زمن خلافة أبي بكر، قال ابن عبد ربّه: وكان على أمره كلّه وعلى القضاء عمر بن الخطّاب(3).
بل خالفه في غير واحد من القضايا، فلم يجترئ أبو بكر أن يدافع عن نفسه ويردّ حكم عمر، فلمّا قيل له: أنت الخليفة أم عمر؟!
أجاب: بل عمر.. ولكنّه أبى!!
وفي رواية: بل هو إن شاء.
وفي اُخرى: بل هو ولو شاء كان.
وفي غيرها: الأمير عمر غير أنّ الطاعة لي!!
أو: إنّا لانجيز إلاّ ما أجازه عمر(4).
السابع: ولعلّه أهمّها ما قاله عمر قبل وفاته: لو كان أبو عبيدة حيّاً استخلفته..! لو كان سالم حيّاً استخلفته..! وفي بعض المصادر ذكر معاذ بن جبل(5)!
____________
1. البداية والنهاية: 5/268 ; كنز العمال: 5/600 ـ 601.
2. جامع الأحاديث: 13/100.
3. العقد الفريد: 4/255.
4. راجع كنز العمال: 1/315 و 3/914 و 12/546، 582 ـ 583 ; جامع الأحاديث: 13/60، 153، وقريب منه في: 13/175، 273.
5. تقدّمت مصادره قريباً.
التخلف عن بيعة أبي بكر والإنكار عليه
لقد حاول جمع كثير من العامة كتمان تخلّف من تخلّف عن بيعة أبي بكر وإثبات إجماع المسلمين عليها ورضاهم بها، إذ تبتني مشروعية خلافته بهذا الإجماع عندهم، لادّعائهم أنّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا تجتمع أُمّتي على الضلال. ولذلك اضطروا إلى القول بأنّه: ما خالف على أبي بكر أحد إلاّ مرتدّ أو من كان قد ارتدّ!!(5).
____________
1. شرح نهج البلاغة: 6/40.
2. تثيبت الإمامة: 13 (ط بيروت).
3. مثالب النواصب: 130.
4. البخاري: 4/193 ـ 195.
5. الطبري: 3/207 ; بل هذا هو السرّ في نسبة الارتداد إلى مالك بن نويرة، والمقام لا يسع التفصيل، راجع بحار الأنوار: 30/471 ـ 495.
يتبع
تعليق