بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
صورة الإمام السجّاد(ع)
وهكذا رأيناه يخطّط لثقافة الدعاء، ليجعل الدعاء منهج فكر وحركة جهاد ومصدر معرفة لله وللرسول ولكل الخطوط الإسلاميّة، وهكذا أيضاً، نمتد في حياته وهو يلتفت إلى الإنسان في كل عناوينه، في علاقته بربه وبنفسه وبالإنسان الآخر، ليخطط له حقوقه وواجباته، كما عاش العبادة كأصفى وأعظم ما تكون العبادة.
لذلك، عندما ندرس الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في كل جوانب حياته، فإننا نرى أنه كان إمام المرحلة بكل حركية المرحلة في حاجاتها العملية والروحية والحركية، بحيث يشعر الإنسان عندما يدخل إلى حياته، بأنه يلتقي بالغنى، كلّ الغنى العلمي والروحي والأخلاقي، وفي مختلف جوانب حركة الإنسان في الحياة.
هذه هي الصورة الإجمالية التي يمكن لنا أن نطلّ بها على حياة الإمام السجاد(ع) أو شخصيته.
تمثّل الصورة الحقيقية
ونحن هنا بحاجة إلى أن نتمثّل الصورة الحقيقية، فكيف نتمثّلها؟
عندما ندرس تراث الإمام زين العابدين(ع) العلمي، وندرس الأسماء التي أخذت عنه، والتي استفادت من علومه، نرى فيما يعدّده المؤرخون من هذه الأسماء، أنها الأسماء البارزة في ثقافة تلك المرحلة، والتي لا زلنا نعيش على مائدتها.
فلقد ذكر المؤرخون أن (الطبري) ـ صاحب التاريخ والتفسير ـ روى عنه، وكذا (ابن البيّع)، و(أحمد)، و(ابن حنبل)، و(ابن بطة)، و(أبو داود) صاحب السنن، و(أبو الفرج) صاحب الحلية والأغاني، وأصحاب (قوت القلوب) و(شرف المصطفى) و(أسباب نزول القرآن) و(الفائق) و(الترغيب والترهيب) و(الزهري) وهو من الشخصيات المعروفة في ذلك العصر و(سفيان بن عيينة) و(نافع) و(الأوزاعي) و(مقاتل) و(الواقدي) و(محمد بن إسحاق) المؤرخ المعروف.
ويقول الشيخ المفيد (رحمه الله)، إنه روى عنه الفقهاء ما لا يحصى كثرةً، فهذه الأسماء مقارنة بالتراث الكبير الموجود في كتب التاريخ والتفسير وكتب الفقه والموعظة، تدلنا على أنّ الإمام كان يغذّي الحركة العلمية في وقته في مختلف نواحي الثقافة في ذلك العصر، وقد ذكر المؤرخون أنه ما من كتابٍ أُلّف في الموعظة إلا وفيه حديث لعلي بن الحسين(ع)، لأنه كان يتحدّث في هذا الجانب من الثقافة الإسلامية بشكل كبير وواسع، ومن هنا، فإننا نتمثّل فيه شخصية الإنسان الإمام الذي كان العلمُ يشغله، وكانت الثقافة الإسلامية بكل تنوعاتها تمثّل خط النشاط والتعليم والتوجيه والتركيز فيما ينطلق به.
ولذلك، وإزاء هذه الحقائق، ندعو إلى قراءة الإمام علي بن الحسين في تراثه الفقهي والتفسيري والوعظي والتاريخي، لأن ذلك يمكن أن يمثل لنا حجم الحركة الثقافية التي تحرك بها الإمام آنذاك.
كنـز الصحيفة السجادية
وعندما نقرأ الجانب الثاني من تراثه، وهو الجانب الدعائي، فإننا نجد أن الصحيفة السجّادية الكاملة بلغت من الوثاقة والشهرة المستوى الذي لا يحتاج الإنسان أن يبحث في سندها، وإن دراستنا لهذه الصحيفة ستكشف لنا أنها تتحرك في دعاء، إذا قرأه الإنسان يتعرّف من خلاله إلى صفات الله تعالى، بحيث يشعر وهو يدعو ربه أنه يتحرك في خط المعرفة لله، من خلال المفردات الموجودة في الدعاء، تماماً كما يتحرك مع الله من خلال الروحانية التي ترتفع به إلى الله في حالة الدعاء.
فإذا انتقلنا من ذلك وقرأنا دعاءه الذي يتحدث به عن الملائكة؛ هذه المخلوقات الغيبية الخفية التي لا نعرف عنها شيئاً، نرى أن هذا الدعاء يدخل بنا في مجتمع الملائكة، لنتصوّرهم في أشكالهم وفي وظائفهم وفي مهمّاتهم وفي عبادتهم، حتى لتشعر من خلال كل هذه الكلمات كأنك تعيش معهم، وقل الشيء نفسه عندما يتحدث عن رسول الله(ص)، فإن حديثه عنه في دعائه يختصر كل حركة رسول الله في الدعوة، وكل جهاده وكل نشاطه وانفتاحه، وكل آلامه، في دعاء من أقصر أدعية الصحيفة السجادية.
ويتحدّث بعد ذلك عن أهل بيته وعن صحابته، ثم ينفذ إلى الزمن لينطلق بالإنسان إلى الدعاء في الصباح وفي المساء، ليعرّف الإنسان كيف يبدأ صباحه ليكون صباحاً إسلامياً منفتحاً على كلّ قيم الإسلام التي لا بد من أن يملأ بها يومه، وأن يكون مساؤه مساءً إسلامياً ينفتح على كلّ ما يريد الله للإنسان أن يتحرك به في علاقته بالزمن وبحركة الواقع المستقيم والمنحرف وفي حركته مع الإنسان الآخر.
مكارم الأخلاق
وهكذا ينطلق الداعي مع الله سبحانه وتعالى عندما ينـزل به كرب وتعرض له محنة، ويتحرّك مع الله عندما يتذكر محاسن الأخلاق ومساوئها، ثم ينفتح في هذا البرنامج الأخلاقي الذي يمثل كل الخطّ الأخلاقي الإسلامي في مفرداته ودعائه في (مكارم الأخلاق) الذي يجلس فيه بين يدي الله ليستعرض كل الخطوط الأخلاقية في الإسلام من خلال عناوينه البارزة فيقول: "اللهم وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانتهِ بنيّتي إلى أحسن النيّات، وبعملي إلى أحسن الأعمال".
ثم يبدأ بعد هذه العناوين في مفردات الأخلاق، بحيث إذا خرج الإنسان من هذا الدعاء متأمّلاً متدبراً واعياً منفتحاً على الله، فإنه يحصل على ثقافة أخلاقية تختصر له أخلاقه في نفسه ومع ربّه ومع الناس، بل ومع الحياة كلّها.
ثم ينطلق إلى الناس ليدعو لأوليائه وجيرانه وعائلته وأهل الثغور، فتشعر بأن هذا الإمام العظيم يعطينا الخط الذي يعيش فيه الإنسان مسؤوليته بين يدي ربه، وكيف يفكّر بالناس، وكيف يفكّر بأولئك الذين يقفون على ثغور (حدود) البلاد الإسلامية، وهم يعيشون رباطهم وجهادهم، ويفكّر بجيرانه ويخطط لك كل حقوق الجيران، حتى لكأنك لا تحتاج إلى كتاب يشرح لك تلك الحقوق.
وقل الشيء نفسه عن علاقة الإنسان بعائلته وبأولاده وبأبويه، لتستشعر بأنك عندما تجلس بين يدي الله داعياً، فإن عليك ألا تفكّر بنفسك، بل أن تفكّر بكل الناس الذين ترتبط بهم برباط النسب، لتعرف حقّك عليهم وحقّهم عليك، ولتعرف كيف تدعو لهم، وكيف تريد أن يدعو لك، وبالتالي تعرف كيف تدعو لكلّ الناس الذين يتحرّكون في حياتك وفي حياة الأمة كلها.
وتتنوّع مفردات الدعاء، فهناك دعاء للتوبة تعرف به شروط التوبة وروحيتها وحركيتها والعودة إليها، حتى تشعر وأنت تقرأه بأنك تقرأ كل البرنامج الإسلامي للتوبة، في كل نقاط الضعف والقوة التي يعيشها الإنسان التائب.
ثم ينطلق بنا في أغراض متنوّعة، فيعلّمنا ماذا نقول إذا نظرنا إلى أصحاب الدنيا، وكيف نواجه الآلام إذا عشناها، ثم يدخل بعد ذلك في الزمن، فليوم الجمعة دعاء، وليوم السبت دعاء، ولكلّ أيام الأسبوع أدعية، وليوم العيد دعاء نستوحي منه كيف يكون العيد عيداً ينفتح فيه الإنسان على الله، لينفتح بالتالي على الناس من خلال انفتاحه على الله ليعيش أجواء عيد الفطر ويوم عرفة ويوم الأضحى، فتشعر بأنّ الصحيفة السجادية تدخلك إلى الزمن كلّه لتحدد مسؤوليتك أمام الزمن، ولتستوحي عناوينه، ولتدخل إلى الناس كلهم لتحدد علاقتك بهم وعلاقتهم بك، ولتعيش مع الله كمذنب يسعى إلى التوبة، ومكروبٍ يتضرع إلى الله في كشف كربه، ومتألمٍ يريد الله أن يخفف عنه ألمه، وصاحب حاجة يطلب من الله قضاء حاجته.
ثقافة حياتية
وعلى كلّ ما تقدّم، فإن أدعية الصحيفة السجادية تمثل الثقافة الاجتماعية والأخلاقية والروحية والحياتية، وذلك من خلال انفتاحك بها على الله، فلا يعزلك الدعاء عن الحياة، ولا يبعدك عن الناس ولا عن التفكير بنقاط ضعفك من أجل أن تحوّلها إلى نقاط قوة.
وإذا ما انطلقنا في (دعاء أبي حمزة الثمالي)، والأدعية الأخرى التي جُمعت في أكثر من كتاب، فإننا نجد أن الإمام استطاع بأدعيته أن يُغني الثقافة الإسلامية الروحية، بأن حشد في داخلها كل الحياة التي يتمثّلها الإنسان بين يدي الله، لتكون كل حياته في نفسه وفي مجتمعه مفتوحة على الله سبحانه وتعالى.
ولذلك، فإنني أدعو الشباب إلى قراءة أدعية الإمام زين العابدين(ع) في كل مناسباتها وأجوائها، فإذا تألمتَ وضاقت بك الحياة، فاجلسْ مع الله لتطلب منه أن يخفّف ألمك وأن يوسّع لك مجال الحياة، وإذا طافت بك أفكار الشيطان لتطبق عليك، اجلس واقرأ دعاء الإمام(ع) عندما يذكر الشيطان، وانظر كيف يعرّفك حبائله وخدعه وأمانيه، وكيف يساعدك على أن تكتشف ذلك لتعرف كيف تتخلّص منه.
وإذا قرأتم هذه الأدعية، فاقرأوها قراءة ثقافة لا قراءة تقليد واستظهار، كما أطلب من كل الجامعات وأصحاب الفكر الذين يكتبون أو يدرسون المنهج الإسلامي الروحي وعلاقته بالحياة، أن يدرسوا أدعية الإمام زين العابدين(ع)، ليكتشفوا أن العبادة والدعاء في الإسلام، ليسا شيئاً يُبعد الإنسان عن الحياة، بل يدخله إلى الحياة ليعيش الحياة بكل قوة وهو ضارعٌ بين يدي الله تعالى.
رسالة الحقوق
ولننطلق، بعد الدعاء، إلى جانب آخر، لنجد أن الإمام(ع) كتب رسالة الحقوق التي تعدّ من أعظم الرسائل التي تتحدث عن الإنسان في حقوقه وواجباته، وعن علاقته بربه وعلاقته بنفسه وبكل جسده، وبأبيه وأمه ومن يعلّمه وبالحاكم، بحيث تمتد العلاقات في الرسالة لتشمل كل علاقات الإنسان بعناوينها المتشعّبة.
ولعلنا لا نجد في التراث الإسلامي رسالة بهذه الدقة وهذه المتابعة لكل حالات الإنسان وقضاياه ووظائفه، وكل علاقاته وأوضاعه، كرسالة الحقوق.
تحريك القيم في الواقع
أما إذا انطلقنا إلى القيم التي كان يحرّكها الإمام زين العابدين في الواقع، والتي كان يواجه فيها حتى أصحاب القوة في زمانه، نجد من بين تلك المفردات ما يرويه الإمام جعفر الصادق(ع): "إن علي بن الحسين(ع) تزوّج سريّة (أمة) كانت للحسن بن علي، فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فكتب إليه في ذلك كتاباً إنك صرت بعل الإماء، فكتب علي بن الحسين: (إن الله رفع بالإسلام الخسيسة، وأتمّ به الناقصة، وأكرم به من اللؤم، فلا لؤم على مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية، وإن رسول الله(ص) أنكح عبده ونكح أمته، حيث زوّج زينب بن جحش وهي ابنة عمته من عبده زيد، وتزوجها بعد ذلك)، فلما انتهى الكتاب إلى عبد الملك قال لمن عنده: أخبروني عن رجل إذا أتى ما يصنع الناس لم يزده إلا شرفاً، قالوا: ذاك أمير المؤمنين، قال: لا والله، ما هو ذاك، قالوا: ما نعرف إلا أمير المؤمنين، قال: فلا والله ما هو بأمير المؤمنين، ولكنه علي بن الحسين".
فلقد هزّت هذه الكلمات عمق (عبد الملك بن مروان) وكلّ وجدانه، وشعر بأن الإمام ارتفع من حيث تصوّر أنه اتضع، وتلك هي قيمة الإنسان الذي يعيش القيمة الإسلامية في حياته، ليؤكّدها ويجسّدها، وليجعل من نفسه قدوة للناس في ذلك، حتى لو كان العرف الاجتماعي على خلافه، لأن قضية الإمام والمصلح والداعية ليست في أن يعيش مع قيم الناس إذا كانت منحرفة، ولكن مسؤوليته أن يرتفع عن القيم المنحرفة ليعطي الناس النموذج الأمثل للقيمة الإسلامية الرائعة.
كما يعطينا ذلك درساً في أن نخرج من كل هذه التقاليد والعادات التي تجعل الزواج مسألة خاضعة للطبقية الاجتماعية نسباً ومالاً وما إلى ذلك، لنعرف الخطّ الإسلامي: "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير"، هكذا قال رسول الله(ص) منطلقاً من قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[1]، فليس هناك شعب أكرم من شعب، ولا قبيلة أكرم من قبيلة، بل الأكرم هو الأقرب إلى الله تعالى في فكره وروحه وحياته.
عزّة الموقف وصلابته
وفي قصة أخرى، تبدو قوة الموقف وصلابته واضحة أمام عبد الملك بن مروان، فلقد بلغ عبد الملك أن سيف رسول الله عند الإمام السجاد(ع)، فبعث يستوهبه منه ويسأله الحاجة فأبى عليه، فكتب عبد الملك يهدّده بأنه سيقطع رزقه من بيت المال فأجابه(ع): "أما بعد، فإن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلّ ذكره {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}[2]، فانظر أيّنا أولى بهذه الآية؟!". ومن الطبيعي أنه أراد أن يقول له إنك الأولى بهذه الآية، لأنك عشت الكثير من الخيانة في حياتك، حيث تهدّد الناس بقطع أرزاقهم إذا لم يستجيبوا لك، فأي خليفة هو هذا الذي يستغل مركزه في تهديد الناس بقطع أرزاقهم إذا حَجَبوا عنه أي شيء شخصي يريده!
هاتان القضيتان تبيّنان لنا كيف ينطلق الإمام(ع) من خلال العزة الإسلامية، بحيث لا يسقط فيها أمام تهديد الخليفة مهما كان موقعه، وهو القائل في الدعاء: "واعصمني من أن أظنّ بذي عدمٍ خساسة، أو أظنّ بصاحب ثروةٍ فضلاً، فإن الشريف من شرّفته طاعتك، والعزيز من أعزّته عبادتك".
لا شرف أعلى من الإسلام
ثم لننطلق ونرى كيف يواجه(ع) الناس الذين يريدونه أن يلجأ إلى نسبه، ويعتقدون أنّ هذا النسب قد ينجيه، أو يلجأ إلى الشفاعة، بل وحتى إلى رحمة الله ليتحرك في حياته من دون هذا الإلحاح في العبادة، فاستمعوا إليه كيف كان ردّه:
(قال طاووس رأيت رجلاً يصلي في المسجد الحرام تحت الميزاب، يدعو ويبكي في دعائه، فجئته على حين فرغ من الصلاة، فإذا هو علي بن الحسين، فقلت له: يا بن رسول الله، رأيتك على حالة كذا ولك ثلاثة، أرجو أن تؤمنك من الخوف: أحدها أنك ابن رسول الله، والثاني شفاعة جدّك، والثالث رحمة الله. فقال(ع): "يا طاووس، أما أنّي ابن رسول الله، فلا يؤمنني وقد سمعتُ الله تعالى يقول: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[3]، وأما شفاعة جدي فلا تؤمنني، لأن الله تعالى يقول: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}[4]، وأما رحمة الله فإن الله تعالى يقول: إنها {قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}[5]، ولا أعلم أني محسن"، يقول هذا وهو المعصوم!
وبهذا يعطينا الإمام(ع) درساً بأن على الإنسان أن يبقى مع الله في موقف الخائف الراجي، ففي الحديث: "ما من مؤمن إلا وفي قلبه نور خيفة ونور رجاء"، وفي حديث آخر: "خف الله خوفاً لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك وارجُ الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك"، فالمطلوب هو أن تعيش هذا التوازن لتتحرك في خط المسؤولية لله دائماً وأنت ترجو ثوابه وتخاف عقابه.
قيمة كظم الغيظ
ويقول مؤكداً قيمة كظم الغيظ، ليعلمنا ونحن أناس نعيش تفجير الغيظ كقيمة، أو لسنا نلوم بعضنا بعضاً عندما يُساء إلينا، لماذا لا نفجّر غيظنا؟ فانظروا ماذا يقول الإمام(ع): "ما أحبُّ أنّ لي بذل نفسي حمر النعم ـ وهي من الثروات المهمة ـ وما تجرّعت من جرعةٍ أحبّ إليّ من جرعة غيظ أعقبها صبر". فهو لا يتحرك بردّ الفعل تجاه صاحب الإساءة، وهذا ليس ذلاً، فالإنسان الذي يكظم غيظه ولا يقابل المسيء في إساءته، لا يكون في موقف الذل، بل في موقف العزّ، لأنه استطاع أن يحبس غيظه في حين أنه قادر على أن يفجره، بل الذليل هو الذي لا يفجّر غيظه استكانة وذلاً، أما الذي لا يفجّر غيظه خُلُقاً، وقربةً إلى الله، ودرساً للإنسان المسيء ليتراجع عن خطأه، فهو العزيز.
أُنس المؤمن بالقرآن
ثم يتحدث في لقطة أخرى عن أنس المؤمن بالقرآن فكراً وروحاً ومنهجاً وحركةً وانفتاحاً على الله وعلى الناس "لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي"، لأنه عندما يقرأ القرآن يعيش مع الله ومع الحقيقة ومع الإسلام ومع كل القيم التي ترتفع بها إنسانية الإنسان بما يتقرب به إلى الله، فأي أُنسٍ أعظم من هذا الأنس، وربما استوحى هذا من وصية علي(ع) : "لا يؤنسنّك إلا الحق ولا يوحشنّك إلا الباطل"، فليكن الحق أنيسك، بحيث لو لم يكن معك أحد وكان الحقّ معك، فأنت في أُنس عقلي وروحي وحياتي، ولو كنت مع الباطل وكان معك كل الناس لما كان معك أحد.
وكان(ع) يقرأ القرآن بطريقة تختلف عما يقرأه الناس، فكان إذا قرأ الفاتحة ووصل إلى قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[6]، كان يكرّرها ويبكي، حتى ليكاد أن يموت، كما في الرواية.
لأنه عندما يقرأ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، يستحضر عظمة الله سبحانه في ملكه لكل الجزاء ثواباً وعقاباً، ويتذكر يوم الدين، والوقوف بين يد الله وأعماله وما يواجهه عندما يقوم الناس لرب العالمين.
وفي هذا درس لنا، أننا إذا قرأنا القرآن أن لا نستعجل القراءة، بل أن نقف مع كل آية لتدخل عقلنا وقلبنا وإحساسنا وشعورنا، ولتتحرك في حياتنا لتأمرنا في خط الأمر، ولتنهانا في خطّ النهي.
وينقل أن (الزهري) وهو الفقيه المعروف، قتل شخصاً خطأ، فاستعظم ذلك حتى أنه ترك الطعام والشراب واعتزل عن الدنيا، فجاؤوا به إلى الإمام فدخل عليه فقال له: "إني أخاف عليك من قنوطك ما أخاف عليك من ذنبك، فابعث بدّية مسلّمة إلى أهله، واخرج إلى أهلك ومعالم دينك"، قال: "فرّجت عني يا سيدي، والله أعلم حيث يجعل رسالته".
منـزلة السجاد(ع)
وفي نهاية المطاف، نقرأ كيف كانت منـزلة الإمام لدى الناس، فعن سفيان بن عيينة قال: قلت للزهري لقيت علي بن الحسين، قال: نعم لقيته، وما لقيت أحداً أفضل منه، والله ما علمت له صديقاً في السرّ ولا عدواً في العلانية، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأني لم أرَ أحداً وإن كان يحبّه إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه". لقد كانت أخلاقه بالدرجة العليا من الأخلاق، وليس ثمة متسع للحديث عن مفرداتها، ولكننا عندما ندرسها نعرف كيف أن الإمام كان يريد أن يركّز على أخلاق القيمة لا أخلاق المنفعة كما في دعائه: "وسدّدني لأن أعارض من غشّني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبرّ، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافي من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة، وأغضي عن السيئة".
ذلك هو علي بن الحسين(ع)؛ الإنسان الذي عاش حياته كلها لله ومن خلاله للإنسان وللرساله، وكان يعمل على أن يحرّر الإنسان من شيطانه، والعبيد من رقّهم، فهو إمام الإسلام وإنسان الله، الذي كان يناجي ربه بدعائه "الحمد لله الذي أرجوه ولا أرجو غيره، ولو رجوتُ غيره لأخلف رجائي، والحمد لله الذي أدعوه ولا أدعو غيره ولو دعوت غيره لم يستجب لي دعائي، والحمد لله الذي وكلني إليه فأكرمني ولم يكلني إلى الناس فيهينوني، والحمد لله الذي تحبّب إليّ وهو غنيٌ عني، فربّي أحمدُ شيء عندي وأحقّ بحمدي".
أيها الأحبّة، علينا أن نعيش مع علي بن الحسين(ع) دائماً في علمه وفي خلقه وفي عبادته وفي دعائه وابتهالاته وإخلاصه لرسالته، وفي حركة المسؤولية في حياته أمام الله وأمام الناس.
------------------------------
[1] [الحجرات: 13]
[2] [الحج: 38]
[3] [المؤمنون:101]
[4] [الأنبياء:28]
[5] [الأعراف: 56]
[6] [الفاتحة: 3]
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
صورة الإمام السجّاد(ع)
وهكذا رأيناه يخطّط لثقافة الدعاء، ليجعل الدعاء منهج فكر وحركة جهاد ومصدر معرفة لله وللرسول ولكل الخطوط الإسلاميّة، وهكذا أيضاً، نمتد في حياته وهو يلتفت إلى الإنسان في كل عناوينه، في علاقته بربه وبنفسه وبالإنسان الآخر، ليخطط له حقوقه وواجباته، كما عاش العبادة كأصفى وأعظم ما تكون العبادة.
لذلك، عندما ندرس الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع) في كل جوانب حياته، فإننا نرى أنه كان إمام المرحلة بكل حركية المرحلة في حاجاتها العملية والروحية والحركية، بحيث يشعر الإنسان عندما يدخل إلى حياته، بأنه يلتقي بالغنى، كلّ الغنى العلمي والروحي والأخلاقي، وفي مختلف جوانب حركة الإنسان في الحياة.
هذه هي الصورة الإجمالية التي يمكن لنا أن نطلّ بها على حياة الإمام السجاد(ع) أو شخصيته.
تمثّل الصورة الحقيقية
ونحن هنا بحاجة إلى أن نتمثّل الصورة الحقيقية، فكيف نتمثّلها؟
عندما ندرس تراث الإمام زين العابدين(ع) العلمي، وندرس الأسماء التي أخذت عنه، والتي استفادت من علومه، نرى فيما يعدّده المؤرخون من هذه الأسماء، أنها الأسماء البارزة في ثقافة تلك المرحلة، والتي لا زلنا نعيش على مائدتها.
فلقد ذكر المؤرخون أن (الطبري) ـ صاحب التاريخ والتفسير ـ روى عنه، وكذا (ابن البيّع)، و(أحمد)، و(ابن حنبل)، و(ابن بطة)، و(أبو داود) صاحب السنن، و(أبو الفرج) صاحب الحلية والأغاني، وأصحاب (قوت القلوب) و(شرف المصطفى) و(أسباب نزول القرآن) و(الفائق) و(الترغيب والترهيب) و(الزهري) وهو من الشخصيات المعروفة في ذلك العصر و(سفيان بن عيينة) و(نافع) و(الأوزاعي) و(مقاتل) و(الواقدي) و(محمد بن إسحاق) المؤرخ المعروف.
ويقول الشيخ المفيد (رحمه الله)، إنه روى عنه الفقهاء ما لا يحصى كثرةً، فهذه الأسماء مقارنة بالتراث الكبير الموجود في كتب التاريخ والتفسير وكتب الفقه والموعظة، تدلنا على أنّ الإمام كان يغذّي الحركة العلمية في وقته في مختلف نواحي الثقافة في ذلك العصر، وقد ذكر المؤرخون أنه ما من كتابٍ أُلّف في الموعظة إلا وفيه حديث لعلي بن الحسين(ع)، لأنه كان يتحدّث في هذا الجانب من الثقافة الإسلامية بشكل كبير وواسع، ومن هنا، فإننا نتمثّل فيه شخصية الإنسان الإمام الذي كان العلمُ يشغله، وكانت الثقافة الإسلامية بكل تنوعاتها تمثّل خط النشاط والتعليم والتوجيه والتركيز فيما ينطلق به.
ولذلك، وإزاء هذه الحقائق، ندعو إلى قراءة الإمام علي بن الحسين في تراثه الفقهي والتفسيري والوعظي والتاريخي، لأن ذلك يمكن أن يمثل لنا حجم الحركة الثقافية التي تحرك بها الإمام آنذاك.
كنـز الصحيفة السجادية
وعندما نقرأ الجانب الثاني من تراثه، وهو الجانب الدعائي، فإننا نجد أن الصحيفة السجّادية الكاملة بلغت من الوثاقة والشهرة المستوى الذي لا يحتاج الإنسان أن يبحث في سندها، وإن دراستنا لهذه الصحيفة ستكشف لنا أنها تتحرك في دعاء، إذا قرأه الإنسان يتعرّف من خلاله إلى صفات الله تعالى، بحيث يشعر وهو يدعو ربه أنه يتحرك في خط المعرفة لله، من خلال المفردات الموجودة في الدعاء، تماماً كما يتحرك مع الله من خلال الروحانية التي ترتفع به إلى الله في حالة الدعاء.
فإذا انتقلنا من ذلك وقرأنا دعاءه الذي يتحدث به عن الملائكة؛ هذه المخلوقات الغيبية الخفية التي لا نعرف عنها شيئاً، نرى أن هذا الدعاء يدخل بنا في مجتمع الملائكة، لنتصوّرهم في أشكالهم وفي وظائفهم وفي مهمّاتهم وفي عبادتهم، حتى لتشعر من خلال كل هذه الكلمات كأنك تعيش معهم، وقل الشيء نفسه عندما يتحدث عن رسول الله(ص)، فإن حديثه عنه في دعائه يختصر كل حركة رسول الله في الدعوة، وكل جهاده وكل نشاطه وانفتاحه، وكل آلامه، في دعاء من أقصر أدعية الصحيفة السجادية.
ويتحدّث بعد ذلك عن أهل بيته وعن صحابته، ثم ينفذ إلى الزمن لينطلق بالإنسان إلى الدعاء في الصباح وفي المساء، ليعرّف الإنسان كيف يبدأ صباحه ليكون صباحاً إسلامياً منفتحاً على كلّ قيم الإسلام التي لا بد من أن يملأ بها يومه، وأن يكون مساؤه مساءً إسلامياً ينفتح على كلّ ما يريد الله للإنسان أن يتحرك به في علاقته بالزمن وبحركة الواقع المستقيم والمنحرف وفي حركته مع الإنسان الآخر.
مكارم الأخلاق
وهكذا ينطلق الداعي مع الله سبحانه وتعالى عندما ينـزل به كرب وتعرض له محنة، ويتحرّك مع الله عندما يتذكر محاسن الأخلاق ومساوئها، ثم ينفتح في هذا البرنامج الأخلاقي الذي يمثل كل الخطّ الأخلاقي الإسلامي في مفرداته ودعائه في (مكارم الأخلاق) الذي يجلس فيه بين يدي الله ليستعرض كل الخطوط الأخلاقية في الإسلام من خلال عناوينه البارزة فيقول: "اللهم وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان، واجعل يقيني أفضل اليقين، وانتهِ بنيّتي إلى أحسن النيّات، وبعملي إلى أحسن الأعمال".
ثم يبدأ بعد هذه العناوين في مفردات الأخلاق، بحيث إذا خرج الإنسان من هذا الدعاء متأمّلاً متدبراً واعياً منفتحاً على الله، فإنه يحصل على ثقافة أخلاقية تختصر له أخلاقه في نفسه ومع ربّه ومع الناس، بل ومع الحياة كلّها.
ثم ينطلق إلى الناس ليدعو لأوليائه وجيرانه وعائلته وأهل الثغور، فتشعر بأن هذا الإمام العظيم يعطينا الخط الذي يعيش فيه الإنسان مسؤوليته بين يدي ربه، وكيف يفكّر بالناس، وكيف يفكّر بأولئك الذين يقفون على ثغور (حدود) البلاد الإسلامية، وهم يعيشون رباطهم وجهادهم، ويفكّر بجيرانه ويخطط لك كل حقوق الجيران، حتى لكأنك لا تحتاج إلى كتاب يشرح لك تلك الحقوق.
وقل الشيء نفسه عن علاقة الإنسان بعائلته وبأولاده وبأبويه، لتستشعر بأنك عندما تجلس بين يدي الله داعياً، فإن عليك ألا تفكّر بنفسك، بل أن تفكّر بكل الناس الذين ترتبط بهم برباط النسب، لتعرف حقّك عليهم وحقّهم عليك، ولتعرف كيف تدعو لهم، وكيف تريد أن يدعو لك، وبالتالي تعرف كيف تدعو لكلّ الناس الذين يتحرّكون في حياتك وفي حياة الأمة كلها.
وتتنوّع مفردات الدعاء، فهناك دعاء للتوبة تعرف به شروط التوبة وروحيتها وحركيتها والعودة إليها، حتى تشعر وأنت تقرأه بأنك تقرأ كل البرنامج الإسلامي للتوبة، في كل نقاط الضعف والقوة التي يعيشها الإنسان التائب.
ثم ينطلق بنا في أغراض متنوّعة، فيعلّمنا ماذا نقول إذا نظرنا إلى أصحاب الدنيا، وكيف نواجه الآلام إذا عشناها، ثم يدخل بعد ذلك في الزمن، فليوم الجمعة دعاء، وليوم السبت دعاء، ولكلّ أيام الأسبوع أدعية، وليوم العيد دعاء نستوحي منه كيف يكون العيد عيداً ينفتح فيه الإنسان على الله، لينفتح بالتالي على الناس من خلال انفتاحه على الله ليعيش أجواء عيد الفطر ويوم عرفة ويوم الأضحى، فتشعر بأنّ الصحيفة السجادية تدخلك إلى الزمن كلّه لتحدد مسؤوليتك أمام الزمن، ولتستوحي عناوينه، ولتدخل إلى الناس كلهم لتحدد علاقتك بهم وعلاقتهم بك، ولتعيش مع الله كمذنب يسعى إلى التوبة، ومكروبٍ يتضرع إلى الله في كشف كربه، ومتألمٍ يريد الله أن يخفف عنه ألمه، وصاحب حاجة يطلب من الله قضاء حاجته.
ثقافة حياتية
وعلى كلّ ما تقدّم، فإن أدعية الصحيفة السجادية تمثل الثقافة الاجتماعية والأخلاقية والروحية والحياتية، وذلك من خلال انفتاحك بها على الله، فلا يعزلك الدعاء عن الحياة، ولا يبعدك عن الناس ولا عن التفكير بنقاط ضعفك من أجل أن تحوّلها إلى نقاط قوة.
وإذا ما انطلقنا في (دعاء أبي حمزة الثمالي)، والأدعية الأخرى التي جُمعت في أكثر من كتاب، فإننا نجد أن الإمام استطاع بأدعيته أن يُغني الثقافة الإسلامية الروحية، بأن حشد في داخلها كل الحياة التي يتمثّلها الإنسان بين يدي الله، لتكون كل حياته في نفسه وفي مجتمعه مفتوحة على الله سبحانه وتعالى.
ولذلك، فإنني أدعو الشباب إلى قراءة أدعية الإمام زين العابدين(ع) في كل مناسباتها وأجوائها، فإذا تألمتَ وضاقت بك الحياة، فاجلسْ مع الله لتطلب منه أن يخفّف ألمك وأن يوسّع لك مجال الحياة، وإذا طافت بك أفكار الشيطان لتطبق عليك، اجلس واقرأ دعاء الإمام(ع) عندما يذكر الشيطان، وانظر كيف يعرّفك حبائله وخدعه وأمانيه، وكيف يساعدك على أن تكتشف ذلك لتعرف كيف تتخلّص منه.
وإذا قرأتم هذه الأدعية، فاقرأوها قراءة ثقافة لا قراءة تقليد واستظهار، كما أطلب من كل الجامعات وأصحاب الفكر الذين يكتبون أو يدرسون المنهج الإسلامي الروحي وعلاقته بالحياة، أن يدرسوا أدعية الإمام زين العابدين(ع)، ليكتشفوا أن العبادة والدعاء في الإسلام، ليسا شيئاً يُبعد الإنسان عن الحياة، بل يدخله إلى الحياة ليعيش الحياة بكل قوة وهو ضارعٌ بين يدي الله تعالى.
رسالة الحقوق
ولننطلق، بعد الدعاء، إلى جانب آخر، لنجد أن الإمام(ع) كتب رسالة الحقوق التي تعدّ من أعظم الرسائل التي تتحدث عن الإنسان في حقوقه وواجباته، وعن علاقته بربه وعلاقته بنفسه وبكل جسده، وبأبيه وأمه ومن يعلّمه وبالحاكم، بحيث تمتد العلاقات في الرسالة لتشمل كل علاقات الإنسان بعناوينها المتشعّبة.
ولعلنا لا نجد في التراث الإسلامي رسالة بهذه الدقة وهذه المتابعة لكل حالات الإنسان وقضاياه ووظائفه، وكل علاقاته وأوضاعه، كرسالة الحقوق.
تحريك القيم في الواقع
أما إذا انطلقنا إلى القيم التي كان يحرّكها الإمام زين العابدين في الواقع، والتي كان يواجه فيها حتى أصحاب القوة في زمانه، نجد من بين تلك المفردات ما يرويه الإمام جعفر الصادق(ع): "إن علي بن الحسين(ع) تزوّج سريّة (أمة) كانت للحسن بن علي، فبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فكتب إليه في ذلك كتاباً إنك صرت بعل الإماء، فكتب علي بن الحسين: (إن الله رفع بالإسلام الخسيسة، وأتمّ به الناقصة، وأكرم به من اللؤم، فلا لؤم على مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية، وإن رسول الله(ص) أنكح عبده ونكح أمته، حيث زوّج زينب بن جحش وهي ابنة عمته من عبده زيد، وتزوجها بعد ذلك)، فلما انتهى الكتاب إلى عبد الملك قال لمن عنده: أخبروني عن رجل إذا أتى ما يصنع الناس لم يزده إلا شرفاً، قالوا: ذاك أمير المؤمنين، قال: لا والله، ما هو ذاك، قالوا: ما نعرف إلا أمير المؤمنين، قال: فلا والله ما هو بأمير المؤمنين، ولكنه علي بن الحسين".
فلقد هزّت هذه الكلمات عمق (عبد الملك بن مروان) وكلّ وجدانه، وشعر بأن الإمام ارتفع من حيث تصوّر أنه اتضع، وتلك هي قيمة الإنسان الذي يعيش القيمة الإسلامية في حياته، ليؤكّدها ويجسّدها، وليجعل من نفسه قدوة للناس في ذلك، حتى لو كان العرف الاجتماعي على خلافه، لأن قضية الإمام والمصلح والداعية ليست في أن يعيش مع قيم الناس إذا كانت منحرفة، ولكن مسؤوليته أن يرتفع عن القيم المنحرفة ليعطي الناس النموذج الأمثل للقيمة الإسلامية الرائعة.
كما يعطينا ذلك درساً في أن نخرج من كل هذه التقاليد والعادات التي تجعل الزواج مسألة خاضعة للطبقية الاجتماعية نسباً ومالاً وما إلى ذلك، لنعرف الخطّ الإسلامي: "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوّجوه، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير"، هكذا قال رسول الله(ص) منطلقاً من قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[1]، فليس هناك شعب أكرم من شعب، ولا قبيلة أكرم من قبيلة، بل الأكرم هو الأقرب إلى الله تعالى في فكره وروحه وحياته.
عزّة الموقف وصلابته
وفي قصة أخرى، تبدو قوة الموقف وصلابته واضحة أمام عبد الملك بن مروان، فلقد بلغ عبد الملك أن سيف رسول الله عند الإمام السجاد(ع)، فبعث يستوهبه منه ويسأله الحاجة فأبى عليه، فكتب عبد الملك يهدّده بأنه سيقطع رزقه من بيت المال فأجابه(ع): "أما بعد، فإن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلّ ذكره {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}[2]، فانظر أيّنا أولى بهذه الآية؟!". ومن الطبيعي أنه أراد أن يقول له إنك الأولى بهذه الآية، لأنك عشت الكثير من الخيانة في حياتك، حيث تهدّد الناس بقطع أرزاقهم إذا لم يستجيبوا لك، فأي خليفة هو هذا الذي يستغل مركزه في تهديد الناس بقطع أرزاقهم إذا حَجَبوا عنه أي شيء شخصي يريده!
هاتان القضيتان تبيّنان لنا كيف ينطلق الإمام(ع) من خلال العزة الإسلامية، بحيث لا يسقط فيها أمام تهديد الخليفة مهما كان موقعه، وهو القائل في الدعاء: "واعصمني من أن أظنّ بذي عدمٍ خساسة، أو أظنّ بصاحب ثروةٍ فضلاً، فإن الشريف من شرّفته طاعتك، والعزيز من أعزّته عبادتك".
لا شرف أعلى من الإسلام
ثم لننطلق ونرى كيف يواجه(ع) الناس الذين يريدونه أن يلجأ إلى نسبه، ويعتقدون أنّ هذا النسب قد ينجيه، أو يلجأ إلى الشفاعة، بل وحتى إلى رحمة الله ليتحرك في حياته من دون هذا الإلحاح في العبادة، فاستمعوا إليه كيف كان ردّه:
(قال طاووس رأيت رجلاً يصلي في المسجد الحرام تحت الميزاب، يدعو ويبكي في دعائه، فجئته على حين فرغ من الصلاة، فإذا هو علي بن الحسين، فقلت له: يا بن رسول الله، رأيتك على حالة كذا ولك ثلاثة، أرجو أن تؤمنك من الخوف: أحدها أنك ابن رسول الله، والثاني شفاعة جدّك، والثالث رحمة الله. فقال(ع): "يا طاووس، أما أنّي ابن رسول الله، فلا يؤمنني وقد سمعتُ الله تعالى يقول: {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[3]، وأما شفاعة جدي فلا تؤمنني، لأن الله تعالى يقول: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى}[4]، وأما رحمة الله فإن الله تعالى يقول: إنها {قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ}[5]، ولا أعلم أني محسن"، يقول هذا وهو المعصوم!
وبهذا يعطينا الإمام(ع) درساً بأن على الإنسان أن يبقى مع الله في موقف الخائف الراجي، ففي الحديث: "ما من مؤمن إلا وفي قلبه نور خيفة ونور رجاء"، وفي حديث آخر: "خف الله خوفاً لو جئته ببرّ الثقلين لعذّبك وارجُ الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك"، فالمطلوب هو أن تعيش هذا التوازن لتتحرك في خط المسؤولية لله دائماً وأنت ترجو ثوابه وتخاف عقابه.
قيمة كظم الغيظ
ويقول مؤكداً قيمة كظم الغيظ، ليعلمنا ونحن أناس نعيش تفجير الغيظ كقيمة، أو لسنا نلوم بعضنا بعضاً عندما يُساء إلينا، لماذا لا نفجّر غيظنا؟ فانظروا ماذا يقول الإمام(ع): "ما أحبُّ أنّ لي بذل نفسي حمر النعم ـ وهي من الثروات المهمة ـ وما تجرّعت من جرعةٍ أحبّ إليّ من جرعة غيظ أعقبها صبر". فهو لا يتحرك بردّ الفعل تجاه صاحب الإساءة، وهذا ليس ذلاً، فالإنسان الذي يكظم غيظه ولا يقابل المسيء في إساءته، لا يكون في موقف الذل، بل في موقف العزّ، لأنه استطاع أن يحبس غيظه في حين أنه قادر على أن يفجره، بل الذليل هو الذي لا يفجّر غيظه استكانة وذلاً، أما الذي لا يفجّر غيظه خُلُقاً، وقربةً إلى الله، ودرساً للإنسان المسيء ليتراجع عن خطأه، فهو العزيز.
أُنس المؤمن بالقرآن
ثم يتحدث في لقطة أخرى عن أنس المؤمن بالقرآن فكراً وروحاً ومنهجاً وحركةً وانفتاحاً على الله وعلى الناس "لو مات من بين المشرق والمغرب لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي"، لأنه عندما يقرأ القرآن يعيش مع الله ومع الحقيقة ومع الإسلام ومع كل القيم التي ترتفع بها إنسانية الإنسان بما يتقرب به إلى الله، فأي أُنسٍ أعظم من هذا الأنس، وربما استوحى هذا من وصية علي(ع) : "لا يؤنسنّك إلا الحق ولا يوحشنّك إلا الباطل"، فليكن الحق أنيسك، بحيث لو لم يكن معك أحد وكان الحقّ معك، فأنت في أُنس عقلي وروحي وحياتي، ولو كنت مع الباطل وكان معك كل الناس لما كان معك أحد.
وكان(ع) يقرأ القرآن بطريقة تختلف عما يقرأه الناس، فكان إذا قرأ الفاتحة ووصل إلى قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[6]، كان يكرّرها ويبكي، حتى ليكاد أن يموت، كما في الرواية.
لأنه عندما يقرأ {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، يستحضر عظمة الله سبحانه في ملكه لكل الجزاء ثواباً وعقاباً، ويتذكر يوم الدين، والوقوف بين يد الله وأعماله وما يواجهه عندما يقوم الناس لرب العالمين.
وفي هذا درس لنا، أننا إذا قرأنا القرآن أن لا نستعجل القراءة، بل أن نقف مع كل آية لتدخل عقلنا وقلبنا وإحساسنا وشعورنا، ولتتحرك في حياتنا لتأمرنا في خط الأمر، ولتنهانا في خطّ النهي.
وينقل أن (الزهري) وهو الفقيه المعروف، قتل شخصاً خطأ، فاستعظم ذلك حتى أنه ترك الطعام والشراب واعتزل عن الدنيا، فجاؤوا به إلى الإمام فدخل عليه فقال له: "إني أخاف عليك من قنوطك ما أخاف عليك من ذنبك، فابعث بدّية مسلّمة إلى أهله، واخرج إلى أهلك ومعالم دينك"، قال: "فرّجت عني يا سيدي، والله أعلم حيث يجعل رسالته".
منـزلة السجاد(ع)
وفي نهاية المطاف، نقرأ كيف كانت منـزلة الإمام لدى الناس، فعن سفيان بن عيينة قال: قلت للزهري لقيت علي بن الحسين، قال: نعم لقيته، وما لقيت أحداً أفضل منه، والله ما علمت له صديقاً في السرّ ولا عدواً في العلانية، فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأني لم أرَ أحداً وإن كان يحبّه إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه". لقد كانت أخلاقه بالدرجة العليا من الأخلاق، وليس ثمة متسع للحديث عن مفرداتها، ولكننا عندما ندرسها نعرف كيف أن الإمام كان يريد أن يركّز على أخلاق القيمة لا أخلاق المنفعة كما في دعائه: "وسدّدني لأن أعارض من غشّني بالنصح، وأجزي من هجرني بالبرّ، وأثيب من حرمني بالبذل، وأكافي من قطعني بالصلة، وأخالف من اغتابني إلى حسن الذكر، وأن أشكر الحسنة، وأغضي عن السيئة".
ذلك هو علي بن الحسين(ع)؛ الإنسان الذي عاش حياته كلها لله ومن خلاله للإنسان وللرساله، وكان يعمل على أن يحرّر الإنسان من شيطانه، والعبيد من رقّهم، فهو إمام الإسلام وإنسان الله، الذي كان يناجي ربه بدعائه "الحمد لله الذي أرجوه ولا أرجو غيره، ولو رجوتُ غيره لأخلف رجائي، والحمد لله الذي أدعوه ولا أدعو غيره ولو دعوت غيره لم يستجب لي دعائي، والحمد لله الذي وكلني إليه فأكرمني ولم يكلني إلى الناس فيهينوني، والحمد لله الذي تحبّب إليّ وهو غنيٌ عني، فربّي أحمدُ شيء عندي وأحقّ بحمدي".
أيها الأحبّة، علينا أن نعيش مع علي بن الحسين(ع) دائماً في علمه وفي خلقه وفي عبادته وفي دعائه وابتهالاته وإخلاصه لرسالته، وفي حركة المسؤولية في حياته أمام الله وأمام الناس.
------------------------------
[1] [الحجرات: 13]
[2] [الحج: 38]
[3] [المؤمنون:101]
[4] [الأنبياء:28]
[5] [الأعراف: 56]
[6] [الفاتحة: 3]
تعليق