بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
مكانة زين العابدين(ع) الاجتماعية
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} [الأحزاب:33].
من أهل هذا البيت، الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، الذي صادفت ذكرى وفاته في الخامس والعشرين من هذا الشهر، شهر محرّم.
ونحن عندما ندرس تفاصيل حياة هذا الإمام، نجد أنها قد تحركت في مستوى العالم الإسلامي في مرحلته التي عاش فيها، بحيث استطاعت أن تترك تأثيرها الروحي والإنساني والعلمي والحركي على تلك المرحلة وما بعدها، حتى إن الذين عايشوه والتقوا به كانوا يتحدثون عن فضله، وكان تلميذه الزهري يقول: "والله، ما علمت له صديقاً في السرّ ولا عدوّاً في العلانية. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأنني لم أرَ أحداً وإن كان يحبّه، إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه".
وقد وُلد الإمام زين العابدين(ع) من أم فارسية، عندما جيء بالسبايا من فارس بعد انتصار المسلمين على الفرس، وكان من بينهم ابنتان لملك فارس (يزدجرد)، وقد رفض الإمام عليّ(ع) في ذلك الوقت أن تباعا كما تباع الإماء، فأوحى إلى الخليفة الثالث أن يخيّرهما، فاختارت إحداهما الإمام الحسين بن علي(ع)، واختارت الثانية محمد بن أبي بكر، فولدت من الإمام الحسين(ع) عليّاً.
بين مأساة كربلاء والسّبي
وقد عاش الإمام زين العابدين(ع) مع جده الإمام علي(ع) سنتين، ومع أبيه الحسين (ع) عشرين سنة أو أقل من ذلك بقليل، وعاش مأساة كربلاء بكل آلامها وقسوتها، وكان مريضاً مرضاً لا يقوى معه على حمل السيف والقتال، ولذلك بقي بعد الإمام الحسين(ع) لتبقى الإمامة حيّة متحركة من خلاله. وقد عانى مع نساء الحسين وأخواته وبناته حال السبي، ولكن ذلك لم يضعفه، بل وقف موقفاً شجاعاً أمام ابن زياد عندما أُدخل عليه، حتى فكر ابن زياد في قتله، لكن السيدة زينب عمته تعلّقت به وقالت لابن زياد: "حسبك من دمائنا، والله لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه". وينقل الرواة أنه وقف في مجلس يزيد وخاطبه خطاباً قاسياً، معرّفاً أهل الشام قيمة أهل البيت(ع)، وقد أراد يزيد أن يقطع كلامه فأمر المؤذن بأن يؤذّن في الناس، وعندما وصل المؤذّن إلى قوله: "أشهد أن محمداً رسول الله"، التفت الإمام زين العابدين(ع) إلى يزيد وقال له: "يا يزيد، أسألك بالله، محمد جدي أم جدك"، فقال يزيد: بل جدّك، فقال الإمام(ع): "فلم قتلت أهل بيته"؟
وقد أثّرت واقعة كربلاء في نفس الإمام زين العابدين(ع)، لأنه رأى أباه وأخوته وأعمامه وأهل بيته وأصحاب أبيه مجزّرين كالأضاحي على رمضاء كربلاء، وكان يريد من خلال تذكّره لهذه القضية ـ وهو الصابر المحتسب ـ أن يُبقي ذكرى الإمام الحسين(ع) في مدى التاريخ، لتكون صرخةً دائمةً في وجه الظالمين، ولتتحدى كل من يصنع المأساة في حياة الناس، وفي حياة المصلحين والمستضعفين. وقد جرى أئمة أهل البيت(ع) على هذه الخطة، حتى وصلت كربلاء إلينا لتشمل العالم كله، وليتجذّر الحسين(ع) في عقولنا كداعية حق وعدل، وليدخل في قلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا.
دور الإمامة وتثقيف الناس
وقد تحرّك الإمام زين العابدين(ع) في الواقع الإسلامي، ولم تشغله أحزانه ـ كما هي الصورة التي يبالغ بعض الرواة في تقديمهاعنه ـ عن القيام بدوره في الإمامة وتأكيد حقائق الإسلام ومواجهة كل الانحرافات التي كانت تحدث بين وقت وآخر، ولاسيما في عهد بني أمية.
وانطلق(ع) في المسائل العلمية والثقافية، حتى إنّ كتّاب سيرته يذكرون أنه استطاع أن يدخل في كل القضايا الثقافية، سواء في مسألة فلسفة العقيدة والاستدلال عليها، أو في أحكام الشريعة، أو تفسير القرآن وفضائله، حتى إن الطبري روى عنه، وكذلك روى عنه أصحاب الحديث كابن داود الذي لا يعتقد بالإمامة، كما تلمّذ عليه الكثيرون من أساتذة تلك المرحلة الإسلامية. حتى إننا في دراستنا لمن تعلّموا منه وتلمّذوا عليه، نستطيع أن نقول إنه كان أستاذ المسلمين في تلك المرحلة، وقد قال الشيخ المفيد وهو يتحدث عن ذلك: "روى عنه الفقهاء من العلوم ما لا يُحصى كثرةً، وحُفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء".
ويروي الشيخ المفيد بسنده عن عبد الله بن الحسن(ع)، قال: "كانت أمي فاطمة بنت الحسين تأمرني أن أجلس إلى خالي علي بن الحسين، فما جلست إليه قط إلا قمت بخيرٍ قد أفدته، إما خشية لله تحدث في قلبي لما أرى من خشيته لله تعالى، أو علم قد استفدته منه".
وتميّز الإمام زين العابدين(ع) برعايته الخفية للكثير من فقراء المدينة، فقد كان يحمل الجراب على ظهره وفيه الكثير من الأطعمة والثياب، ويدور في الليل بنفسه على بيوت الفقراء، ويقدّم إليهم ما يحتاجونه، حتى قيل إنه كان يعول أربعمائة عائلة في المدينة في تلك المرحلة، وكانوا لا يعرفون من أين يأتيهم ذلك، حتى مات الإمام(ع)، فانقطع ذلك عنهم، فعرفوا أنه منه.
في تواضعه وعفوه
وكان(ع) القمة في العفو والأخلاق والقيم الروحية، وينقل التاريخ أن مروان بن الحكم ـ العدو الألد لأهل البيت(ع)، والذي طلب من والي المدينة أن يقتل الحسين(ع) ـ عندما أُريد طرده من المدينة بعد أن هجم جماعة يزيد عليها، تحيّر مروان أين يضع عائلته التي كانت تبلغ أربعمائة شخص من نسائه وأولاده وأحفاده، بعدما رفض وجهاء المدينة استقبالهم خوفاً من يزيد، وعندما جاء إلى الإمام زين العابدين(ع)، أمره بأن يبعث عائلته إلى عائلة الإمام(ع)، حتى قالت بعض بناته: إننا لم نجد من الرعاية عند أبينا ما وجدناه عند علي بن الحسين. وقد قال الشاعر:
مَلَكْنا فكان العفو منا سجيّةً فلما ملكتـم سال بالدم أبطحُ
وحلَّلتم قتل الأسارى وطالما غدونا عن الأسرى نعفّ ونصفحُ
فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكـل إنـاء بالذي فيـه ينضح
ومن المآثر التي تروى عن الإمام زين العابدين(ع)، أنه كان في المدينة والٍ يبغض علي بن الحسين وأهل البيت(ع)، وكان أن عزله الخليفة وأمر أن يوقف للناس ليشتموه ويسبوه ويضربوه انتقاماً منه وتحقيراً له، وكان أشد ما يخاف من علي بن الحسين وأهل بيته(ع) لأنه أساء إليهم كما لم يسىء إلى أحد، ولكن الإمام(ع) أمر عائلته ألا يصدر عنهم ما يسيء إليه، بل إنه(ع) كان يسأله عن حاجته وعن دَينه، ولم يستطع الرجل أمام هذه الروح الإيمانية المنفتحة على العفو إلا أن يقول: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".
هكذا كان أهل البيت(ع) القدوة في الأخلاق كجدهم رسول الله(ص) الذي قال الله تعالى عنه:{وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم:4].
العبادة والدّعاء
وكان الإمام زين العابدين(ع) قمةً في العبادة، وقد رآه أحد الرواة ـ وهو ابن طاووس ـ وهو ساجد يتضرّع إلى الله ويبكي، وبعد أن فرغ من صلاته قال له: "ما هذه الحالة، جدك رسول الله وعلي بن أبي طالب، وجدتك الزهراء، وعمك الحسن وأبوك الحسين؟ فقال له الإمام زين العابدين(ع): "دع عني حديث أبي وأمي وجدّي، خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً".
وعندما نقرأ أدعية الإمام(ع)، ولاسيما أدعية الصحيفة السجادية، نرى أن هذه الأدعية تمثل تراثاً ثقافياً روحياً وأخلاقياً ونفسياً واجتماعياً، ولذلك أنصح كل أخواني وأخواتي أن يداوموا على قراءة هذه الأدعية، لأنها تثقفهم وتجعلهم في الدرجة العالية من القرب من الله.
من حكمه ومواعظه
ونحن نريد أن نقف عند بعض حكم الإمام زين العابدين(ع) ومواعظه وأخلاقه، لأن بعض الناس لا يعرفون من الإمام زين العابدين(ع) إلا تلك الشخصية البكائية التي يبالغ البعض في تصويرها. يقول(ع): "إن أحبكم إلى الله أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند الله عملاً أعظمكم فيما عند الله رغبةً، وإن أنجاكم من عذاب الله أشدّكم خشية لله، وإن أقربكم من الله أوسعكم خُلُقاً، وإن أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم".
وقال(ع) لبعض بنيه: "يا بني، انظر خمسةً فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق: إياك ومصاحبة الكذّاب فإنه بمنـزلة السراب يقرّب لك البعيد ويبعّد لك القريب، وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بائعك أو أقلّ من ذلك، وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك، وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله".
ويقول الإمام زين العابدين(ع): "ثلاثٌ من كنّ فيه من المؤمنين كان في كنف الله، وأظله الله يوم القيامة في ظل عرشه، وآمنه من فزع اليوم الأكبر: رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم لنفسه، ورجل لم يقدّم يداً ولا رجلاً حتى يعلم أنه في طاعة الله قدّمها أو في معصيته، ورجل لم يعب أخاه بعيب حتى يترك ذلك العيب من نفسه، وكفى بالمرء شغلاً بعيبه لنفسه عن عيوب الناس". وقال لابنه محمد الباقر (عليهما السلام): "افعل الخير إلى كل من طلبه منك، فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن من أهله كنت أنت أهله، وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحوّل إلى يسارك واعتذر إليك فاقبل عذره".
وعاش الإمام(ع) حياةً متحركةً في عزة الإسلام وقوته، ويذكر بعض المؤرخين أنه مات بالسم، ولكننا تبعاً للشيخ المفيد ولبعض العلماء، نرى أنه مات ميتةً طبيعيةً.
إنّ علينا أن نقتدي بالإمام زين العابدين(ع) في كل أقواله وأفعاله وتعاليمه، وهذا هو معنى الولاية لأهل البيت(ع) في كل سيرتهم وأوضاعهم، لأنهم أئمة الهدى، وأركان الحق، وشفعاؤنا إلى الله تعالى.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
مكانة زين العابدين(ع) الاجتماعية
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} [الأحزاب:33].
من أهل هذا البيت، الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، الذي صادفت ذكرى وفاته في الخامس والعشرين من هذا الشهر، شهر محرّم.
ونحن عندما ندرس تفاصيل حياة هذا الإمام، نجد أنها قد تحركت في مستوى العالم الإسلامي في مرحلته التي عاش فيها، بحيث استطاعت أن تترك تأثيرها الروحي والإنساني والعلمي والحركي على تلك المرحلة وما بعدها، حتى إن الذين عايشوه والتقوا به كانوا يتحدثون عن فضله، وكان تلميذه الزهري يقول: "والله، ما علمت له صديقاً في السرّ ولا عدوّاً في العلانية. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: لأنني لم أرَ أحداً وإن كان يحبّه، إلا وهو لشدة معرفته بفضله يحسده، ولا رأيت أحداً وإن كان يبغضه إلا وهو لشدة مداراته له يداريه".
وقد وُلد الإمام زين العابدين(ع) من أم فارسية، عندما جيء بالسبايا من فارس بعد انتصار المسلمين على الفرس، وكان من بينهم ابنتان لملك فارس (يزدجرد)، وقد رفض الإمام عليّ(ع) في ذلك الوقت أن تباعا كما تباع الإماء، فأوحى إلى الخليفة الثالث أن يخيّرهما، فاختارت إحداهما الإمام الحسين بن علي(ع)، واختارت الثانية محمد بن أبي بكر، فولدت من الإمام الحسين(ع) عليّاً.
بين مأساة كربلاء والسّبي
وقد عاش الإمام زين العابدين(ع) مع جده الإمام علي(ع) سنتين، ومع أبيه الحسين (ع) عشرين سنة أو أقل من ذلك بقليل، وعاش مأساة كربلاء بكل آلامها وقسوتها، وكان مريضاً مرضاً لا يقوى معه على حمل السيف والقتال، ولذلك بقي بعد الإمام الحسين(ع) لتبقى الإمامة حيّة متحركة من خلاله. وقد عانى مع نساء الحسين وأخواته وبناته حال السبي، ولكن ذلك لم يضعفه، بل وقف موقفاً شجاعاً أمام ابن زياد عندما أُدخل عليه، حتى فكر ابن زياد في قتله، لكن السيدة زينب عمته تعلّقت به وقالت لابن زياد: "حسبك من دمائنا، والله لا أفارقه، فإن قتلته فاقتلني معه". وينقل الرواة أنه وقف في مجلس يزيد وخاطبه خطاباً قاسياً، معرّفاً أهل الشام قيمة أهل البيت(ع)، وقد أراد يزيد أن يقطع كلامه فأمر المؤذن بأن يؤذّن في الناس، وعندما وصل المؤذّن إلى قوله: "أشهد أن محمداً رسول الله"، التفت الإمام زين العابدين(ع) إلى يزيد وقال له: "يا يزيد، أسألك بالله، محمد جدي أم جدك"، فقال يزيد: بل جدّك، فقال الإمام(ع): "فلم قتلت أهل بيته"؟
وقد أثّرت واقعة كربلاء في نفس الإمام زين العابدين(ع)، لأنه رأى أباه وأخوته وأعمامه وأهل بيته وأصحاب أبيه مجزّرين كالأضاحي على رمضاء كربلاء، وكان يريد من خلال تذكّره لهذه القضية ـ وهو الصابر المحتسب ـ أن يُبقي ذكرى الإمام الحسين(ع) في مدى التاريخ، لتكون صرخةً دائمةً في وجه الظالمين، ولتتحدى كل من يصنع المأساة في حياة الناس، وفي حياة المصلحين والمستضعفين. وقد جرى أئمة أهل البيت(ع) على هذه الخطة، حتى وصلت كربلاء إلينا لتشمل العالم كله، وليتجذّر الحسين(ع) في عقولنا كداعية حق وعدل، وليدخل في قلوبنا ومشاعرنا وأحاسيسنا.
دور الإمامة وتثقيف الناس
وقد تحرّك الإمام زين العابدين(ع) في الواقع الإسلامي، ولم تشغله أحزانه ـ كما هي الصورة التي يبالغ بعض الرواة في تقديمهاعنه ـ عن القيام بدوره في الإمامة وتأكيد حقائق الإسلام ومواجهة كل الانحرافات التي كانت تحدث بين وقت وآخر، ولاسيما في عهد بني أمية.
وانطلق(ع) في المسائل العلمية والثقافية، حتى إنّ كتّاب سيرته يذكرون أنه استطاع أن يدخل في كل القضايا الثقافية، سواء في مسألة فلسفة العقيدة والاستدلال عليها، أو في أحكام الشريعة، أو تفسير القرآن وفضائله، حتى إن الطبري روى عنه، وكذلك روى عنه أصحاب الحديث كابن داود الذي لا يعتقد بالإمامة، كما تلمّذ عليه الكثيرون من أساتذة تلك المرحلة الإسلامية. حتى إننا في دراستنا لمن تعلّموا منه وتلمّذوا عليه، نستطيع أن نقول إنه كان أستاذ المسلمين في تلك المرحلة، وقد قال الشيخ المفيد وهو يتحدث عن ذلك: "روى عنه الفقهاء من العلوم ما لا يُحصى كثرةً، وحُفظ عنه من المواعظ والأدعية وفضائل القرآن والحلال والحرام والمغازي والأيام ما هو مشهور بين العلماء".
ويروي الشيخ المفيد بسنده عن عبد الله بن الحسن(ع)، قال: "كانت أمي فاطمة بنت الحسين تأمرني أن أجلس إلى خالي علي بن الحسين، فما جلست إليه قط إلا قمت بخيرٍ قد أفدته، إما خشية لله تحدث في قلبي لما أرى من خشيته لله تعالى، أو علم قد استفدته منه".
وتميّز الإمام زين العابدين(ع) برعايته الخفية للكثير من فقراء المدينة، فقد كان يحمل الجراب على ظهره وفيه الكثير من الأطعمة والثياب، ويدور في الليل بنفسه على بيوت الفقراء، ويقدّم إليهم ما يحتاجونه، حتى قيل إنه كان يعول أربعمائة عائلة في المدينة في تلك المرحلة، وكانوا لا يعرفون من أين يأتيهم ذلك، حتى مات الإمام(ع)، فانقطع ذلك عنهم، فعرفوا أنه منه.
في تواضعه وعفوه
وكان(ع) القمة في العفو والأخلاق والقيم الروحية، وينقل التاريخ أن مروان بن الحكم ـ العدو الألد لأهل البيت(ع)، والذي طلب من والي المدينة أن يقتل الحسين(ع) ـ عندما أُريد طرده من المدينة بعد أن هجم جماعة يزيد عليها، تحيّر مروان أين يضع عائلته التي كانت تبلغ أربعمائة شخص من نسائه وأولاده وأحفاده، بعدما رفض وجهاء المدينة استقبالهم خوفاً من يزيد، وعندما جاء إلى الإمام زين العابدين(ع)، أمره بأن يبعث عائلته إلى عائلة الإمام(ع)، حتى قالت بعض بناته: إننا لم نجد من الرعاية عند أبينا ما وجدناه عند علي بن الحسين. وقد قال الشاعر:
مَلَكْنا فكان العفو منا سجيّةً فلما ملكتـم سال بالدم أبطحُ
وحلَّلتم قتل الأسارى وطالما غدونا عن الأسرى نعفّ ونصفحُ
فحسبكم هذا التفاوت بيننا وكـل إنـاء بالذي فيـه ينضح
ومن المآثر التي تروى عن الإمام زين العابدين(ع)، أنه كان في المدينة والٍ يبغض علي بن الحسين وأهل البيت(ع)، وكان أن عزله الخليفة وأمر أن يوقف للناس ليشتموه ويسبوه ويضربوه انتقاماً منه وتحقيراً له، وكان أشد ما يخاف من علي بن الحسين وأهل بيته(ع) لأنه أساء إليهم كما لم يسىء إلى أحد، ولكن الإمام(ع) أمر عائلته ألا يصدر عنهم ما يسيء إليه، بل إنه(ع) كان يسأله عن حاجته وعن دَينه، ولم يستطع الرجل أمام هذه الروح الإيمانية المنفتحة على العفو إلا أن يقول: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".
هكذا كان أهل البيت(ع) القدوة في الأخلاق كجدهم رسول الله(ص) الذي قال الله تعالى عنه:{وإنك لعلى خلق عظيم} [القلم:4].
العبادة والدّعاء
وكان الإمام زين العابدين(ع) قمةً في العبادة، وقد رآه أحد الرواة ـ وهو ابن طاووس ـ وهو ساجد يتضرّع إلى الله ويبكي، وبعد أن فرغ من صلاته قال له: "ما هذه الحالة، جدك رسول الله وعلي بن أبي طالب، وجدتك الزهراء، وعمك الحسن وأبوك الحسين؟ فقال له الإمام زين العابدين(ع): "دع عني حديث أبي وأمي وجدّي، خلق الله الجنة لمن أطاعه ولو كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيداً قرشياً".
وعندما نقرأ أدعية الإمام(ع)، ولاسيما أدعية الصحيفة السجادية، نرى أن هذه الأدعية تمثل تراثاً ثقافياً روحياً وأخلاقياً ونفسياً واجتماعياً، ولذلك أنصح كل أخواني وأخواتي أن يداوموا على قراءة هذه الأدعية، لأنها تثقفهم وتجعلهم في الدرجة العالية من القرب من الله.
من حكمه ومواعظه
ونحن نريد أن نقف عند بعض حكم الإمام زين العابدين(ع) ومواعظه وأخلاقه، لأن بعض الناس لا يعرفون من الإمام زين العابدين(ع) إلا تلك الشخصية البكائية التي يبالغ البعض في تصويرها. يقول(ع): "إن أحبكم إلى الله أحسنكم عملاً، وإن أعظمكم عند الله عملاً أعظمكم فيما عند الله رغبةً، وإن أنجاكم من عذاب الله أشدّكم خشية لله، وإن أقربكم من الله أوسعكم خُلُقاً، وإن أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله، وإن أكرمكم عند الله أتقاكم".
وقال(ع) لبعض بنيه: "يا بني، انظر خمسةً فلا تصاحبهم ولا تحادثهم ولا ترافقهم في طريق: إياك ومصاحبة الكذّاب فإنه بمنـزلة السراب يقرّب لك البعيد ويبعّد لك القريب، وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بائعك أو أقلّ من ذلك، وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرّك، وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله".
ويقول الإمام زين العابدين(ع): "ثلاثٌ من كنّ فيه من المؤمنين كان في كنف الله، وأظله الله يوم القيامة في ظل عرشه، وآمنه من فزع اليوم الأكبر: رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم لنفسه، ورجل لم يقدّم يداً ولا رجلاً حتى يعلم أنه في طاعة الله قدّمها أو في معصيته، ورجل لم يعب أخاه بعيب حتى يترك ذلك العيب من نفسه، وكفى بالمرء شغلاً بعيبه لنفسه عن عيوب الناس". وقال لابنه محمد الباقر (عليهما السلام): "افعل الخير إلى كل من طلبه منك، فإن كان من أهله فقد أصبت موضعه، وإن لم يكن من أهله كنت أنت أهله، وإن شتمك رجل عن يمينك ثم تحوّل إلى يسارك واعتذر إليك فاقبل عذره".
وعاش الإمام(ع) حياةً متحركةً في عزة الإسلام وقوته، ويذكر بعض المؤرخين أنه مات بالسم، ولكننا تبعاً للشيخ المفيد ولبعض العلماء، نرى أنه مات ميتةً طبيعيةً.
إنّ علينا أن نقتدي بالإمام زين العابدين(ع) في كل أقواله وأفعاله وتعاليمه، وهذا هو معنى الولاية لأهل البيت(ع) في كل سيرتهم وأوضاعهم، لأنهم أئمة الهدى، وأركان الحق، وشفعاؤنا إلى الله تعالى.
تعليق