النجم العاشر من نجوم سماء الامامة
لقد بزغ نجم الإمام علي بن محمد الهادي (عليهما السلام) عاشر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وهو في الثامنة من عمره بعد استشهاد أبيه الإمام الجواد بدسيسة المعتصم بن هارون الرشيد العباسي في بغداد. وكان محبو أهل البيت (عليهم السلام) يعلمون ـ عبر النص المكرر من الإمام الجواد (عليه السلام) ـ إمامة هذا الفتى قبل أن يتم جلب أبيه إلى بغداد قسراً.
وقد أجمع أنصار خط الإمامة على إمامة الإمام علي الهادي (عليه السلام) ولم يدعيها أحد غيره ويكفي في إجماع (الإمامية) عليه دليلاً على إمامته المطلقة فضلاً عن النصوص القطعية المتواترة عن سائر الأئمة الأطهار، ومن الإمام الجواد (عليه السلام) بالخصوص.
ولكي نعرف الدور الذي قام به الإمام الهادي (عليه السلام) ينبغي أن نلقي نظرة سريعة عامة على الأوضاع السياسية التي عاصرها الإمام (عليه السلام) وهي تنقسم إلى ثلاثة مراحل:
المعتصم والحرب ضد أهل البيت (عليهم السلام)
لقد بدأ الضغط على أهل البيت ومواليهم مع مقتل الإمام الرضا (عليه السلام) ثم مقتل ولده الإمام الجواد (عليه السلام) وسادت فترة عاش فيها الموالون في شبه هدوء. حيث كان الخلفاء المتعاقبون مشغولين بأنفسهم. وخصوصاً في بقايا عصر المعتصم بن هارون الذي بنى مدينة سامراء، وولده الواثق.
فقد بدأ المعتصم العباسي ينفق موارد الدولة على استخدام الأتراك ليكوّن منهم جيشاً ينفذون رغباته، ويستعين بهم في لجم الثورات والانتفاضات ضده.
ولكي يكون بعيداً عن خطر الثورات، راح يبني فوق العاصمة الأساسية (بغداد) مدينة جديدة سميت بـ(سامراء) اتّخذها مركزاً للجند والأعوان، ومسرحاً لمجونه وفجوره بعيداً عن أعين الرقباء.
وحتى اللحظات الأخيرة بقي المعتصم مشغولاً بلهوه وخمره ومجونه حتى أمر المغنين أن يغنّوا له وهو في الساعة الأخيرة من حياته، ومن أشعاره الشهيرة:
تمتـــع مـــــن الـــدنيا فإنك لا تبقى وخذ صفــوها لمّا صفت ودع الزلقا
وافسدت دنــــياي وديــــني سفاهة فمن ذا الذي مني بمصرعه أشقى!
ومات المعتصم بعد قتله الإمام الجواد (عليه السلام) بست سنوات ليقوم ولده الواثق مقامه، ولم يكن الولد أقل من أبيه ظلماً وفجوراً.
فقواده الأتراك ينهبون الناس، ويسومونهم أشدّ العذاب، أمّا هو، فمشغول عن العالمين بالطرب والغناء والمغنين من حوله من بنين وبنات.
وانتشرت الفتن، وقامت الثورات، والانتفاضات، وبدلاً من أن يغيّر الحاكم طريقته ازداد عتوّاً وضلالاً. ومرة أخرى اتجه الناس نحو مصدر النور والخلاص، إلى المدينة المنوّرة، لقد أصبح الإمام الهادي، وهو شاب في ريعان الفتوة، موضع تقدير واحترام العلماء والفقهاء والناس أجمعين، أما أهل المدينة فإنهم كانوا يستسقون الغمام بوجهه الكريم، ولا عجب، فهو (ابن الرضا) وسابع أولاد الإمام الحسين بن علي (عليه السلام). وكيف لا يتجه الناس إليه وهم يرون أعداءهم العباسيين على نقيض سيرتهم وأخلاقهم وفضلهم، وهل يستدل على الضد إلا من الضد؟
وهل يستدل على فساد الحكام وجورهم إلا من أخلاق معارضيهم؟ ولقد عكس الشاعر المجيد (أبو فراس الحمداني) في قصيدته الميمية الشهيرة رؤية الناس إلى حكام بني العباس مقارنة بالبيت العلوي الكريم، وبصورة تفصيلية رائعة.
ومات الواثق العباسي، كما مات أبوه المعتصم من كثرة إفراطه في الجنس والأكل والمنكرات.
وجاء أخوه (المتوكل) إلى الحكم، أخرجه بعض القادة الأتراك من سجن أخيه ونصّبوه خليفة على المسلمين.
مات (الواثق) صريع الغواني والشهوات، وصعد للحكم (المتوكّل) أطغى أولاد العباس وأفسقهم، ورحم الله دعبل الخزاعي الذي سجل لنا في أبياته التالية موقف الناس من الأخوين الفاسقين:
الحـــمد لله، لا خــــــير ولا جلد ولا رقاد إذا أهـل الهوى رقدوا
خليفة مات لـــــم يحـزن له أحد وآخر قــــام، لـــم يفرح به أحد
قد مرّ هذا، ومــــرّ الذئب يتبعه وقــــام هذا، فقام الشؤم والنكد
المتوكل ذروة الحرب على أهل البيت
جاء عاشر الخلفاء العباسيين بعد خمس سنين من حكم أخيه، وكان أشد الخلفاء العباسيين كفراً وزندقة واستهتاراً بالحرمات. وكما قال عنه الإمام علي (عليه السلام): (عاشرهم أكفرهم). (المناقب لابن شهر آشوب، ج2، ص276)
جاء إلى الحكم أعداء أهل البيت (عليهم السلام) وخاصة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأشد المبغضين لسيدي شباب أهل الجنة: الحسن والحسين (عليهما السلام)، وأجرأ الحكام العباسيين على سفك الدم الحرام، وامتاز أيضاً بأنه كان شاذاً جنسياً، وكان مصاباً بمرض نفسي خبيث فقد كان يلتذ بالإساءة لمن حوله، حتى ولده الذي أخذ البيعة له من الناس، كما كان يلتذ بمنظر جلسائه وهم في حالة الخوف والفزع والذلة والاستكانة أمامه. وهكذا الطغيان فنون والطغاة أنواع وألوان.
وبينما الخليفة العباسي مشغول بشهواته وأهوائه كان الناس من أطراف البلاد يلجأون إلى البيت العلوي، لعل أحدهم يخرج لإصلاح الأوضاع الفاسدة، واستجاب لهذا الطلب الجماهيري كثير من أبناء الحسن والحسين (عليهما السلام) ونجحت انتفاضة (الحسن بن زيد) في طبرستان، ونواحي الديلم (1). بينما فشلت أكثر الانتفاضات.
وأحس الطاغية بالخطر، ومشت الوشايات ضد زعيم أهل البيت (عليهم السلام) حفيد الإمام الرضا (عليه السلام) وهو في المدينة المنورة، لقد وشى به (بريحة) العباسي صاحب الصلاة بالحرمين فكتب إلى المتوكل الرسالة التالية: (إن كان لك بالحرمين حاجة فأخرج (علي بن محمد) منها فإنه قد دعا الناس إلى نفسه، واتبعه خلق كثير) (2).
ولم تكن الوشايات للحسد فقط، فالإمامة كانت تغلي بالتذمّر من حكومة الأتراك فعلاً، وسيرة الخليفة، وطغيانه، وانشغاله بالمجون والمنكرات كانت تدفع الناس للثورة.
وكانت المدينة قد تحولت إلى مركز لقيادة الأمة روحياً ودينياً وعلمياً، وكان العلم الأوحد فيها جميعاً هو الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام).
وقد بدأ المتوكل بحرب شعواء ظالمة ضد كل ما يمت إلى أهل البيت بصلة، فتعقب شخصياتهم ورؤوسهم وأمعن فيهم قتلاً وسجناً وتعذيباً، وكان يتحجج في قتلهم بشتى الأسباب، وفيما يلي بعض الأمثلة.
1ـ نصر بن علي الجهضمي حدّث بحديث عن النبي (صلّى الله عليه وآله) أنه أخذ بيد الحسن والحسين وقال: (من أحبني وأحب هذين وأباهما وأمهما، كان معي في درجتي يوم القيامة) فأمر المتوكل بضربه ألف سوط.
إلى أن كلمه جعفر بن عبد الواحد بأن نصر بن علي لم يكن شيعياً، وإنما هو من أهل السنة فضرب خمسمائة سوط، وعفا عن الباقي (3).
2ـ كان يزيد بن عبد الله والياً للمتوكل على مصر، فضرب رجلاً من الجند ـ في شيء وجب عليه ـ فأقسم (الجندي) عليه بحق الحسن والحسين إلا عفا عنه، فزاده ثلاثين درّة (4).
ورفع صاحب البريد إلى المتوكل (5) فورد الكتاب على يزيد بضرب ذلك الجندي مائة سوط، فضربه، وحمل بعد ذلك إلى العراق، في شوال سنة 223 (6).
3ـ وفي سنة أربع وأربعين ومائتين قتل المتوكل (يعقوب بن السكيت) الإمام في اللغة العربية، فإنه ندبه إلى تعليم أولاده فنظر المتوكل يوماً إلى ولديه المعتزل والمؤيد فقال لابن السكيت: من أحب إليك هما أو الحسن والحسين؟ فقال: قنبر ـ يعني مولى علي ـ خير منهما فأمر الأتراك فداسوا بطنه حتى مات وقيل أمر بسل لسانه. قال عنه النجاشي، كان مقدماً عند أبي جعفر الثاني وأبي الحسن (عليه السلام) وكانا يختصانه.
وقد وكل بالعلويين أشد الناس عداءً لهم وهو (عمر الرخجي) والذي جرّد ضدهم حرباً اقتصادية إلى حد التجويع، يقول أبو الفرج: واستعمل على المدينة ومكة عمر بن الفرج الرخجي فمنع آل أبي طالب من التعرض لمسألة الناس ومنع الناس من البر بهم وكان لا يبلغه أن أحداً أبر أحداً منهم بشيء وإن قل إلا أنهكه عقوبة وثقله غرماً حتى كان القميص يكون بين جماعة من العلويات يصلين فيه واحدة بعد واحدة ثم يرقعنه ويجلسن على مغازلهن عواري حواسر إلى أن قتل المتوكل.
المتوكل وحربه ضد مراقد أهل البيت (عليهم السلام)
وجرّد المتوكل حرباً شعواء ظالمة ضد زوار قبور أهل البيت (عليهم السلام) وخاصّة قبر الإمام الحسين (عليه السلام) وكان بذلك ينفذ ما قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) لأم أيمن عن قبر الحسين (عليه السلام): (وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلالة في محوه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلا ظهوراً، وأمره إلا علوا) (7).
وليس غريباً أن يعتمد في حربه هذه على قائده اليهودي وبعض المجوس خوفاً من انقلاب قواده عليه، ولأن أوامره بهدم قبر سيد شباب أهل الجنة لم يكن بالأمر الهيّن الذي يتقبل تنفيذه كل أحد.
وفي هذه السنة (236 من الهجرة) أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي (عليهما السلام) وهدم ما حوله من المنازل والبيوت، وأن يبذر، ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه، ونادى بالناس في تلك الناحية: (من وجد عند قبره (قبر الحسين) بعد ثلاثة أيام حبسناه في المطبق (8) فهرب الناس، وتركوا زيارته، وخُرب وزُرع) (9).
المتوكل والإمام الهادي (عليه السلام)
وقرر (المتوكل) أن يستدعي الإمام إلى (سامراء) مركز حكومته وذلك على سيرة أبيه المعتصم، وجده المأمون، ليشرف بنفسه على الإمام (عليه السلام) وليكون رهينة ضد البيت العلوي كلّه، ولم يكن المتوكل بحاجة إلى من يحرضه على الظلم والعدوان على أهل البيت (عليهم السلام) وكما يقول أبو الفرج الأصفهاني:
(كان المتوكل شديد الوطأة على آل أبي طالب غليظاً على جماعتهم، مهتماً بأمورهم، شديد الغيظ والحقد عليهم، وسوء الظن والتهمة لهم، واتفق أن عبيد الله بن يحيى بن خاقان ـ وزيره ـ كان يسيء الرأي فيهم، فحسّن القبيح في معاملتهم، فبلغ فيهم ما لم يبلغه أحد من خلفاء بني العباس قبله) (10).
ونفذ (المتوكل قراره) حيث كتب رسالة ودية في الظاهر، ترغب الإمام في المسير إليه. وفيما يلي نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد، فإن أمير المؤمنين! عارف بقدرك، راعٍ لقرابتك! موجب لحقك! مؤثر (11) من الأمور، فيك وفي أهل بيتك ما يصلح (12) الله به حالك وحالهم! ويثبت (13) من عزك وعزّهم ويدخل (14) الأمن عليك وعليهم، ويبتغي بذلك رضا ربه وأداء ما فرض (15) عليه فيك وفيهم!
وقد رأى أمير المؤمنين! صرف عبد الله بن محمد عما كان يتولاه من الحرب والصلاة بمدينة الرسول (16) (صلّى الله عليه وآله) إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقك، واستخفافه بقدرك، وعندما قرفك (17) به، ونسبك إليه من الأمر الذي قد علم أمير المؤمنين! براءتك منه، وصدق نيتك في برك (18) وقولك، وأنك لم تؤهل نفسك لما قُرفت (19) بطلبه.
وقد ولّى أمير المؤمنين! ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل، وأمره بإكرامك وتبجيلك، والانتهاء (الإطاعة) إلى أمرك ورأيك، والتقرّب إلى الله وإلى أمير المؤمنين! بذلك.
وأمير المؤمنين! مشتاق إليك! يحب إحداث العهد بك، والنظر إليك فإن نشطت لزيارته، والمقام قبله ما أحببت (20) شخصت وإن اخترت من أهل بيتك، ومواليك وحشمك، على مهلة وطمأنينة، ترحل إذا شئت، وتنزل إذا شئت، وتسير كيف شئت!!
وإن أحببت أن يكون يحيى بن هرثمة مولى أمير المؤمنين! ومن معه من الجند (21) يرحلون برحلك (22) ويسيرون بسيرك، فالأمر ذلك إليك (23).
وقد تقدمنا (أمرنا) إليه بطاعتك، فاستخر الله حتى توافي أمير المؤمنين!
فما أحد ـ من إخوانه وولده وأهل بيته وخاصته ـ ألطف منه منزلةً ولا أحمد لهم (24) إثرةً، ولا هو لهم أنظر، ولا عليهم أشفق، وبهم أبرّ أسكن منه إليك (25) والسلام عليك ورحمة الله وبركاته (26).
كان لحن الكتاب مجرّد خدعة، لعلّه يستطيع بذلك أن يستدرج الإمام إلى سامراء (طواعية) ولكن هيهات، ولقد كان المتوكل يعرف أكثر من غيره صعوبة خداع الإمام، لذلك أرسل يحيى بن هرثمة ليجلب الإمام إليه، وهذا ما فعله هرثمة فعلاً.. فقد اقتحم دار الإمام (عليه السلام) وفتشه تفتيشاً دقيقاً.
وأمّا (بريحة) الذي سعى بالإمام عند المتوكل، فهذه قصته باختصار: خرج الإمام الهادي (عليه السلام) متوجهاً نحو العراق، واتبعه بريحة مشيّعاً، فلما صار في بعض الطريق قال له بريحة: قد علمت قرفك (اطلاعتك) على أني كنت السبب في حملك (إخراجك من المدينة) وعلي حلفٌ بأيمان مغلظة: لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين (المتوكل) أو إلى أحد من خاصته أو أبنائه، لأجمرنّ نخلك (27) ولأقتلنّ مواليك، ولأعورنّ عيون ضيعتك (28) ولأفعلن، ولأضعن!! فالتفت إليه أبو الحسن (الهادي) فقال له: (إن أقرب عرضي إياك على الله البارحة (29) وما كنت لأعرضنك عليه، ثم لأشكونك إلى غيره من خلقه).
قال: فانكبّ عليه بريحة، وضرع إليه، واستعفاه، فقال له قد عفوت عنك (30).
ووصل الإمام الهادي إلى سامراء، واحتجب عنه (المتوكل) ولم يسمح له بالدخول عليه، وأخيراً اضطر الإمام (عليه السلام) لكي ينزل في (خان الصعاليك).
ترى: لماذا احتجب المتوكل عن الإمام؟
واضح.. إن الذي يحسّ في قرارة نفسه بالخسة والذل يحاول أن يستر عقدة النص هذه عنده بإهانة الكرام، ورغم أن الخلفاء العباسيين كانوا في قمة المجد والقوة والمنعة إلا أنهم كانوا في قرارة أنفسهم يشعرون بالحقارة تجاه أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ويحسدونهم لما كانوا عليه من علم وفضيلة وتقوى، ومن محبة عميقة في قلوب الناس تجاههم!
وكما يقول الشاعر:
إني لأعــــذر حـــاسديك وإنــما متسافل الدرجات يحسد من علا
وإليك فيما يلي نماذج أخرى من محاولات (المتوكل) تحقير الإمام وتعذيبه نفسياً.
الإمام الهادي في مجلس المتوكل
قال المسعودي: وقد كان سعي بأبي الحسن علي بن محمد إلى المتوكل وقيل له: إن في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها من شيعته.
فوجه إليه ـ ليلاً ـ من الأتراك وغيرهم من هجم عليه في منزله، على غفلة ممن في داره، فوجده في بيت وحده، مغلق عليه، وعليه مدرعة (31) من شعر، ولا بساط في البيت إلا الرمل والحصى، وعلى رأسه ملحفة من صوف، متوجهاً إلى ربّه، يترنّم (32) بآيات من القرآن في الوعد والوعيد.
فأخذ على ما وجد عليه، وحمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثل بين يديه والمتوكل يشرب، وفي يده كأس، فلما رآه أعظمه وأجلسه إلى جنبه، (ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل فيه، ولا حالة يتعلّل عليه بها).
ناوله المتوكل الكأس التي كانت في يده! فقال علي بن محمد: يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط! فاعفني منه. فأعفاه.
وقال: أنشدني شعراً استحسنه!
فقال: إني لقليل الرواية للأشعار.
فأنشده:
باتوا على قلل الأجــبال تـــحرسهم غلب الرجال، فـــــما أغنـــتهم القلل
واستنزلوا بعـــد عزّ عــن معاقلهم فأودعوا حُـــــفراً يــا بئس ما نزلوا
ناداهم صارخٌ من بعـــد ما قـبروا: أين الأســـــرة والتيــــجان والحلل؟
أين الوجــوه التــــــي كانت منعمة من دونها تضـــرب الأستار والكلل؟
فأفصح القبر عنهم حين سـاءلهم: تلك الوجوه عليها الدود يقتتل(33)
قد طالما أكـــلوا فيـــها وما شربوا فأصبحوا بعـــد طول الأكل قد أكلوا
وطالما عــــمّروا دوراً لتـــحصنهم ففارقوا الـــــدور والأهلين وانتقلوا
وطالما كنزوا الأمــــــوال وادّخروا فخلّفـــــــوها إلى الأعداء وارتحلوا
أضحت منــــــازلهم قـــــفراً معطلة وساكـــنوها إلى الأجداث قد رحلوا
قال: فأشفق ـ كل من حضر ـ على علي (الهادي) وظنّ أن بادرة تبدر منه (المتوكل) إليه.
قال: والله لقد بكى المتوكل بكاءً طويلاً، حتى بلّت دموعه لحيته، وبكى من حضره، ثم أمر المتوكل برفع الشراب، ثم قال له: يا أبا الحسن، أعليك دين؟ قال: نعم، أربعة آلاف دينار.
فأمر بدفعها إليه، وردّه إلى منزله من ساعته مكرّماً (34).
الإمام الهادي يواجه الطغيان العباسي
كان المتوكل يمثل قمة الطغيان العباسي، ولقد قيض الله الإمام الهادي (عليه السلام) لكي يفشل كل أمر يقوم به هذا الطاغية، علماً بأن الإمام (عليه السلام) كان يحارب على عدة جبهات، فمن جهة كان عليه أن يقود المسيرة الثقافية ويحافظ على جوهر الإسلام والقرآن من التحريف والتأويل والضلالة، وخصوصاً ممن كانوا يتزلفون إلى الحكام الظلمة ليمرروا على الأمة مناهجهم الفكرية المنحرفة.
ولكن الحرب الكبرى كانت ضد خطة المتوكل التي صمم فيها القضاء على منهج أهل البيت (عليهم السلام) الفكري، وخطر الإمامة في الأمة.
وقد قام الإمام الهادي (عليه السلام) بتشجيع زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وأوصى أنصاره وأولياءه بذلك حتى ولو استلزم ذلك تحمل الأذى والعذاب.
وشجع على زيارة مرقد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وقبور الأئمة الطاهرين في بغداد، قبر الإمام الكاظم وولده الإمام الجواد, وليس صدفة أن أعظم الزيارات عن الأئمة (وهي زيارة الجامعة الكبيرة، وزيارة الغدير، وبعض الزيارات الأخر) مروية عن الإمام الهادي (عليه السلام).
قاد الإمام أتباعه المنتشرين في جميع أطراف العالم الإسلامي عبر الرسائل والرسل. وتعيين الوكلاء، ولقد كانت سيرته وسلوكه وكراماته كافية لكسب قلوب الناس حوله، وحتى الكثير من عمال البلاط العباسي كانوا يوالون الإمام الهادي (عليه السلام) سراً، ويكفي ذلك دليلاً على إمامة أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فلو أن أحدهم عاش في المدينة المنورة وهو في العاشرة من عمره لخاف منه الإمبراطور، فيستدعيه إلى مركز الخلافة ليراقبه بنفسه.
ولو عاش قريباً من البلاط، لآمن به أصحاب الضمائر الحية من أبناء السلطان وحاشيته، ويقال أن (المنتصر بن المتوكل) كان واحداً من الموالين للإمام الهادي (عليه السلام).
في الأمالي للشيخ الطوسي: قال ابن خنيس: قال أبو الفضل (35): إن المنتصر سمع أباه يشتم فاطمة (عليها السلام) فسأل (المنتصر) رجلاً من الناس عن ذلك؟ فقال له: قد وجب عليه القتل، إلا أنه من قتل أباه لم يطل له عمر.
فقال (المنتصر): ما أبالي ـ إذا أطعت الله بقتله ـ أن لا يطول لي عمر. فقتله، وعاش بعده سبعة أشهر (36).
وفي اليوم الخامس من شهر ربيع الأول (أي بعد انقضاء ستة أشهر من خلافته) مات المنتصر واختلفوا في سبب موته، والمشهور أنه مات مسموماً (37).
مرحلة الانفراج
وقتل المتوكل على يد ولده المنتصر، قتل الطاغية واستراح الناس لفترة ـ خصوصاً أتباع أهل البيت (عليهم السلام) ـ وعاد الناس إلى زيارة مراقد أهل البيت (عليهم السلام) وردت (فدك) إلى أولاد فاطمة الزهراء، وفرّج عن السجناء.
ولكن الفرحة لم تدم طويلاً، فما أسرع أن تآمر الأتراك على المنتصر فمات مسموماً، ثم جاء المستعين عمّه، ولم تطل أيامه، كانت السلطة قد أصبحت ألعوبة بيد الجيش التركي.
مرة أخرى تآمر الأتراك على المستعين وجاءوا بابن المتوكل محمد الملقب بالمعتزّ ورغم أن الأخير لم يكن كوالده في القسوة والطغيان إلا أنّه أغلق أبواب الانفراج على شيعة أهل البيت (عليهم السلام).
وقرّر أن يقتل الإمام الهادي بالسم.
ونفّذ المستعين خطته.
وقضى على النجمة العاشرة من نجوم الهداية الربانية، ولكن بعد أن بقيت تشع على مسيرة الأمة الإسلامية لمدة ثلاث وثلاثين عاماً هي مدة إمامته المباركة على المسلمين.