الإمام علي بن الحسين ـ عليه السَّلام ـ مع رزايا كربلاء
عاش الإمام زين العابدين (عليه السلام) المحنة القاسية التي عاشها أبوه الإمام الحسين (عليه السلام) أيام حكومة معاوية ويزيد، وشاركه في آلامه وشجونه،
وكان من أشق ما عاناه الإمام الحسين في تلك الحقبة السوداء أنه رأى السياسة الأموية قد اتجهت في مسارها إلى ضرب الإسلام، وإبادة ركائزه وقواه، والعمل على انحطاط الإنسان المسلم وشل نشاطاته الفكرية والعقلية، والحيلولة بينه وبين مبادئ دينه العظيم، ولم يستطع الإمام في أيام عاوية أن يفجر ثورته الكبرى، وذلك لعلمه بفشله وعدم استطاعها على تغيير الأوضاع القائمة في البلاد، لأن معاوية كان يتمتع بدبلوماسية قوية وحكمة يستحيل التغلب عليه، وإفشال مخططاته.
ولكن لما هلك هذا الطاغية، وتسلم من بعده يزيد مقاليد الحكم رأى الإمام الحسين (عليه السلام) أن واجبه الديني يقضي عليه بمناجزة يزيد وإسقاط حكومته حفظا لمصالح المسلمين، ورعاية لحقوقهم، ووفاء لمبادئ دين جده العظيم فأعلن (عليه السلام) ثورته الكبرى التي أوضح الله بها الكتاب، وجعلها عبرة لأولي الألباب، ونعرض - بإيجاد - إلى لقطات من تلك الثورة، ومات رافقها من الأحداث المروعة والتي كانت بمرأى ومسمع من الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وبالرغم ما كان يعان من شدة المرض إلا أنه استوعب جميع فصول تلك المأساة بإحساسه المرهف، وعاطفته اليقظة، وفيما يلي ذلك.
على صعيد كربلاء
وانتهى موكب العترة الطاهرة التي تبنت حقوق المظلومين والمضطهدين إلى صعيد كربلاء، وقد تواكبت عليهم المحن والخطوب، وألمت بهم الرزايا والكوراث، وأيقنوا بالرزء القاصم، فقد أحاطت بهم قوى البغي والعدوان وهي مصممة على إراقة دمائهم، أو إخضاعهم إلى الذل والهوان، ويأبى الله لهم ذلك.
ونظر الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الفتية من أهل بيته وهم في نضار العمر وريعان الشباب، فأغرق في البكاء وراح يقول:
(اللهم إنا عترة نبيك محمد (صلى الله عليه وآله) قد أخرجنا، وطردنا، وأزعجنا عن حرم جدنا وتعدت بنو أمية علينا، اللهم فخذ لنا بحقنا، وانصرنا على القوم الظالمين..).
ثم خاطب الأبطال من أهل بيته وأصحابه قائلا:
(الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون..)(1).
وحكت هذه الكلمات المشرفة الواقع العملي من حياة الناس في جميع مراحل التاريخ، فهم عبيد الدنيا في كل زمان ومكان، أما الدين، فلا ظل له في أعماق قلوبهم فإذا دهمتهم الكوارث تنكروا له، وابتعدوا عنه، فكان حقاً لعقا على ألسنتهم.
والتفت الإمام إلى أصحابه فقال لهم:
(أما بعد: فقد نزل بنا ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت، وتنكرت، وأدبر معروفها ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل(2) ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، والى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما..)(3). وأعرب في هذا الخطاب عما نزل به من صنوف المحن والبلاء، وإن منطق الدنيا معهم قد تغير، فقد ساقت لهم المقادير، صنوفا مرهقة من الخطوب، ولكن حفيد النبي (صلى الله عليه وآله) العظيم لم يعب ولم يحفل بها، لأنه على بصيرة من أمره، فهو يرى الحق لا يعلم به، والباطل لا يتناهى عنه، وقد عادت له الحياة كريهة والموت والشهادة في سبيل الله سعادة.
ولما أنهى خطابه هب أصحابه جميعا، وهم يضربون أروع الأمثلة للتضحية والفداء من أجل إقامة الحق والعدل، وقد تكلم كل واحد منهم بكلمة الإخلاص فشكرهم الإمام وأثنى عليهم.
الإمام ينعي نفسه:
وفي ليلة العاشر من المحرم دخل الإمام الحسين (عليه السلام) إلى خيمته، وجعل يعالج سيفه ويصلحه، وقد أيقن بالقتل، وهو يقول:
يا دهـــر أف لك من خليـل
كم لك بالإشراق والأصيـل
من احـــــب وطالـب قتيل
والـــدهر لا يقنع بالبديل
وإنــــما الأمــر إلى الجليل
وكـل حـي سالك سبيلي
وقد نعى نفسه العظيمة بهذه الأبيات، وكان في الخيمة الإمام زين العابدين وحفيدة النبي (صلى الله عليه وآله) زينب بنت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما سمع الإمام زين العابدين عرف ما أراده أبوه فخنقته العبرة، ولزم السكوت وعلم أن البلاء قد نزل - حسبما يقول - وأما عقيلة بني هاشم فقد أحست أن شقيقها وبقية أهلها عازمون على الموت، ومصممون على الشهادة فِأمسكت قلبها في ذعر، ووثبت وهي تجر ثوبها، وقد فاضت عيناها بالدموع، فوقفت أمام أخيها، وقالت له بنبرات لفظت فيها شظايا قلبها:
(واثكلاه! واحزناه، ليت الموت أعدمني الحياة، يا حسيناه، يا سيداه، يا بقية أهل بيتاه، استسلمت، ويئست من الحياة، اليوم مات جدي (صلى الله عليه وآله) وأمي فاطمة الزهراء، وأبي علي، وأخي الحسن، يا بقية الماضين وثمال الباقين..).
فنظر إليها برفق وحنان، وقال لها:
(يا أخية لا يذهبن بحلمك الشيطان..).
وانبرت العقيلة إلى أخيها، وهي شاحبة اللون، قد مزق الأسى قلبها الرقيق المعذب، فقالت له:
(أتغصب نفسك اغتصاباً، فداك أطول لحزني، واشجى لقلبي)
ولم تملك صبرها بعدما أيقنت أن شقيقها مقتول، فعمدت إلى جيبها فشقته، ولطمت وجهها، وخرت على الأرض فاقدة لوعيها، وشاركتها السيدات من عقائل الوحي في المحن القاسية، وصاحت أم كلثوم:
(وامحمداه، واعلياه، واإماماه، واحسيناه، واضيعتنا بعدك..).
وأثر المنظر الرهيب في نفس الإمام الحسين، فذاب قلبه أسى وحسرات، وتقدم إلى السيدات من بنات الوصي فجعل يأمرهن بالخلود إلى الصبر، والتحمل لأعباء هذه المحنة الكبرى قائلاً:
(يا أختاه، يا أم كلثوم يا فاطمة، يا رباب، انظرن إذا أنا قتلت فلا تشققن علي جيباً، ولا تخمشن وجها، ولا تقلن هجراً..)(4).
لقد أمرهن بالخلود إلى الصبر، والتجمل به، واجتناب هجر الكلام أمام المحن القاسية التي ستجري عليهن.
يوم عاشوراء
وليس هناك حادث في التاريخ يضارع في كوارثه وآلامه مثل ما جرى على الإمام الحسين في يوم عاشوراء، لم تبث محنة من محن الدنيا، ولا كارثة من كوارث الدهر إلا جرت على ريحانه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد تحدث الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن ذلك اليوم العصيب الخالد في دنيا الأحزان قال:
(ما من يوم أشد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من يوم أحد قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب، ثم قال: ولا يوم كيوم الحسين إذ دلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة كل يتقرب إلى الله عز وجل بدمه، وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون حتى قتلوه بغيا وظلما وعدوانا..)(5).
وليس في دنيا الإسلام على امتداد التاريخ يوم أشد وأقسى من يوم الحسين (عليه السلام) فقد ثار هذا الإمام العظيم ليقيم في هذا الشرق معالم الحياة الكريمة ويوفر الحرية والرخاء والأمن والاستقرار لجميع شعوب العالم، وقد وقفت في وجهه أولئك الصعاليك من حثالة البشرية، فأراقت دمه الزاكي في وحشية قاسية لم يشاهد التاريخ لها مثيلا في فظاعتها ومرارتها وقد اقترفت هذه الجرائم لتعيش هي تحت كابوس من العبودية والظلم والجور.
خطبة الإمام
فقبل أن تندلع نار الحرب رأى الإمام العظيم أن يقيم الحجة على أولئك الممسوخين ويسد أمامهم كل عذر، ويجعلهم على بصيرة وبين من أمرهم، فقد دعا (عليه السلام) براحلته فركبها، واتجه نحوهم، وهو بتلك الهيبة التي تحكي هيبة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخطب فيهم خطابه التاريخي الذي هو أبلغ وأروع خطاب ورد في الكلام العربي، وقد نادى بصوت عال يسمعه جلهم قال:
(أيها الناس اسمعوا قولي، ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حق لكم علي، وحتى أعتذر إليكم، من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم علي سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، ثم اقضوا إلي ولا تنظرون، إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين..).
ونقل الأثير كلماته إلى السيدات من عقائل النوة، وحرائر الوحي فتصارخن بالبكاء، وارتفعت أصواتهن، فبعث إليهن أخاه العباس وابنه عليا، وقال لهما: سكتاهن فلعمري ليكثر بكاؤهن، ولما سكتن استرسل في خطابه فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله) وقال في ذلك ما لا يحصى ذكره، ولم يسمع لا قبله، ولا بعده أبلغ منه في منطقة(6).
(أيها الناس: إن الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة بأهلها حالا بعد حال، فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته، فلا تغرنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركنه إليها، وتخيب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحل بكم نقمته، فنعم الرب ربنا، وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله) ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبا لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعدا للقوم الظالمين..).
لقد وعظهم بهذه الكلمات، فحذرهم من فتنة الدنيا وغرورها، ودلل على عواقبها الخاسرة، وأهاب بهم من الإقدام على قتل عترة نبيهم، فإنهم بذلك يخرجون من الإسلام إلى الكفر ويستوجبون عذاب الله ونقمته، ثم استرسل الإمام العظيم في خطابه قائلاً:
(أيها الناس انسبوني من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمه؟ وأول المؤمنين بالله، والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه، أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الطيار عمي؟ أولم يبلغكم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي!: (هذان سيدا شباب أهل الجنة) فإن صدقتموني بما أقول: وهو الحق، والله ما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضر به من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من إذا سألتموه أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟).
وكان خليقا بهذا الخطاب أن يرجع إلى قطعات ذلك الجيش عوازب أحلامه، ويحد انقلابا عسكريا في صفوفهم، لقد دعاهم ليرجعوا إلى نفوسهم وعقولهم لو كانوا يملكونها، فيمعنوا النظر في شأنه، فهو حفيد نبيهم، وابن وصيه، وألصق الناس وأمسهم رحما بالنبي (صلى الله عليه وآله) وهو سيد شباب أهل الجنة، وفي ذلك حصانة له من سفك دمه، وانتهاك حرمته، إلا أن ذلك الجيش لم يع هذا المنطق الفياض، فقد خلد إلى الجريمة، وغرق في الضلال.
وانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فقال له:
(هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول..).
وتصدى لجوابه حبيب بن مظاهر وهو من ذخائر الإيمان والإسلام فقال له:
(والله إني أراك تعبد على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنك صادق، ما تدري ما يقول: قد طبع الله على قلبك..).
واستمر الإمام العظيم في خطابه فقال:
(فإن كنتم في شك من هذا القول، أفتشكون أني ابن بنت نبيكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم، ولا في غيركم، ويحكم أتطلبونني بقتيل منكم قتلته، أو مال استهلكته، أو بقصاص جراحة..).
وزلزلت الأرض تحت أقدامهم، وغدوا حيارى لا يملكون جوابا لرده، ثم نادى الإمام (عليه السلام) قادة الجيش من الذين كاتبوه بالقدوم لمصرهم فقال:
(يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبحر، ويا قيس بن الأِشعث، ويا زيد بن الحرث، ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار، واخضر الجناب، وإنما تقدم على جند لك مجندة..).
ولم تخجل تلك الذوات القذرة من خيانة العهد ونقض الميثاق، فأجابوه مجمعين على الكذب:
(لم نفعل..).
واستغرب الإمام منهم ذلك فقال:
(سبحان الله، بلى والله قد فعلتم..).
وأشاح الإمام بوجهه عنهم، ووجه خطابه إلى قطعات الجيش فقال لهم:
(أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض).
وانبرى إليه قيس بن الأِشعث وهو من ركائز الإثم والباطل في الكوفة، ومن أسرة لم تنجب شريفا قط فقال له:
(أولا تنزل على حكم بني عمك؟ فإنهم لن يروك إلا ما تحب، ولن يصل إليك منهم مكروه..).
فأجابه الإمام:
(أنت أخو أخيك؟ أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد(7) عباد الله إني عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربي وربكم من كل متكبر يؤمن بيوم الحساب..)(8).
ومن المؤسف أن هذا الخطاب النير لم ينفذ إلى قلوبهم، فقد ختم الجهل على قلوبهم فكانوا كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
الحرب
ولما فشلت جميع الوسائل التي اتخذها الإمام لصيانة السلم وعدم سفك الدماء أعلن ابن سعد الحرب العامة على الإمام، فقد زحف إلى مقربة من معسكر الإمام، وأخذ سهما فأطلقه صوب الإمام وهو يصيح:
(اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمى معسكر الحسين..).
لقد طلب الباغي اللئيم من الجيش أن يشهدوا له عند أميره وسيده ابن مرجانة أنه أولمن رمى معسكر الحق والكرامة والشرف، وتتابعت السهام كأنها المطر من رماة جيشه على الحسين وأصحابه، فلم يبق أحج منهم إلا أصيب بسهم، والتفت الإمام إلى أصحابه فقال لهم: (قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم..).
وتقدم طلائع الحق من أصحاب الإمام إلى ساحة الحرب، وبدأت بذلك المعركة بين المعسكرين، وهي من أعنف المعارك، التي جرت على الأرض.
مصارع الأبرار
والتحم معسكر الحق مع جيوش الضلال والباطل، وقد تسابق أصحاب الإمام الحسين مع أهل بيته بشوق ورغبة إلى الموت، ليظفروا بالنعيم الدائم، وقد قادوا بذلك حركة الإيمان، ولم تضعف لأي واحد منهم عزيمة الإيمان، وقد دللوا بتضحياتهم الهائلة على عظمة الإسلام الذي منحهم تلك الروح الوثابة التي استطاعوا بها - على قلتهم - أن يقابلوا تلك الوحوش الكاسرة، ويزلوا بها أفدح الخسائر.
لقد أبدى أصحاب الحسين وأهل بيته من صنوف البسالة والشجاعة ما يفوق حد الوصف والإطراء، خصوصا أبا الفضل العباس (عليه السلام)، فقد واسى أخاه الحسين، وفداه بروحه، وليس في تاريخ الإنسانية في جميع مراحلها أخوة أصدق، ولا أنبل ولا أوفى من تلك الأخوة، وقد أشاد الإمام زين العابدين (عليه السلام) بها قال (عليه السلام):
(رحم الله عمي العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه، فأبدله الله عز وجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وغن للعباس منزلة عند الله تعالى يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة..)(9).
وكان أبو الفضل العباس هو آخر من قتل من أخوة الحسين، وقد وقف الإمام (عليه السلام) على الجثمان المقدس، وهوي لفظ شظايا قلبه الذي مزقته الكوارث قائلا:
(الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي..).
وشعر الإمام بالوحدة والضيعة بعد فقده لأخيه الذي لم يترك لونا من ألوان البر والمواساة إلا قدمها له، وقد أتينا على أخبار شهادته وعظيم رزية الإمام بها في كتابنا (حياة الإمام الحسين).
استغاثة الإمام
وألقى الإمام الممتحن نظرة مشفوعة بالأسى والحسرة على أهل بيته وأصحابه فرآهم مجزرين كالأضاحي على رمال كربلاء تصهرهم الشمس، وسمع عياله، وقد ارتفعت أصواتهن بالعويل والبكاء يندبن قتلاهن، ولا يعرفن ما سيجري عليهم بعد قتل الحسين، وقد أثر ذلك على الإمام تأثيرا بالغا فأخذ يستغيث، ويطلب الناصر والمعين ليحامي عن حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائلا:
(هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟..)(10).
ولما سمع الإمام زين العابدين هذه الاستغاثة المثيرة، وثب من فراش المرض وجعل يتوكأ على عصا لشدة مرضه، فبصر به الحسين،فصاح بأخته السيدة أم كلثوم: احبسيه لئلا تخلو الأرض من نسل آل محمد، وبادرت إليه عمته فأرجعته إلى فراشه وأخذ يعاني من الآلام النفسية أكثر مما يعاني من آلام مرضه، فقد طافت به المحن والخطوب، فهو يرى الكواكب المشرقة من أخوته وأبناء عمومته صرعى على الأرض، ويرى أصحابهم الأوفياء مجزرين كالأضاحي، ويرى أباه وقد أحاط به أعداء الله قد صمموا على قتله، ويرى عقائل الوحي، ومخدرات الرسالة في حالة من الذعر والخوف ما لا سبيل إلى تصويره، وقد قابل تلك الكوارث المفزعة بالصبر، وتفويض أمره إلى الله.
مصرع الإمام العظيم
وأحاط الجفاة الجناة بريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعنا بالرماح، ورمياً بالحجارة، وقد أعياه نزف الدم، وبادر المجرم الخبيث شمر بن ذي الجوشن، فاحتز رأس الإمام (عليه السلام)، ويقول الرواة: أنه كان على شفتيه ابتسامة الرضا والنصر الذي أحرزه الإمام إلى الأبد.
لقد استشهد الإمام من اجل أن يقيم في ربوع هذا الشرق دولة الحق، ويقضي على الظلم والغبن، ويوزع خيرات الله على المحرومين والمضطهدين، وينقذ الأمة من حكم الأمويين الذين كفروا بحقوق الإنسان، وحولوا البلاد إلى مزرعة لهم يصيبون منها حيثما شاءوا.
حرق الخيام
وعمد أجلاف البشرية وأوغادها إلى حرق خيام الإمام الحسين (عليه السلام) غير حافلين بما فيها من عقائل النبوة ومخدرات الوحي وأطفال أهل البيت (عليهم السلام)، وقد حملوا أقبسة من النار ومناديهم ينادي: (احرقوا بيوت الظالمين..).
لقد غدا في عرف هؤلاء أن أخبية الحسين هي بيوت الظالمين، وبيوت الأمويين وعملائهم هي بيوت العدل، وهم الذين أغرقوا البلاد في الظلم والجور.
وحينما التهبت النار في الخيام فرّت بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) في البيداء، والنار تلاحقهن، أما اليتامى فقد علا صراخهم وقد هاموا على وجوههم في البيداء، وهم ستغيثون فلا يجدون من يحميهم ويغيثهم، وكان هول ذلك المنظر من أفجع ما رآه الإمام زين العابدين ولم يغب عن ذهنه طيلة المدة التي عاشها بعد أبيه، فكان دوما يقول:
(والله ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا وخنقتني العبرة، وتذكرت فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي أحرقوا بيوت الظالمين..)(11).
الهجوم على زين العابدين
وهجم الكفرة الجفاة على الإمام زين العابدين، وقد أنهكته العلة ومزقت الأحداث الرهيبة قلبه، وقد أراد المجرم الخبيث شمر بن ذي الجوشن قتله فنهره حميد بن مسلم قائلاً:
(سبحان الله!! أتقتل الصبيان؟ إنما هو مريض..).
فلم يحفل به، وبادرت إليه العقيلة عمته زينب فتعلقت به، وقالت: لا يقتل حتى أقتل دونه(12) فكف اللئام عنه، وقد نجا منهم بأعجوبة.
جزع الإمام زين العابدين
وجزع الإمام زين العابدين كأشد ما يكون الجزع، وتمنى مفارقة الحياة، وذلك من هول ما رأى من المآسي التي جرت على أهل البيت، وقد أخذ يعاني آلام الاحتضار حينما رأى جثة أبيه، وجثث أهل بيته وأصحابه منبوذة بالعراء لم ينبر أحد إلى مواراتها، وبصرت به عمته العقيلة زينب فبادرت إليه مسلية قائلة:
(ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدتي وإخوتي، فوالله إن هذا لعهد من الله إلى جدك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطعة، والجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه، فلا يزداد أثره إلا علوا..)(13).
وأخذت تسليه بهذا ونحوه حتى أزالت ما ألم به من عظيم الأسى الذي كاد أن يقضي عليه.
مواراته للجثث الطاهرة
وعمد الأجلاف اللئام من أهل الكوفة إلى مواراة جيف قتلاهم، وتركوا جثمان ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجثث أهل بيته وأصحابه الممجدين على رمضاء كربلاء، وانبرى قوم من بني أسد من الذين لم يشتركوا في الحرب فحفروا القبور لتلك الجثث الزواكي، وكانوا متحيرين في معرفتها لأن الرؤوس قد فصلت عنها، وبينما هم كذلك إذ أطل عليهم الإمام زين العابدين - حسبما نصت عليه بعض المصادر الشيعية- فأوقف بني أسد على شهداء أهل البيت وغيرهم من الأصحاب، وبادر بنفسه إلى حمل جثمان أبيه فواراه في مثواه الأخير وهو يذرف أحر الدموع قائلاً:
(طوبى لأرض تضمنت جسدك الطاهر، فإن الدنيا بعدك مظلمة، والآخرة بنورك مشرقة، أما الليل فمسهد، والحزن سرمد أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم، وعليك مني السلام يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته..).
ورسم على القبر الشريف هذه الكلمات: (هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي قتلوه عطشانا غريبا) ودفن عند رجلي الإمام فلذة كبده ولده علي الأكبر، ودفن بقية الشهداء من هاشميين وغيرهم في حفرة واحدة، ثم انطلق مع الأسديين إلى نهر العلقمي فحفر قبرا ووارى فيه قمر بني هاشم أبا الفضل العباس بن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وجعل يبكي أمر البكاء وهو يقول:
(على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورمة الله وبركاته..)(14).
وأصبحت تلك القبور الطاهرة رمزا للكرامة الإنسانية، ورمزا لكل تضحية تقوم على الشرف والعدل والحق، وقد أصبحت من أقدس مراكز العبادة، وأفضلها في الإسلام.
سبايا أهل البيت في الكوفة
وأدخلت عقائل الوحي ومخدرت الرسالة سبايا إلى الكوفة، وقد عزفت أبواق الجيش وخفقت راياتهم معلنة النصر والظفر بقتلهم لريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيد شباب أهل الجنة، وقد وصف ذلك المنظر مسلم الجصاص، يقول: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة، فبينما أنا أجصص الأبواب، وإذا بالزعقات قد ارتفعت من جميع الكوفة فأقبلت على أحد خدام القصر فقلت له:
-(مالي أرى الكوفة تضج؟).
-(الساعة يأتون برأس خارجي خرج على يزيد..).
-(من هذا الخارجي؟..).
-(الحسين بن علي..).
يقول: فتركت الخادم، وأخذت ألطم على وجهي حتى خشيت على عيني أن تذهبا وغسلت يدي من الجص، وخرجت من القصر حتى أتيت إلى الكنائس، فبينما أنا واقف، والناس يتوقعون وصول السبايا والرؤوس إذ أقبل أربعون جملا تحمل النساء والأطفال، وإذا بعلي بن الحسن على بعير بغير وطاء وأوداجه تشخب دما وهو يبكي ويقول:
يا أمة السوء لا سقيا ربعـكم
يا أمة لم تراع جـدنا فيــنـا
لـو أنـا ورسـول الله يجمعنا
يـوم القيامـة ما كنتم تقولونا
تسيرون فينا على الأقتاب عارية
كأنــنا لم نشيد فيـكم دينا(15)
ويقول جذلم بن بشير: قدمت الكوفة سنة (61هـ) عند مجيء علي ابن الحسين من كربلاءإلى الكوفة، وكانوا على جمال بغير وطاء فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن، ورأيت علي بن الحسين قد أنهكته العلة، وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة إلى عنقه(16) وهو يقول بصوت ضعيف: إن هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا فمن قتلنا؟(17).
خطاب الإمام زين العابدين
وأحاطت الجماهير بالإمام زين العابدين (عليه السلام)، فرأى أن يخطب فيهم، ويعرفهم إثم ما اقترفوه، وما جنوه على أنفسهم وعلى الأمة، فقال (عليه السلام) بعد حمد الله والثناء عليه:
(أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن أبي طالب أنا ابن من انتهكت حرمته، وسلبت نعمته، وانتهب ماله، وسبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل، ولا ترات، أنا ابن من قتل صبرا، وكفى بذلك فخرا.
أيها الناس ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهود والميثاق والبيعة، وقاتلتموه، فتبا لما قدمتم لأنفسكم وسوءة لرأيكم، بأي عين تنظرون إلى رسول الله؟ إذ يقول لكم: قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي..).
وعلت أصوات أولئك العبيد الذين سودوا وجه التاريخ بالبكاء والنحيب ونادى مناد منهم:
(هلكتم وما تعلمون..).
واستمر الإمام في خطابه فقال:
(رحم الله امرأ قبل نصيحتي، وحفظ وصيتي، في الله وفي رسوله وأهل بيته، فإن لنا في رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسوة حسنة).
فهتفوا جميعا بلسان واحد:
(نحن يا ابن رسول اله، سامعون مطيعون، حافظون لذمامك غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله، فإنا حرب لحربك، وسلم لسلمك نبرأ ممن ظلمك وظلمنا..).
ورد الإمام عليهم هذا الولاء الكاذب قائلا:
(هيهات، هيهات، أيها الغدرة المكرة، حيل بينكم، وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى أبي من قبل، كلا ورب الراقصات(18) فإن الجرح لما يندمل، قتل أبي بالأمس وأهل بيته، ولم ينس ثكل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وثكل أبي، وبني أبي، إن وجده والله بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصته تجري في فراش صدري..)(19).
وأمسك الإمام عن الكلام معرضا عن أولئك الغدرة الفجرة الذين هم وصمة عار على البشرية، فهم الذين قتلوا ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي جاء ليحررهم، وينقذهم من ظلم الأمويين وجورهم، وبعد ذلك ندموا، وراحوا يبكون عليه.
1- حياة الإمام الحسين ج 3 ص 97.
2- المرعى الوبيل: هو الطعام الخيم الذي يخاف وباله.
3- معجم الطبراني تاريخ ابن عساكر ج 13 ص 74.
4- حياة الإمام الحسين ج 3 ص 172 - 173.
5- بحار الأنوار ج 9 ص 147.
6- الطبري ج 6 ص 242.
7- وفي رواية (ولا أقر لكم إقرار العبيد).
8- حياة الإمام الحسين ج 3 ص 184-188.
9- البحار ج 9 ص 147.
10- حياة الإمام الحسين ج 3 ص274.
11- حياة الإمام الحسين ج 3 ص 299.
12- تاريخ القرماني ص 108.
13- كامل الزيارات ص 261.
14- حياة الإمام الحسين ج 3 ص 324-325.
15- حياة الإمام الحسين ج 3 ص 333.
16- أمالي الشيخ المفيد ص 143 مخطوط.
17- مقتل الحسين لعبد الله مخطوط.
18- الراقصات: مطايا الحجيج.
19- مثير الأحزان لابن نما، اللهوف
عاش الإمام زين العابدين (عليه السلام) المحنة القاسية التي عاشها أبوه الإمام الحسين (عليه السلام) أيام حكومة معاوية ويزيد، وشاركه في آلامه وشجونه،
وكان من أشق ما عاناه الإمام الحسين في تلك الحقبة السوداء أنه رأى السياسة الأموية قد اتجهت في مسارها إلى ضرب الإسلام، وإبادة ركائزه وقواه، والعمل على انحطاط الإنسان المسلم وشل نشاطاته الفكرية والعقلية، والحيلولة بينه وبين مبادئ دينه العظيم، ولم يستطع الإمام في أيام عاوية أن يفجر ثورته الكبرى، وذلك لعلمه بفشله وعدم استطاعها على تغيير الأوضاع القائمة في البلاد، لأن معاوية كان يتمتع بدبلوماسية قوية وحكمة يستحيل التغلب عليه، وإفشال مخططاته.
ولكن لما هلك هذا الطاغية، وتسلم من بعده يزيد مقاليد الحكم رأى الإمام الحسين (عليه السلام) أن واجبه الديني يقضي عليه بمناجزة يزيد وإسقاط حكومته حفظا لمصالح المسلمين، ورعاية لحقوقهم، ووفاء لمبادئ دين جده العظيم فأعلن (عليه السلام) ثورته الكبرى التي أوضح الله بها الكتاب، وجعلها عبرة لأولي الألباب، ونعرض - بإيجاد - إلى لقطات من تلك الثورة، ومات رافقها من الأحداث المروعة والتي كانت بمرأى ومسمع من الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وبالرغم ما كان يعان من شدة المرض إلا أنه استوعب جميع فصول تلك المأساة بإحساسه المرهف، وعاطفته اليقظة، وفيما يلي ذلك.
على صعيد كربلاء
وانتهى موكب العترة الطاهرة التي تبنت حقوق المظلومين والمضطهدين إلى صعيد كربلاء، وقد تواكبت عليهم المحن والخطوب، وألمت بهم الرزايا والكوراث، وأيقنوا بالرزء القاصم، فقد أحاطت بهم قوى البغي والعدوان وهي مصممة على إراقة دمائهم، أو إخضاعهم إلى الذل والهوان، ويأبى الله لهم ذلك.
ونظر الإمام الحسين (عليه السلام) إلى الفتية من أهل بيته وهم في نضار العمر وريعان الشباب، فأغرق في البكاء وراح يقول:
(اللهم إنا عترة نبيك محمد (صلى الله عليه وآله) قد أخرجنا، وطردنا، وأزعجنا عن حرم جدنا وتعدت بنو أمية علينا، اللهم فخذ لنا بحقنا، وانصرنا على القوم الظالمين..).
ثم خاطب الأبطال من أهل بيته وأصحابه قائلا:
(الناس عبيد الدنيا، والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قلّ الديانون..)(1).
وحكت هذه الكلمات المشرفة الواقع العملي من حياة الناس في جميع مراحل التاريخ، فهم عبيد الدنيا في كل زمان ومكان، أما الدين، فلا ظل له في أعماق قلوبهم فإذا دهمتهم الكوارث تنكروا له، وابتعدوا عنه، فكان حقاً لعقا على ألسنتهم.
والتفت الإمام إلى أصحابه فقال لهم:
(أما بعد: فقد نزل بنا ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت، وتنكرت، وأدبر معروفها ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل(2) ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، والى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما..)(3). وأعرب في هذا الخطاب عما نزل به من صنوف المحن والبلاء، وإن منطق الدنيا معهم قد تغير، فقد ساقت لهم المقادير، صنوفا مرهقة من الخطوب، ولكن حفيد النبي (صلى الله عليه وآله) العظيم لم يعب ولم يحفل بها، لأنه على بصيرة من أمره، فهو يرى الحق لا يعلم به، والباطل لا يتناهى عنه، وقد عادت له الحياة كريهة والموت والشهادة في سبيل الله سعادة.
ولما أنهى خطابه هب أصحابه جميعا، وهم يضربون أروع الأمثلة للتضحية والفداء من أجل إقامة الحق والعدل، وقد تكلم كل واحد منهم بكلمة الإخلاص فشكرهم الإمام وأثنى عليهم.
الإمام ينعي نفسه:
وفي ليلة العاشر من المحرم دخل الإمام الحسين (عليه السلام) إلى خيمته، وجعل يعالج سيفه ويصلحه، وقد أيقن بالقتل، وهو يقول:
يا دهـــر أف لك من خليـل
كم لك بالإشراق والأصيـل
من احـــــب وطالـب قتيل
والـــدهر لا يقنع بالبديل
وإنــــما الأمــر إلى الجليل
وكـل حـي سالك سبيلي
وقد نعى نفسه العظيمة بهذه الأبيات، وكان في الخيمة الإمام زين العابدين وحفيدة النبي (صلى الله عليه وآله) زينب بنت الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما سمع الإمام زين العابدين عرف ما أراده أبوه فخنقته العبرة، ولزم السكوت وعلم أن البلاء قد نزل - حسبما يقول - وأما عقيلة بني هاشم فقد أحست أن شقيقها وبقية أهلها عازمون على الموت، ومصممون على الشهادة فِأمسكت قلبها في ذعر، ووثبت وهي تجر ثوبها، وقد فاضت عيناها بالدموع، فوقفت أمام أخيها، وقالت له بنبرات لفظت فيها شظايا قلبها:
(واثكلاه! واحزناه، ليت الموت أعدمني الحياة، يا حسيناه، يا سيداه، يا بقية أهل بيتاه، استسلمت، ويئست من الحياة، اليوم مات جدي (صلى الله عليه وآله) وأمي فاطمة الزهراء، وأبي علي، وأخي الحسن، يا بقية الماضين وثمال الباقين..).
فنظر إليها برفق وحنان، وقال لها:
(يا أخية لا يذهبن بحلمك الشيطان..).
وانبرت العقيلة إلى أخيها، وهي شاحبة اللون، قد مزق الأسى قلبها الرقيق المعذب، فقالت له:
(أتغصب نفسك اغتصاباً، فداك أطول لحزني، واشجى لقلبي)
ولم تملك صبرها بعدما أيقنت أن شقيقها مقتول، فعمدت إلى جيبها فشقته، ولطمت وجهها، وخرت على الأرض فاقدة لوعيها، وشاركتها السيدات من عقائل الوحي في المحن القاسية، وصاحت أم كلثوم:
(وامحمداه، واعلياه، واإماماه، واحسيناه، واضيعتنا بعدك..).
وأثر المنظر الرهيب في نفس الإمام الحسين، فذاب قلبه أسى وحسرات، وتقدم إلى السيدات من بنات الوصي فجعل يأمرهن بالخلود إلى الصبر، والتحمل لأعباء هذه المحنة الكبرى قائلاً:
(يا أختاه، يا أم كلثوم يا فاطمة، يا رباب، انظرن إذا أنا قتلت فلا تشققن علي جيباً، ولا تخمشن وجها، ولا تقلن هجراً..)(4).
لقد أمرهن بالخلود إلى الصبر، والتجمل به، واجتناب هجر الكلام أمام المحن القاسية التي ستجري عليهن.
يوم عاشوراء
وليس هناك حادث في التاريخ يضارع في كوارثه وآلامه مثل ما جرى على الإمام الحسين في يوم عاشوراء، لم تبث محنة من محن الدنيا، ولا كارثة من كوارث الدهر إلا جرت على ريحانه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد تحدث الإمام زين العابدين (عليه السلام) عن ذلك اليوم العصيب الخالد في دنيا الأحزان قال:
(ما من يوم أشد على رسول الله (صلى الله عليه وآله) من يوم أحد قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب، ثم قال: ولا يوم كيوم الحسين إذ دلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة كل يتقرب إلى الله عز وجل بدمه، وهو بالله يذكرهم فلا يتعظون حتى قتلوه بغيا وظلما وعدوانا..)(5).
وليس في دنيا الإسلام على امتداد التاريخ يوم أشد وأقسى من يوم الحسين (عليه السلام) فقد ثار هذا الإمام العظيم ليقيم في هذا الشرق معالم الحياة الكريمة ويوفر الحرية والرخاء والأمن والاستقرار لجميع شعوب العالم، وقد وقفت في وجهه أولئك الصعاليك من حثالة البشرية، فأراقت دمه الزاكي في وحشية قاسية لم يشاهد التاريخ لها مثيلا في فظاعتها ومرارتها وقد اقترفت هذه الجرائم لتعيش هي تحت كابوس من العبودية والظلم والجور.
خطبة الإمام
فقبل أن تندلع نار الحرب رأى الإمام العظيم أن يقيم الحجة على أولئك الممسوخين ويسد أمامهم كل عذر، ويجعلهم على بصيرة وبين من أمرهم، فقد دعا (عليه السلام) براحلته فركبها، واتجه نحوهم، وهو بتلك الهيبة التي تحكي هيبة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) فخطب فيهم خطابه التاريخي الذي هو أبلغ وأروع خطاب ورد في الكلام العربي، وقد نادى بصوت عال يسمعه جلهم قال:
(أيها الناس اسمعوا قولي، ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حق لكم علي، وحتى أعتذر إليكم، من مقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري، وصدقتم قولي وأعطيتموني النصف كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم علي سبيل، وإن لم تقبلوا مني العذر، ولم تعطوا النصف من أنفسكم فاجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة، ثم اقضوا إلي ولا تنظرون، إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين..).
ونقل الأثير كلماته إلى السيدات من عقائل النوة، وحرائر الوحي فتصارخن بالبكاء، وارتفعت أصواتهن، فبعث إليهن أخاه العباس وابنه عليا، وقال لهما: سكتاهن فلعمري ليكثر بكاؤهن، ولما سكتن استرسل في خطابه فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي (صلى الله عليه وآله) وقال في ذلك ما لا يحصى ذكره، ولم يسمع لا قبله، ولا بعده أبلغ منه في منطقة(6).
(أيها الناس: إن الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال، متصرفة بأهلها حالا بعد حال، فالمغرور من غرته، والشقي من فتنته، فلا تغرنكم هذه الدنيا فإنها تقطع رجاء من ركنه إليها، وتخيب طمع من طمع فيها، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطم الله فيه عليكم، وأعرض بوجهه الكريم عنكم، وأحل بكم نقمته، فنعم الرب ربنا، وبئس العبيد أنتم، أقررتم بالطاعة، وآمنتم بالرسول محمد (صلى الله عليه وآله) ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبا لكم ولما تريدون، إنا لله وإنا إليه راجعون، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبعدا للقوم الظالمين..).
لقد وعظهم بهذه الكلمات، فحذرهم من فتنة الدنيا وغرورها، ودلل على عواقبها الخاسرة، وأهاب بهم من الإقدام على قتل عترة نبيهم، فإنهم بذلك يخرجون من الإسلام إلى الكفر ويستوجبون عذاب الله ونقمته، ثم استرسل الإمام العظيم في خطابه قائلاً:
(أيها الناس انسبوني من أنا؟ ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، وانظروا هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم، وابن وصيه وابن عمه؟ وأول المؤمنين بالله، والمصدق لرسوله بما جاء من عند ربه، أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الطيار عمي؟ أولم يبلغكم قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي!: (هذان سيدا شباب أهل الجنة) فإن صدقتموني بما أقول: وهو الحق، والله ما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله، ويضر به من اختلقه، وإن كذبتموني فإن فيكم من إذا سألتموه أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟).
وكان خليقا بهذا الخطاب أن يرجع إلى قطعات ذلك الجيش عوازب أحلامه، ويحد انقلابا عسكريا في صفوفهم، لقد دعاهم ليرجعوا إلى نفوسهم وعقولهم لو كانوا يملكونها، فيمعنوا النظر في شأنه، فهو حفيد نبيهم، وابن وصيه، وألصق الناس وأمسهم رحما بالنبي (صلى الله عليه وآله) وهو سيد شباب أهل الجنة، وفي ذلك حصانة له من سفك دمه، وانتهاك حرمته، إلا أن ذلك الجيش لم يع هذا المنطق الفياض، فقد خلد إلى الجريمة، وغرق في الضلال.
وانبرى إليه الرجس الخبيث شمر بن ذي الجوشن فقال له:
(هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما يقول..).
وتصدى لجوابه حبيب بن مظاهر وهو من ذخائر الإيمان والإسلام فقال له:
(والله إني أراك تعبد على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنك صادق، ما تدري ما يقول: قد طبع الله على قلبك..).
واستمر الإمام العظيم في خطابه فقال:
(فإن كنتم في شك من هذا القول، أفتشكون أني ابن بنت نبيكم فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم، ولا في غيركم، ويحكم أتطلبونني بقتيل منكم قتلته، أو مال استهلكته، أو بقصاص جراحة..).
وزلزلت الأرض تحت أقدامهم، وغدوا حيارى لا يملكون جوابا لرده، ثم نادى الإمام (عليه السلام) قادة الجيش من الذين كاتبوه بالقدوم لمصرهم فقال:
(يا شبث بن ربعي، ويا حجار بن أبحر، ويا قيس بن الأِشعث، ويا زيد بن الحرث، ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار، واخضر الجناب، وإنما تقدم على جند لك مجندة..).
ولم تخجل تلك الذوات القذرة من خيانة العهد ونقض الميثاق، فأجابوه مجمعين على الكذب:
(لم نفعل..).
واستغرب الإمام منهم ذلك فقال:
(سبحان الله، بلى والله قد فعلتم..).
وأشاح الإمام بوجهه عنهم، ووجه خطابه إلى قطعات الجيش فقال لهم:
(أيها الناس إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض).
وانبرى إليه قيس بن الأِشعث وهو من ركائز الإثم والباطل في الكوفة، ومن أسرة لم تنجب شريفا قط فقال له:
(أولا تنزل على حكم بني عمك؟ فإنهم لن يروك إلا ما تحب، ولن يصل إليك منهم مكروه..).
فأجابه الإمام:
(أنت أخو أخيك؟ أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفر فرار العبيد(7) عباد الله إني عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربي وربكم من كل متكبر يؤمن بيوم الحساب..)(8).
ومن المؤسف أن هذا الخطاب النير لم ينفذ إلى قلوبهم، فقد ختم الجهل على قلوبهم فكانوا كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
الحرب
ولما فشلت جميع الوسائل التي اتخذها الإمام لصيانة السلم وعدم سفك الدماء أعلن ابن سعد الحرب العامة على الإمام، فقد زحف إلى مقربة من معسكر الإمام، وأخذ سهما فأطلقه صوب الإمام وهو يصيح:
(اشهدوا لي عند الأمير أني أول من رمى معسكر الحسين..).
لقد طلب الباغي اللئيم من الجيش أن يشهدوا له عند أميره وسيده ابن مرجانة أنه أولمن رمى معسكر الحق والكرامة والشرف، وتتابعت السهام كأنها المطر من رماة جيشه على الحسين وأصحابه، فلم يبق أحج منهم إلا أصيب بسهم، والتفت الإمام إلى أصحابه فقال لهم: (قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم..).
وتقدم طلائع الحق من أصحاب الإمام إلى ساحة الحرب، وبدأت بذلك المعركة بين المعسكرين، وهي من أعنف المعارك، التي جرت على الأرض.
مصارع الأبرار
والتحم معسكر الحق مع جيوش الضلال والباطل، وقد تسابق أصحاب الإمام الحسين مع أهل بيته بشوق ورغبة إلى الموت، ليظفروا بالنعيم الدائم، وقد قادوا بذلك حركة الإيمان، ولم تضعف لأي واحد منهم عزيمة الإيمان، وقد دللوا بتضحياتهم الهائلة على عظمة الإسلام الذي منحهم تلك الروح الوثابة التي استطاعوا بها - على قلتهم - أن يقابلوا تلك الوحوش الكاسرة، ويزلوا بها أفدح الخسائر.
لقد أبدى أصحاب الحسين وأهل بيته من صنوف البسالة والشجاعة ما يفوق حد الوصف والإطراء، خصوصا أبا الفضل العباس (عليه السلام)، فقد واسى أخاه الحسين، وفداه بروحه، وليس في تاريخ الإنسانية في جميع مراحلها أخوة أصدق، ولا أنبل ولا أوفى من تلك الأخوة، وقد أشاد الإمام زين العابدين (عليه السلام) بها قال (عليه السلام):
(رحم الله عمي العباس، فلقد آثر وأبلى، وفدى أخاه بنفسه، حتى قطعت يداه، فأبدله الله عز وجل بهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب، وغن للعباس منزلة عند الله تعالى يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة..)(9).
وكان أبو الفضل العباس هو آخر من قتل من أخوة الحسين، وقد وقف الإمام (عليه السلام) على الجثمان المقدس، وهوي لفظ شظايا قلبه الذي مزقته الكوارث قائلا:
(الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي..).
وشعر الإمام بالوحدة والضيعة بعد فقده لأخيه الذي لم يترك لونا من ألوان البر والمواساة إلا قدمها له، وقد أتينا على أخبار شهادته وعظيم رزية الإمام بها في كتابنا (حياة الإمام الحسين).
استغاثة الإمام
وألقى الإمام الممتحن نظرة مشفوعة بالأسى والحسرة على أهل بيته وأصحابه فرآهم مجزرين كالأضاحي على رمال كربلاء تصهرهم الشمس، وسمع عياله، وقد ارتفعت أصواتهن بالعويل والبكاء يندبن قتلاهن، ولا يعرفن ما سيجري عليهم بعد قتل الحسين، وقد أثر ذلك على الإمام تأثيرا بالغا فأخذ يستغيث، ويطلب الناصر والمعين ليحامي عن حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) قائلا:
(هل من ذاب يذب عن حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ هل من موحد يخاف الله فينا؟ هل من مغيث يرجو الله في إغاثتنا؟..)(10).
ولما سمع الإمام زين العابدين هذه الاستغاثة المثيرة، وثب من فراش المرض وجعل يتوكأ على عصا لشدة مرضه، فبصر به الحسين،فصاح بأخته السيدة أم كلثوم: احبسيه لئلا تخلو الأرض من نسل آل محمد، وبادرت إليه عمته فأرجعته إلى فراشه وأخذ يعاني من الآلام النفسية أكثر مما يعاني من آلام مرضه، فقد طافت به المحن والخطوب، فهو يرى الكواكب المشرقة من أخوته وأبناء عمومته صرعى على الأرض، ويرى أصحابهم الأوفياء مجزرين كالأضاحي، ويرى أباه وقد أحاط به أعداء الله قد صمموا على قتله، ويرى عقائل الوحي، ومخدرات الرسالة في حالة من الذعر والخوف ما لا سبيل إلى تصويره، وقد قابل تلك الكوارث المفزعة بالصبر، وتفويض أمره إلى الله.
مصرع الإمام العظيم
وأحاط الجفاة الجناة بريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهم يوسعونه ضرباً بالسيوف وطعنا بالرماح، ورمياً بالحجارة، وقد أعياه نزف الدم، وبادر المجرم الخبيث شمر بن ذي الجوشن، فاحتز رأس الإمام (عليه السلام)، ويقول الرواة: أنه كان على شفتيه ابتسامة الرضا والنصر الذي أحرزه الإمام إلى الأبد.
لقد استشهد الإمام من اجل أن يقيم في ربوع هذا الشرق دولة الحق، ويقضي على الظلم والغبن، ويوزع خيرات الله على المحرومين والمضطهدين، وينقذ الأمة من حكم الأمويين الذين كفروا بحقوق الإنسان، وحولوا البلاد إلى مزرعة لهم يصيبون منها حيثما شاءوا.
حرق الخيام
وعمد أجلاف البشرية وأوغادها إلى حرق خيام الإمام الحسين (عليه السلام) غير حافلين بما فيها من عقائل النبوة ومخدرات الوحي وأطفال أهل البيت (عليهم السلام)، وقد حملوا أقبسة من النار ومناديهم ينادي: (احرقوا بيوت الظالمين..).
لقد غدا في عرف هؤلاء أن أخبية الحسين هي بيوت الظالمين، وبيوت الأمويين وعملائهم هي بيوت العدل، وهم الذين أغرقوا البلاد في الظلم والجور.
وحينما التهبت النار في الخيام فرّت بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله) في البيداء، والنار تلاحقهن، أما اليتامى فقد علا صراخهم وقد هاموا على وجوههم في البيداء، وهم ستغيثون فلا يجدون من يحميهم ويغيثهم، وكان هول ذلك المنظر من أفجع ما رآه الإمام زين العابدين ولم يغب عن ذهنه طيلة المدة التي عاشها بعد أبيه، فكان دوما يقول:
(والله ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا وخنقتني العبرة، وتذكرت فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة، ومن خباء إلى خباء، ومنادي القوم ينادي أحرقوا بيوت الظالمين..)(11).
الهجوم على زين العابدين
وهجم الكفرة الجفاة على الإمام زين العابدين، وقد أنهكته العلة ومزقت الأحداث الرهيبة قلبه، وقد أراد المجرم الخبيث شمر بن ذي الجوشن قتله فنهره حميد بن مسلم قائلاً:
(سبحان الله!! أتقتل الصبيان؟ إنما هو مريض..).
فلم يحفل به، وبادرت إليه العقيلة عمته زينب فتعلقت به، وقالت: لا يقتل حتى أقتل دونه(12) فكف اللئام عنه، وقد نجا منهم بأعجوبة.
جزع الإمام زين العابدين
وجزع الإمام زين العابدين كأشد ما يكون الجزع، وتمنى مفارقة الحياة، وذلك من هول ما رأى من المآسي التي جرت على أهل البيت، وقد أخذ يعاني آلام الاحتضار حينما رأى جثة أبيه، وجثث أهل بيته وأصحابه منبوذة بالعراء لم ينبر أحد إلى مواراتها، وبصرت به عمته العقيلة زينب فبادرت إليه مسلية قائلة:
(ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدتي وإخوتي، فوالله إن هذا لعهد من الله إلى جدك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض وهم معروفون في أهل السماوات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطعة، والجسوم المضرجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علما لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره، ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه، فلا يزداد أثره إلا علوا..)(13).
وأخذت تسليه بهذا ونحوه حتى أزالت ما ألم به من عظيم الأسى الذي كاد أن يقضي عليه.
مواراته للجثث الطاهرة
وعمد الأجلاف اللئام من أهل الكوفة إلى مواراة جيف قتلاهم، وتركوا جثمان ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجثث أهل بيته وأصحابه الممجدين على رمضاء كربلاء، وانبرى قوم من بني أسد من الذين لم يشتركوا في الحرب فحفروا القبور لتلك الجثث الزواكي، وكانوا متحيرين في معرفتها لأن الرؤوس قد فصلت عنها، وبينما هم كذلك إذ أطل عليهم الإمام زين العابدين - حسبما نصت عليه بعض المصادر الشيعية- فأوقف بني أسد على شهداء أهل البيت وغيرهم من الأصحاب، وبادر بنفسه إلى حمل جثمان أبيه فواراه في مثواه الأخير وهو يذرف أحر الدموع قائلاً:
(طوبى لأرض تضمنت جسدك الطاهر، فإن الدنيا بعدك مظلمة، والآخرة بنورك مشرقة، أما الليل فمسهد، والحزن سرمد أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم، وعليك مني السلام يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته..).
ورسم على القبر الشريف هذه الكلمات: (هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي قتلوه عطشانا غريبا) ودفن عند رجلي الإمام فلذة كبده ولده علي الأكبر، ودفن بقية الشهداء من هاشميين وغيرهم في حفرة واحدة، ثم انطلق مع الأسديين إلى نهر العلقمي فحفر قبرا ووارى فيه قمر بني هاشم أبا الفضل العباس بن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وجعل يبكي أمر البكاء وهو يقول:
(على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورمة الله وبركاته..)(14).
وأصبحت تلك القبور الطاهرة رمزا للكرامة الإنسانية، ورمزا لكل تضحية تقوم على الشرف والعدل والحق، وقد أصبحت من أقدس مراكز العبادة، وأفضلها في الإسلام.
سبايا أهل البيت في الكوفة
وأدخلت عقائل الوحي ومخدرت الرسالة سبايا إلى الكوفة، وقد عزفت أبواق الجيش وخفقت راياتهم معلنة النصر والظفر بقتلهم لريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسيد شباب أهل الجنة، وقد وصف ذلك المنظر مسلم الجصاص، يقول: دعاني ابن زياد لإصلاح دار الإمارة بالكوفة، فبينما أنا أجصص الأبواب، وإذا بالزعقات قد ارتفعت من جميع الكوفة فأقبلت على أحد خدام القصر فقلت له:
-(مالي أرى الكوفة تضج؟).
-(الساعة يأتون برأس خارجي خرج على يزيد..).
-(من هذا الخارجي؟..).
-(الحسين بن علي..).
يقول: فتركت الخادم، وأخذت ألطم على وجهي حتى خشيت على عيني أن تذهبا وغسلت يدي من الجص، وخرجت من القصر حتى أتيت إلى الكنائس، فبينما أنا واقف، والناس يتوقعون وصول السبايا والرؤوس إذ أقبل أربعون جملا تحمل النساء والأطفال، وإذا بعلي بن الحسن على بعير بغير وطاء وأوداجه تشخب دما وهو يبكي ويقول:
يا أمة السوء لا سقيا ربعـكم
يا أمة لم تراع جـدنا فيــنـا
لـو أنـا ورسـول الله يجمعنا
يـوم القيامـة ما كنتم تقولونا
تسيرون فينا على الأقتاب عارية
كأنــنا لم نشيد فيـكم دينا(15)
ويقول جذلم بن بشير: قدمت الكوفة سنة (61هـ) عند مجيء علي ابن الحسين من كربلاءإلى الكوفة، وكانوا على جمال بغير وطاء فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن، ورأيت علي بن الحسين قد أنهكته العلة، وفي عنقه الجامعة ويده مغلولة إلى عنقه(16) وهو يقول بصوت ضعيف: إن هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا فمن قتلنا؟(17).
خطاب الإمام زين العابدين
وأحاطت الجماهير بالإمام زين العابدين (عليه السلام)، فرأى أن يخطب فيهم، ويعرفهم إثم ما اقترفوه، وما جنوه على أنفسهم وعلى الأمة، فقال (عليه السلام) بعد حمد الله والثناء عليه:
(أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن أبي طالب أنا ابن من انتهكت حرمته، وسلبت نعمته، وانتهب ماله، وسبي عياله، أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل، ولا ترات، أنا ابن من قتل صبرا، وكفى بذلك فخرا.
أيها الناس ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهود والميثاق والبيعة، وقاتلتموه، فتبا لما قدمتم لأنفسكم وسوءة لرأيكم، بأي عين تنظرون إلى رسول الله؟ إذ يقول لكم: قتلتم عترتي وانتهكتم حرمتي، فلستم من أمتي..).
وعلت أصوات أولئك العبيد الذين سودوا وجه التاريخ بالبكاء والنحيب ونادى مناد منهم:
(هلكتم وما تعلمون..).
واستمر الإمام في خطابه فقال:
(رحم الله امرأ قبل نصيحتي، وحفظ وصيتي، في الله وفي رسوله وأهل بيته، فإن لنا في رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسوة حسنة).
فهتفوا جميعا بلسان واحد:
(نحن يا ابن رسول اله، سامعون مطيعون، حافظون لذمامك غير زاهدين فيك، ولا راغبين عنك، فمرنا بأمرك يرحمك الله، فإنا حرب لحربك، وسلم لسلمك نبرأ ممن ظلمك وظلمنا..).
ورد الإمام عليهم هذا الولاء الكاذب قائلا:
(هيهات، هيهات، أيها الغدرة المكرة، حيل بينكم، وبين شهوات أنفسكم، أتريدون أن تأتوا إلي كما أتيتم إلى أبي من قبل، كلا ورب الراقصات(18) فإن الجرح لما يندمل، قتل أبي بالأمس وأهل بيته، ولم ينس ثكل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وثكل أبي، وبني أبي، إن وجده والله بين لهاتي، ومرارته بين حناجري وحلقي، وغصته تجري في فراش صدري..)(19).
وأمسك الإمام عن الكلام معرضا عن أولئك الغدرة الفجرة الذين هم وصمة عار على البشرية، فهم الذين قتلوا ريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي جاء ليحررهم، وينقذهم من ظلم الأمويين وجورهم، وبعد ذلك ندموا، وراحوا يبكون عليه.
1- حياة الإمام الحسين ج 3 ص 97.
2- المرعى الوبيل: هو الطعام الخيم الذي يخاف وباله.
3- معجم الطبراني تاريخ ابن عساكر ج 13 ص 74.
4- حياة الإمام الحسين ج 3 ص 172 - 173.
5- بحار الأنوار ج 9 ص 147.
6- الطبري ج 6 ص 242.
7- وفي رواية (ولا أقر لكم إقرار العبيد).
8- حياة الإمام الحسين ج 3 ص 184-188.
9- البحار ج 9 ص 147.
10- حياة الإمام الحسين ج 3 ص274.
11- حياة الإمام الحسين ج 3 ص 299.
12- تاريخ القرماني ص 108.
13- كامل الزيارات ص 261.
14- حياة الإمام الحسين ج 3 ص 324-325.
15- حياة الإمام الحسين ج 3 ص 333.
16- أمالي الشيخ المفيد ص 143 مخطوط.
17- مقتل الحسين لعبد الله مخطوط.
18- الراقصات: مطايا الحجيج.
19- مثير الأحزان لابن نما، اللهوف
تعليق