بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
صوت الحسين لن يموت
لقد قتل الحسين ولكن صوته لم ولن يموت.., لقد قطع رأسه لكن هذا الرأس المقطوع روّى شريعة الإسلام التي ستبقى مشعة ومضيئة بتضحياته ودمه.., لقد سلب ثوبه وردائه لكنه كسا الدنيا ثوب الحرية والكرامة.., لقد دِيس على صدره بحوافر الخيول لكنه زرع في الصدور معنى الإباء ورفض الظلم والتجبر والاستبداد.
لقد حمل الإمام زين العابدين المعاني السامية والمبادئ العظيمة التي سعى أبوه إلى تحقيقها وحرص كل الحرص على ترسيخها في ضمير الأمة ودافع عنها من تحريف السلطة الأموية ومرتزقتها الذين حاولوا تشويه الحقائق وتزييف هذه المبادئ بإشاعاتهم وأكاذيبهم بنسبة قائد الثورة وشهدائها الأبرار إلى (الخوارج)!!!
فانطلق صوت زين العابدين ليدحض هذه الأكاذيب ويؤكد للرأي العام على أن هذه الثورة هي تجسيد للإسلام المحمدي وامتداد لمنهج النبي (صلى الله عليه وآله) في كل المراحل التي مر بها في رحلة الأسر وأول صوت له (عليه السلام) كان في الكوفة من خلال خطبته العظيمة التي بين فيها الجريمة النكراء التي ارتكبها الأمويون بقتلهم سبط رسول الله وغدر أهل الكوفة به وفيها من التقريع لهم ما أجج في النفوس مشاعر السخط والغضب على يزيد حيث قال (عليه السلام):
(أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. أَنَا ابْنُ الْمَذْبُوحِ بِشَطِّ الْفُرَاتِ مِنْ غَيْرِ ذَحْلٍ وَلا تِرَاتٍ. أَنَا ابْنُ مَنِ انْتُهِكَ حَرِيمُهُ، وَسُلِبَ نَعِيمُهُ، وَانْتُهِبَ مَالُهُ، وَسُبِيَ عِيَالُهُ. أَنَا ابْنُ مَنْ قُتِلَ صَبْراً وَكَفَى بِذَلِكَ فَخْراً. أَيُّهَا النَّاسُ! نَاشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ! هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ كَتَبْتُمْ إِلَى أَبِي وَخَدَعْتُمُوهُ؟ وَأَعْطَيْتُمُوهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ وَالْبَيْعَةَ، وَقَاتَلْتُمُوهُ وَخَذَلْتُمُوهُ؟ فَتَبّاً لِمَا قَدَّمْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ، وَسَوْأَةً لِرَأْيِكُمْ. بِأَيَّةِ عَيْنٍ تَنْظُرُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلی الله عليه وآله) إِذْ يَقُولُ لَكُمْ: قَتَلْتُمْ عِتْرَتِي، وَانْتَهَكْتُمْ حُرْمَتِي، فَلَسْتُمْ مِنْ أُمَّتِي)؟!
كان لهذه الكلمات دوي وضجيج واستفاقة ووجوم وغضب وسخط على السلطة وتأنيب للضمير وتقريع للنفس (فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُ النَّاسِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلَكْتُمْ وَمَا تَعْلَمُونَ)!
ورغم الحالة المأساوية التي كان عليها فقد استأنف حديثه ووعظه لهم فقال: رَحِمَ اللهُ امْرَأً قَبِلَ نَصِيحَتِي، وَحَفِظَ وَصِيَّتِي فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَإِنَّ لَنَا فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةً حَسَنَةً.
فَقَالُوا بِأَجْمَعِهِمْ: نَحْنُ كُلُّنَا ـ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهُ ـ سَامِعُونَ مُطِيعُونَ حَافِظُونَ لِذِمَامِكَ غَيْرَ زَاهِدِينَ فِيكَ وَلا رَاغِبِينَ عَنْكَ، فَمُرْنَا بِأَمْرِكَ ـ يَرْحَمُكَ اللهُ ـ فَإِنَّا حَرْبٌ لِحَرْبِكَ، وَسِلْمٌ لِسِلْمِكَ، لَنَأْخُذَنَّ يَزِيدَ! وَنَبْرَأُ مِمَّنْ ظَلَمَكَ وَظَلَمَنَا!
فَقَالَ(عليه السلام): هَيْهَاتَ! هَيْهَاتَ! أَيُّهَا الْغَدَرَةُ الْمَكَرَةُ، حِيلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ شَهَوَاتِ أَنْفُسِكُمْ! أَتُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ كَمَا أَتَيْتُمْ إِلَى آبَائِي مِنْ قَبْلُ؟! كَلا وَرَبِّ الرَّاقِصَاتِ، فَإِنَّ الْجُرْحَ لَمَّا يَنْدَمِلُ، قُتِلَ أَبِي ـ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ـ بِالأَمْسِ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ مَعَهُ، وَلَمْ يُنْسِنِي ثُكْلَ رَسُولِ اللهِ وَثُكْلَ أَبِي وَبَنِي أَبِي، وَوَجْدُهُ بَيْنَ لَهَاتِي، وَمَرَارَتُهُ بَيْنَ حَنَاجِرِي وَحَلْقِي، وَغُصَصُهُ يَجْرِي فِي فِرَاشِ صَدْرِي، وَمَسْأَلَتِي أَنْ لا تَكُونُوا لَنَا وَلا عَلَيْنَا).
استهانة بالموت أمام الطاغية
ووقف بتلك الشجاعة والصلابة أمام الطاغية عبيد الله بن زياد وهو أسير وينظر إلى الطاغية عبيد الله بن زياد وهو ينكث بالقضيب ثنايا ابيه تشفياً وانتقاماً فلم يمنعه شدة الحزن على التصدّي له والوقوف بوجهه وقد تعرض (عليه السلام) للقتل يديه ولكن ارادة الله حالت دون ما يريد المجرم ابن زياد، فقد دار حوار بينهما انتهى بأن أمر ابن زياد بأن يضرب عنق الإمام فتعلقت الحوراء زينب بابن أخيها وقالت لابن زياد: (إنك لم تبق منا أحداً فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه), لكن الإمام السجاد لم يأبه بأمر ابن زياد ولم يخشه في مجلسه بل وجه إليه كلاماً عرّفه بنفسه الشريفة التي لا تخشى الموت بل تستهين به فقال له بكل ثبات وجرأة ويقين: (أبالقتل تهددني!!! أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة).
في الشام
يا أمة السوءِ لاسقياً لربعكمُ *** يا أمة لم تراعِ جدّنا فينا
لو أننا ورسول الله يجمعنا *** يوم القيامةِ ما كنتم تقولونا
تسيّرونا على الأقتابِ عاريةً *** كأننا لم نشيّد فيكمُ دينا
أليسَ جدي رسول الله ويلكُم *** أهدى البرية من سبل المضلينا
بهذه الأبيات خاطب الإمام قاتلي أبيه ومن خذله وهو يوجه بها رسالة شديدة اللهجة واستنكار للجريمة الفظيعة التي ارتكبوها, كما لم يمنعه أسره وطول الرحلة الشاقة وهو مثقل بالحديد من أن يقف في مجلس يزيد ويصدع بالحق ويفضح الظالمين بتلك الخطبة المدوية التي زلزلت عروش الأمويين وبقيت اصداؤها تجوب في البلاد وأحدثت انقلاباً فكرياً في أذهان الناس ضد يزيد, وقد استنكر جريمته البشعة حتى رواد مجلسه وأتباعه فعندما جيء بالإمام أسيراً ومعه سبايا آل محمد أَمَرَ يزيد (بِمِنْبَرٍ وَخَطِيبٍ) ليذكر أمير المؤمنين والحسين بالسوء ويسبهما لكن الخطيب الكافر المنافق أراد أن يحظى بمكانة أكبر عند يزيد بتزلفه ونفاقه (فأَكْثَرَ الْوَقِيعَةَ فِي عَلِيٍّ وَالْحُسَيْنِ (عليهما السلام)، وَأَطْنَبَ فِي تَقْرِيظِ مُعَاوِيَةَ وَيَزِيدَ ـ لَعَنَهُمَا اللَّهُ ـ فَذَكَرَهُمَا بِكُلِّ جَمِيلٍ)!!!
وفجأة دوى صوت في المجلس أخرس الخطيب وجعل كل من في المجلس كأن على رؤوسهم الطير..! ارتفع الصوت في مجلس يزيد بهذه الكلمات: (وَيْلَكَ ـ أَيُّهَا الْخَاطِبُ ـ اشْتَرَيْتَ مَرْضَاةَ الْمَخْلُوقِ بِسَخَطِ الْخَالِقِ، فَتَبَّوأْ مَقْعَدَكَ مِنَ النَّارِ)!!! .كان صوت الحق والحقيقة الصوت الذي انبثق من صوت السماء ودعوة النبوة إنه صوت علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام).
ثم أراد (عليه السلام) أن يصحح المسار ويشير ببوصلة الهدى إلى الحقيقة التي أخفاها الأمويون عن الناس وزيفوها... أراد أن يكشف القناع الزائف الذي لبسه الأمويون باسم الإسلام ويظهر وجوههم القبيحة وأفعالهم وجرائمهم فقَالَ (عليه السلام) ليزيد: (يَا يَزِيدُ! ائْذَنْ لِي حَتَّى أَصْعَدَ هَذِهِ الأَعْوَادَ، فَأَتَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ للهِ فِيهِنَّ رِضاً، وَلِهَؤُلاءِ الْجُلَسَاءِ فِيهِنَّ أَجْرٌ وَثَوَابٌ). لكن ابن آكلة الأكباد يعرف قبل غيره من هو هذا المتحدث ومن أين استقى علمه وبلاغته فهو المجسد لبلاغة جده سيد البلغاء والمتكلمين: (فَأَبَى يَزِيدُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. فَقَالَ النَّاسُ: ائْذَنْ لَهُ، فَلْيَصْعَدِ الْمِنْبَرَ، فَلَعَلَّنَا نَسْمَعُ مِنْهُ شَيْئاً. فَقَالَ: إِنَّهُ إِنْ صَعِدَ لَمْ يَنْزِلْ إِلا بِفَضِيحَتِي وَبِفَضِيحَةِ آلِ أَبِي سُفْيَانَ! فَقِيلَ لَهُ: وَمَا قَدْرُ مَا يُحْسِنُ هَذَا؟! فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ قَدْ زُقُّوا الْعِلْمَ زَقّاً. (فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ).
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
صوت الحسين لن يموت
لقد قتل الحسين ولكن صوته لم ولن يموت.., لقد قطع رأسه لكن هذا الرأس المقطوع روّى شريعة الإسلام التي ستبقى مشعة ومضيئة بتضحياته ودمه.., لقد سلب ثوبه وردائه لكنه كسا الدنيا ثوب الحرية والكرامة.., لقد دِيس على صدره بحوافر الخيول لكنه زرع في الصدور معنى الإباء ورفض الظلم والتجبر والاستبداد.
لقد حمل الإمام زين العابدين المعاني السامية والمبادئ العظيمة التي سعى أبوه إلى تحقيقها وحرص كل الحرص على ترسيخها في ضمير الأمة ودافع عنها من تحريف السلطة الأموية ومرتزقتها الذين حاولوا تشويه الحقائق وتزييف هذه المبادئ بإشاعاتهم وأكاذيبهم بنسبة قائد الثورة وشهدائها الأبرار إلى (الخوارج)!!!
فانطلق صوت زين العابدين ليدحض هذه الأكاذيب ويؤكد للرأي العام على أن هذه الثورة هي تجسيد للإسلام المحمدي وامتداد لمنهج النبي (صلى الله عليه وآله) في كل المراحل التي مر بها في رحلة الأسر وأول صوت له (عليه السلام) كان في الكوفة من خلال خطبته العظيمة التي بين فيها الجريمة النكراء التي ارتكبها الأمويون بقتلهم سبط رسول الله وغدر أهل الكوفة به وفيها من التقريع لهم ما أجج في النفوس مشاعر السخط والغضب على يزيد حيث قال (عليه السلام):
(أَيُّهَا النَّاسُ! مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرَفَنِي، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. أَنَا ابْنُ الْمَذْبُوحِ بِشَطِّ الْفُرَاتِ مِنْ غَيْرِ ذَحْلٍ وَلا تِرَاتٍ. أَنَا ابْنُ مَنِ انْتُهِكَ حَرِيمُهُ، وَسُلِبَ نَعِيمُهُ، وَانْتُهِبَ مَالُهُ، وَسُبِيَ عِيَالُهُ. أَنَا ابْنُ مَنْ قُتِلَ صَبْراً وَكَفَى بِذَلِكَ فَخْراً. أَيُّهَا النَّاسُ! نَاشَدْتُكُمْ بِاللَّهِ! هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ كَتَبْتُمْ إِلَى أَبِي وَخَدَعْتُمُوهُ؟ وَأَعْطَيْتُمُوهُ مِنْ أَنْفُسِكُمْ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ وَالْبَيْعَةَ، وَقَاتَلْتُمُوهُ وَخَذَلْتُمُوهُ؟ فَتَبّاً لِمَا قَدَّمْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ، وَسَوْأَةً لِرَأْيِكُمْ. بِأَيَّةِ عَيْنٍ تَنْظُرُونَ إِلَى رَسُولِ اللهِ (صلی الله عليه وآله) إِذْ يَقُولُ لَكُمْ: قَتَلْتُمْ عِتْرَتِي، وَانْتَهَكْتُمْ حُرْمَتِي، فَلَسْتُمْ مِنْ أُمَّتِي)؟!
كان لهذه الكلمات دوي وضجيج واستفاقة ووجوم وغضب وسخط على السلطة وتأنيب للضمير وتقريع للنفس (فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُ النَّاسِ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: هَلَكْتُمْ وَمَا تَعْلَمُونَ)!
ورغم الحالة المأساوية التي كان عليها فقد استأنف حديثه ووعظه لهم فقال: رَحِمَ اللهُ امْرَأً قَبِلَ نَصِيحَتِي، وَحَفِظَ وَصِيَّتِي فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ، فَإِنَّ لَنَا فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةً حَسَنَةً.
فَقَالُوا بِأَجْمَعِهِمْ: نَحْنُ كُلُّنَا ـ يَا ابْنَ رَسُولِ اللهُ ـ سَامِعُونَ مُطِيعُونَ حَافِظُونَ لِذِمَامِكَ غَيْرَ زَاهِدِينَ فِيكَ وَلا رَاغِبِينَ عَنْكَ، فَمُرْنَا بِأَمْرِكَ ـ يَرْحَمُكَ اللهُ ـ فَإِنَّا حَرْبٌ لِحَرْبِكَ، وَسِلْمٌ لِسِلْمِكَ، لَنَأْخُذَنَّ يَزِيدَ! وَنَبْرَأُ مِمَّنْ ظَلَمَكَ وَظَلَمَنَا!
فَقَالَ(عليه السلام): هَيْهَاتَ! هَيْهَاتَ! أَيُّهَا الْغَدَرَةُ الْمَكَرَةُ، حِيلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ شَهَوَاتِ أَنْفُسِكُمْ! أَتُرِيدُونَ أَنْ تَأْتُوا إِلَيَّ كَمَا أَتَيْتُمْ إِلَى آبَائِي مِنْ قَبْلُ؟! كَلا وَرَبِّ الرَّاقِصَاتِ، فَإِنَّ الْجُرْحَ لَمَّا يَنْدَمِلُ، قُتِلَ أَبِي ـ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ـ بِالأَمْسِ، وَأَهْلُ بَيْتِهِ مَعَهُ، وَلَمْ يُنْسِنِي ثُكْلَ رَسُولِ اللهِ وَثُكْلَ أَبِي وَبَنِي أَبِي، وَوَجْدُهُ بَيْنَ لَهَاتِي، وَمَرَارَتُهُ بَيْنَ حَنَاجِرِي وَحَلْقِي، وَغُصَصُهُ يَجْرِي فِي فِرَاشِ صَدْرِي، وَمَسْأَلَتِي أَنْ لا تَكُونُوا لَنَا وَلا عَلَيْنَا).
استهانة بالموت أمام الطاغية
ووقف بتلك الشجاعة والصلابة أمام الطاغية عبيد الله بن زياد وهو أسير وينظر إلى الطاغية عبيد الله بن زياد وهو ينكث بالقضيب ثنايا ابيه تشفياً وانتقاماً فلم يمنعه شدة الحزن على التصدّي له والوقوف بوجهه وقد تعرض (عليه السلام) للقتل يديه ولكن ارادة الله حالت دون ما يريد المجرم ابن زياد، فقد دار حوار بينهما انتهى بأن أمر ابن زياد بأن يضرب عنق الإمام فتعلقت الحوراء زينب بابن أخيها وقالت لابن زياد: (إنك لم تبق منا أحداً فإن كنت عزمت على قتله فاقتلني معه), لكن الإمام السجاد لم يأبه بأمر ابن زياد ولم يخشه في مجلسه بل وجه إليه كلاماً عرّفه بنفسه الشريفة التي لا تخشى الموت بل تستهين به فقال له بكل ثبات وجرأة ويقين: (أبالقتل تهددني!!! أما علمت أن القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشهادة).
في الشام
يا أمة السوءِ لاسقياً لربعكمُ *** يا أمة لم تراعِ جدّنا فينا
لو أننا ورسول الله يجمعنا *** يوم القيامةِ ما كنتم تقولونا
تسيّرونا على الأقتابِ عاريةً *** كأننا لم نشيّد فيكمُ دينا
أليسَ جدي رسول الله ويلكُم *** أهدى البرية من سبل المضلينا
بهذه الأبيات خاطب الإمام قاتلي أبيه ومن خذله وهو يوجه بها رسالة شديدة اللهجة واستنكار للجريمة الفظيعة التي ارتكبوها, كما لم يمنعه أسره وطول الرحلة الشاقة وهو مثقل بالحديد من أن يقف في مجلس يزيد ويصدع بالحق ويفضح الظالمين بتلك الخطبة المدوية التي زلزلت عروش الأمويين وبقيت اصداؤها تجوب في البلاد وأحدثت انقلاباً فكرياً في أذهان الناس ضد يزيد, وقد استنكر جريمته البشعة حتى رواد مجلسه وأتباعه فعندما جيء بالإمام أسيراً ومعه سبايا آل محمد أَمَرَ يزيد (بِمِنْبَرٍ وَخَطِيبٍ) ليذكر أمير المؤمنين والحسين بالسوء ويسبهما لكن الخطيب الكافر المنافق أراد أن يحظى بمكانة أكبر عند يزيد بتزلفه ونفاقه (فأَكْثَرَ الْوَقِيعَةَ فِي عَلِيٍّ وَالْحُسَيْنِ (عليهما السلام)، وَأَطْنَبَ فِي تَقْرِيظِ مُعَاوِيَةَ وَيَزِيدَ ـ لَعَنَهُمَا اللَّهُ ـ فَذَكَرَهُمَا بِكُلِّ جَمِيلٍ)!!!
وفجأة دوى صوت في المجلس أخرس الخطيب وجعل كل من في المجلس كأن على رؤوسهم الطير..! ارتفع الصوت في مجلس يزيد بهذه الكلمات: (وَيْلَكَ ـ أَيُّهَا الْخَاطِبُ ـ اشْتَرَيْتَ مَرْضَاةَ الْمَخْلُوقِ بِسَخَطِ الْخَالِقِ، فَتَبَّوأْ مَقْعَدَكَ مِنَ النَّارِ)!!! .كان صوت الحق والحقيقة الصوت الذي انبثق من صوت السماء ودعوة النبوة إنه صوت علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام).
ثم أراد (عليه السلام) أن يصحح المسار ويشير ببوصلة الهدى إلى الحقيقة التي أخفاها الأمويون عن الناس وزيفوها... أراد أن يكشف القناع الزائف الذي لبسه الأمويون باسم الإسلام ويظهر وجوههم القبيحة وأفعالهم وجرائمهم فقَالَ (عليه السلام) ليزيد: (يَا يَزِيدُ! ائْذَنْ لِي حَتَّى أَصْعَدَ هَذِهِ الأَعْوَادَ، فَأَتَكَلَّمَ بِكَلِمَاتٍ للهِ فِيهِنَّ رِضاً، وَلِهَؤُلاءِ الْجُلَسَاءِ فِيهِنَّ أَجْرٌ وَثَوَابٌ). لكن ابن آكلة الأكباد يعرف قبل غيره من هو هذا المتحدث ومن أين استقى علمه وبلاغته فهو المجسد لبلاغة جده سيد البلغاء والمتكلمين: (فَأَبَى يَزِيدُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. فَقَالَ النَّاسُ: ائْذَنْ لَهُ، فَلْيَصْعَدِ الْمِنْبَرَ، فَلَعَلَّنَا نَسْمَعُ مِنْهُ شَيْئاً. فَقَالَ: إِنَّهُ إِنْ صَعِدَ لَمْ يَنْزِلْ إِلا بِفَضِيحَتِي وَبِفَضِيحَةِ آلِ أَبِي سُفْيَانَ! فَقِيلَ لَهُ: وَمَا قَدْرُ مَا يُحْسِنُ هَذَا؟! فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتٍ قَدْ زُقُّوا الْعِلْمَ زَقّاً. (فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى أَذِنَ لَهُ).
تعليق