بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
من هذا الأثر هو من أدوم الآثار وأقواها استمرارية، بل: يكاد يكون هذا الأثر هو الثمرة الأبرز في خروج بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى كربلاء.
لكن قبل الخوض في بيان مصاديق هذا الأثر نتعرض أولاً إلى بيان مسألة صغيرة لغرض تحديد الوجه في السير في بيان هذه المصاديق، وهذه المسألة هي: التفاوت في رتب الإيمان، وذلك أن القرآن الكريم لم يجعل الأنبياء ولا المرسلين على درجة واحدة ومنزلة واحدة وإن كانوا جميعاً ممن اختارهم ا لله سبحانه للنبوة والرسالة، إذ يجعل القرآن التفاضل فيما بينهم ضمن الحقائق القرآنية فيقول سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}[1].
وهذه السنة الكونية حينما جرت في الصفوة من الخلق والمنتجبين لحمل الشريعة كيف لا تكون في غيرهم من بني آدم؟! ولذا: لابد من التفريق بين منزلة الإسلام ومنزلة الإيمان كما نص عليها القرآن الكريم حيث قال سبحانه: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}[2].
بمعنى ينحصر التفاوت في الرتب الإيمانية بين اللسان والقلب، فالمسلم من نطق الشهادتين دون أن يقر بها قلبه، والمؤمن من قرّ بها قلبه وإن لم يجهر بها أمام الناس وتلك معضلة لدى الناس لاسيما أن الإنسان محكوم بما يصدر عنه من أقوال وأفعال وفي الأغلب الأعم لا يلتفت أكثر الناس إلا إلى ما يخرج من الأفواه لا إلى ما يصدر من الأفعال وتلك حقيقة يمكن مشاهدتها في كثير من الشواهد التأريخية والمواقف الحياتية.
ويكفي من ذلك شاهداً ما قام به معاوية من انتهاكات لحدود الله وهتك حرمته وحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن هذا الفعل عند كثير من الناس لا يعني لهم شيئا، أو بالأحرى ينظر إلى قوله بالشهادتين بل: الأدهى من ذلك هو القيام بوضع المبررات له والتماس هذا فيما فعل من حربه لعلي بن أبي طالب عليه السلام وقتله الإمام الحسن عليه السلام بن بنت رسول الله وصحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كحجر بن عدي ومحمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر وغيرهم.
إذن: هناك تفاوت في الرتب وهناك فرق واضح بين الإسلام والإيمان وهو ما يدعونا إلى بيان بعض المصاديق التي ظهرت في هذا الأثر، أي: تصحيح مسار سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أن الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد رأت من بعض الصحابة ما كان كاشفاً عن هذا التفاوت بين الإسلام والإيمان حينما أقدم القوم على كشف بيت فاطمة عليها السلام[3] بضعة سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.
فكان هذا الحدث هو أول انحراف عن مسار سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي تنص على أن حرب فاطمة وعلي وولديهما هي حرب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن سلمهم سلمه[4].
ثم تتابع هذا الانحراف عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليظهر بأبشع صورة على أرض كربلاء حينما ذبح المسلمون ابن بنت نبيهم وحملوا رأسه على رمح يطاف به في البلاد الإسلامية لينتهي به المطاف في طشت أمام (الحاكم الإسلامي) وهو يقرعه بالعصا والمسلمون ينظرون إليه وكأنهم يشاهدون ــ وبغض النظر عن الطبيعة الإنسانية الرافضة لهذا الأسلوب المتوحش ــ رأس ألد أعدائهم فلم يكفهم قتله بل لم يشفهم سحق جسده بسنابك الخيل وتقطيعه وإنما يفعل برأسه هذا الصنيع.
ومن ثم: أصبح المجتمع الإسلامي في أبعد ما يكون عن الإسلام.
وعليه: لزم أن يكون هناك تصحيح لهذا المسار وأن يصحو المسلمون من هذه الغفلة المطبقة على عقولهم وقلوبهم فكان ذلك من خلال وجود عقيلة بني هاشم السيدة زينب عليها السلام التي وقفت تدق بكلماتها مع (الحاكم الإسلامي) طاغية بني أمية وفرعونهم الأكبر تلك الجدران التي أحاطت بعقول المسلمين فأصبحوا صماً بكما فهم لا يعقلون إلى المستوى الذي جعلهم يعتقدون أن لا حرمة لرسول الله وأهل بيته وليس لهم منزلة عند الله تعالى.
فكيف يكون لهم المنزلة عند الله تعالى ورأس الحسين عليه السلام يحمل على الرمح ويطاف به البلاد وهو الأمر الذي جعل زيد بن أرقم يتعجب أشد التعجب مما يرى ويسمع من الرأس المقدس حينما طيف به في أزقة الكوفة، قائلاً: (مر به علي وهو ــ الرأس الشريف ــ على رمح وأنا في غرفة، فلما حاذاني سمعته يقرأ: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آَيَاتِنَا عَجَبًا} [5]. فقف ــ والله ــ شعري وناديت: رأسك والله ــ يا ابن رسول الله ــ أعجب وأعجب)[6].
والحادثة تكشف بوضوح عن آثار هذه المأساة في عقيدة المسلم بشكل خاص وفي عقيدة غير المسلم بشكل عام.
من هنا: نجد أن عقيلة بني هاشم السيدة زينب عليها السلام قد أزاحت هذا الصدأ عن قلوب كثير من المسلمين حينما خاطبت ابن معاوية لعنه الله تعالى بقولها له: «أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسارى، أن بنا على الله هواناً؟! وبك عليه كرامة؟!. وأن ذلك لعظم خطرك عنده فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حيث رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً أنسيت قول الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[7]»[8].
إذن: أصبح تصحيح المسار للسنة المحمدية مرتكزاً على إرجاع الناس إلى الاعتقاد بحرمة محمد وأهل بيته وأن الذي جرى عليهم من محاصرتهم بتلك الجيوش وسوقهم كما تساق الأسارى ليس لكونهم هينين على الله تعالى وأن عدوهم الذي فعل بهم هذا الفعل لكرامته على الله وعظيم خطره عنده، فأصبح عدوهم شامخاً بأنفه فرحانا مسرورا بما صنع.
لكن: هذه الغفلة والحيلة انكشفت حينما أظهرت العقيلة زينب عليها السلام الأسباب الحقيقية التي أدت إلى حدوث مثل هذه المآسي في الإسلام، وذلك من خلال سنة الافتتان بالدنيا فهي تجر إليها من فتن بها فضلاً عن أن الملك الذي وصل إليه هؤلاء الظالمون هو في الأصل ملك رسول الله وأهل بيته بمعنى: أن الله تعالى جعل الملك والسلطان وسياسة العباد وإصلاح البلاد في الأنبياء ولكن هؤلاء الظالمين هم الذين اعتدوا على ملك غيرهم وانتهبوا سلطان الأنبياء وحكموا العباد بالجور وأشاعوا الفسق والفجور بين الناس، إلا أن كل هذا لا يدوم لهم، وأن بقاءهم فيما هم عليه ليس لكونهم صالحين ومرضيين عند الله تعالى فأضفى عليهم نعمة الإمهال فلم يعاجلهم بالعقوبة وذلك لأنه لن يفوته سبحانه عقابهم.
ولذلك: تقول عليها السلام مذكرة يزيد الذي هو في حقيقة الأمر أنموذج لكل الطواغيت في الأرض؛ لأن الصراع ليس بين الإمام الحسين عليه السلام ويزيد بن معاوية وإنما الصراع بين النور والظلام بين الخير والشر بين الصلاح والفساد، ومن ثم فإن سنة الإمهال التي سنها الله تعالى في حكمه لعباده مردها إلى أن الله تعالى حينما مكنهم من هذا الملك فأملى لهم بالقوة والمال وعبيد الدنيا إنما كان لهدف وغاية وهي كي يزدادوا إثماً ولهم عذاب عظيم.
وبهذا: يكون إعادة مسار السنة النبوية إلى وضعها الصحيح حينما يدرك المسلمون حقيقة هؤلاء الطواغيت في كل زمان وعصر فينبذونهم ويتبرأون منهم ولا يتمسكون إلا بمحمد وأهل بيته عليهم السلام.
وبهذا الأثر نكون قد وفقنا إلى بيان جانب من الحكمة في إخراج الإمام الحسين عليه السلام عياله من المدينة واصطحابهم معه إلى العراق على الرغم من كل تلك المقدمات التي كانت في حقيقة الحال هي نتائج تكشف بوضوح أدق التفاصيل لمأساة كربلاء في يوم العاشر من المحرم لأن ما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأوصيائه قطعي الوقوع، وذلك أنه لا ينطق عن الهوى وإنما هو وحي يوحى.
ولذا: فإن قضية الحسين وقضية عاشوراء بشكل خاص إنما هي نواة الحركة الإصلاحية للأنبياء والمرسلين عليهم السلام التي يرتكز عليها قطب العدل والقسط وهو المهدي الموعود والحجة المنتظر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء. فبه يتحقق الدين الواحد الذي يظهره الله تعالى على الديانات كلها فلا يبقى إنسان على الأرض لا يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله. {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[9].
ـــــــــــــ
[1] سورة البقرة، الآية: 253.
[2] سورة الحجرات، الآية: 14.
[3] قال أبو بكر عند وفاته: «فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلقوه على الحرب». أنظر في ذلك: تاريخ الطبري: ج2، ص619؛ تاريخ ابن عساكر: ج30، ص420؛ كنز العمال للهندي: ج5، ص632.
[4] عن أبي هريرة قال: نظر النبي ــ صلى الله عليه وآله وسلم ــ إلى علي وفاطمة والحسن والحسين وقال: «أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم». أنظر: مستدرك الحاكم: ج3، ص149؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج7، ص512؛ الصحيح لابن حبان: ج15، ص435؛ المعجم الأوسط: ج3، ص180.
[5] سورة الكهف، الآية: 9.
[6] الإرشاد للشيخ المفيد: ج2، ص118.
[7] سورة آل عمران، الآية 178.
[8] معالم المدرستين للعسكري: ج3، ص145؛ تفسير الميزان للطباطبائي: ج3، ص143.
[9] سورة هود، الآية: 88.
تعليق