بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
إنّ ذكرى أربعين الإمام الحسين بن علي عليهما السلام، المعروفة تاريخياً منذ السنة الأولى لاستشهاده عليه السلام مع أصحابه، حين بدأت الدمعات تنسكب، مختلطة مع دماء الشهداء، لتصل بهذا المركب، مركب الشوق، وبهذه السفينة، إلى الأجيال، جيلاً بعد جيل، تدفع إلى كلّ واحدٍ منهم بيده مباشرة، تدفع إليه القرآن، وقد حفظ بالدم والدموع من أن يدخل على آياته تحريف، أو ينتقص منها شيء، أو يزاد عليها شيء.
*بالدم والدمع بقي الإسلام نقيّاً
بعد مضي مدّة من الزمن على استشهاده عليه السلام، في أرض كربلاء، أُعيد أيضاً رأسه الشريف ورؤوس الشهداء معه، بعد أن طافوا بها في الأرض، ونقلوها إلى أكثر من مصر من أمصار المسلمين، تحمل معها الأدلة الدامغة على أمرين اثنين:
الأمر الأول: أن المسلم لا يرتضي عيشاً في ظلِّ حالةٍ يسودها غضب الله تعالى.
الأمر الثاني: أن المسلم يستطيع أن يكون مرفوع الرأس باستمرار معتزاً بدينه وبإسلامه، حتّى وإن رفع هذا الرأس على رمح، حيث يظنّ رافعوه أنهم أسكتوه. ولكنَّ الله يقيّض للرأس القطيع لساناً ويقيض له عيناً، فيكون لسان زينب عليها السلام، ينطق نيابة عن رأس أخيها في الشام، وتقول: "فوالله لا تمحو ذكرنا ولا تميت وحينا"(1).
ويقيّض الله للرأس القطيع عيناً تذرف الدمع من أجل أن يختلط هذا الدمع بالدم، فيكونا معاً رافدي نهر الإسلام، نقيّاً صافياً لا لَبْسَ فيه ولا غموض في أحكامه، ولا التباس في ما نهى الله عنه الناس، وفي ما أمر الله الناس.
*لقد شَهِد موقفنا!
وفي ذكرى الأربعين، التي لا يسعنا إلّا أن نعايشها ونستعيدها، وإلّا أن نهاجر إليها، نتعلّم طريق الشهادة، وطريق الكرامة...
وإذا كنا في كل عام في أول المحرم نذكر الحسين البطل عليه السلام، والعباس الشهيد عليه السلام، والقاسم الشهيد عليه السلام، ونذكر عليّاً الأكبر الشهيد عليه السلام، القائل لأبيه: "أولسنا على الحق يا أبتاه؟ فيجيبه: بلى، إذاً لا نبالي أَوَقعنا على الموت أو وقع الموت علينا"(2).
إذا ذكرنا كلّ هؤلاء الشهداء واحداً واحداً، و[إذا كنّا] نتألم مع كل جرح من جراحهم... نكون معهم كما قال علي عليه السلام لأحدهم وهو يطالبه بحصةٍ لأخيه ويخبره أن أخاه ليس معهم في المعركة: فقال له عليه السلام : أهَوى أخيك معنا؟ قال: بلى، قال عليه السلام : إذاً لقد شَهِدَ موقفنا. وأضاف: وشهد موقفنا هذا أناس في أصلاب الرجال وفي أرحام النساء.
ويُكمل عليه السلام ليُخبر أنّ الأرض ستعجّ بهم، وسيكونون هم حملةَ راية الإسلام.
*ندخل من باب زينب عليها السلام
في العشر الأوائل من شهر محرّم نعيش مع الأطفال، وفي الأربعين ندخل من باب زينب عليها السلام .
زينب عليها السلام التي فَقَدَتْ في يوم العاشر إخوتها، أبناءها، بني عمومتها وجمعاً طاهراً كريماً من الأصحاب. زينب التي أفهمت الذين والوا الشيطان، أنّها ليست نادمة على شيء ممّا قدّمت، وإنّما يحزنها ألم الفقد، لكنها يملأ قلبها فرح التضحية بما قدّمت في سبيل الله عزَّ وجلَّ، وتعبّر أو يعبّر المؤرخون على لسانها، "اللهم تقبّل منّا هذا القربان".
زينب عليها السلام، وعندما وصلت إلى الكوفة، استقبلها جمع غفيرٌ من الناس بالبكاء والعويل، فهل استطاعت دموع المتخاذلين أن تُقنع زينب ببراءتهم؟ لقد خطبت قائلة: "أتبكون؟ فلا رقأت الدمعة ولا... فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها... ألا ساء ما تزرون وبعداً لكم وسحقاً"(3).
ممّا لا ريب فيه أنَّ مَنِ استقبلها لم يكن حامل سيفٍ، أو طاعناً برمح، وإنّما لأنّها تنظر بمنظار الإسلام، الذي يرى أنّ الإنسان الذي يقتل الحقّ، والحقّ هو الإسلام دائماً، إنما يقتل هذا الإسلام.
*والله لا تميت وحيَنا
بهذا المنطق خاطبت زينب عليها السلام الذين استقبلوها، فلما أدخلت على مجلس ابن زياد، وهو يتيه كما يتيه كل طاغوت في عصره، يتيه بما يظنّه نصراً وبما يتصوّره هزيمة للذين قاتلهم، ويحاول أن يتشفّى ويقول: مَنْ تلك؟ فلا تجيبه استصغاراً لقدره، ويعيد مَنْ هذه؟ فلا تنطق استصغاراً لقدره، فإذا سأل ثالثاً أجابه أحد الحاضرين، تلك هي زينب! فيقول: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم. ولكنها بملء الثقة بدينها وبربّها تقول: "الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة وشرفنا بالشهادة وإنّما يُفتضح الفاسق ويُكذَّب الفاجر وهو غيرنا والحمد لله"، وحتّى إذا نقلت إلى الشام، في الشام أيضاً لقّنت يزيد درساً، قالت فيه من جملة ما قالت: "ولئن جرّت عليَّ الدواهي مخاطبتك إنّي لأستصغر قدرك وأستعظم تقريعك وأستكثر توبيخك... فكِد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك..."، "فوالله ما فريت إلّا جلدك ولا جززت إلا لحمك... والله لن تميت وحيَنا، ولن تمحو ذكرنا"(4).
*في حضرة الشهيد الأوّل صلى الله عليه وآله وسلم
ومن الشام نقلت مع الرؤوس إلى كربلاء، وفي كربلاء أقامت أوّل مناحة، ثم تحوّلت إلى المدينة. طوال الرحلة لم تُسمع زينب شاكية لأحد، وإنّما كان يسمع من لسانها كلّ الكلمات التي تكشف عمّا في صدرها من الفخر بثواب الله عزَّ وجلَّ، وبطاعته، حتّى إذا وصلت إلى المدينة، وقفت تسجل شهادةَ إدانة للظالمين، وللمتخاذلين، الذين يرون الإسلام لا يعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه، ثم لا يرغبون في لقاء الله.
وقفت تسجل شهادة أمام الشهيد الأول، أمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي حضرته وفي مسجده وعلى مسمع من الظالمين وأتباعهم.
وقفت تقول: "السلام عليك يا جدّاه يا رسول الله"، ثم تقصّ له القصّة، لقد خرجت وسبطك الحسين، وها أنا قد عدت إليك، وقد خلفته صريعاً في أرض كربلاء.
*خلاصة المسيرة الزينبيّة
إذاً، هذه خلاصة مسيرة زينب عليها السلام التي ينبغي أن نتعلّم منها أموراً:
الأمر الأول: إنّه إذا كان الحسين عليه السلام في فترة من الزمن هو الإسلام الذي يتحرّك، إذا كان الدم الحسينيّ هو الذي يشكّل باستمرار سياج الإسلام؛ فإنّنا نستطيع أن نكون نحن أيضاً سياج الإسلام. وإذا كان الناس يقولون لكم: "إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، فإنَّ الله يعدكم أن تنقلبوا بنعمةٍ منه وفضل من غير أن يمسسكم سوء، ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ الله وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ الله وَالله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ (آل عمران: 173 - 174).
الأمر الثاني: الذي ينبغي أن نتعلَّمه هو: كيف نكون سياجاً لهذا الإسلام؟ المطلوب من كل مسلم أولاً، أن يتعرّف إلى هذا الإسلام، فيتّخذه ديناً وحاكماً، حاكماً لقلوبكم وعقولكم، وحاكماً لألسنتكم وآذانكم، ومجالسكم، فإن لم نفعل، فما نحن بمعجزين في الأرض. ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ (التوبة: 33).
أيها الناس، فكّروا أنّ دين الله سيظهر ولو كره الناس جميعاً، ولن يكون الكافرون معجزي لله في الأرض، ولكن نحن في أيّ مكان نكون، في مَنْ يظهر الله به هذا الدين؟ أو في مَنْ يكون له الخزي بظهور هذا الدين؟
المطلوب ثالثاً وما ينبغي أن نعرفه: أنّ الذي يقوم بحركة، بثورة، بدعوة من أهل الأرض، إنّما يطلب جاه الدنيا وسلطانها. معاوية، كما تعلمون، قال لأهل الكوفة بعد الصلح مع الإمام الحسن عليه السلام: لا تظنّوا أنّي قاتلتكم من أجل الصلاة والزكاة والصيام... ولكنّي قاتلتكم لألي رقابكم. وفي رواية أخرى (لأتأمرّ) عليكم، وقد أتاني الله ذلك وأنتم له كارهون.
أمّا الحسين فإنّه قال: "لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومَنْ ردَّ علي ذلك أصبر حتى يحكم الله"، فلمّا استشهد شكت أخته إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم .
إلى الله نشكو ضعفنا، وهواننا على الناس، هو أرحم الراحمين، إلى الله نشكو شدّة الفتن بنا، وتظاهر الزمان علينا، هو وليّنا، هو حسبنا ونعم الوكيل.
---------------------------
(*) خطبة للشيخ راغب حرب تاريخ 10/12/1982.
1- مثير الأحزان، ابن نما الحلّي، ص81.
2- الانتصار، العاملي، ج9، ص191.
3- الأمالي، الطوسي، ص92.
4- لواعج الأشجان، السيّد محسن الأمين، ص230.
تعليق