بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
إن الأصل في المفاهيم القرآنية حملها على معانيها الظاهرة منها عرفاً وفق ما تضمنته كتب أهل اللغة، ورفع اليد عن ذلك يحتاج قرينة موجبة لذلك، فلفظة اليد الواردة في قوله تعالى:- (يد الله فوق أيديهم)[1]، لولا منع التجسيم عن الذات المقدسة، لم يكن هناك موجب لحملها على غير ما هو الظاهر منها.
ومن المفاهيم التي تضمنها القرآن الكريم مفهوم البرزخ، ويقصد منه الفاصل والحاجب والحاجز بين الشيئين، كما تضمنته كلمات أهل اللغة، وقد استعمله القرآن الكريم في ذلك، كما في قوله تعالى:- (بينهما برزخ لا يبغيان)[2]، يعني فاصل وحاجب. وهذا ينطبق أيضاً على قوله تعالى:- (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)[3]، لأن الحياة البرزخية تمثل فاصلاً بين عالمين، عالم الدنيا وعالم الآخرة.
أقسام البرزخ:
وقد تضمنت كلمات الفلاسفة والحكماء أن البرزخ قسمان:
الأول: البرزخ النـزولي:
ويعبر عنه أيضاً بقوس النـزول، والمقصود من هذا القسم، هو النشأة التي سبقت النشأة الدنيوية للإنسان قبل مجيئه إلى عالم الدنيا، ويعبر عنها بعالم المثال، وإليه يشير قوله تعالى:- (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا)[4]، فإنها تتحدث عن الإنسان في مرحلة ما قبل النشأة الدنيوية والتي يعبر عنها بعالم الذر، وفقاً لمختار المشهور.
وفي ثبوت هذا القسم من البرزخ خلاف شديد بين الفلاسفة أنفسهم والمتكلمين، فإنهم منقسمون بين ما يبني على ثبوته يلتـزم بوجوده، وبين من ينفي وجوده، ولا يثبته.
الثاني: البرزخ الصعودي:
وهو المعبر عنه بقوس الصعود، ويقصد منه الحياة التي تفصل الحياة الدنيوية عن الحياة الأخروية.
ولكل واحد من القسمين المذكورين مميزات يختلف بها عن الآخر، فالبرزخ النـزولي لا يتضمن تكليفاً، فلا ينقسم الناس فيه إلى منعمين ومعذبين، ومن هنا منع بعضهم أن يكون الصادر من آدم(ع)، تركاً للأولى، فضلاً عن أن يكون معصية وجرماً، لأن ما صدر منه(ع) لم يصدر في عالم التكليف، وإنما صدر في عالم المثال والبرزخ.
وهذا بخلاف البرزخ الصعودي، فإن الناس فيه يقسمون إلى قسمين، فقسم منهم منعم، وآخر معذب، وذلك نتيجة ما صدر منهم من أعمال في عالم الدنيا.
وبكلمة ثانية، إن ما يجده الإنسان في البرزخ الصعودي، هو صورة مجسمة لما صدر عنه من أفعال في عالم الدنيا، وليست شيئاً آخر[5].
بداية الحياة البرزخية:
وقع الخلاف بين الأعلام في تحديد مبدأ الحياة البرزخية، ومنشأ الخلاف المذكور، يعود إلى نقطتين:
الأولى: تحديد الجسد الذي يكون مورداً للسؤال في القبر، فإن فيه احتمالين:
أحدهما: أن يكون الجسد هو الجسد العنصري المادي الذي كان يحيى به الإنسان في عالم الدنيا، فتعود الروح إليه من جديد بعد وضعه في القبر.
ثانيهما: أنه جسد مثالي آخر يغاير الجسد العنصري الذي كانت الروح فيه قبل موت الإنسان.
الثانية: أن القبر الذي يكون مورداً للسؤال، هو القبر الكلامي، وهو الموضع الذي يعيش فيه الإنسان حياته الأخرى بعد خروجه من الحياة الدنيا في عالم ما وراء هذا العالم. أو القبر الفقهي، ونقصد بالقبر الفقهي الحفرة التي تحفر للميت ويوضع فيها.
وقد تم تحديد مبدأ الحياة البرزخية اعتماداً على الجواب المذكور حول النقطتين السابقتين، فمن أختار أن المسؤول في القبر هو الجسد العنصري المادي، وأنه مورد السؤال هو القبر الفقهي، بنى على أن الحياة البرزخية، تبدأ بعد الانتهاء من السؤال في القبر، ومن أختار أن المسؤول هو الجسد المثالي الجديد، وأن مورد السؤال هو القبر الكلامي، بنى على أن بداية الحياة البرزخية تكون بمجرد وضع الإنسان في قبره، لأن آخر محطة من محطات الدنيا، هي أول ساعات الاحتضار، وأما ما يتبع ذلك من أمور، فإنها من عالم الآخرة، وليست من عالم الدنيا.
وكيف ما كان، فهناك قولان في المقام:
الأول: ما يظهر من جملة كبيرة من الأعلام، بل لعله المشهور بين علماء المسلمين، من عدّ القبر وما يتبعه من عوالم الدنيا، وليس من عوالم البرزخ، وحياة الآخرة، وأن الجسد الذي يسأل في القبر هو الجسد العنصري، وليس الجسد المثالي، وعليه لا يبدأ عالم البرزخ إلا بعد الانتهاء من مسائلة القبر. وطبقاً لهذا الرأي سوف يكون المقصود من القبر في النصوص التي تحدثت عنه، القبر الفقهي[6].
الثاني: ما أختاره جماعة من الفلاسفة، كشيخ الإشراقيـين، وصدر المتألهين، والفيض الكاشاني، والسيد العلامة الطباطبائي، وبعض الأعيان(ره)، من أن أول منازل الآخرة هو القبر، وآخر علاقة الإنسان بالدنيا هي ساعات الاحتضار، وأول علاقته بالآخرة، وعليه سوف تكون حياة القبر والمساءلة فيه لجسم مثالي، وليس للجسم المادي العنصري[7].
ومن الطبيعي أن يكون المقصود للقبر عندها في النصوص، هو القبر الكلامي، وليس القبر الفقهي. ومن هنا ألتـزموا بوجود قبر لكل ميت ولو لم يكن له قبر فقهي، كمن أكله السبع، أو ألقي في البحر، أو مات حرقاً، أو غير ذلك.
وقبل العمد إلى عرض أدلة كلا القولين، يحسن الإشارة إلى شبهة تذكر حول مسألة حياة البرزخ، ووجود سؤال في القبر، وما يتبع ذلك، وهي تصلح أيضاً أن تكون مستنداً لأصحاب القول الثاني، كما سنشير، وحاصلها، أن يقال: إنه لو تمت عملية نبش قبر من القبور بعد وضع الميت فيه بمدة كليلة أو ليلتين، فإنه لن يجد النابشون شيئاً متغيراً، وإنما سيرون الميت الذي وضعوه كما هو خشبة هامدة لم يطرأ عليها أي تغيـير.
بل إنه لو تم تـزويد القبر ببعض الوسائل الحديثة الإلكترونية، والتي يمكن بواسطتها رصد الصوت والصورة، فيمكن من خلالها نقل الوقائع للخارج، فإن المتابعين لما يجري في القبر بعد وضع الميت فيه، لن يجدوا شيئاً خلال فترة الرصد في الليلة الأولى التي تمر على الميت فيه، بل حتى لو طالت مدة الرصد، فإنهم لن يجدوا شيئاً أيضاً. مع أن المفروض أنه لو كانت الحوادث المذكورة من سنخ المادة، وأنها مرتبطة بالجسد العنصري المادي، كما يدعيه أصحاب القول الأول، لرآها الإنسان، وسجلتها الأجهزة الخاصة.
ومع عدم ثبوت ذلك، يلزم أن يكون القبر وما فيه من محطات عالم الآخرة، وليس من محطات عالم الدنيا، وأن السؤال فيه يكون للجسم المثالي، وليس للجسم العنصري.
نعم لا ريب أنهم سيرون حالة التغير التي تطرأ على الإنسان نتيجة وضعه في التراب، وهذا بحث آخر.
على أنه يضاف لذلك أيضاً من لا يكون له قبر فقهي، كالغريق، والمصلوب، والمحروق، وغيرهم، فإن عدم وجود قبر فقهي لهم، يوجب التساؤل عن كيفية سؤالهم في القبر، وكيف سيكون عذابه بالنسبة إليهم.
وبالجملة، إن هذا يمنع من وجود حياة في القبر، فضلاً عن وجود سؤال فيه، كما لا توجد حياة برزخية أيضاً.
أدلة القول الأول:
وعلى أي حال، فقد استدل القائلون بالقول الأول بالنصوص الواردة في سؤال القبر وعذابه، من خلال حملها على ظاهرها، وعدم التصرف في ظهورها، وهي نصوص عديدة، جمع أكثرها غواص بحار الأنوار(ره):
منها: رواية سليمان بن مقبل، عن موسى بن جعفر، عن أبيه(ع)، قال: إذا مات المؤمن شيّعه سبعون ألف ملك إلى قبره، فإذا ادخل قبره أتاه منكر ونكير فيقعدانه ويقولان له: من ربك؟ وما دينك، ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، ومحمد نبي، والإسلام ديني، فيفسحان له في قبره مدّ بصره، ويأتيانه بالطعام من الجنة، ويدخلان عليه الروح والريحان، وذلك قوله عز وجل:- (فأما إن كان من المقربين فروح وريحان)، يعني في قبره(وجنة نعيم)، يعني في الآخرة، ثم قال(ع): إذا مات الكافر شيعة سبعون ألفاً من الزبانية إلى قبره، وإنه ليناشد حامليه بصوت يسمعه كل شيء إلا الثقلان، ويقول: لو أن لي كرة فأكون من المؤمنين، ويقول: ارجعون لي أعمل صالحاً فيما تركت، فتجيبه الزبانية: كلا إنها كلمة أنت قائلها، ويناديهم ملك: لو رد لعاد لما نهي عنه، فإذا ادخل قبره وفارقه الناس أتاه منكر ونكير في أهول صورة فيقيمانه، ثم يقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيتلجلج لسانه، ولا يقدر على الجواب، فيضربانه ضربة من عذاب الله يذعر لها كل شيء، ثم يقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: لا أدري، فيقولان له: لا دريت ولا هديت، ولا أفلحت، ثم يفتحان له باباً إلى النار، ويتـزلان إليه من الحميم من جهنم، وذلك قول الله عز وجل:- (وأما إن كان من المكذبين الضالين فنـزل من حميم)، يعني في القبر(وتصلية جحيم)، يعني في الآخرة[8].
ومنها: ما رواه سويد بن غفلة، عن أمير المؤمنين(ع)، قال: إن ابن آدم إذا كان آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة مثل له ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: والله إني كنت عليك لحريصاً شحيحاً، فما لي عندك-إلى أن قال-فإذا ادخل قبره أتاه ملكان وهما فتانا القبر يجران أشعارهما، ويبحثان الأرض بأنيابهما، وأصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربك، ومن نبيك، وما دينك فيقول: الله ربي، ومحمد نبي، والاسلام ديني[9].
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
إن الأصل في المفاهيم القرآنية حملها على معانيها الظاهرة منها عرفاً وفق ما تضمنته كتب أهل اللغة، ورفع اليد عن ذلك يحتاج قرينة موجبة لذلك، فلفظة اليد الواردة في قوله تعالى:- (يد الله فوق أيديهم)[1]، لولا منع التجسيم عن الذات المقدسة، لم يكن هناك موجب لحملها على غير ما هو الظاهر منها.
ومن المفاهيم التي تضمنها القرآن الكريم مفهوم البرزخ، ويقصد منه الفاصل والحاجب والحاجز بين الشيئين، كما تضمنته كلمات أهل اللغة، وقد استعمله القرآن الكريم في ذلك، كما في قوله تعالى:- (بينهما برزخ لا يبغيان)[2]، يعني فاصل وحاجب. وهذا ينطبق أيضاً على قوله تعالى:- (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون)[3]، لأن الحياة البرزخية تمثل فاصلاً بين عالمين، عالم الدنيا وعالم الآخرة.
أقسام البرزخ:
وقد تضمنت كلمات الفلاسفة والحكماء أن البرزخ قسمان:
الأول: البرزخ النـزولي:
ويعبر عنه أيضاً بقوس النـزول، والمقصود من هذا القسم، هو النشأة التي سبقت النشأة الدنيوية للإنسان قبل مجيئه إلى عالم الدنيا، ويعبر عنها بعالم المثال، وإليه يشير قوله تعالى:- (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا)[4]، فإنها تتحدث عن الإنسان في مرحلة ما قبل النشأة الدنيوية والتي يعبر عنها بعالم الذر، وفقاً لمختار المشهور.
وفي ثبوت هذا القسم من البرزخ خلاف شديد بين الفلاسفة أنفسهم والمتكلمين، فإنهم منقسمون بين ما يبني على ثبوته يلتـزم بوجوده، وبين من ينفي وجوده، ولا يثبته.
الثاني: البرزخ الصعودي:
وهو المعبر عنه بقوس الصعود، ويقصد منه الحياة التي تفصل الحياة الدنيوية عن الحياة الأخروية.
ولكل واحد من القسمين المذكورين مميزات يختلف بها عن الآخر، فالبرزخ النـزولي لا يتضمن تكليفاً، فلا ينقسم الناس فيه إلى منعمين ومعذبين، ومن هنا منع بعضهم أن يكون الصادر من آدم(ع)، تركاً للأولى، فضلاً عن أن يكون معصية وجرماً، لأن ما صدر منه(ع) لم يصدر في عالم التكليف، وإنما صدر في عالم المثال والبرزخ.
وهذا بخلاف البرزخ الصعودي، فإن الناس فيه يقسمون إلى قسمين، فقسم منهم منعم، وآخر معذب، وذلك نتيجة ما صدر منهم من أعمال في عالم الدنيا.
وبكلمة ثانية، إن ما يجده الإنسان في البرزخ الصعودي، هو صورة مجسمة لما صدر عنه من أفعال في عالم الدنيا، وليست شيئاً آخر[5].
بداية الحياة البرزخية:
وقع الخلاف بين الأعلام في تحديد مبدأ الحياة البرزخية، ومنشأ الخلاف المذكور، يعود إلى نقطتين:
الأولى: تحديد الجسد الذي يكون مورداً للسؤال في القبر، فإن فيه احتمالين:
أحدهما: أن يكون الجسد هو الجسد العنصري المادي الذي كان يحيى به الإنسان في عالم الدنيا، فتعود الروح إليه من جديد بعد وضعه في القبر.
ثانيهما: أنه جسد مثالي آخر يغاير الجسد العنصري الذي كانت الروح فيه قبل موت الإنسان.
الثانية: أن القبر الذي يكون مورداً للسؤال، هو القبر الكلامي، وهو الموضع الذي يعيش فيه الإنسان حياته الأخرى بعد خروجه من الحياة الدنيا في عالم ما وراء هذا العالم. أو القبر الفقهي، ونقصد بالقبر الفقهي الحفرة التي تحفر للميت ويوضع فيها.
وقد تم تحديد مبدأ الحياة البرزخية اعتماداً على الجواب المذكور حول النقطتين السابقتين، فمن أختار أن المسؤول في القبر هو الجسد العنصري المادي، وأنه مورد السؤال هو القبر الفقهي، بنى على أن الحياة البرزخية، تبدأ بعد الانتهاء من السؤال في القبر، ومن أختار أن المسؤول هو الجسد المثالي الجديد، وأن مورد السؤال هو القبر الكلامي، بنى على أن بداية الحياة البرزخية تكون بمجرد وضع الإنسان في قبره، لأن آخر محطة من محطات الدنيا، هي أول ساعات الاحتضار، وأما ما يتبع ذلك من أمور، فإنها من عالم الآخرة، وليست من عالم الدنيا.
وكيف ما كان، فهناك قولان في المقام:
الأول: ما يظهر من جملة كبيرة من الأعلام، بل لعله المشهور بين علماء المسلمين، من عدّ القبر وما يتبعه من عوالم الدنيا، وليس من عوالم البرزخ، وحياة الآخرة، وأن الجسد الذي يسأل في القبر هو الجسد العنصري، وليس الجسد المثالي، وعليه لا يبدأ عالم البرزخ إلا بعد الانتهاء من مسائلة القبر. وطبقاً لهذا الرأي سوف يكون المقصود من القبر في النصوص التي تحدثت عنه، القبر الفقهي[6].
الثاني: ما أختاره جماعة من الفلاسفة، كشيخ الإشراقيـين، وصدر المتألهين، والفيض الكاشاني، والسيد العلامة الطباطبائي، وبعض الأعيان(ره)، من أن أول منازل الآخرة هو القبر، وآخر علاقة الإنسان بالدنيا هي ساعات الاحتضار، وأول علاقته بالآخرة، وعليه سوف تكون حياة القبر والمساءلة فيه لجسم مثالي، وليس للجسم المادي العنصري[7].
ومن الطبيعي أن يكون المقصود للقبر عندها في النصوص، هو القبر الكلامي، وليس القبر الفقهي. ومن هنا ألتـزموا بوجود قبر لكل ميت ولو لم يكن له قبر فقهي، كمن أكله السبع، أو ألقي في البحر، أو مات حرقاً، أو غير ذلك.
وقبل العمد إلى عرض أدلة كلا القولين، يحسن الإشارة إلى شبهة تذكر حول مسألة حياة البرزخ، ووجود سؤال في القبر، وما يتبع ذلك، وهي تصلح أيضاً أن تكون مستنداً لأصحاب القول الثاني، كما سنشير، وحاصلها، أن يقال: إنه لو تمت عملية نبش قبر من القبور بعد وضع الميت فيه بمدة كليلة أو ليلتين، فإنه لن يجد النابشون شيئاً متغيراً، وإنما سيرون الميت الذي وضعوه كما هو خشبة هامدة لم يطرأ عليها أي تغيـير.
بل إنه لو تم تـزويد القبر ببعض الوسائل الحديثة الإلكترونية، والتي يمكن بواسطتها رصد الصوت والصورة، فيمكن من خلالها نقل الوقائع للخارج، فإن المتابعين لما يجري في القبر بعد وضع الميت فيه، لن يجدوا شيئاً خلال فترة الرصد في الليلة الأولى التي تمر على الميت فيه، بل حتى لو طالت مدة الرصد، فإنهم لن يجدوا شيئاً أيضاً. مع أن المفروض أنه لو كانت الحوادث المذكورة من سنخ المادة، وأنها مرتبطة بالجسد العنصري المادي، كما يدعيه أصحاب القول الأول، لرآها الإنسان، وسجلتها الأجهزة الخاصة.
ومع عدم ثبوت ذلك، يلزم أن يكون القبر وما فيه من محطات عالم الآخرة، وليس من محطات عالم الدنيا، وأن السؤال فيه يكون للجسم المثالي، وليس للجسم العنصري.
نعم لا ريب أنهم سيرون حالة التغير التي تطرأ على الإنسان نتيجة وضعه في التراب، وهذا بحث آخر.
على أنه يضاف لذلك أيضاً من لا يكون له قبر فقهي، كالغريق، والمصلوب، والمحروق، وغيرهم، فإن عدم وجود قبر فقهي لهم، يوجب التساؤل عن كيفية سؤالهم في القبر، وكيف سيكون عذابه بالنسبة إليهم.
وبالجملة، إن هذا يمنع من وجود حياة في القبر، فضلاً عن وجود سؤال فيه، كما لا توجد حياة برزخية أيضاً.
أدلة القول الأول:
وعلى أي حال، فقد استدل القائلون بالقول الأول بالنصوص الواردة في سؤال القبر وعذابه، من خلال حملها على ظاهرها، وعدم التصرف في ظهورها، وهي نصوص عديدة، جمع أكثرها غواص بحار الأنوار(ره):
منها: رواية سليمان بن مقبل، عن موسى بن جعفر، عن أبيه(ع)، قال: إذا مات المؤمن شيّعه سبعون ألف ملك إلى قبره، فإذا ادخل قبره أتاه منكر ونكير فيقعدانه ويقولان له: من ربك؟ وما دينك، ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، ومحمد نبي، والإسلام ديني، فيفسحان له في قبره مدّ بصره، ويأتيانه بالطعام من الجنة، ويدخلان عليه الروح والريحان، وذلك قوله عز وجل:- (فأما إن كان من المقربين فروح وريحان)، يعني في قبره(وجنة نعيم)، يعني في الآخرة، ثم قال(ع): إذا مات الكافر شيعة سبعون ألفاً من الزبانية إلى قبره، وإنه ليناشد حامليه بصوت يسمعه كل شيء إلا الثقلان، ويقول: لو أن لي كرة فأكون من المؤمنين، ويقول: ارجعون لي أعمل صالحاً فيما تركت، فتجيبه الزبانية: كلا إنها كلمة أنت قائلها، ويناديهم ملك: لو رد لعاد لما نهي عنه، فإذا ادخل قبره وفارقه الناس أتاه منكر ونكير في أهول صورة فيقيمانه، ثم يقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيتلجلج لسانه، ولا يقدر على الجواب، فيضربانه ضربة من عذاب الله يذعر لها كل شيء، ثم يقولان له: من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول: لا أدري، فيقولان له: لا دريت ولا هديت، ولا أفلحت، ثم يفتحان له باباً إلى النار، ويتـزلان إليه من الحميم من جهنم، وذلك قول الله عز وجل:- (وأما إن كان من المكذبين الضالين فنـزل من حميم)، يعني في القبر(وتصلية جحيم)، يعني في الآخرة[8].
ومنها: ما رواه سويد بن غفلة، عن أمير المؤمنين(ع)، قال: إن ابن آدم إذا كان آخر يوم من الدنيا، وأول يوم من الآخرة مثل له ماله وولده وعمله، فيلتفت إلى ماله فيقول: والله إني كنت عليك لحريصاً شحيحاً، فما لي عندك-إلى أن قال-فإذا ادخل قبره أتاه ملكان وهما فتانا القبر يجران أشعارهما، ويبحثان الأرض بأنيابهما، وأصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربك، ومن نبيك، وما دينك فيقول: الله ربي، ومحمد نبي، والاسلام ديني[9].
تعليق