بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
نلتقي في هذه اللّيالي ـ على حسب بعض الرِّوايات ـ بذكرى وفاة ثامن الأئمَّة الإمام عليّ بن موسى الرّضا (ع)، ولا بُدَّ لنا أن نطلّ ولو إطلالة يسيرة على حياة هذا الإمام الَّذي هو من أئمّة أهل البيت (ع) الَّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً، وفي عقيدتنا أنَّه أحد الأئمة الاثني عشر المعصومين الَّذين فرض الله طاعتهم وجعلهم حججاً على عباده وخلفاء لرسوله.
وعلى ضوء ذلك، فإنَّ معنى الإمامة بما تنفتح عليه من سرّ العصمة واللّطف الإلهيّ، يوحي إلينا بأنَّ كلّ الخطّ المتمثِّل في المسيرة العلميّة والأخلاقيّة والسياسيّة هو في الخط المستقيم للإسلام الأصيل، ومن هذا المنطلق، قد لا نجد في وعينا العقيدي أيَّ ضرورة للحديث عن تبرير قبوله لولاية العهد من المأمون، لأنَّ الكثيرين من الرّواة تنوَّعوا في تحليل ذلك وتفسيره، وقد تبعهم العلماء والباحثون، بين من اعتبر المسألة خاضعةً لضغطٍ تهديديٍّ يصل إلى إمكانيّة القتل، ومن اتجه اتجاهاً آخر. ولسنا في صدد الإفاضة في ذلك، غير أنَّ هناك نقطة أساسيّة، وهي أنَّ فعله (ع) يُمثِّل الشرعيَّة، ولذلك فلسنا بحاجة إلى البحث عن أساس الشرعيّة خارج نطاق ذلك، لأنَّ العصمة الّتي يتميّز بها الإمام الرّضا (ع)، ولأنَّ الأفق الواسع المفتوح على الإسلام الأصيل في قاعدته الثقافية وامتدادته الفقهية المتمثلة بوعي الأئمّة (ع) للإسلام، كلّها تكفي في تركيز الشرعيّة.
ولسنا نُريد إثارة الموضوع للبحث عن تكليف الإمام الرّضا (ع)، ولكنّنا نُثيره لأنَّنا نُريد أن نأخذ الفكرة في أمثال هذه الأمور من خلال سيرة الإمام الرّضا (ع)، فنحن نتحرّك في البحث من موقع حركة القدوة، فلا بُدَّ لنا من أن نفهم طبيعة الموضوع.
العلاقة مع الحاكم
إنَّ الفكرة الّتي يتداولها البعض، ولا سيّما في الأجواء الثقافيّة لأتباع أهل البيت (ع)، والّتي أصبحت متجذّرة في وجداننا الثقافيّ، هي أنَّه لا بُدَّ أن ننعزل عن أيّ ارتباط وعن أيّ مساعدة لأيّ حكم غير شرعيّ، ما يعني أنَّ المطلوب في الخطّ الإماميّ هو أن ينعزل كلّ الإماميين عن الانفتاح على أيّ حكم في العالم، مادام خارج نطاق الشرعيّة، ليكونوا خارج نطاق المسؤوليّات العامّة والخاصّة، على أساس أنَّه لا يجوز معاونة الظّالمين ولا مساعدة السلطان الجائر، وبالتالي، فإنَّ أيّ ارتباطٍ من قريب أو بعيد بأيِّ سلطان جائر، يعني مساعدته ومعاونته وتثبيت حكمه، ولهذا انطلقت هذه الذهنيّة لتعزل كلّ هذا الواقع التأريخيّ عن أيّ نشاط في هذا الموقع أو ذاك، وإذا ذكروا بعض الأسماء، كعليّ بن يقطين، فإنَّهم يذكرونه استثناءً محاطاً بألف قيدٍ وقيد. لكنَّنا لا نتصوَّر المسألة بهذه المثابة، بل أن لا تساعد الظّالم في ظلمه، وأن لا تقوّي سلطانه عندما تكون المسألة مسألة حكم يُمكن أن يكون البديل، وعندما تكون مسألة حركةٍ تريد أن تسقط حركة الباطل.
وأمّا عندما لا تكون بهذه المثابة، فلا تكون مسألة البديل الواقعي، ولا مسألة الخطر الدّاخلي على الواقع الإسلاميّ، بل ربَّما تكون العزلة سبباً في زيادة ضعف الحقّ وإضعاف أهل الحقّ، لأنَّ مصالحهم سوف تسقط، ولأنَّ واقعهم سوف يضعف، ولأنَّ الآخرين سوف يطبقون ويضغطون عليهم، وربَّما يؤدّي بهم الأمر إلى أن يحرّكوهم في أجواء الانحراف من خلال الضغط الَّذي يتحرّك هنا وهناك.
فقد تكون القضيّة السلبيّة في هذا الاتجاه أو ذاك، مساعدة الظّالمين في الابتعاد عن أن يكون لك مركز قوّة في دولتهم أو في الواقع الَّذي يسيطرون عليه، فبدلاً من أن يكون وجودك مقوّياً له، قد يكون ابتعادك مقوّياً له أكثر. ولهذا نقول من حيثُ المبدأ، وضمن الظروف الواقعيّة الّتي تتحرّك في كلّ العالم، إنَّ على كلّ فريقٍ إسلاميّ أن يسعى ليكون له موقع قوَّة في هذه السَّاحة أو تلك، فربَّما يستطيع من موقع هذه القوَّة أن يضاعفها، وأن ينتهي إلى تغيير الواقع كلّه، وقد تفرض عليك بعض الأوضاع السياسيّة المقاطعة المرحلية، وربَّما نحتاج إلى التفريق بين الجانب الثقافي في رفض الواقع الظالم، وبين الجانب الواقعي في الدخول في هيكليّة النظام، لنستطيع حماية المستضعفين الَّذين قد لا يكون لهم صوتٌ أو موقع.
فما أريد أن أؤكّده، أنَّ علينا أن نثقّف النَّاس تماماً كما ثقّف الإمام الكاظم (ع) أحد المؤمنين المخلصين (صفوان الجمال)، عندما قال له: «من أحبّ بقاءهم فهو منهم»[1]، فعندما تتعاون معهم، فلا تملأ قلبك بالعاطفة تجاههم، ولا تبتعد عن رفض خطّ الباطل الَّذي يتحركون فيه، ولا تنزع من نفسك كلّ الانطباعات السلبيَّة عنهم، فهناك مسألة تتَّصل بالجانب الثقافيّ، ولا بُدَّ أن تؤكّد على الطريقة الكاظميّة، بأن تنزع من قلب هذا الإنسان المؤمن كلّ فكر وعاطفة يُمكن أن تتحوّل إلى شرعية لهذا الظالم أو ذاك، فهي مسألة «من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[2]، أي أن تعيش الرّفض القلبي للواقع، فلا تحبّ أهل الباطل، ولا تكره أهل الحقّ؛ فهذا أمرٌ على غاية من الأهميَّة لا بُدَّ للتربية أن تتحرك باتجاهه. وكما قال الإمام الصادق (ع): «وهل الدِّين إلاَّ الحبّ والبغض؟!»[3].
المصلحة الإسلاميَّة هي المعيار
وأمَّا بالنّسبة إلى قضية المشاركة والمقاطعة، فهي خاضعة للمصلحة الإسلاميّة العليا، فقد تفرض علينا المصلحة أن ندخل في أنظمة الكفر، حتّى نستطيع أن نحمي الواقع الإسلاميّ من هذه الزاوية، ولكن بشرطها وشروطها، فلا يكون هذا الدّخول دخولاً عفوياً، بل لا بُدَّ أن يكون دخولاً مدروساً من خلال الواقع، وحتّى إذا أردنا أن نرفض، فلا بُدَّ أن يكون الرّفض مدروساً، فثمّة فرقٌ بين أن تحرّك المسألة فردياً لتقول للنَّاس تحرّكوا كما تريدون من خلال مصالحكم الفرديّة، وبين أن تنطلق من خلال المصلحة الإسلاميّة العليا ومصلحة المسلمين، لتقول للمسلمين تعالوا لنرسم خطّة من أجل أن نتّخذ موقعاً هنا وموقعاً هناك.
القبول بولاية العهد!
كيف قبل الرّضا (ع) ولاية العهد؟ في حين أنَّ ولاية العهد ليست وظيفة حتّى نقول كيف وافق على أن يكون موظفاً عند المأمون، بل هي أن يكون الإمام الخليفة بعد المأمون، فعندما يُمثِّل الإمام الشرعيّة، فإنَّ المركز الأوَّل هو مركزه، وحتّى لو كان الإمام الرّضا (ع) يعرف أنَّ هذا لن يتمّ، لكنَّ ذلك يُمثِّل الاعتراف بالشرعيّة، فإنَّك لن تجد في العالم الإسلامي كلّه من يُمثِّل الشرعيّة يومذاك إلاَّ هو، حتّى إنَّ البعض يقول إنَّ المسألة لم تكن مسألة ولاية العهد، بل كانت تُمثِّل تنازل المأمون للإمام الرّضا (ع). ولست في صدد مناقشة المسألة من ناحية تحقيقيّة، لكنّني أناقشها مناقشة ذهنيّة؛ فلماذا نعتبر المسألة مسألة ضغط وتهديد بالقتل، فالإمام هو الَّذي يُمثِّل الشرعيّة، والمركز الأعلى مركزه، وذلك من خلال فكرة الإمامة؟!
وقد يكون الإمام (ع) رأى في ذلك إمكانيَّة أوسع للتّبليغ والدعوة، حتّى إنَّ بعض الرِّوايات تقول إنَّ المأمون شعر بالخطر، لأنَّ النَّاس اجتمعوا حول الإمام، وكانوا يسألونه في كلِّ أمورهم، حتّى شكّلت خطراً يتهدّد كيان المأمون.
الإمام في نظر معاصريه
النّص الأوّل: يقول أبو الصّلت الهرويّ: «ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرّضا، ولا رأيت عالماً إلاَّ شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع له المأمون في مجلس له عدداً من علماء الأديان وفقهاء الشّريعة والمتكلّمين، فغلبهم عن آخرهم، حتّى ما بقي أحدٌ منهم إلاَّ أقرّ بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور... وأنَّ موسى بن جعفر قال لبنيه: هذا أخوكم عليّ بن موسى، عالم آل محمَّد، فسلوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقوله لكم»[4].
النّص الثاني: في المناقب عن عيون أخبار الرِّضا: «أنَّالمأمون جمع علماء سائر الملل، مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصّابئين، منهم عمران الصابئي والهربذ الأكبر وأصحاب زرادشت ونطاس الروميّ، والمتكلّمين منهم سليمان المروزي، ثُمَّ أحضر الرّضا، فسألوه، فقطع الرّضا واحداً بعد واحد»[5].
النّص الثالث: عن إبراهيم بن العباس، وهو يتحدث عن أخلاقيّة الإمام الرّضا السلوكيّة، قال: «ما رأيت أبا الحسن الرّضا (ع) جفا أحداً بكلمة قطّ، ولا رأيته قطع على أحدٍ كلامه حتّى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مدَّ رجليه بين جليسٍ له قطّ، ولا اتّكأ بين يدي جليس له قطّ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قطّ، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قطّ، بل كان ضحكه التبسّم، وكان إذا خلا ونصب مائدته، أجلس معه على مائدته مماليكه ومواليه، حتّى البوّاب والسائس، وكان (ع) قليل النّوم باللّيل، كثير السّهر، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى الصبح، وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول ذلك (صوم الدهر)، وكان كثير المعروف والصّدقة في السرّ، وأكثر ذلك يكون منه في اللّيالي المظلمة، فمن زعم أنَّه رأى مثله في فضله، فلا تصدّق»[6].
وقال أيضاً: «ما رأيت الرّضا يُسأل عن شيء إلاَّ علم، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزّمان الأوّل إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسّؤال عن كلّ شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كلّه وجوابه وتمثّله انتزاعات من القرآن، وكان يختمه في كلّ ثلاثة ويقول: لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة ختمت، ولكن ما مررت بآية قطّ إلاَّ فكرت فيها، وفي أيِّ شيء نزلت، وفي أيِّ وقت، فلذلك صرت أختم في كلِّ ثلاثة أيّام»[7].
وعندما ولّي العهد، جاءه جماعة من الصوفية الَّذين يرون أنَّ القيمة، كلّ القيمة، هي أن لا يأكل الإنسان جيّداً، ولا يلبس جيّداً، وأن لا يعيش حياة رخيّة، لأنَّ الزهد في مفهومهم يُمثِّل حالة سلبيّة في واقع حركة الإنسان، بينما الزهد في المعنى الإسلاميّ الأصيل يُمثِّله عليّ (ع) فيما فهمه من القرآن: «جمع الله الزّهد في كلمتين: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}»(الحديد؛ 23)، بأن لا تكون لك علاقة بالدّنيا بحيثُ تتعبَّد لها، فإذا خسرت شيئاً سخطت، وإذا ربحت شيئاً بطرت، وبأن تواجه الرّبح والخسارة كشيئين طبيعيّين، لأنَّ الشيء إذا وجد سببه تحقّق، وإذا لم يوجد سببه لم يتحقّق، وهذا ما عبّر عنه الإمام أمير المؤمنين (ع) في رسالته لابن عبّاس: «أمّا بعد، فإنَّ المرء لَيَفرحُ بالشّيء الَّذي لم يكن ليفوته، ويحزن على الشّيء الَّذي لم يكن ليصيبه»[8]. وفي الحديث عنه (ع): «ليس الزّهد أن لا تملك الدّنيا، بل الزهد أن لا يملكك شيء»[9]. فالزّهد حالة نفسيّة في الوجدان الإنسانيّ، بحيثُ يواجه الدّنيا بكلِّ لذّاتها وشهواتها، فلا يتعلّق قلبه بها بالمستوى الَّذي تفرض عليه كلّ قيمها الماديّة، بحيثُ يستطيع أن يقول (لا) إذا أرادت الدنيا أن تفرض عليه معصية الله ليحصل على رغباتها وشهواتها، ويستطيع أن يقول (نعم) عندما تكلّفه (نعم) الكثير من التضحيات.
ولقد قال الإمام الرّضا (ع) للصوفيّة عندما قالوا له: «إنَّ المأمون قد ردَّ الأمر إليك، وإنَّك لأحقُّ النَّاس به، إلاَّ أنَّه يحتاج من يتقدَّم منك بقدمك إلى لبس الصّوف وما يخشن لبسه، فقال: «ويحكم! إنَّما يُراد من الإمام قسطه وعدله، إذا قال صدق، وإذا حكم عدل وإذا وعد أنجز، والخير معروف {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}(الأعراف؛ 32)، وإنَّ يوسف الصدّيق لبس الدّيباج المنسوج بالذَّهب، وجلس على متّكئات فرعون»[10].
فالإمام هنا يقول لو أنَّكم ربطتم الحاكم بالشكليّات، فإنَّه من السهولة أن يخذلكم أيّ شخصٍ يلبس المسوح ويأكل الطّعام الجشب فيما هو يظلم النَّاس، في حين أنَّ النَّاس يرون منه الشّكل فيقولون إنَّه زاهد تقي.
فمسألة الحاكم لا تنطلق من الشّكليّات، وإنَّما من خلال طبيعة حكمه، بأن يكون حكمه على أساس العدل، وأن يكون قوله على أساس الصّدق، وأن يكون وعده على أساس الإنجاز.
ولقد قال له أبو الصّلت الهروي: «قلت للرّضا (ع): يا بن رسول الله، ما شيءٌ يحكيه النَّاس عنكم، قال: وما هو؟ قلت: يقولون: إنَّكم تدّعون أنَّ النَّاس لكم عبيد، فقال: اللهم فاطر السّموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت شاهد بأني لم أقل ذلك قطّ، ولا سمعت أحداً من آبائي قاله قطّ، وأنت العالم بما لنا من المظالم عند هذه الأمّة، وأنَّ هذه منها»[11].
ولقد نظم بعض الشّعراء في هذا المعنى:
سادةٌ نحنُ والأنامُ عبيدُ ولنا طارفُ العُلى والتليدُ
فهذا المفهوم لايزال متداولاً عند الكثير من النَّاس.
ثُمَّ إنَّ الإمام (ع) يُركِّز في دراسة الأشخاص على القضايا الحيويَّة الّتي تدلّ على عمق الشخصيَّة، بأن لا تدرس الإنسان من خلال مظهره، بل من خلال مخبره.
روى عن أبيه عن آبائه عن عليّ (ع) قال: «لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحجّ والمعروف، وطنطنتهم باللّيل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة»[12].
ثُمَّ يرتفع الإمام (ع) في وحيه الإسلامي الأخلاقيّ الَّذي يستوحي القرآن في إلغاء كلّ طبقيّة بين سيّد وعبدٍ بين النَّاس، في تفاوتهم الطبقي بين الغنيّ والفقير، والشريف والوضيع. قال رجلٌ للرضا (ع): والله ما على الأرض أشرف منك أباً، فقال: «التقوى شرّفتهم، وطاعة الله أحظتهم»، فقال له آخر: أنت والله خير النَّاس، فقال له: «لا تحلف يا هذا، خيرٌ مني من كان أتقى الله وأطوع له، والله ما نسخت هذه الآية: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ}»[13](الحجرات؛ 13)».
وهناك رواية تتحدّث عن النظرة القيميّة الأخلاقيّة الّتي عبّرت عنها رواية سابقة في جمعه للمماليك وتناوله الطعام معهم، فعن رجلٍ من أهل بلخ قال: «كنتُ مع الرّضا في سفر إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له، فجمع عليها مواليه من السّودان وغيرهم، فقلت: جعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال: مه، إنَّ الربّ تبارك وتعالى واحدٌ، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال»[14].
فالمسألة هي: قل لي ما هو عملك، وما هي طاعتك لربّك، أقل لك من أنت.
الاقتداء بأئمَّتنا (ع)
هذا إمام من أئمّة أهل البيت (ع)، ملأ كلّ المرحلة الّتي عاشها علماً كأفضل ما يكون العلم، فيما حدَّث به عن آبائه، وفيما انتزعه من القرآن، وفيما حركه مما لديه، وفيما ألهمه الله به، وهكذا ملأ العالم الإسلامي بالصورة الرائعة للأخلاق الإسلاميّة، من خلال الممارسة والقدوة، واستطاع أن يطرح كلّ مفاهيم الإسلام في وجدان النَّاس وحياتهم. فإذا أردتم أن تتذكّروه، فتذكّروا أنَّ معنى الإمامة ليست نبضة قلب تتحرّك مدحاً فحسب، ولكن أن تتحرّكوا كما تحرّكوا، وأن تنطلقوا كما انطلقوا، وأن تسيروا في الخطّ الَّذي ساروا فيه:
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم إنَّ التشبّه بالكرام فلاحُ
أن نجسّدهم وعياً وفي وعينا، وإيماناً وروحاً في روحنا، وحركة في خطواتنا، ومنهجاً في حياتنا، وأن نعيش معهم في الخطّ والدّرب، فالهدف الَّذي نلتقي جميعاً عنده هو الله، ولا شيء إلا الله، فلقد كانوا مع الله، وعملوا لله، ودعوا إلى الله، وجاهدوا في سبيل الله، وأن تكون مأموماً في الفكر والحركة والمنهج لهؤلاء الأئمّة: «ألا وإنَّ لكلِّ مأمومٍ إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه؛ ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طُعمِهِ بقرصيه. ألا وإنَّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد»[15].
ولايزال نداء عليّ (ع) يدعو الورعين والسّائرين الَّذين يجتهدون في طاعة الله، واجتناب كلّ ما حرّم الله، والَّذين يقولون القول السّديد، ويتحرّكون بالفكر السديد، وذلك هو الإمام عليّ بن موسى الرّضا (ع) في بعض صورته.
-----------------------------------------
[1] وسائل الشّعة، الحرّ العاملي، ج 17، ص 182.
[2] تذكرة الفقيه، العلامة الحلي، ج4، ص 136.
[3] بحار الأنوار، المجلسي، ج 65، ص 63.
[4] الأنوار البهيّة، الشّيخ عبّاس القمّي، ص 318.
[5] مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، ج3، ص 461.
[6] عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج2، ص 197.
[7] المصدر نفسه، ج2، ص 193.
[8]نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ (ع).
[9] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج4، ص 2990.
[10] بحار الأنوار، ج10، ص 351.
[11] عيون أخبار الرضا (ع)، ج2، ص 197.
[12] عيون أخبار الرّضا (ع)، ج2، ص 56.
[13] بحار الأنوار، ج46، ص 178.
[14] بحار الأنوار، ج49، ص 101.
[15] نهج البلاغة، ج3، ص 70.
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
نلتقي في هذه اللّيالي ـ على حسب بعض الرِّوايات ـ بذكرى وفاة ثامن الأئمَّة الإمام عليّ بن موسى الرّضا (ع)، ولا بُدَّ لنا أن نطلّ ولو إطلالة يسيرة على حياة هذا الإمام الَّذي هو من أئمّة أهل البيت (ع) الَّذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً، وفي عقيدتنا أنَّه أحد الأئمة الاثني عشر المعصومين الَّذين فرض الله طاعتهم وجعلهم حججاً على عباده وخلفاء لرسوله.
وعلى ضوء ذلك، فإنَّ معنى الإمامة بما تنفتح عليه من سرّ العصمة واللّطف الإلهيّ، يوحي إلينا بأنَّ كلّ الخطّ المتمثِّل في المسيرة العلميّة والأخلاقيّة والسياسيّة هو في الخط المستقيم للإسلام الأصيل، ومن هذا المنطلق، قد لا نجد في وعينا العقيدي أيَّ ضرورة للحديث عن تبرير قبوله لولاية العهد من المأمون، لأنَّ الكثيرين من الرّواة تنوَّعوا في تحليل ذلك وتفسيره، وقد تبعهم العلماء والباحثون، بين من اعتبر المسألة خاضعةً لضغطٍ تهديديٍّ يصل إلى إمكانيّة القتل، ومن اتجه اتجاهاً آخر. ولسنا في صدد الإفاضة في ذلك، غير أنَّ هناك نقطة أساسيّة، وهي أنَّ فعله (ع) يُمثِّل الشرعيَّة، ولذلك فلسنا بحاجة إلى البحث عن أساس الشرعيّة خارج نطاق ذلك، لأنَّ العصمة الّتي يتميّز بها الإمام الرّضا (ع)، ولأنَّ الأفق الواسع المفتوح على الإسلام الأصيل في قاعدته الثقافية وامتدادته الفقهية المتمثلة بوعي الأئمّة (ع) للإسلام، كلّها تكفي في تركيز الشرعيّة.
ولسنا نُريد إثارة الموضوع للبحث عن تكليف الإمام الرّضا (ع)، ولكنّنا نُثيره لأنَّنا نُريد أن نأخذ الفكرة في أمثال هذه الأمور من خلال سيرة الإمام الرّضا (ع)، فنحن نتحرّك في البحث من موقع حركة القدوة، فلا بُدَّ لنا من أن نفهم طبيعة الموضوع.
العلاقة مع الحاكم
إنَّ الفكرة الّتي يتداولها البعض، ولا سيّما في الأجواء الثقافيّة لأتباع أهل البيت (ع)، والّتي أصبحت متجذّرة في وجداننا الثقافيّ، هي أنَّه لا بُدَّ أن ننعزل عن أيّ ارتباط وعن أيّ مساعدة لأيّ حكم غير شرعيّ، ما يعني أنَّ المطلوب في الخطّ الإماميّ هو أن ينعزل كلّ الإماميين عن الانفتاح على أيّ حكم في العالم، مادام خارج نطاق الشرعيّة، ليكونوا خارج نطاق المسؤوليّات العامّة والخاصّة، على أساس أنَّه لا يجوز معاونة الظّالمين ولا مساعدة السلطان الجائر، وبالتالي، فإنَّ أيّ ارتباطٍ من قريب أو بعيد بأيِّ سلطان جائر، يعني مساعدته ومعاونته وتثبيت حكمه، ولهذا انطلقت هذه الذهنيّة لتعزل كلّ هذا الواقع التأريخيّ عن أيّ نشاط في هذا الموقع أو ذاك، وإذا ذكروا بعض الأسماء، كعليّ بن يقطين، فإنَّهم يذكرونه استثناءً محاطاً بألف قيدٍ وقيد. لكنَّنا لا نتصوَّر المسألة بهذه المثابة، بل أن لا تساعد الظّالم في ظلمه، وأن لا تقوّي سلطانه عندما تكون المسألة مسألة حكم يُمكن أن يكون البديل، وعندما تكون مسألة حركةٍ تريد أن تسقط حركة الباطل.
وأمّا عندما لا تكون بهذه المثابة، فلا تكون مسألة البديل الواقعي، ولا مسألة الخطر الدّاخلي على الواقع الإسلاميّ، بل ربَّما تكون العزلة سبباً في زيادة ضعف الحقّ وإضعاف أهل الحقّ، لأنَّ مصالحهم سوف تسقط، ولأنَّ واقعهم سوف يضعف، ولأنَّ الآخرين سوف يطبقون ويضغطون عليهم، وربَّما يؤدّي بهم الأمر إلى أن يحرّكوهم في أجواء الانحراف من خلال الضغط الَّذي يتحرّك هنا وهناك.
فقد تكون القضيّة السلبيّة في هذا الاتجاه أو ذاك، مساعدة الظّالمين في الابتعاد عن أن يكون لك مركز قوّة في دولتهم أو في الواقع الَّذي يسيطرون عليه، فبدلاً من أن يكون وجودك مقوّياً له، قد يكون ابتعادك مقوّياً له أكثر. ولهذا نقول من حيثُ المبدأ، وضمن الظروف الواقعيّة الّتي تتحرّك في كلّ العالم، إنَّ على كلّ فريقٍ إسلاميّ أن يسعى ليكون له موقع قوَّة في هذه السَّاحة أو تلك، فربَّما يستطيع من موقع هذه القوَّة أن يضاعفها، وأن ينتهي إلى تغيير الواقع كلّه، وقد تفرض عليك بعض الأوضاع السياسيّة المقاطعة المرحلية، وربَّما نحتاج إلى التفريق بين الجانب الثقافي في رفض الواقع الظالم، وبين الجانب الواقعي في الدخول في هيكليّة النظام، لنستطيع حماية المستضعفين الَّذين قد لا يكون لهم صوتٌ أو موقع.
فما أريد أن أؤكّده، أنَّ علينا أن نثقّف النَّاس تماماً كما ثقّف الإمام الكاظم (ع) أحد المؤمنين المخلصين (صفوان الجمال)، عندما قال له: «من أحبّ بقاءهم فهو منهم»[1]، فعندما تتعاون معهم، فلا تملأ قلبك بالعاطفة تجاههم، ولا تبتعد عن رفض خطّ الباطل الَّذي يتحركون فيه، ولا تنزع من نفسك كلّ الانطباعات السلبيَّة عنهم، فهناك مسألة تتَّصل بالجانب الثقافيّ، ولا بُدَّ أن تؤكّد على الطريقة الكاظميّة، بأن تنزع من قلب هذا الإنسان المؤمن كلّ فكر وعاطفة يُمكن أن تتحوّل إلى شرعية لهذا الظالم أو ذاك، فهي مسألة «من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»[2]، أي أن تعيش الرّفض القلبي للواقع، فلا تحبّ أهل الباطل، ولا تكره أهل الحقّ؛ فهذا أمرٌ على غاية من الأهميَّة لا بُدَّ للتربية أن تتحرك باتجاهه. وكما قال الإمام الصادق (ع): «وهل الدِّين إلاَّ الحبّ والبغض؟!»[3].
المصلحة الإسلاميَّة هي المعيار
وأمَّا بالنّسبة إلى قضية المشاركة والمقاطعة، فهي خاضعة للمصلحة الإسلاميّة العليا، فقد تفرض علينا المصلحة أن ندخل في أنظمة الكفر، حتّى نستطيع أن نحمي الواقع الإسلاميّ من هذه الزاوية، ولكن بشرطها وشروطها، فلا يكون هذا الدّخول دخولاً عفوياً، بل لا بُدَّ أن يكون دخولاً مدروساً من خلال الواقع، وحتّى إذا أردنا أن نرفض، فلا بُدَّ أن يكون الرّفض مدروساً، فثمّة فرقٌ بين أن تحرّك المسألة فردياً لتقول للنَّاس تحرّكوا كما تريدون من خلال مصالحكم الفرديّة، وبين أن تنطلق من خلال المصلحة الإسلاميّة العليا ومصلحة المسلمين، لتقول للمسلمين تعالوا لنرسم خطّة من أجل أن نتّخذ موقعاً هنا وموقعاً هناك.
القبول بولاية العهد!
كيف قبل الرّضا (ع) ولاية العهد؟ في حين أنَّ ولاية العهد ليست وظيفة حتّى نقول كيف وافق على أن يكون موظفاً عند المأمون، بل هي أن يكون الإمام الخليفة بعد المأمون، فعندما يُمثِّل الإمام الشرعيّة، فإنَّ المركز الأوَّل هو مركزه، وحتّى لو كان الإمام الرّضا (ع) يعرف أنَّ هذا لن يتمّ، لكنَّ ذلك يُمثِّل الاعتراف بالشرعيّة، فإنَّك لن تجد في العالم الإسلامي كلّه من يُمثِّل الشرعيّة يومذاك إلاَّ هو، حتّى إنَّ البعض يقول إنَّ المسألة لم تكن مسألة ولاية العهد، بل كانت تُمثِّل تنازل المأمون للإمام الرّضا (ع). ولست في صدد مناقشة المسألة من ناحية تحقيقيّة، لكنّني أناقشها مناقشة ذهنيّة؛ فلماذا نعتبر المسألة مسألة ضغط وتهديد بالقتل، فالإمام هو الَّذي يُمثِّل الشرعيّة، والمركز الأعلى مركزه، وذلك من خلال فكرة الإمامة؟!
وقد يكون الإمام (ع) رأى في ذلك إمكانيَّة أوسع للتّبليغ والدعوة، حتّى إنَّ بعض الرِّوايات تقول إنَّ المأمون شعر بالخطر، لأنَّ النَّاس اجتمعوا حول الإمام، وكانوا يسألونه في كلِّ أمورهم، حتّى شكّلت خطراً يتهدّد كيان المأمون.
الإمام في نظر معاصريه
النّص الأوّل: يقول أبو الصّلت الهرويّ: «ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرّضا، ولا رأيت عالماً إلاَّ شهد له بمثل شهادتي، ولقد جمع له المأمون في مجلس له عدداً من علماء الأديان وفقهاء الشّريعة والمتكلّمين، فغلبهم عن آخرهم، حتّى ما بقي أحدٌ منهم إلاَّ أقرّ بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور... وأنَّ موسى بن جعفر قال لبنيه: هذا أخوكم عليّ بن موسى، عالم آل محمَّد، فسلوه عن أديانكم، واحفظوا ما يقوله لكم»[4].
النّص الثاني: في المناقب عن عيون أخبار الرِّضا: «أنَّالمأمون جمع علماء سائر الملل، مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصّابئين، منهم عمران الصابئي والهربذ الأكبر وأصحاب زرادشت ونطاس الروميّ، والمتكلّمين منهم سليمان المروزي، ثُمَّ أحضر الرّضا، فسألوه، فقطع الرّضا واحداً بعد واحد»[5].
النّص الثالث: عن إبراهيم بن العباس، وهو يتحدث عن أخلاقيّة الإمام الرّضا السلوكيّة، قال: «ما رأيت أبا الحسن الرّضا (ع) جفا أحداً بكلمة قطّ، ولا رأيته قطع على أحدٍ كلامه حتّى يفرغ منه، وما ردّ أحداً عن حاجة يقدر عليها، ولا مدَّ رجليه بين جليسٍ له قطّ، ولا اتّكأ بين يدي جليس له قطّ، ولا رأيته شتم أحداً من مواليه ومماليكه قطّ، ولا رأيته يقهقه في ضحكه قطّ، بل كان ضحكه التبسّم، وكان إذا خلا ونصب مائدته، أجلس معه على مائدته مماليكه ومواليه، حتّى البوّاب والسائس، وكان (ع) قليل النّوم باللّيل، كثير السّهر، يحيي أكثر لياليه من أوّلها إلى الصبح، وكان كثير الصيام، فلا يفوته صيام ثلاثة أيام في الشهر، ويقول ذلك (صوم الدهر)، وكان كثير المعروف والصّدقة في السرّ، وأكثر ذلك يكون منه في اللّيالي المظلمة، فمن زعم أنَّه رأى مثله في فضله، فلا تصدّق»[6].
وقال أيضاً: «ما رأيت الرّضا يُسأل عن شيء إلاَّ علم، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزّمان الأوّل إلى وقته وعصره، وكان المأمون يمتحنه بالسّؤال عن كلّ شيء فيجيب فيه، وكان كلامه كلّه وجوابه وتمثّله انتزاعات من القرآن، وكان يختمه في كلّ ثلاثة ويقول: لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة ختمت، ولكن ما مررت بآية قطّ إلاَّ فكرت فيها، وفي أيِّ شيء نزلت، وفي أيِّ وقت، فلذلك صرت أختم في كلِّ ثلاثة أيّام»[7].
وعندما ولّي العهد، جاءه جماعة من الصوفية الَّذين يرون أنَّ القيمة، كلّ القيمة، هي أن لا يأكل الإنسان جيّداً، ولا يلبس جيّداً، وأن لا يعيش حياة رخيّة، لأنَّ الزهد في مفهومهم يُمثِّل حالة سلبيّة في واقع حركة الإنسان، بينما الزهد في المعنى الإسلاميّ الأصيل يُمثِّله عليّ (ع) فيما فهمه من القرآن: «جمع الله الزّهد في كلمتين: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}»(الحديد؛ 23)، بأن لا تكون لك علاقة بالدّنيا بحيثُ تتعبَّد لها، فإذا خسرت شيئاً سخطت، وإذا ربحت شيئاً بطرت، وبأن تواجه الرّبح والخسارة كشيئين طبيعيّين، لأنَّ الشيء إذا وجد سببه تحقّق، وإذا لم يوجد سببه لم يتحقّق، وهذا ما عبّر عنه الإمام أمير المؤمنين (ع) في رسالته لابن عبّاس: «أمّا بعد، فإنَّ المرء لَيَفرحُ بالشّيء الَّذي لم يكن ليفوته، ويحزن على الشّيء الَّذي لم يكن ليصيبه»[8]. وفي الحديث عنه (ع): «ليس الزّهد أن لا تملك الدّنيا، بل الزهد أن لا يملكك شيء»[9]. فالزّهد حالة نفسيّة في الوجدان الإنسانيّ، بحيثُ يواجه الدّنيا بكلِّ لذّاتها وشهواتها، فلا يتعلّق قلبه بها بالمستوى الَّذي تفرض عليه كلّ قيمها الماديّة، بحيثُ يستطيع أن يقول (لا) إذا أرادت الدنيا أن تفرض عليه معصية الله ليحصل على رغباتها وشهواتها، ويستطيع أن يقول (نعم) عندما تكلّفه (نعم) الكثير من التضحيات.
ولقد قال الإمام الرّضا (ع) للصوفيّة عندما قالوا له: «إنَّ المأمون قد ردَّ الأمر إليك، وإنَّك لأحقُّ النَّاس به، إلاَّ أنَّه يحتاج من يتقدَّم منك بقدمك إلى لبس الصّوف وما يخشن لبسه، فقال: «ويحكم! إنَّما يُراد من الإمام قسطه وعدله، إذا قال صدق، وإذا حكم عدل وإذا وعد أنجز، والخير معروف {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}(الأعراف؛ 32)، وإنَّ يوسف الصدّيق لبس الدّيباج المنسوج بالذَّهب، وجلس على متّكئات فرعون»[10].
فالإمام هنا يقول لو أنَّكم ربطتم الحاكم بالشكليّات، فإنَّه من السهولة أن يخذلكم أيّ شخصٍ يلبس المسوح ويأكل الطّعام الجشب فيما هو يظلم النَّاس، في حين أنَّ النَّاس يرون منه الشّكل فيقولون إنَّه زاهد تقي.
فمسألة الحاكم لا تنطلق من الشّكليّات، وإنَّما من خلال طبيعة حكمه، بأن يكون حكمه على أساس العدل، وأن يكون قوله على أساس الصّدق، وأن يكون وعده على أساس الإنجاز.
ولقد قال له أبو الصّلت الهروي: «قلت للرّضا (ع): يا بن رسول الله، ما شيءٌ يحكيه النَّاس عنكم، قال: وما هو؟ قلت: يقولون: إنَّكم تدّعون أنَّ النَّاس لكم عبيد، فقال: اللهم فاطر السّموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت شاهد بأني لم أقل ذلك قطّ، ولا سمعت أحداً من آبائي قاله قطّ، وأنت العالم بما لنا من المظالم عند هذه الأمّة، وأنَّ هذه منها»[11].
ولقد نظم بعض الشّعراء في هذا المعنى:
سادةٌ نحنُ والأنامُ عبيدُ ولنا طارفُ العُلى والتليدُ
فهذا المفهوم لايزال متداولاً عند الكثير من النَّاس.
ثُمَّ إنَّ الإمام (ع) يُركِّز في دراسة الأشخاص على القضايا الحيويَّة الّتي تدلّ على عمق الشخصيَّة، بأن لا تدرس الإنسان من خلال مظهره، بل من خلال مخبره.
روى عن أبيه عن آبائه عن عليّ (ع) قال: «لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحجّ والمعروف، وطنطنتهم باللّيل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة»[12].
ثُمَّ يرتفع الإمام (ع) في وحيه الإسلامي الأخلاقيّ الَّذي يستوحي القرآن في إلغاء كلّ طبقيّة بين سيّد وعبدٍ بين النَّاس، في تفاوتهم الطبقي بين الغنيّ والفقير، والشريف والوضيع. قال رجلٌ للرضا (ع): والله ما على الأرض أشرف منك أباً، فقال: «التقوى شرّفتهم، وطاعة الله أحظتهم»، فقال له آخر: أنت والله خير النَّاس، فقال له: «لا تحلف يا هذا، خيرٌ مني من كان أتقى الله وأطوع له، والله ما نسخت هذه الآية: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ}»[13](الحجرات؛ 13)».
وهناك رواية تتحدّث عن النظرة القيميّة الأخلاقيّة الّتي عبّرت عنها رواية سابقة في جمعه للمماليك وتناوله الطعام معهم، فعن رجلٍ من أهل بلخ قال: «كنتُ مع الرّضا في سفر إلى خراسان، فدعا يوماً بمائدة له، فجمع عليها مواليه من السّودان وغيرهم، فقلت: جعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة، فقال: مه، إنَّ الربّ تبارك وتعالى واحدٌ، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال»[14].
فالمسألة هي: قل لي ما هو عملك، وما هي طاعتك لربّك، أقل لك من أنت.
الاقتداء بأئمَّتنا (ع)
هذا إمام من أئمّة أهل البيت (ع)، ملأ كلّ المرحلة الّتي عاشها علماً كأفضل ما يكون العلم، فيما حدَّث به عن آبائه، وفيما انتزعه من القرآن، وفيما حركه مما لديه، وفيما ألهمه الله به، وهكذا ملأ العالم الإسلامي بالصورة الرائعة للأخلاق الإسلاميّة، من خلال الممارسة والقدوة، واستطاع أن يطرح كلّ مفاهيم الإسلام في وجدان النَّاس وحياتهم. فإذا أردتم أن تتذكّروه، فتذكّروا أنَّ معنى الإمامة ليست نبضة قلب تتحرّك مدحاً فحسب، ولكن أن تتحرّكوا كما تحرّكوا، وأن تنطلقوا كما انطلقوا، وأن تسيروا في الخطّ الَّذي ساروا فيه:
فتشبَّهوا إن لم تكونوا مثلهم إنَّ التشبّه بالكرام فلاحُ
أن نجسّدهم وعياً وفي وعينا، وإيماناً وروحاً في روحنا، وحركة في خطواتنا، ومنهجاً في حياتنا، وأن نعيش معهم في الخطّ والدّرب، فالهدف الَّذي نلتقي جميعاً عنده هو الله، ولا شيء إلا الله، فلقد كانوا مع الله، وعملوا لله، ودعوا إلى الله، وجاهدوا في سبيل الله، وأن تكون مأموماً في الفكر والحركة والمنهج لهؤلاء الأئمّة: «ألا وإنَّ لكلِّ مأمومٍ إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه؛ ألا وإنَّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طُعمِهِ بقرصيه. ألا وإنَّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد»[15].
ولايزال نداء عليّ (ع) يدعو الورعين والسّائرين الَّذين يجتهدون في طاعة الله، واجتناب كلّ ما حرّم الله، والَّذين يقولون القول السّديد، ويتحرّكون بالفكر السديد، وذلك هو الإمام عليّ بن موسى الرّضا (ع) في بعض صورته.
-----------------------------------------
[1] وسائل الشّعة، الحرّ العاملي، ج 17، ص 182.
[2] تذكرة الفقيه، العلامة الحلي، ج4، ص 136.
[3] بحار الأنوار، المجلسي، ج 65، ص 63.
[4] الأنوار البهيّة، الشّيخ عبّاس القمّي، ص 318.
[5] مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب، ج3، ص 461.
[6] عيون أخبار الرضا، الشيخ الصدوق، ج2، ص 197.
[7] المصدر نفسه، ج2، ص 193.
[8]نهج البلاغة، خطب الإمام عليّ (ع).
[9] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج4، ص 2990.
[10] بحار الأنوار، ج10، ص 351.
[11] عيون أخبار الرضا (ع)، ج2، ص 197.
[12] عيون أخبار الرّضا (ع)، ج2، ص 56.
[13] بحار الأنوار، ج46، ص 178.
[14] بحار الأنوار، ج49، ص 101.
[15] نهج البلاغة، ج3، ص 70.