بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه الميامين واللعن على أعدائهم أجمعين .
يعتبر التدبر في القرآن من الأمور المرغوبة في الشريعة ، وقد ورد الترغيب في ذلك بروايات عديدة ، ومن النادر أن يخرج قاريء القرآن من حياضه بلا فائدة ، كيف والكنوز الربانية تلمع وسط كلماته المباركة .
وهذه الأسطر ، محاولة للتدبر في المعنى العقدي لكلمة الشكر في القرآن . حيث تكرر في القرآن الكريم كلمة ( يشكر ، يشكرون ، اشكروا .. ) مرات عديدة ، والمتدبر في هذه الآيات يلاحظ أمرين :
أ- أن للشكر في القرآن قسمين أحدهما أخلاقي والآخر عقائدي .
ب- أن العقائدي منه مرتبط بولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام.
وفي هذه الوريقات سنتدبر بعض الآيات المباركة حول ذلك ، مدعومة بروايات معصومية ، كل ذلك ليعرف الموالي أن أمر أهل البيت في القرآن ثابت لا تشوبه شائبة ، تصريحا تارة وتلميحا تارة أخرى .
تساءلت وأنا أردد قوله تعالى : " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " :
ما المقصود بهذا التهديد المشدد بتوكيد اللام والنون : " لتسألن " عن النعيم في يوم القيامة ؟
أليس الله تعالى هو الجواد ؟ أليس هو الكريم ؟
أليس الإنسان هو المخلوق الفقير إلى الله ؟
فلماذا إذن يتوعد الخالق الكريم بمحاسبة المخلوق الفقير على النعم التي وهبها له فهل جاء الإنسان إلى هذه الدنيا بمحض إرادته ؟!
قبل الجواب ، نشير إلى نقطتين :
النقطة الأولى :
أن الشكر العقائدي مقدم رتـــبة على الشـــكر العمـــلي من حـيث الأهميــة ، لأن الضـــلال – وهو الانحراف النظري عن الحق – أبغض إلى الله من الفسق – وهو الانحراف السلوكي - وهذا واضح في ثنايا القرآن الكريم .
فمغفرة السلوك أمر مرتبط بصحة العقيدة ، " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر دون ذلك لمن يشاء " ، وشكر الله يتحقق من خلال التدين بالعقائد الحقة ثم تأتي نوبة شكره بالعبادات العملية، لاحظ بدقة كلام الإمام الرضا عليه السلام :
" اعلموا أنكم لا تشكرون الله بعد إيمانكم بالله ورسوله وبعد الاعتراف بحقوق أولياء الله من آل محمد عليه السلام أحب إليه من معاونتكم لإخوانكم المؤمنين "[1]، حيث قدم هنا الإمام (ع) الشكر المرتبط بالقلب على الشكر المرتبط بالعمل ، ومن هنا نقسم الشكر إلى قسمين : الشكر العقائدي والشكر العملي .
النقطة الثانية :
وهي أن فهم القرآن بالقرآن سبيل مهم لتدبر هذا الكتاب الكريم ، كما ذكر السيد الخوئي (قده) في مقدمة تفسيره .
الشكر في القرآن :
لا خلاف بأن العقائد محلها القلب ، والعبادات محلها الجوارح ، وقد تناولت آيات قرآنية وروايات معصومية متـعددة موضوع الشكر، يظهر منها أن للشكر جنبتان :
جنبة أخلاقية :
وتتعلق بالسلوك الواجب على العبد في مقابل النعم الإلهية عليه ، كما في قول الله تعالى :" بل الله فاعبد وكن من الشاكرين" ، وقوله تعالى : " اعملوا آل داود شكرا "، فيلفت القرآن النظر هنا إلى الجانب العملي من الشكر .
وجنبة عقائدية :
وهي تتعلق بالجوانح ، كما في قوله – سبحانه وتعالى - على لسان سليمان(ع) : " ليبلوني أأشكر أم أكفر" ، وقوله :" فمن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني كريم " ، لاحظ أن الله سبحانه وتعالى قد قابل الشكر بالكفر في هذه الآيات ، فالراجح إذاً أن كلمة الشكر هنا تختص بالجانب العقائدي ، وهذه ستكون محط حديثنا في هذه الرسالة.
متى يكون الشكر راجحا ومتى يكون واجبا ؟
يرتبط الشكر بأهمية النعمة وعظمتها والعلاقة بينهما علاقة طردية ، بمعنى :
أـــ أن الشكر قد يكون راجحا في حالات ، كدعوة غني إلى طعام، فإن هذا الغني لا يحتاج الطعام ، ولكن ينبغي عليه شكر الداعي، فإن لم يفعل فقد خالف الأدب وقد يلام .
ب ــ ولكن رجحان الشكر قد يرتفع درجات . فحينما يواجه شخص ما مشكلة عويصة ، فينجيه منها محسن ، كمن يحل عليه ديـْن حتى كاد أن يسجن ، فينجيه المحسن من ذلك ويدفع عنه دينه ، فشكر هذا المنعم يكون أرجح ويصل حد الوجوب عنـد العقلاء ، ويلام تارك الشكر في هذه الحالة قطعا .
ج ــ ويرتفع وجوب الشكر حتى يصل أقصى درجات الوجوب ليكون العقاب على ترك الشكر جائزا حينئذ . فهب أن رجلا يعالج سكرات الموت على فراشه والألم يعتصره وعجز عنه أغلب الأطباء والجراحين المهرة ، فيعالجه طبيب بعد يأس ، دون ألم ، لتعود إلى المحتضر صحته وعافيته فلا ريب بجواز عقاب هذا المريض إن أعرض عن شكر المنعم هنا وهو الطبيب .
في المـثال الأول : إذا لم يشكر الغنيّ من دعاه ، قد يعذر وقد يلام .
في المثال الثاني : إذا ترك شكر المحسن فعيبٌ لا يعذره أحد ، ويلام
على تركه قطعا .
في المثال الثالث : فإن تارك شكر الطبيب يستحق اللوم إضافة إلى
العقوبة، وهو بها جدير .
كيف يكون شكر المنعم ؟
هناك ثلاثة شرائط لتحقق الشكر كما يبين علماء الأخلاق :
الشــرط الأول : أن يكون شكر المنعم بحسبه ، فشكر الملك
يختلف عن شكر خادمه .
الشرط الثاني : أن يكون شكر المنعم كما يريد هو .
الشرط الثالث : أن يكون الشكر بلحاظ عظمة النعمة وأهميتها .
لذلك ، ولأنه لا يعرف عظمة الله تعالى إلا هو ، فإنه لا يصح لأحد أن يحدد طريقة شكره ولا أن يغيرها عما هي عليه إلا هو سبحانه ، وغير ذلك محال .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ما عرفناك حق معرفتك ، وما عبدناك حق عبادتك " .
وهذا يدل على استحالة أن يبلغ الشكر حد التساوي مع نعـم الله حتى من قِبـَل أنفس طابت وطهرت كنفس رسول الله صلى الله عليه وآله ، وبهذا وردت روايات عن أهل بيت العصمة ، ولذلك فإن طريقة شكر المنعم يحددها هو نفسه ، لأنه الأعرف بمقام نفسه جل جلاله ، وكيفية شكره .
إنما أعبد من حيث أريد :
وقد ورد في الرواية أن إبليس – الملعون – قد امتنع عن السجود لرب العباد واعداً بعبادته عبادة لم يعبده أحد قبله ولا بعده ، شرط إعفائه عن السجدة ، ولكن هل يقبل الله تعالى منه ذلك ؟ قال تعالى لإبليس : " إنما أعبد من حيث أريد " . وقد قال تعالى بالحديث القدسي المشهور : " ما تقرب إلي عبد بمثل ما افترضته عليـــــــه " .
وقد ورد في تراث المسلمين سنة وشيعة ، معنى مهم يمكن ملاحظته طي بعض الروايـــــات ، حيث ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله قوله :
" أخلص دينك ، يكفك القليل من العمل " .
وقوله : " من أحدث في أمرنا هذا فهو رد عليه " ، وعن أمير المؤمنين (ع) أنه كان كثيرا ما يقول :
" يا أيها الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره والسيئة فيه تغفر والحسنة في غيره لا تقبل" ، وعن الصادق (ع) : " قليل من العمل من العاقل ( العالم ) مقبول مضاعف ، وكثير من العمل من أهل الهوى والجهل مـــــــــردود ".
وهذا كله يدور مدار قوله تعالى : " ليبلوكم أيكم أحسن عملا " .
فالمحصلة هنا نقطتان :
الأولى : أن الشكر لا يصح إلا كما يريد الله ، لا كما نريد نحن
ونفترض .
الثانية : أن القليل من شكره سبحانه بالطريقة التي افترضها على عبده
مقبول مأجور عنده ، بينما الكثير من العمل مما افترضه
الإنسان على نفسه لا قيمة له .
وهنا ، فإن أصل البحث الذي نريد أن نثبته أو نؤكد عليه هو أن مجرد الإيمان بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من أهم صور الشكر العقائدي لنعمة الإسلام ، ويترتب عليها معرفة الشكر العملي المقبول .
ما هو أخطر شيء واجه المجتمع الإسلامي ؟
لا يخفى على قاريء التاريخ أن أخطر ما واجه الإسلام هو وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، فأغلب أو كل الحركات الإصلاحية في العالم إن غاب عنها منشؤها تبدأ بالانحدار والتهاوي وقد تضمحل ، وعلاقة هذه الحركة المحمدية العظمى برسولها على ذلك النحو تماما ، لهذا حذر – سبحانه وتعالى – المسلمين بقوله : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم عـلى أعقابكم ومن ينقـلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيـجزي الله الشـاكرين " .
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله قد حذر صحبه أن كثيرا منهم سيرتدون على أعقابهم كما في حديث الحوض المشهور والذي يرويه البخاري وغيره ، محذرا أنه " لا يخلص منهم إلا مثل همل النعم " .
وقد أنذرهم صلى الله عليه وآله وسلم أيضا بقوله :
" لا تعودوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " ، ولكنهم فعلوا عين ما حذرهم منه ، مما يثبت نقطتنا البديهية ، وهي أن أخطر ما واجه الإسلام كان فقدُ النبي الأكرم وما أعقبه من ردة على مستوى المفاهيم .
الانقلاب على الأعقاب في مقابل الشكر
قال جل جلاله : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " .
وصريح الآية بأن شكر الشاكرين في هو في الجانب العقائدي لكلمة الشكر، بقرينة أنه تعالى جعل الانقلاب على الأعقاب في مقابل الشكر ، لذا كان مجرد الثبات على العقيدة شكراً ، والانقلاب كفرا .
ولاحظ أيضا ، أن المسلمين لم يتركوا العمل والعبادة بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وآله ولكنهم اختلفوا في أمور كان أبرزها هو الاعتراف بالإمامة الإلهية أو إنكارها . فهي أول الخلاف وأعظمه ، مما يعني أن الانقلاب على الأعقاب يتمحور حول هذه النقطة ، إذ لا تجدهم قد اختلفوا في عقيدة أو عمل كما اختلفوا في الإمامة .
لذلك ، فإن المنقلبين على الأعقاب هم :
أ - من آمن بالإمامة بالنص .
ب – أو من أنكر الإمامة بالنص .
وقد أشار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى ذلك في مواقف مختلفة ، منها على ورد في روضة الكافي في خطبة الوسيلة ، يقول فيها عليه السلام:
"حتى إذا دعا الله عز وجل نبيه ورفعه إليه لم يك ذلك بعده إلا كلمحة من خفقة أو وميض من برقة إلى أن رجعوا على الأعقاب ، وانتكصوا على الأدبار ، وطلبوا بالأوتار ، وأظهروا الكتائب ، وردموا الباب ، وفلوا الدار ، وغيروا آثار رسول الله صلى الله عليه وآله ، ورغبوا عن أحكامه ، وبعدوا من أنواره ، واستخلفوا بمستخلفه بديلا ، اتخذوه فكانـوا ظالمـين "[2] .
فالإمام أمير المؤمنين عليه السلام يبين بأن من ينقلب على الأعقاب هو من بدل مستخلف النبي صلى الله عليه وآله ، فالنبي يقول خلّفتُ عليا، وهم يقولون بخلافة غير علي (ع) .
فمن ثبت على أمر النبي صلى الله عليه وآله كان شاكرا ، ومن استخلف غيره انقلب على الأعقاب .
وإذا لاحظت أن أكثر الناس ليسوا بموالين لأهل البيت (ع) عرفت معنى قول الشيطان " ولاتجد أكثرهم شاكرين " .
وقد أورد الكليني رضوان الله عليه عن زرارة قال :
" قلت لأبي جعفر (ع) قوله : " لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين " . فقال أبو جعفر : يازرارة ، إنما صمد لك ولأصحابك فأما الآخرين فقد فرغ منهم" [3] .
ما هي أكبر نعمة ؟
إذا عرفت أن أكبر مصيبة يمكن أن تصيب الإنسان هي دخول نار جهنم ، فإن أكبر نعمة هي دخول الجنة . ومقدمة دخول الجنة هو الإسلام ، قـال تعالى : " ومن يبتغ غير الإسـلام دينا فلن يقبل منه " ، والدين على ثلاثة درجات :
أ ــ دين كامل ، وهو لله رضى .
ب ــ ودين ناقص .
ج ــ ودين مرفوض ، وهو غير الإسلام .
والقطع واليقين ، أن الولاية المنصوصة - التي هي طريق النجاة من النار والفوز بالجنة - هي أكبر نعمة .
ما الدليل على أن الولاية هي أكبر نعمة ؟
أولا : قال تعالى " ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " ، والسؤال الذي يطرح نفــسه :
هل المقصود بالنعيم هنا هذه النعم التي أعطانا إياها الله تعالى كالصحة والعافية والطعام والشراب ؟
أم أنها أمر غير ذلك ؟
فإن قلت بأن الله سيسأل الإنسان عن هذه النعم ، فأنت تعزو إلى الله تعالى ما لا يليق به وهو مصدر الكرم والجود .
فتصور معي رجلا غنيا كريما قام بالتصدق على فقير بصدقة ، فهل يرضى عقلك وتقبل نفسك أن يحاسب هذا الكريمُ الفقيرَ على تلك النعمة التي تصدق بها عليه ؟
أليس هذا بقبيح ؟
ألا يزداد الأمر قبحا إذا كان الغني فاحش الغنى والفقير معدِما ؟
أيفعل بشر سويّ ذلك ؟
فكيف يعزوه البعض إلى الله تعالى وهو مصدر الكرم والجود ؟
نعم ، إن الوعيد في الآية مرتبط أولا بالنعم العقائدية ، وليس النعم التي يستنكف حتى الإنسان أن يحاسب الفقير عليها .. فتأمل .
ثانيا : قال تعالى " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " ، وقد أثبت العلماء في محله أن النعمة قد تمت ورضي الله تعالى عن الإسلام دينا بعد اكتماله بإعلان ولاية علي عليه السلام .
وبعد اكتمال الدين لا يعذر من يأتي بدين ناقص ولا يقبل منه بعد تمام الحجة عليه .
إذاً ، فلا شكر لله تعالى يعادل العقيدة الحقة ، ويأتي من بعدها العمل الصالح المنبثق من تلك العقيدة ، وهي الولاية .
الاختلاف حقيقة ، والصراط حقيقة :
أـ قال تعالى : " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات " ، فالبينات هذا شأنها ، حمالة وجوه ، يضيع محكمها في متشابهها ، فهذه مسألة رؤية الخالق وهي من أمهات العقائد ، وقد اختلفوا بها ، وجسمية الخالق كذلك ، وعصمة النبي الأكرم ، وخلق القرآن وغيرها من مسائل ، جاء البيان ليهدي الناس ، فإذا بهم يختلفون فيه ومن ثم يضلون ؟! لماذا ؟!
لابد من وليّ قيّم في كل زمان تنتهي إليه الخلافات ، يكون حكمه الفصل والمنتهى ، ولولا ذلك لأضحى القرآن مادة بيد هذا وذاك ، كلّ يدعي فهمه وعلمه زاعما الاجتهاد ، وبهذا يتعدد الصراط ويضيع السبيل ، وبهذا تكون الحجة على الله - حاشاه – وهو محال ، وخلاف قوله " فلله الحجة البالغة " .
ب ـ قال تعالى : " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " ، أي : شاكرا متبعا السبيل ، أو كافرا تاركا له .
فما هو السبيل ؟
السبيل : هو مودة أهل البيت إضافة لاتباعهم .
أما مودتهم فلقوله : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى" .
أما وجوب اتباعهم ، فلقوله : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ".
فالمستثنيان في الآيتين ( سبيلا – المودة في القربى ) متطابقان من حيث المعنى وان اختلفا لفظا وذلك لضرورة عدم التناقض في القرآن .
وقد قال تعالى : " قل هذه سبيلي " ، وقال : " وأن هذا صراطي مستقيما " فما دام السبيل واحدا ، ومادام الصراط واحدا ، فإنه يثبت أن أهل البيـــــــــــت ( ع ) هم السبيل الحصـري لله تعالى لأن مودتهم هي اتباع السبيل . فاتخاذ سبيلهم شكر وتركه كفر ، كما في قوله تعالى :
" إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " [4] .
ومن اللطيف أن هذه الآية قد وردت في سورة الإنسان التي جاءت تكريما لأهل البيت عليهم السلام ، فالتناسب واضح .
علي (ع) هو العلامة والمنارة :
هل يمكن للإنسان أن يصل إلى غايته من دون علامة على الطريق ؟ خصوصا مع وعورة الطرق وتعددها ؟
هل يمكن أن تستدل السفن في الظلماء على مرساها من دون منارة تدلها على الميناء ؟
فتخيل إعلانا وضع على طريق وعرة ليدلك على مبتغاك ولكن من دون أسهم ولا إشارات ، فإن وجودها حينئذ لا يضر ولا ينفع .
إن دين الله كذلك ، فوجود صراط مستقيم وسط بقية السبل المضلّلة يقتضي علامة دالة تميز ذلك السبيل عن غيره وهذا واجب على الله تعالى شأنه لوجوب اللطف عليه ، إذ لا معنى للخلق من دون علامة تدلهم إلى الغاية ، وهذا العبث ممنوع على الخالق محال .
وإذا كان رسول الله (ص) هو تلك العلامة ، وهو المنارة الهادية ، وهو الفرقان الذي يفصل بين المتشابهات والمحكمات ، فإن علي (ع) في محله بعد وفاته .
أليس حبه إيمان وبغضه نفاق ؟
أليس هو قسيم الجنة والنار كما فهم أحمد بن حنبل[5] ؟ فما لهم تركوه ؟
سؤال : إذا كانت الولاية بعد النبوة هي النعمة العظمى فكيف يكون شكر هذه النعمة العظيمة ؟
الجواب : قال تعالى : " فاتقوا الله لعلكم تشكرون " .
سؤال : إذا كانت التقوى شكرا ، فمن هم المتقون ؟
الجواب : " والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون " . وظاهر ذلك أن " من جاء بالصدق " هو رسول الله صلى الله عليه وآله بلا شبهة ، وأما من " صدق به " فهم المؤمنون بكل ما جاء به (ص) .
والتقوى هنا نظير الشكر العقائدي لا الشكر العملي بدليل أن التصديق المذكور بالآية أمر قلبي ، والتقوى القلبية تختلف عن التقوى العملية ، تلك التي يمكن حتى للمنافق المرائي أن يتصف بها ظاهرا .
وأما من كذب بما جاء به النبي أو حرف واحد منه فلا يقبل منه تقوى بل هو في أقصى درجات الظلم " فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جـاءه " ، مما يعني أن الظلم هنا ظلم عقائدي ، لأنه أشد وطأة من الظلم العملي .
سؤال : عرفنا من كذب بالصدق ، فمن هم الصديقون ؟
الجواب في قوله : " والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون " .
ولكن ، كل المسلمين يزعمون أنهم مؤمنين بالله ورسله فهل كلهم صديقون ؟[6]
قبل الجواب لاحظ وزن الصدّيقين ، قال تعالى :
" ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك فضل من الله وكفى بالله عليما " .
لاحظ أن الله تعالى جمع من " أنعم الله عليهم " ( تذكر قوله : وأتممت عليكم نعمتي في آية اكمال الدين ) ، وهم :
أ ـ الأنبياء .
ب ـ الصديقون .
ج ـ الشهداء .
د ـ الصالحون .
فهل يمكن بعد هذا أن تعتقد بأن الصديقين هم كل المسلمين ، لأنهم - بزعمهم - آمنوا بالله ورسله ؟
الحقيقة ، أن الإيمان بالله – تعالى - ( كما وصفه أولياؤه ) ، والإيــــمان برسله ( كل رسله ) أمر لا يتحقق إلا للقلة ، لذلك استحقوا أن يوصفوا بالصديقين وأن يجمعهم الله تعالى مع الأنبياء والصالحين والشهداء .
إن مفتاح فهم قوله : " ومن يؤمن بالله ورسله فأولئك هم الصديقون " يكمن في إدراك أن معنى كلمة " رسله " لا تعني أصحاب الشرائع ، فالأنبياء والأوصياء خارجون عن دائرة أصحاب الشرائع ، فليس كل نبي رسول ، لكن كل رسول نبي .
فهل يمكن – بهذا النقص المعرفي والإيماني – أن يكون المؤمن من الصديقين ؟!
حقيقة الأمر :
أن " الرسل " المقصودون هنا هم كل من يصدق عليه أنه رسول بالمعنى القرآني العام للكلمة وليس بالمعنى الخاص .
فـكلمة " الرسول" بالمعـنى الخاص تطلق على صاحب الشريعة ، أمــا كلــمـة " الرسول " بالمعنى العام فقد تطلق على فئات ، كملائكة الموت كما في قوله : " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا " ، وكقوله : " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قال إنما أنا رسول ربك " وهو الروح القدس ، وقال : " إنه لقول رسول كريم " ، ويقصد به جبريل (ع) .. بل حتى الطير الأبابيل كانت مرسلة منه سبحانه إذ يقول: " فأرسلنا عليهم طيرا أبابيل " .
إذا ، فكلمة رسول غير محصورة بأصحاب الشرائع في القرآن ، وكذلك في اللغة ، ومن أهم مصاديق " رسله " – بهذا المعنى ، آل محمد (ص) الذين اصطفاهم الله تعالى وأرسلهم من بعد النبي وحباهم رتبة الإمامة .
فالمقصود بقوله " آمنوا بالله ورسله هم الصديقون " هو الرسول بالمعنى العام الذي يشمل الأوصياء ، وهو أصعب على القلوب التي خلت من الإيمان بهم ففشلت في الابتلاء ، لذلك غدى مقام الصديقين مقاما عاليا لصعوبته .
وأيضا ، قوله تعالى في نفس الآية :
" مع الذين أنعم الله عليهم " ، يؤكد أن الصديقين هم المؤمنون بالأوصياء (ع) ضمن الرسل بالمعنى العام ، وذلك عندما نتذكر أن تعبير القرآن عن يوم تنصيب علي (ع) وليا بأنه يوم إتمام النعمة : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " .
وبالعودة إلى قوله تعالى :
" أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " ، فقد بدا واضحا أن قوله "انقلبتم على أعقابكم " جاء في مقابـل " الشاكرين " ، وأن الشكر المذكور عقائدي ، ويتحقق بمجرد الثبات على الإمامة ، فهي الأمر الوحيد الذي تفرقت الأمة بسببه حتى تضاربت .
العدد ، مصداق آخر لحقيقة ما ذكرناه :
قال تعالى : " وقليل من عبادي الشكور" ، وهم في جميع العصور كذلك، وفي عصر دولة الإسلام لا ينطبق إلا على المؤمنين بولاية أمير المؤمنين وأبنائه الأحد عشر ، فالإثنا عشرية هم الأقل في مقابل هاتك الجماهير الموالية لغير آل محمد صلى الله عليه وآله ، والإثنا عشرية هم الشاكرون القلة الذين بقوا مع علي عليه السلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله ينهلون منه الإسلام الحقيقي .
ماذا عن غير الشاكرين وهم الغالبية ؟
قال تعالى على لسان ابليس : " ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ثم لا تجد أكثرهم شـاكرين " ، لاحظ قوله: " أكثرهم " ، وقوله : " شاكرين " ، وسيتضح لك أن المنقلب على عقبيه لعبة بيد الشيطان يمنعه عن الشكـر الذي هو الولاية ، وهؤلاء هم الأغلب كما بين الله تعالى بقوله "أكثرهم ".
فإذا تبين لك ذلك ، فعلى ضوئه يمكننا أن نفهم قوله تعالى :
" وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ، ثم ننجي الذين اتقوا ( أي قبلوا الإمامة) ونذر الظالمين ( الذين كذبوا بالصدق إذ جاءهم ) فيها جثيا " .
فالذين اتقوا هم الشيعة الإمامية ، " من جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون " ، وهم علي عليه السلام ومن تبعه ، وقد أورد ذلك القندوزي في الدر المنثور عن أبي هريرة ، وابن المغازلي في مناقبه عن مجاهد وغيرهما وقد أطبقت على ذلك الشيعة .
ومن هنا نفهم معنى قول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله : " علي خير البشر فمن امترى فقد كفر ومن رضي فقد شكر " كما أورده ابن عساكر، ولاحظ كيف كان الشكر مرة أخرى في وصف الموالين والكفر في وصف المعاندين .
تأييد ذلك من الروايات :
وفي ذلك قال الإمام الرضا عليه السلام كما في البحار عن ابراهيم بن العباس الصولي قال : كنا يوما بين يدي علي بن موسى الرضا عليهما السلام فقال : ليس في الدنيا نعيم حقيقي .
فقال بعض الفقهاء ممن يحضره : فيقول الله عز وجل " ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم " أما هذا النعيم في الدنيا الماء البارد ؟
فقال له ( الإمام ) الرضا عليه السلام وعلا صوته : كذا فسرتموه أنتم وجعلتموه على ضروب ، فقال طائفة هو الماء البارد وقال غيرهم هو الطعام الطيب وقال آخرون هو النوم الطيب ، ولقد حدثني أبي عن أبيه أبي عبدالله عليه السلام أن أقوالكم هذه ذكرت عنده في قول الله عز وجل:
" لتسئلن يومئذ عن النعيم " فغضب ، وقال : إن الله ( عز وجل ) لا يسأل عباده عما تفضل عليهم به ، ولا يمن بذلك عليهم ، والامتنان بالإنعام مستقبح من المخلوقين فكيف يضاف إلى الخالق ( عز وجل ) ما لا يرضى المخلوقين به ، ولكن النعيم حبنا أهل البيت وموالاتنا" [7].
وقد أورد البحراني في البرهان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: ( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم .. الآية ) " يعني بالشاكرين علي بن أبي طالب عليه السلام والمرتدين على أعقابهم الذين ارتدوا عنه " [8].
فما هو أجر الشكر ؟
قال تعالى : " ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه " .
وقال: " إلا آل لوط نجيناهم بسحر، نعمة من عندنا ، كذلك نجزي من شكر" فجزاء الشكر يعود للإنسان نفسه وهـو النجاة من العذاب : " فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز " .
ولعل من تطبيقات مفهوم الشكر بالمعنى الذي ذكرناه في القرآن بارز في قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام :
" ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون".
أما قوله : " ذريتي " ، فهم آل محمد (ص) .
أما قوله : " أفئدة من الناس تهوي إليهم " أي المودة [9] ومحلها الفؤاد.
أما قوله : " يشكرون" ، فالشكر نتيجة لاتخاذهم (ع) سبيلا .
ورد في تفسير العياشي عن أبي جعفر (ع): " نحن هم ، ونحن بقية تلك الذرية ".
وفي روضة الكافي مما قال أبو جعفر لقتادة : " .. فنحن والله دعوة إبراهيم صلى الله عليه وآله التي من هوانا قلبه قبلت حجته .. فإذا كان كذلك كان آمنا من عذاب جهنم " [10].
ما يفعل الله بعذابكم ؟
وعلى ضوء ذلك ، ليس من المستبعد أن يكون قوله تعالى : " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم " أي إذا توليتم عليا وآمنتم به ، ليتحقق الشكر الأعظم وهو الشكر العقائدي .
وهذا الأمان المذكور في الآية قد تكرر لمن تولى عليا روايات كثيرة ، منها:
قوله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام كما في تاريخ الخطيب عن ابن عباس قال : قلت للنبي صلى الله عليه (وآله) وسلم : " يا رسول الله للنار جواز ؟
قال : نعم . قال : وما هو ؟ قال : حب علي بن أبي طالب " .
في مجمع الزوائد للهيثمي قال : ( قال علي عليه السـلام ) : إن خليلي صلى الله عليه (وآله) وسلم قال : يا علي ستقدم على الله وشيعتك راضين مرضيين ويقدم عليك عدوك غضابا مقمحين ... ورواه الطبراني في الأوسط .
وفي الصواعق المحرقة لابن حجر : قال : وأخرج الديلمي – يعني عن النبي (ص) – : يا علي ، إن الله غفر لك ولذريتك وولدك وأهلك ولشيعتك ولمحبي شيــــعتك .
وهذا المعنى متواتر في الروايات إن دار الحديث عن السند ، فتدعم هذه المعاني بعضها بعضا لتثبت أن الجنة إنما هي للشاكرين أتباع علي عليه السلام .
خلاصة :
لو استطاع هذا البحث أن يلفت نظرك أيها القاريء الكريم وأنت تقرأ القرآن عند بلوغك كلمة الشكر أحيانا لتفهمها بالبعد العقائدي ، سيكون البحث قد حقق هدفه ، لأن المحصلة التي ستظهر لك : أن لا شكر إلا بالولاية ، أو إن شئت فقل : أن الشكر هو الولاية .
[1] - البحار ج 78ص355 .
[2] - تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب للقمي ص236 .
[3] - الكافي ج8 ص145 .
[4] - بلحاظ كلمات فقهاء الطائفة أعلى الله كلمتهم يتبين أن الكفر هنا هو كفر بالولاية ولا يعني الخروج من الاسلام إلا بشروط مذكورة في محلها .
[5] - رواه القاضي أبي يعلى الحنفي في طبقات الحنابلة ، ج1 ص 320 .
[6] - لا يصح هذا الافتراض ، فالمسلمون أقل درجة من المؤمنين " لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا " ، فبالاسلام يمنح المسلم حقوقه الدينية في دار الدنيا ، ولكن لن ينفعه في الآخرة إلا الإيمان .
[7] - سفينة البحار ج8 ص285 باب النون بعده العين .
[8] - البرهان للبحراني نقلا عن المناقب ج2ص 120 .
[9] - وهي التي وردت في قوله تعالى : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " .
[10] - ومثله مما ورد في الاحتجاج ومجمع البيان وبصائر الدرجات وقد جمع مجموعة منها الحويزي ( قدس سره ) في تفسيره نور الثقلين ، فاقصده .
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه الميامين واللعن على أعدائهم أجمعين .
يعتبر التدبر في القرآن من الأمور المرغوبة في الشريعة ، وقد ورد الترغيب في ذلك بروايات عديدة ، ومن النادر أن يخرج قاريء القرآن من حياضه بلا فائدة ، كيف والكنوز الربانية تلمع وسط كلماته المباركة .
وهذه الأسطر ، محاولة للتدبر في المعنى العقدي لكلمة الشكر في القرآن . حيث تكرر في القرآن الكريم كلمة ( يشكر ، يشكرون ، اشكروا .. ) مرات عديدة ، والمتدبر في هذه الآيات يلاحظ أمرين :
أ- أن للشكر في القرآن قسمين أحدهما أخلاقي والآخر عقائدي .
ب- أن العقائدي منه مرتبط بولاية أمير المؤمنين علي عليه السلام.
وفي هذه الوريقات سنتدبر بعض الآيات المباركة حول ذلك ، مدعومة بروايات معصومية ، كل ذلك ليعرف الموالي أن أمر أهل البيت في القرآن ثابت لا تشوبه شائبة ، تصريحا تارة وتلميحا تارة أخرى .
تساءلت وأنا أردد قوله تعالى : " كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " :
ما المقصود بهذا التهديد المشدد بتوكيد اللام والنون : " لتسألن " عن النعيم في يوم القيامة ؟
أليس الله تعالى هو الجواد ؟ أليس هو الكريم ؟
أليس الإنسان هو المخلوق الفقير إلى الله ؟
فلماذا إذن يتوعد الخالق الكريم بمحاسبة المخلوق الفقير على النعم التي وهبها له فهل جاء الإنسان إلى هذه الدنيا بمحض إرادته ؟!
قبل الجواب ، نشير إلى نقطتين :
النقطة الأولى :
أن الشكر العقائدي مقدم رتـــبة على الشـــكر العمـــلي من حـيث الأهميــة ، لأن الضـــلال – وهو الانحراف النظري عن الحق – أبغض إلى الله من الفسق – وهو الانحراف السلوكي - وهذا واضح في ثنايا القرآن الكريم .
فمغفرة السلوك أمر مرتبط بصحة العقيدة ، " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر دون ذلك لمن يشاء " ، وشكر الله يتحقق من خلال التدين بالعقائد الحقة ثم تأتي نوبة شكره بالعبادات العملية، لاحظ بدقة كلام الإمام الرضا عليه السلام :
" اعلموا أنكم لا تشكرون الله بعد إيمانكم بالله ورسوله وبعد الاعتراف بحقوق أولياء الله من آل محمد عليه السلام أحب إليه من معاونتكم لإخوانكم المؤمنين "[1]، حيث قدم هنا الإمام (ع) الشكر المرتبط بالقلب على الشكر المرتبط بالعمل ، ومن هنا نقسم الشكر إلى قسمين : الشكر العقائدي والشكر العملي .
النقطة الثانية :
وهي أن فهم القرآن بالقرآن سبيل مهم لتدبر هذا الكتاب الكريم ، كما ذكر السيد الخوئي (قده) في مقدمة تفسيره .
الشكر في القرآن :
لا خلاف بأن العقائد محلها القلب ، والعبادات محلها الجوارح ، وقد تناولت آيات قرآنية وروايات معصومية متـعددة موضوع الشكر، يظهر منها أن للشكر جنبتان :
جنبة أخلاقية :
وتتعلق بالسلوك الواجب على العبد في مقابل النعم الإلهية عليه ، كما في قول الله تعالى :" بل الله فاعبد وكن من الشاكرين" ، وقوله تعالى : " اعملوا آل داود شكرا "، فيلفت القرآن النظر هنا إلى الجانب العملي من الشكر .
وجنبة عقائدية :
وهي تتعلق بالجوانح ، كما في قوله – سبحانه وتعالى - على لسان سليمان(ع) : " ليبلوني أأشكر أم أكفر" ، وقوله :" فمن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني كريم " ، لاحظ أن الله سبحانه وتعالى قد قابل الشكر بالكفر في هذه الآيات ، فالراجح إذاً أن كلمة الشكر هنا تختص بالجانب العقائدي ، وهذه ستكون محط حديثنا في هذه الرسالة.
متى يكون الشكر راجحا ومتى يكون واجبا ؟
يرتبط الشكر بأهمية النعمة وعظمتها والعلاقة بينهما علاقة طردية ، بمعنى :
أـــ أن الشكر قد يكون راجحا في حالات ، كدعوة غني إلى طعام، فإن هذا الغني لا يحتاج الطعام ، ولكن ينبغي عليه شكر الداعي، فإن لم يفعل فقد خالف الأدب وقد يلام .
ب ــ ولكن رجحان الشكر قد يرتفع درجات . فحينما يواجه شخص ما مشكلة عويصة ، فينجيه منها محسن ، كمن يحل عليه ديـْن حتى كاد أن يسجن ، فينجيه المحسن من ذلك ويدفع عنه دينه ، فشكر هذا المنعم يكون أرجح ويصل حد الوجوب عنـد العقلاء ، ويلام تارك الشكر في هذه الحالة قطعا .
ج ــ ويرتفع وجوب الشكر حتى يصل أقصى درجات الوجوب ليكون العقاب على ترك الشكر جائزا حينئذ . فهب أن رجلا يعالج سكرات الموت على فراشه والألم يعتصره وعجز عنه أغلب الأطباء والجراحين المهرة ، فيعالجه طبيب بعد يأس ، دون ألم ، لتعود إلى المحتضر صحته وعافيته فلا ريب بجواز عقاب هذا المريض إن أعرض عن شكر المنعم هنا وهو الطبيب .
في المـثال الأول : إذا لم يشكر الغنيّ من دعاه ، قد يعذر وقد يلام .
في المثال الثاني : إذا ترك شكر المحسن فعيبٌ لا يعذره أحد ، ويلام
على تركه قطعا .
في المثال الثالث : فإن تارك شكر الطبيب يستحق اللوم إضافة إلى
العقوبة، وهو بها جدير .
كيف يكون شكر المنعم ؟
هناك ثلاثة شرائط لتحقق الشكر كما يبين علماء الأخلاق :
الشــرط الأول : أن يكون شكر المنعم بحسبه ، فشكر الملك
يختلف عن شكر خادمه .
الشرط الثاني : أن يكون شكر المنعم كما يريد هو .
الشرط الثالث : أن يكون الشكر بلحاظ عظمة النعمة وأهميتها .
لذلك ، ولأنه لا يعرف عظمة الله تعالى إلا هو ، فإنه لا يصح لأحد أن يحدد طريقة شكره ولا أن يغيرها عما هي عليه إلا هو سبحانه ، وغير ذلك محال .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله : ما عرفناك حق معرفتك ، وما عبدناك حق عبادتك " .
وهذا يدل على استحالة أن يبلغ الشكر حد التساوي مع نعـم الله حتى من قِبـَل أنفس طابت وطهرت كنفس رسول الله صلى الله عليه وآله ، وبهذا وردت روايات عن أهل بيت العصمة ، ولذلك فإن طريقة شكر المنعم يحددها هو نفسه ، لأنه الأعرف بمقام نفسه جل جلاله ، وكيفية شكره .
إنما أعبد من حيث أريد :
وقد ورد في الرواية أن إبليس – الملعون – قد امتنع عن السجود لرب العباد واعداً بعبادته عبادة لم يعبده أحد قبله ولا بعده ، شرط إعفائه عن السجدة ، ولكن هل يقبل الله تعالى منه ذلك ؟ قال تعالى لإبليس : " إنما أعبد من حيث أريد " . وقد قال تعالى بالحديث القدسي المشهور : " ما تقرب إلي عبد بمثل ما افترضته عليـــــــه " .
وقد ورد في تراث المسلمين سنة وشيعة ، معنى مهم يمكن ملاحظته طي بعض الروايـــــات ، حيث ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله قوله :
" أخلص دينك ، يكفك القليل من العمل " .
وقوله : " من أحدث في أمرنا هذا فهو رد عليه " ، وعن أمير المؤمنين (ع) أنه كان كثيرا ما يقول :
" يا أيها الناس دينكم دينكم فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره والسيئة فيه تغفر والحسنة في غيره لا تقبل" ، وعن الصادق (ع) : " قليل من العمل من العاقل ( العالم ) مقبول مضاعف ، وكثير من العمل من أهل الهوى والجهل مـــــــــردود ".
وهذا كله يدور مدار قوله تعالى : " ليبلوكم أيكم أحسن عملا " .
فالمحصلة هنا نقطتان :
الأولى : أن الشكر لا يصح إلا كما يريد الله ، لا كما نريد نحن
ونفترض .
الثانية : أن القليل من شكره سبحانه بالطريقة التي افترضها على عبده
مقبول مأجور عنده ، بينما الكثير من العمل مما افترضه
الإنسان على نفسه لا قيمة له .
وهنا ، فإن أصل البحث الذي نريد أن نثبته أو نؤكد عليه هو أن مجرد الإيمان بولاية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من أهم صور الشكر العقائدي لنعمة الإسلام ، ويترتب عليها معرفة الشكر العملي المقبول .
ما هو أخطر شيء واجه المجتمع الإسلامي ؟
لا يخفى على قاريء التاريخ أن أخطر ما واجه الإسلام هو وفاة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، فأغلب أو كل الحركات الإصلاحية في العالم إن غاب عنها منشؤها تبدأ بالانحدار والتهاوي وقد تضمحل ، وعلاقة هذه الحركة المحمدية العظمى برسولها على ذلك النحو تماما ، لهذا حذر – سبحانه وتعالى – المسلمين بقوله : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل انقلبتم عـلى أعقابكم ومن ينقـلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيـجزي الله الشـاكرين " .
بل إن رسول الله صلى الله عليه وآله قد حذر صحبه أن كثيرا منهم سيرتدون على أعقابهم كما في حديث الحوض المشهور والذي يرويه البخاري وغيره ، محذرا أنه " لا يخلص منهم إلا مثل همل النعم " .
وقد أنذرهم صلى الله عليه وآله وسلم أيضا بقوله :
" لا تعودوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " ، ولكنهم فعلوا عين ما حذرهم منه ، مما يثبت نقطتنا البديهية ، وهي أن أخطر ما واجه الإسلام كان فقدُ النبي الأكرم وما أعقبه من ردة على مستوى المفاهيم .
الانقلاب على الأعقاب في مقابل الشكر
قال جل جلاله : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ، ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " .
وصريح الآية بأن شكر الشاكرين في هو في الجانب العقائدي لكلمة الشكر، بقرينة أنه تعالى جعل الانقلاب على الأعقاب في مقابل الشكر ، لذا كان مجرد الثبات على العقيدة شكراً ، والانقلاب كفرا .
ولاحظ أيضا ، أن المسلمين لم يتركوا العمل والعبادة بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وآله ولكنهم اختلفوا في أمور كان أبرزها هو الاعتراف بالإمامة الإلهية أو إنكارها . فهي أول الخلاف وأعظمه ، مما يعني أن الانقلاب على الأعقاب يتمحور حول هذه النقطة ، إذ لا تجدهم قد اختلفوا في عقيدة أو عمل كما اختلفوا في الإمامة .
لذلك ، فإن المنقلبين على الأعقاب هم :
أ - من آمن بالإمامة بالنص .
ب – أو من أنكر الإمامة بالنص .
وقد أشار الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى ذلك في مواقف مختلفة ، منها على ورد في روضة الكافي في خطبة الوسيلة ، يقول فيها عليه السلام:
"حتى إذا دعا الله عز وجل نبيه ورفعه إليه لم يك ذلك بعده إلا كلمحة من خفقة أو وميض من برقة إلى أن رجعوا على الأعقاب ، وانتكصوا على الأدبار ، وطلبوا بالأوتار ، وأظهروا الكتائب ، وردموا الباب ، وفلوا الدار ، وغيروا آثار رسول الله صلى الله عليه وآله ، ورغبوا عن أحكامه ، وبعدوا من أنواره ، واستخلفوا بمستخلفه بديلا ، اتخذوه فكانـوا ظالمـين "[2] .
فالإمام أمير المؤمنين عليه السلام يبين بأن من ينقلب على الأعقاب هو من بدل مستخلف النبي صلى الله عليه وآله ، فالنبي يقول خلّفتُ عليا، وهم يقولون بخلافة غير علي (ع) .
فمن ثبت على أمر النبي صلى الله عليه وآله كان شاكرا ، ومن استخلف غيره انقلب على الأعقاب .
وإذا لاحظت أن أكثر الناس ليسوا بموالين لأهل البيت (ع) عرفت معنى قول الشيطان " ولاتجد أكثرهم شاكرين " .
وقد أورد الكليني رضوان الله عليه عن زرارة قال :
" قلت لأبي جعفر (ع) قوله : " لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين " . فقال أبو جعفر : يازرارة ، إنما صمد لك ولأصحابك فأما الآخرين فقد فرغ منهم" [3] .
ما هي أكبر نعمة ؟
إذا عرفت أن أكبر مصيبة يمكن أن تصيب الإنسان هي دخول نار جهنم ، فإن أكبر نعمة هي دخول الجنة . ومقدمة دخول الجنة هو الإسلام ، قـال تعالى : " ومن يبتغ غير الإسـلام دينا فلن يقبل منه " ، والدين على ثلاثة درجات :
أ ــ دين كامل ، وهو لله رضى .
ب ــ ودين ناقص .
ج ــ ودين مرفوض ، وهو غير الإسلام .
والقطع واليقين ، أن الولاية المنصوصة - التي هي طريق النجاة من النار والفوز بالجنة - هي أكبر نعمة .
ما الدليل على أن الولاية هي أكبر نعمة ؟
أولا : قال تعالى " ثم لتسألن يومئذ عن النعيم " ، والسؤال الذي يطرح نفــسه :
هل المقصود بالنعيم هنا هذه النعم التي أعطانا إياها الله تعالى كالصحة والعافية والطعام والشراب ؟
أم أنها أمر غير ذلك ؟
فإن قلت بأن الله سيسأل الإنسان عن هذه النعم ، فأنت تعزو إلى الله تعالى ما لا يليق به وهو مصدر الكرم والجود .
فتصور معي رجلا غنيا كريما قام بالتصدق على فقير بصدقة ، فهل يرضى عقلك وتقبل نفسك أن يحاسب هذا الكريمُ الفقيرَ على تلك النعمة التي تصدق بها عليه ؟
أليس هذا بقبيح ؟
ألا يزداد الأمر قبحا إذا كان الغني فاحش الغنى والفقير معدِما ؟
أيفعل بشر سويّ ذلك ؟
فكيف يعزوه البعض إلى الله تعالى وهو مصدر الكرم والجود ؟
نعم ، إن الوعيد في الآية مرتبط أولا بالنعم العقائدية ، وليس النعم التي يستنكف حتى الإنسان أن يحاسب الفقير عليها .. فتأمل .
ثانيا : قال تعالى " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " ، وقد أثبت العلماء في محله أن النعمة قد تمت ورضي الله تعالى عن الإسلام دينا بعد اكتماله بإعلان ولاية علي عليه السلام .
وبعد اكتمال الدين لا يعذر من يأتي بدين ناقص ولا يقبل منه بعد تمام الحجة عليه .
إذاً ، فلا شكر لله تعالى يعادل العقيدة الحقة ، ويأتي من بعدها العمل الصالح المنبثق من تلك العقيدة ، وهي الولاية .
الاختلاف حقيقة ، والصراط حقيقة :
أـ قال تعالى : " وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات " ، فالبينات هذا شأنها ، حمالة وجوه ، يضيع محكمها في متشابهها ، فهذه مسألة رؤية الخالق وهي من أمهات العقائد ، وقد اختلفوا بها ، وجسمية الخالق كذلك ، وعصمة النبي الأكرم ، وخلق القرآن وغيرها من مسائل ، جاء البيان ليهدي الناس ، فإذا بهم يختلفون فيه ومن ثم يضلون ؟! لماذا ؟!
لابد من وليّ قيّم في كل زمان تنتهي إليه الخلافات ، يكون حكمه الفصل والمنتهى ، ولولا ذلك لأضحى القرآن مادة بيد هذا وذاك ، كلّ يدعي فهمه وعلمه زاعما الاجتهاد ، وبهذا يتعدد الصراط ويضيع السبيل ، وبهذا تكون الحجة على الله - حاشاه – وهو محال ، وخلاف قوله " فلله الحجة البالغة " .
ب ـ قال تعالى : " إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " ، أي : شاكرا متبعا السبيل ، أو كافرا تاركا له .
فما هو السبيل ؟
السبيل : هو مودة أهل البيت إضافة لاتباعهم .
أما مودتهم فلقوله : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى" .
أما وجوب اتباعهم ، فلقوله : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ".
فالمستثنيان في الآيتين ( سبيلا – المودة في القربى ) متطابقان من حيث المعنى وان اختلفا لفظا وذلك لضرورة عدم التناقض في القرآن .
وقد قال تعالى : " قل هذه سبيلي " ، وقال : " وأن هذا صراطي مستقيما " فما دام السبيل واحدا ، ومادام الصراط واحدا ، فإنه يثبت أن أهل البيـــــــــــت ( ع ) هم السبيل الحصـري لله تعالى لأن مودتهم هي اتباع السبيل . فاتخاذ سبيلهم شكر وتركه كفر ، كما في قوله تعالى :
" إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا " [4] .
ومن اللطيف أن هذه الآية قد وردت في سورة الإنسان التي جاءت تكريما لأهل البيت عليهم السلام ، فالتناسب واضح .
علي (ع) هو العلامة والمنارة :
هل يمكن للإنسان أن يصل إلى غايته من دون علامة على الطريق ؟ خصوصا مع وعورة الطرق وتعددها ؟
هل يمكن أن تستدل السفن في الظلماء على مرساها من دون منارة تدلها على الميناء ؟
فتخيل إعلانا وضع على طريق وعرة ليدلك على مبتغاك ولكن من دون أسهم ولا إشارات ، فإن وجودها حينئذ لا يضر ولا ينفع .
إن دين الله كذلك ، فوجود صراط مستقيم وسط بقية السبل المضلّلة يقتضي علامة دالة تميز ذلك السبيل عن غيره وهذا واجب على الله تعالى شأنه لوجوب اللطف عليه ، إذ لا معنى للخلق من دون علامة تدلهم إلى الغاية ، وهذا العبث ممنوع على الخالق محال .
وإذا كان رسول الله (ص) هو تلك العلامة ، وهو المنارة الهادية ، وهو الفرقان الذي يفصل بين المتشابهات والمحكمات ، فإن علي (ع) في محله بعد وفاته .
أليس حبه إيمان وبغضه نفاق ؟
أليس هو قسيم الجنة والنار كما فهم أحمد بن حنبل[5] ؟ فما لهم تركوه ؟
سؤال : إذا كانت الولاية بعد النبوة هي النعمة العظمى فكيف يكون شكر هذه النعمة العظيمة ؟
الجواب : قال تعالى : " فاتقوا الله لعلكم تشكرون " .
سؤال : إذا كانت التقوى شكرا ، فمن هم المتقون ؟
الجواب : " والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون " . وظاهر ذلك أن " من جاء بالصدق " هو رسول الله صلى الله عليه وآله بلا شبهة ، وأما من " صدق به " فهم المؤمنون بكل ما جاء به (ص) .
والتقوى هنا نظير الشكر العقائدي لا الشكر العملي بدليل أن التصديق المذكور بالآية أمر قلبي ، والتقوى القلبية تختلف عن التقوى العملية ، تلك التي يمكن حتى للمنافق المرائي أن يتصف بها ظاهرا .
وأما من كذب بما جاء به النبي أو حرف واحد منه فلا يقبل منه تقوى بل هو في أقصى درجات الظلم " فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جـاءه " ، مما يعني أن الظلم هنا ظلم عقائدي ، لأنه أشد وطأة من الظلم العملي .
سؤال : عرفنا من كذب بالصدق ، فمن هم الصديقون ؟
الجواب في قوله : " والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون " .
ولكن ، كل المسلمين يزعمون أنهم مؤمنين بالله ورسله فهل كلهم صديقون ؟[6]
قبل الجواب لاحظ وزن الصدّيقين ، قال تعالى :
" ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا ذلك فضل من الله وكفى بالله عليما " .
لاحظ أن الله تعالى جمع من " أنعم الله عليهم " ( تذكر قوله : وأتممت عليكم نعمتي في آية اكمال الدين ) ، وهم :
أ ـ الأنبياء .
ب ـ الصديقون .
ج ـ الشهداء .
د ـ الصالحون .
فهل يمكن بعد هذا أن تعتقد بأن الصديقين هم كل المسلمين ، لأنهم - بزعمهم - آمنوا بالله ورسله ؟
الحقيقة ، أن الإيمان بالله – تعالى - ( كما وصفه أولياؤه ) ، والإيــــمان برسله ( كل رسله ) أمر لا يتحقق إلا للقلة ، لذلك استحقوا أن يوصفوا بالصديقين وأن يجمعهم الله تعالى مع الأنبياء والصالحين والشهداء .
إن مفتاح فهم قوله : " ومن يؤمن بالله ورسله فأولئك هم الصديقون " يكمن في إدراك أن معنى كلمة " رسله " لا تعني أصحاب الشرائع ، فالأنبياء والأوصياء خارجون عن دائرة أصحاب الشرائع ، فليس كل نبي رسول ، لكن كل رسول نبي .
فهل يمكن – بهذا النقص المعرفي والإيماني – أن يكون المؤمن من الصديقين ؟!
حقيقة الأمر :
أن " الرسل " المقصودون هنا هم كل من يصدق عليه أنه رسول بالمعنى القرآني العام للكلمة وليس بالمعنى الخاص .
فـكلمة " الرسول" بالمعـنى الخاص تطلق على صاحب الشريعة ، أمــا كلــمـة " الرسول " بالمعنى العام فقد تطلق على فئات ، كملائكة الموت كما في قوله : " حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا " ، وكقوله : " فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قال إنما أنا رسول ربك " وهو الروح القدس ، وقال : " إنه لقول رسول كريم " ، ويقصد به جبريل (ع) .. بل حتى الطير الأبابيل كانت مرسلة منه سبحانه إذ يقول: " فأرسلنا عليهم طيرا أبابيل " .
إذا ، فكلمة رسول غير محصورة بأصحاب الشرائع في القرآن ، وكذلك في اللغة ، ومن أهم مصاديق " رسله " – بهذا المعنى ، آل محمد (ص) الذين اصطفاهم الله تعالى وأرسلهم من بعد النبي وحباهم رتبة الإمامة .
فالمقصود بقوله " آمنوا بالله ورسله هم الصديقون " هو الرسول بالمعنى العام الذي يشمل الأوصياء ، وهو أصعب على القلوب التي خلت من الإيمان بهم ففشلت في الابتلاء ، لذلك غدى مقام الصديقين مقاما عاليا لصعوبته .
وأيضا ، قوله تعالى في نفس الآية :
" مع الذين أنعم الله عليهم " ، يؤكد أن الصديقين هم المؤمنون بالأوصياء (ع) ضمن الرسل بالمعنى العام ، وذلك عندما نتذكر أن تعبير القرآن عن يوم تنصيب علي (ع) وليا بأنه يوم إتمام النعمة : " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " .
وبالعودة إلى قوله تعالى :
" أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين " ، فقد بدا واضحا أن قوله "انقلبتم على أعقابكم " جاء في مقابـل " الشاكرين " ، وأن الشكر المذكور عقائدي ، ويتحقق بمجرد الثبات على الإمامة ، فهي الأمر الوحيد الذي تفرقت الأمة بسببه حتى تضاربت .
العدد ، مصداق آخر لحقيقة ما ذكرناه :
قال تعالى : " وقليل من عبادي الشكور" ، وهم في جميع العصور كذلك، وفي عصر دولة الإسلام لا ينطبق إلا على المؤمنين بولاية أمير المؤمنين وأبنائه الأحد عشر ، فالإثنا عشرية هم الأقل في مقابل هاتك الجماهير الموالية لغير آل محمد صلى الله عليه وآله ، والإثنا عشرية هم الشاكرون القلة الذين بقوا مع علي عليه السلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله ينهلون منه الإسلام الحقيقي .
ماذا عن غير الشاكرين وهم الغالبية ؟
قال تعالى على لسان ابليس : " ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ثم لا تجد أكثرهم شـاكرين " ، لاحظ قوله: " أكثرهم " ، وقوله : " شاكرين " ، وسيتضح لك أن المنقلب على عقبيه لعبة بيد الشيطان يمنعه عن الشكـر الذي هو الولاية ، وهؤلاء هم الأغلب كما بين الله تعالى بقوله "أكثرهم ".
فإذا تبين لك ذلك ، فعلى ضوئه يمكننا أن نفهم قوله تعالى :
" وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ، ثم ننجي الذين اتقوا ( أي قبلوا الإمامة) ونذر الظالمين ( الذين كذبوا بالصدق إذ جاءهم ) فيها جثيا " .
فالذين اتقوا هم الشيعة الإمامية ، " من جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون " ، وهم علي عليه السلام ومن تبعه ، وقد أورد ذلك القندوزي في الدر المنثور عن أبي هريرة ، وابن المغازلي في مناقبه عن مجاهد وغيرهما وقد أطبقت على ذلك الشيعة .
ومن هنا نفهم معنى قول النبي الأعظم صلى الله عليه وآله : " علي خير البشر فمن امترى فقد كفر ومن رضي فقد شكر " كما أورده ابن عساكر، ولاحظ كيف كان الشكر مرة أخرى في وصف الموالين والكفر في وصف المعاندين .
تأييد ذلك من الروايات :
وفي ذلك قال الإمام الرضا عليه السلام كما في البحار عن ابراهيم بن العباس الصولي قال : كنا يوما بين يدي علي بن موسى الرضا عليهما السلام فقال : ليس في الدنيا نعيم حقيقي .
فقال بعض الفقهاء ممن يحضره : فيقول الله عز وجل " ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم " أما هذا النعيم في الدنيا الماء البارد ؟
فقال له ( الإمام ) الرضا عليه السلام وعلا صوته : كذا فسرتموه أنتم وجعلتموه على ضروب ، فقال طائفة هو الماء البارد وقال غيرهم هو الطعام الطيب وقال آخرون هو النوم الطيب ، ولقد حدثني أبي عن أبيه أبي عبدالله عليه السلام أن أقوالكم هذه ذكرت عنده في قول الله عز وجل:
" لتسئلن يومئذ عن النعيم " فغضب ، وقال : إن الله ( عز وجل ) لا يسأل عباده عما تفضل عليهم به ، ولا يمن بذلك عليهم ، والامتنان بالإنعام مستقبح من المخلوقين فكيف يضاف إلى الخالق ( عز وجل ) ما لا يرضى المخلوقين به ، ولكن النعيم حبنا أهل البيت وموالاتنا" [7].
وقد أورد البحراني في البرهان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: ( أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم .. الآية ) " يعني بالشاكرين علي بن أبي طالب عليه السلام والمرتدين على أعقابهم الذين ارتدوا عنه " [8].
فما هو أجر الشكر ؟
قال تعالى : " ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه " .
وقال: " إلا آل لوط نجيناهم بسحر، نعمة من عندنا ، كذلك نجزي من شكر" فجزاء الشكر يعود للإنسان نفسه وهـو النجاة من العذاب : " فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز " .
ولعل من تطبيقات مفهوم الشكر بالمعنى الذي ذكرناه في القرآن بارز في قوله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام :
" ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون".
أما قوله : " ذريتي " ، فهم آل محمد (ص) .
أما قوله : " أفئدة من الناس تهوي إليهم " أي المودة [9] ومحلها الفؤاد.
أما قوله : " يشكرون" ، فالشكر نتيجة لاتخاذهم (ع) سبيلا .
ورد في تفسير العياشي عن أبي جعفر (ع): " نحن هم ، ونحن بقية تلك الذرية ".
وفي روضة الكافي مما قال أبو جعفر لقتادة : " .. فنحن والله دعوة إبراهيم صلى الله عليه وآله التي من هوانا قلبه قبلت حجته .. فإذا كان كذلك كان آمنا من عذاب جهنم " [10].
ما يفعل الله بعذابكم ؟
وعلى ضوء ذلك ، ليس من المستبعد أن يكون قوله تعالى : " ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم " أي إذا توليتم عليا وآمنتم به ، ليتحقق الشكر الأعظم وهو الشكر العقائدي .
وهذا الأمان المذكور في الآية قد تكرر لمن تولى عليا روايات كثيرة ، منها:
قوله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام كما في تاريخ الخطيب عن ابن عباس قال : قلت للنبي صلى الله عليه (وآله) وسلم : " يا رسول الله للنار جواز ؟
قال : نعم . قال : وما هو ؟ قال : حب علي بن أبي طالب " .
في مجمع الزوائد للهيثمي قال : ( قال علي عليه السـلام ) : إن خليلي صلى الله عليه (وآله) وسلم قال : يا علي ستقدم على الله وشيعتك راضين مرضيين ويقدم عليك عدوك غضابا مقمحين ... ورواه الطبراني في الأوسط .
وفي الصواعق المحرقة لابن حجر : قال : وأخرج الديلمي – يعني عن النبي (ص) – : يا علي ، إن الله غفر لك ولذريتك وولدك وأهلك ولشيعتك ولمحبي شيــــعتك .
وهذا المعنى متواتر في الروايات إن دار الحديث عن السند ، فتدعم هذه المعاني بعضها بعضا لتثبت أن الجنة إنما هي للشاكرين أتباع علي عليه السلام .
خلاصة :
لو استطاع هذا البحث أن يلفت نظرك أيها القاريء الكريم وأنت تقرأ القرآن عند بلوغك كلمة الشكر أحيانا لتفهمها بالبعد العقائدي ، سيكون البحث قد حقق هدفه ، لأن المحصلة التي ستظهر لك : أن لا شكر إلا بالولاية ، أو إن شئت فقل : أن الشكر هو الولاية .
[1] - البحار ج 78ص355 .
[2] - تفسير كنز الدقائق وبحر الغرائب للقمي ص236 .
[3] - الكافي ج8 ص145 .
[4] - بلحاظ كلمات فقهاء الطائفة أعلى الله كلمتهم يتبين أن الكفر هنا هو كفر بالولاية ولا يعني الخروج من الاسلام إلا بشروط مذكورة في محلها .
[5] - رواه القاضي أبي يعلى الحنفي في طبقات الحنابلة ، ج1 ص 320 .
[6] - لا يصح هذا الافتراض ، فالمسلمون أقل درجة من المؤمنين " لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا " ، فبالاسلام يمنح المسلم حقوقه الدينية في دار الدنيا ، ولكن لن ينفعه في الآخرة إلا الإيمان .
[7] - سفينة البحار ج8 ص285 باب النون بعده العين .
[8] - البرهان للبحراني نقلا عن المناقب ج2ص 120 .
[9] - وهي التي وردت في قوله تعالى : " قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى " .
[10] - ومثله مما ورد في الاحتجاج ومجمع البيان وبصائر الدرجات وقد جمع مجموعة منها الحويزي ( قدس سره ) في تفسيره نور الثقلين ، فاقصده .
تعليق