العِلّة من خروج المؤمن من الكافر وخروج الكافر من المؤمن .
وهل وُلِدَ النبي محمد (ص) من أبويين كافرين ؟
وما معنى قول النبي : « أنا ابن الذبيحين » ؟
إنّ الله تعالى يُخرِجُ الخبيث من الطيّب ويخرج الطيّب من الخبيث . فهذا ابن نبيّ الله نوح (عليه السلام) خرج كافراً من صلب أبيه النبي . قَالَ تَعَالَى : ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ - [سُّورَةُ هُودٍ : 45 - 46.]
وهذا محمّد بن أبي بكر على طرف نقيض مع أبيه ، فهو من خُلّص أصحاب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وقد قُتِلَ في سبيل الدفاع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) . والآية الكريمة قاضية بذلك : قَالَ تَعَالَى : ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ - [سُّورَةُ فَاطِرٍ : 18.]
ولقد بيّن الأئمة (عليهم السلام) عِلّة خروج المؤمن من الكافر وخروج الكافر من المؤمن .
وبيّنوا أيضاً علّة إصابة المؤمن السيئة وإصابة الكافر الحسنة .
عَنْ الْإِمَامِ السَّجَادِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ :
إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ النَّبِيِّينَ مِنْ طِينَةِ عِلِّيِّينَ وَأَبْدَانَهُمْ ، وَخَلَقَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ تِلْكَ الطِّينَةِ وَخَلَقَ أَبْدَانَهُمْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ ، وَخَلَقَ الْكَافِرِينَ مِنْ طِينَةِ سِجِّينٍ وَقُلُوبَهُمْ وَأَبْدَانَهُمْ ، فَخَلَطَ بَيْنَ الطِّينَتَيْنِ فَمِنْ هَذَا الذي يَلِدُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَيَلِدُ الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ ، وَمِنْ هَاهُنَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنُ السَّيِّئَةَ وَيُصِيبُ الْكَافِرُ الْحَسَنَةَ ، فَقُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ تَحِنُّ إِلَى مَا خُلِقُوا مِنْهُ ، وَقُلُوبُ الْكَافِرِينَ تَحِنُّ إِلَى مَا خُلِقُوا مِنْهُ .
المصدر : (علل الشرائع : ج1، ص82.)
وَعَنْ الْإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ :
إِنَّ نُطْفَةَ الْمُؤْمِنِ لَتَكُونُ فِي صُلْبِ الْمُشْرِكِ فَلَا يُصِيبُهُ مِنَ الشَّرِّ شَيْءٌ حَتَّى إِذَا صَارَ فِي رَحِمِ الْمُشْرِكَةِ لَمْ يُصِبْهَا مِنَ الشَّرِّ شَيْءٌ حَتَّى تَضَعَهُ فَإِذَا وَضَعَتْهُ لَمْ يُصِبْهُ مِنَ الشَّرِّ شَيْءٌ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَيْهِ الْقَلَمُ .
وَعَنْ الْإِمَامِ الْكَاظِمِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ :
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُ فِي صُلْبِ الْكَافِرِ بِمَنْزِلَةِ الْحَصَاةِ فِي اللَّبِنَةِ ، يَجِيءُ الْمَطَرُ فَيَغْسِلُ اللَّبِنَةَ وَلَا يَضُرُّ الْحَصَاةَ شَيْئاً .
المصدر : (الكافي : ج2، ص13.)
بالنسبة إلى آباء النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) :
فإنّ معظم مذاهب المسلمين تقول أنّ :
أبو النبي عبد الله بن عبد المطلب (عليه السلام) كافر وفي النار .
أُم النبي آمنة بنت وهب (عليها السلام) كافرة وفي النار .
عم النبي أبو طالب بن عبد المطلب (عليه السلام) كافر وفي النار .
جد النبي عبد المطلب بن هاشم (عليه السلام) كافر وفي النار .
في حين تقول الآية 218 من سورة الشعراء : ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ . التي بيّنت أنّ النبي محمد قد وُلِدَ في أصلاب الساجدين ، أي في أصلاب الآباء الموحدين والعابدين لله تعالى ، آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه الله نبياً . وقد كان أبواه موحدان على دين الحنيفية السمحاء دين جدّهما إبراهيم الخليل (عليه السلام) .
وبقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : « خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ مِنْ لَدُنْ آدَمَ » . « لَمْ يَزَلْ يَنْقُلُنِيَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الْمُطَهَّرَاتِ حَتَّى أَخْرَجَنِي فِي عَالَمِكُمْ هَذَا ، لَمْ يُدَنِّسْنِي بِدَنَسِ الْجَاهِلِيَّةِ» . ولو كان في آبائه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كافرٌ لم يصف جميعهم بالطهارة مع قوله تعالى : ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ - [سُّورَةُ التَّوْبَةِ : 28.] ومع قوله سبحانه : ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ - [سُّورَةُ النُّوْرِ : 3.]
وقد أورد الكتاني في نظم المتناثر من الحديث المتواتر - كتاب المناقب : الجزء : ( 1 ) - الصفحة : ( 190 ) : 225 - أحاديث أنّ جميع آبائه وأمهاته على التوحيد : أن جميع آبائه عليه السلام وأمهاته كانوا على التوحيد ، لم يدخلهم كفر ولا عيب ولا رجس ، ولا شيء مما كان عليه أهل الجاهلية - وقد ذكر الباجوري في حاشيته على جوهرة التوحيد أنها بالغة مبلغ التواتر يعني المعنوي .
عَنْ الْإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ :
هَبَطَ جَبْرَئِيلُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ :
يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَفَّعَكَ فِي خَمْسَةٍ ، فِي بَطْنٍ حَمَلَكَ وَهِيَ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَفِي صُلْبٍ أَنْزَلَكَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَفِي حَجْرٍ كَفَلَكَ وَهُوَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ ، وَفِي بَيْتٍ آوَاكَ وَهُوَ عَبْدُ مَنَافِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَبُو طَالِبٍ ، وَفِي أَخٍ كَانَ لَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ .
قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَذَا الْأَخُ ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) :
كَانَ آنِسِي وَكُنْتُ آنِسَهُ ، وَكَانَ سَخِيّاً يُطْعِمُ الطَّعَامَ .
المصدر : (البحار : ج15، ص126، عن الخصال.)
معنى قول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : « أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ » .
عَنْ الْإِمَامِ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) : «أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ» ؟ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) . أَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَهُوَ الْغُلَامُ الْحَلِيمُ الَّذِي بَشَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إِبْرَاهِيمَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ وَهُوَ لَمَّا عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِهِ قالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ , وَلَمْ يَقُلْ لَهُ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا رَأَيْتَ ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ . فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى ذَبْحِهِ فَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذِبْحٍ عَظِيمٍ بِكَبْشٍ أَمْلَحَ ، يَأْكُلُ فِي سَوَادٍ وَيَشْرَبُ فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ وَيَمْشِي فِي سَوَادٍ وَيَبُولُ فِي سَوَادٍ ، وَكَانَ يَرْتَعُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ عَاماً . وَمَا خَرَجَ مِنْ رَحِمِ أُنْثَى وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ ﴿كُنْ﴾ ، فَكَانَ لِيَفْدِيَ بِهِ إِسْمَاعِيلَ . فَكُلُّ مَا يُذْبَحُ بِمِنًى فَهُوَ فِدْيَةٌ لِإِسْمَاعِيلَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَهَذَا أَحَدُ الذَّبِيحَيْنِ .
وَأَمَّا الْآخَرُ فَإِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) كَانَ تَعَلَّقَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ ، وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْزُقَهُ عَشَرَةَ بَنِينَ وَنَذَرَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَذْبَحَ وَاحِداً مِنْهُمْ مَتَى أَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ ، فَلَمَّا بَلَغُوا عَشَرَةً قَالَ : « قَدْ وَفَى اللَّهُ تَعَالَى لِي فَلَأَفِيَنَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ » . فَأَدْخَلَ وُلْدَهُ الْكَعْبَةَ وَأَسْهَمَ بَيْنَهُمْ فَخَرَجَ سَهْمُ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وَكَانَ أَحَبَّ وُلْدِهِ إِلَيْهِ ، ثُمَّ أَجَالَهَا ثَانِيَةً فَخَرَجَ سَهْمُ عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ أَجَالَهَا ثَالِثَةً فَخَرَجَ سَهْمُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَخَذَهُ وَحَبَسَهُ وَعَزَمَ عَلَى ذَبْحِهِ ، فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ وَمَنَعَتْهُ مِنْ ذَلِكَ وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَبْكِينَ وَيَصِحْنَ . فَقَالَتْ لَهُ ابْنَتُهُ عَاتِكَةُ : « يَا أَبَتَاهْ ، أَعْذِرْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَتْلِ ابْنِكَ »! قَالَ : « وَكَيْفَ أُعْذِرُ يَا بُنَيَّةِ ؟ فَإِنَّكِ مُبَارَكَةٌ ». قَالَتْ : « اعْمِدْ عَلَى تِلْكَ السَّوَائِمِ الَّتِي لَكَ فِي الْحَرَمِ ، فَاضْرِبْ بِالْقِدَاحِ عَلَى ابْنِكَ وَعَلَى الْإِبِلِ وَأَعْطِ رَبَّكَ حَتَّى يَرْضَى » .
فَبَعَثَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى إِبِلِهِ فَأَحْضَرَهَا وَعَزَلَ مِنْهَا عَشْراً ، وَضَرَبَ بِالسِّهَامِ فَخَرَجَ سَهْمُ عَبْدِ اللَّهِ فَمَا زَالَ يَزِيدُ عَشْراً عَشْراً حَتَّى بَلَغَتْ مِائَةً فَضَرَبَ فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى الْإِبِلِ ، فَكَبَّرَتْ قُرَيْشٌ تَكْبِيرَةً ارْتَجَّتْ لَهَا جِبَالُ تِهَامَةَ فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : « لَا حَتَّى أَضْرِبَ بِالْقِدَاحِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ » . فَضَرَبَ ثَلَاثاً كُلَّ ذَلِكَ يَخْرُجُ السَّهْمُ عَلَى الْإِبِلِ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ اجْتَذَبَهُ الزُّبَيْرُ وَأَبُو طَالِبٍ وَأَخَوَاتُهُمَا مِنْ تَحْتِ رِجْلَيْهِ ، فَحَمَلُوهُ وَقَدِ انْسَلَخَتْ جَلْدَةُ خَدِّهِ الَّذِي كَانَ عَلَى الْأَرْضِ ، وَأَقْبَلُوا يَرْفَعُونَهُ وَيُقَبِّلُونَهُ وَيَمْسَحُونَ عَنْهُ التُّرَابَ ، وَأَمَرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَنْ تُنْحَرَ الْإِبِلُ بِالْحَزْوَرَةِ وَلَا يُمْنَعَ أَحَدٌ مِنْهَا وَكَانَتْ مِائَةً .
فَكَانَتْ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ خَمْسٌ مِنَ السُّنَنِ أَجْرَاهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْإِسْلَامِ ، حَرَّمَ نِسَاءَ الْآبَاءِ عَلَى الْأَبْنَاءِ ، وَسَنَّ الدِّيَةَ فِي الْقَتْلِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ ، وَكَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ، وَوَجَدَ كَنْزاً فَأَخْرَجَ مِنْهُ الْخُمُسَ ، وَسَمَّى زَمْزَمَ حِينَ حَفَرَهَا سِقَايَةَ الْحَاجِّ . وَلَوْ لَا أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ كَانَ حُجَّةً وَأَنَّ عَزْمَهُ عَلَى ذَبْحِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ شَبِيهٌ بِعَزْمِ إِبْرَاهِيمَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَلَى ذَبْحِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ ، لَمَا افْتَخَرَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) بِالانْتِسَابِ إِلَيْهِمَا . لِأَجْلِ أَنَّهُمَا الذَّبِيحَانِ فِي قَوْلِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) : « أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ » . وَالْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا دَفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الذَّبْحَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ هِيَ الْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا دَفَعَ الذَّبْحَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، وَهِيَ كَوْنُ النَّبِيِّ وَالْأَئِمَّةِ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) فِي صُلْبَيْهِمَا .
فَبِبَرَكَةِ النَّبِيِّ وَالْأَئِمَّةِ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) دَفَعَ اللَّهُ الذَّبْحَ عَنْهُمَا فَلَمْ تَجْرِ السُّنَّةُ فِي النَّاسِ بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ ، وَلَوْ لَا ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَى النَّاسِ كُلَّ أَضْحًى التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ ، وَكُلُّ مَا يَتَقَرَّبُ النَّاسُ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أُضْحِيَّةٍ فَهُوَ فِدَاءٌ لِإِسْمَاعِيلَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
المصدر : (البحار : ج15، ص128، عن عيون أخبار الرضا (ع).)
وهل وُلِدَ النبي محمد (ص) من أبويين كافرين ؟
وما معنى قول النبي : « أنا ابن الذبيحين » ؟
إنّ الله تعالى يُخرِجُ الخبيث من الطيّب ويخرج الطيّب من الخبيث . فهذا ابن نبيّ الله نوح (عليه السلام) خرج كافراً من صلب أبيه النبي . قَالَ تَعَالَى : ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ - [سُّورَةُ هُودٍ : 45 - 46.]
وهذا محمّد بن أبي بكر على طرف نقيض مع أبيه ، فهو من خُلّص أصحاب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وقد قُتِلَ في سبيل الدفاع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) . والآية الكريمة قاضية بذلك : قَالَ تَعَالَى : ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ - [سُّورَةُ فَاطِرٍ : 18.]
ولقد بيّن الأئمة (عليهم السلام) عِلّة خروج المؤمن من الكافر وخروج الكافر من المؤمن .
وبيّنوا أيضاً علّة إصابة المؤمن السيئة وإصابة الكافر الحسنة .
عَنْ الْإِمَامِ السَّجَادِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ :
إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ النَّبِيِّينَ مِنْ طِينَةِ عِلِّيِّينَ وَأَبْدَانَهُمْ ، وَخَلَقَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ تِلْكَ الطِّينَةِ وَخَلَقَ أَبْدَانَهُمْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ ، وَخَلَقَ الْكَافِرِينَ مِنْ طِينَةِ سِجِّينٍ وَقُلُوبَهُمْ وَأَبْدَانَهُمْ ، فَخَلَطَ بَيْنَ الطِّينَتَيْنِ فَمِنْ هَذَا الذي يَلِدُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ وَيَلِدُ الْكَافِرُ الْمُؤْمِنَ ، وَمِنْ هَاهُنَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنُ السَّيِّئَةَ وَيُصِيبُ الْكَافِرُ الْحَسَنَةَ ، فَقُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ تَحِنُّ إِلَى مَا خُلِقُوا مِنْهُ ، وَقُلُوبُ الْكَافِرِينَ تَحِنُّ إِلَى مَا خُلِقُوا مِنْهُ .
المصدر : (علل الشرائع : ج1، ص82.)
وَعَنْ الْإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ :
إِنَّ نُطْفَةَ الْمُؤْمِنِ لَتَكُونُ فِي صُلْبِ الْمُشْرِكِ فَلَا يُصِيبُهُ مِنَ الشَّرِّ شَيْءٌ حَتَّى إِذَا صَارَ فِي رَحِمِ الْمُشْرِكَةِ لَمْ يُصِبْهَا مِنَ الشَّرِّ شَيْءٌ حَتَّى تَضَعَهُ فَإِذَا وَضَعَتْهُ لَمْ يُصِبْهُ مِنَ الشَّرِّ شَيْءٌ حَتَّى يَجْرِيَ عَلَيْهِ الْقَلَمُ .
وَعَنْ الْإِمَامِ الْكَاظِمِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ :
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُ فِي صُلْبِ الْكَافِرِ بِمَنْزِلَةِ الْحَصَاةِ فِي اللَّبِنَةِ ، يَجِيءُ الْمَطَرُ فَيَغْسِلُ اللَّبِنَةَ وَلَا يَضُرُّ الْحَصَاةَ شَيْئاً .
المصدر : (الكافي : ج2، ص13.)
بالنسبة إلى آباء النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) :
فإنّ معظم مذاهب المسلمين تقول أنّ :
أبو النبي عبد الله بن عبد المطلب (عليه السلام) كافر وفي النار .
أُم النبي آمنة بنت وهب (عليها السلام) كافرة وفي النار .
عم النبي أبو طالب بن عبد المطلب (عليه السلام) كافر وفي النار .
جد النبي عبد المطلب بن هاشم (عليه السلام) كافر وفي النار .
في حين تقول الآية 218 من سورة الشعراء : ﴿وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾ . التي بيّنت أنّ النبي محمد قد وُلِدَ في أصلاب الساجدين ، أي في أصلاب الآباء الموحدين والعابدين لله تعالى ، آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه الله نبياً . وقد كان أبواه موحدان على دين الحنيفية السمحاء دين جدّهما إبراهيم الخليل (عليه السلام) .
وبقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : « خَرَجْتُ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أَخْرُجْ مِنْ سِفَاحٍ مِنْ لَدُنْ آدَمَ » . « لَمْ يَزَلْ يَنْقُلُنِيَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الْمُطَهَّرَاتِ حَتَّى أَخْرَجَنِي فِي عَالَمِكُمْ هَذَا ، لَمْ يُدَنِّسْنِي بِدَنَسِ الْجَاهِلِيَّةِ» . ولو كان في آبائه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كافرٌ لم يصف جميعهم بالطهارة مع قوله تعالى : ﴿إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ﴾ - [سُّورَةُ التَّوْبَةِ : 28.] ومع قوله سبحانه : ﴿الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ - [سُّورَةُ النُّوْرِ : 3.]
وقد أورد الكتاني في نظم المتناثر من الحديث المتواتر - كتاب المناقب : الجزء : ( 1 ) - الصفحة : ( 190 ) : 225 - أحاديث أنّ جميع آبائه وأمهاته على التوحيد : أن جميع آبائه عليه السلام وأمهاته كانوا على التوحيد ، لم يدخلهم كفر ولا عيب ولا رجس ، ولا شيء مما كان عليه أهل الجاهلية - وقد ذكر الباجوري في حاشيته على جوهرة التوحيد أنها بالغة مبلغ التواتر يعني المعنوي .
عَنْ الْإِمَامِ الصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَالَ :
هَبَطَ جَبْرَئِيلُ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) فَقَالَ :
يَا مُحَمَّدُ ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ شَفَّعَكَ فِي خَمْسَةٍ ، فِي بَطْنٍ حَمَلَكَ وَهِيَ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ، وَفِي صُلْبٍ أَنْزَلَكَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَفِي حَجْرٍ كَفَلَكَ وَهُوَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ ، وَفِي بَيْتٍ آوَاكَ وَهُوَ عَبْدُ مَنَافِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَبُو طَالِبٍ ، وَفِي أَخٍ كَانَ لَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ .
قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ هَذَا الْأَخُ ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) :
كَانَ آنِسِي وَكُنْتُ آنِسَهُ ، وَكَانَ سَخِيّاً يُطْعِمُ الطَّعَامَ .
المصدر : (البحار : ج15، ص126، عن الخصال.)
معنى قول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : « أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ » .
عَنْ الْإِمَامِ الرِّضَا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) : «أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ» ؟ قَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) : يَعْنِي إِسْمَاعِيلَ بْنَ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) . أَمَّا إِسْمَاعِيلُ فَهُوَ الْغُلَامُ الْحَلِيمُ الَّذِي بَشَّرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ إِبْرَاهِيمَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) ، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ وَهُوَ لَمَّا عَمِلَ مِثْلَ عَمَلِهِ قالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ﴾ , وَلَمْ يَقُلْ لَهُ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا رَأَيْتَ ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾ . فَلَمَّا عَزَمَ عَلَى ذَبْحِهِ فَدَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذِبْحٍ عَظِيمٍ بِكَبْشٍ أَمْلَحَ ، يَأْكُلُ فِي سَوَادٍ وَيَشْرَبُ فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ وَيَمْشِي فِي سَوَادٍ وَيَبُولُ فِي سَوَادٍ ، وَكَانَ يَرْتَعُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي رِيَاضِ الْجَنَّةِ أَرْبَعِينَ عَاماً . وَمَا خَرَجَ مِنْ رَحِمِ أُنْثَى وَإِنَّمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ ﴿كُنْ﴾ ، فَكَانَ لِيَفْدِيَ بِهِ إِسْمَاعِيلَ . فَكُلُّ مَا يُذْبَحُ بِمِنًى فَهُوَ فِدْيَةٌ لِإِسْمَاعِيلَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، فَهَذَا أَحَدُ الذَّبِيحَيْنِ .
وَأَمَّا الْآخَرُ فَإِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) كَانَ تَعَلَّقَ بِحَلْقَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ ، وَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَرْزُقَهُ عَشَرَةَ بَنِينَ وَنَذَرَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَذْبَحَ وَاحِداً مِنْهُمْ مَتَى أَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَهُ ، فَلَمَّا بَلَغُوا عَشَرَةً قَالَ : « قَدْ وَفَى اللَّهُ تَعَالَى لِي فَلَأَفِيَنَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ » . فَأَدْخَلَ وُلْدَهُ الْكَعْبَةَ وَأَسْهَمَ بَيْنَهُمْ فَخَرَجَ سَهْمُ عَبْدِ اللَّهِ أَبِي رَسُولِ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) وَكَانَ أَحَبَّ وُلْدِهِ إِلَيْهِ ، ثُمَّ أَجَالَهَا ثَانِيَةً فَخَرَجَ سَهْمُ عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ أَجَالَهَا ثَالِثَةً فَخَرَجَ سَهْمُ عَبْدِ اللَّهِ فَأَخَذَهُ وَحَبَسَهُ وَعَزَمَ عَلَى ذَبْحِهِ ، فَاجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ وَمَنَعَتْهُ مِنْ ذَلِكَ وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَبْكِينَ وَيَصِحْنَ . فَقَالَتْ لَهُ ابْنَتُهُ عَاتِكَةُ : « يَا أَبَتَاهْ ، أَعْذِرْ فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَتْلِ ابْنِكَ »! قَالَ : « وَكَيْفَ أُعْذِرُ يَا بُنَيَّةِ ؟ فَإِنَّكِ مُبَارَكَةٌ ». قَالَتْ : « اعْمِدْ عَلَى تِلْكَ السَّوَائِمِ الَّتِي لَكَ فِي الْحَرَمِ ، فَاضْرِبْ بِالْقِدَاحِ عَلَى ابْنِكَ وَعَلَى الْإِبِلِ وَأَعْطِ رَبَّكَ حَتَّى يَرْضَى » .
فَبَعَثَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِلَى إِبِلِهِ فَأَحْضَرَهَا وَعَزَلَ مِنْهَا عَشْراً ، وَضَرَبَ بِالسِّهَامِ فَخَرَجَ سَهْمُ عَبْدِ اللَّهِ فَمَا زَالَ يَزِيدُ عَشْراً عَشْراً حَتَّى بَلَغَتْ مِائَةً فَضَرَبَ فَخَرَجَ السَّهْمُ عَلَى الْإِبِلِ ، فَكَبَّرَتْ قُرَيْشٌ تَكْبِيرَةً ارْتَجَّتْ لَهَا جِبَالُ تِهَامَةَ فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : « لَا حَتَّى أَضْرِبَ بِالْقِدَاحِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ » . فَضَرَبَ ثَلَاثاً كُلَّ ذَلِكَ يَخْرُجُ السَّهْمُ عَلَى الْإِبِلِ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الثَّالِثَةِ اجْتَذَبَهُ الزُّبَيْرُ وَأَبُو طَالِبٍ وَأَخَوَاتُهُمَا مِنْ تَحْتِ رِجْلَيْهِ ، فَحَمَلُوهُ وَقَدِ انْسَلَخَتْ جَلْدَةُ خَدِّهِ الَّذِي كَانَ عَلَى الْأَرْضِ ، وَأَقْبَلُوا يَرْفَعُونَهُ وَيُقَبِّلُونَهُ وَيَمْسَحُونَ عَنْهُ التُّرَابَ ، وَأَمَرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ أَنْ تُنْحَرَ الْإِبِلُ بِالْحَزْوَرَةِ وَلَا يُمْنَعَ أَحَدٌ مِنْهَا وَكَانَتْ مِائَةً .
فَكَانَتْ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ خَمْسٌ مِنَ السُّنَنِ أَجْرَاهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْإِسْلَامِ ، حَرَّمَ نِسَاءَ الْآبَاءِ عَلَى الْأَبْنَاءِ ، وَسَنَّ الدِّيَةَ فِي الْقَتْلِ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ ، وَكَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ، وَوَجَدَ كَنْزاً فَأَخْرَجَ مِنْهُ الْخُمُسَ ، وَسَمَّى زَمْزَمَ حِينَ حَفَرَهَا سِقَايَةَ الْحَاجِّ . وَلَوْ لَا أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ كَانَ حُجَّةً وَأَنَّ عَزْمَهُ عَلَى ذَبْحِ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ شَبِيهٌ بِعَزْمِ إِبْرَاهِيمَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) عَلَى ذَبْحِ ابْنِهِ إِسْمَاعِيلَ ، لَمَا افْتَخَرَ النَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) بِالانْتِسَابِ إِلَيْهِمَا . لِأَجْلِ أَنَّهُمَا الذَّبِيحَانِ فِي قَوْلِهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ) : « أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ » . وَالْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا دَفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الذَّبْحَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ هِيَ الْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا دَفَعَ الذَّبْحَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ، وَهِيَ كَوْنُ النَّبِيِّ وَالْأَئِمَّةِ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) فِي صُلْبَيْهِمَا .
فَبِبَرَكَةِ النَّبِيِّ وَالْأَئِمَّةِ (صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ) دَفَعَ اللَّهُ الذَّبْحَ عَنْهُمَا فَلَمْ تَجْرِ السُّنَّةُ فِي النَّاسِ بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ ، وَلَوْ لَا ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَى النَّاسِ كُلَّ أَضْحًى التَّقَرُّبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَتْلِ أَوْلَادِهِمْ ، وَكُلُّ مَا يَتَقَرَّبُ النَّاسُ بِهِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أُضْحِيَّةٍ فَهُوَ فِدَاءٌ لِإِسْمَاعِيلَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ .
المصدر : (البحار : ج15، ص128، عن عيون أخبار الرضا (ع).)