بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً}(الأحزاب: 45-46). ويقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}(سبأ: 28).
هو رسول الله محمد بن عبد الله(ص)، الذي أرسله الله تعالى ليكون شاهداً على الأمَّة، يعيش معها ويبلّغها رسالات ربّه، ويربّيها ويزكّيها ويعلّمها الكتاب والحكمة، ويواجه الذين يقفون ضدَّ الرسالة، ويؤكّد مبدأ التوحيد في مقابل الشّرك، ليثير في ذلك المجتمع الجاهلي الغارق في تخلّف الوثنية، والسائر في أوضاع الجهل، معركة التّمييز بين الحقيقة والخرافة، وبين التخلّف والتطوّر، وليفتح عقول الناس ليميّزوا الصواب من الخطأ، والخير من الشر، وليفكّروا في كل حركة يتحركون بها، تفكيراً عقلانياً يرتفع بهم إلى الإيمان بالله الواحد، ويبتعد بهم عن عبادة الأصنام التي يصنعونها من مجرَّد أحجار جامدة لا تحسّ ولا تختزن في داخلها أيّ حياة.ولقد أرسل الله رسوله الله شاهداً ومبشّراً؛ يبشّر الذين يؤمنون بالله وبرسالاته، بأنَّ الله سوف يجزيهم جزاء المتَّقين بأن يدخلهم الجنَّة، ونذيراً للَّذين يكفرون بالله وينحرفون عن خطّه المستقيم، بأنّ النَّار مثواهم وبئس القرار.
وقد كانت مهمَّته(ص) أن يدعو النّاس إلى الله الّذي حدَّد له منهاج الدعوة بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ}(النّحل: 125)، وأراد له أن يكون السّراج المنير الذي ينير للنَّاس عقولهم، ويضيء لهم تفكيرهم، ويُدخل الخير إلى قلوبهم وحياتهم العامّة، لأنَّ دور النبيّ(ص) هو أن يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولذلك كان(ص) نوراً في عقله، فلم يكن فيه أيّة ظلمة، بل كان المعصوم في العقل الّذي لا يخطئ في التفكير، وكان نوراً في قلبه، فلم يكن قلبه ينبض إلّا بما ينير للناس إحساسهم الشّعوريّ والعاطفيّ، وكان نوراً في حياته، فلم تصدر عنه أيّة معصية".
الرّسول الّذي هو رحمة مهداة للعالمين جميعاً، والّذي كان البشارة التي تحدّث عنها الأنبياء قبله:
"كان النبيّ(ص) معصوماً بكلّه؛ بعقله وقلبه وحياته كلّها، ولم تكن دعوته مقتصرةً على المنطقة التي عاش فيها، وإن مثَّلت تلك المنطقة قاعدة الدعوة ومنطلقها، بل كانت دعوةً للنَّاس كافةً: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}(سبأ: 28)، وفي آية أخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء: 107). وأراد الله له أن يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}(الأعراف: 158)، فقد كان الرَّسول العالميّ الذي لا تقتصر رسالته على مجتمع دون مجتمع، وكانت رسالته خاتمة الرِّسالات، لذلك فهي لا تختصّ بمكانٍ دون مكان، ولا بزمانٍ دون زمان، بل هي دعوة للحياة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(الأنفال: 24).
وامتدَّت رسالة النبيّ(ص) في أرجاء العالم كلّه، كما كانت رحمةً للعالمين كلّهم. وكان النبي(ص) يمثّل بشارة الأنبياء قبله، وهذا ما حدّثنا القرآن عنه في حديث عيسى بن مريم(ع) لبني إسرائيل: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}(الصَّف:6).
وقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن الخلق العظيم للنبيّ، حيث كان(ص) يمثّل القمَّة في أخلاقه، لأنه كان ليّن القلب، ويحبّ النّاس كلّهم، سواء كانوا من أعدائه أو من أصدقائه، وكان يتألم لأعدائه ألماً عميقاً، لأنّهم لم ينفتحوا على الرسالة، ولأنّهم سوف يخسرون الدنيا والآخرة، وكان قلبه ينبض بالرحمة والخير والمحبة، وكان طيب اللّسان، ينفتح لسانه على كلّ ما ينصح الناس ويرتفع بمستواهم ويؤلّف بينهم، وهكذا ألّف(ص) بين الفئات المتخاصمة، كما بين "الأوس" و"الخزرج"، بعدما كانت الحروب بينهم تمتدّ إلى عشرات السنين.
وكان (ص) يتابع المجتمع كلّه، من أجل أن يضع له النظام الذي يجمع كلمته وينظّم حياته، وفي هذا يقول تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ ـ عظّموه ـ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف: 175).
وقد أراد الله تعالى لنا أن نقتدي برسول الله(ص)، وأن نتخلَّق بأخلاقه، فيكون النبيّ(ص) أسوةً لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}(الأحزاب: 21)، فإذا كان رسول الله طيّب القلب واللّسان، فعلينا أن تكون قلوبنا وألسنتنا طيبةً، وإذا كان(ص) يحبّ النّاس ويحنو عليهم، فعلينا أن نحبّ النّاس ونحنو عليهم.
وعندما نواجه شهادة أخ رسول الله ووصيّه وتلميذه وصهره في حقّه، وهو أعرف النّاس به، فإنّنا نقرأ في قول عليّ(ع) عنه: "بعثه والنَّاس ضلالٌ في حيرة، وحاطبون في فتنة ـ أيّ أنّهم كانوا يعمدون إلى إثارة نار الفتن ـ قد استهوتهم الأهواء، واستنـزلتهم الكبرياء ـ عاشوا التكبّر ـ واستخفّتهم الجاهلية الجهلاء ـ كما استخفّ فرعون قومه فأطاعوه ـ حيارى في زلزال من الأمر، وبلاء من الجهل، فبالغ (صلى الله عليه وآله) في النصيحة، ومضى على الطريقة ـ الطريقة التي علّمه الله أن يأخذ بها ـ ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة".
ويقول(ع) عنه: "فهو إمام من اتَّقى، وبصيرة من اهتدى. سراج لمع ضوؤه، وشهابٌ سطع نوره، وزند ـ وهو الزناد الذي يُقدح فيطلع منه الضوء ـ برق لمعه. سيرته القصد ـ الاستقامة ـ وسنّته الرشد، وكلامه الفصل ـ فلا تغيّر ولا تبدّل في كلامه ـ وحكمه العدل. أرسله على حين فترة من الرسل ـ لأن هناك فاصلاً بينه وبين عيسى(ع) ـ وهفوة عن العمل، وغباوة من الأمم".
ويقول عليّ(ع): "دفن الله به الضَّغائن ـ فقد استطاع الرسول(ص) من خلال المحبّة الّتي تمثّلت به وبرسالته، أن يدفن العداوات والبغضاء والحقد بين النّاس ـ وأطفأ به النوائر ـ وهي العداوة الواثبة بصاحبها على أخيه ليضرّه إن لم يقتله ـ ألّف به إخواناً، وفرّق به أقراناً، أعزّ به الذلّة، وأذلّ به العزَّة. كلامه بيان، وصمته لسان"، لأنَّ صمته كان يوحي إلى النّاس بكلِّ ما يفكّر فيه.
ويكمل عليّ(ع) في وصفه: "أرسله بالضياء، وقدّمه في الاصطفاء، فرتق به المفاتق ـ وهي ما كان بين الناس من فساد، وفي مصالحهم من اختلال ـ وساور به المُغالب ـ أي أنَّ الله تعالى واثب بالنبي(ص) كلَّ من يغالب الحقّ ـ وذلّل به الصعوبة، وسهّل به الحزونة، حتى سرح الضلال عن يمين وشمال".
وقد عاش النبيّ(ص) مع المسلمين الذين أسلموا على يديه، وأخلصوا لله وللرّسالة، وجاهدوا في سبيل الله، وقد تحدَّث الله تعالى عن صحابة النبي(ص)، الذين كان يتقدَّمهم ربيب رسول الله وصهره وأوَّل الناس إسلاماً، فقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ ـ الّذين هاجروا معه وقاتلوا معه في بدر وأُحد وخيبر وحنُين وفي كثير من مواقع الجهاد ـ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّار ـ إذا دخلوا الحرب، فإنهم ينطلقون للأخذ بأسباب القوّة ضدّ الذين يسيئون إلى الإسلام والمسلمين ـ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ـ يتواصون فيما بينهم بالمرحمة ـ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}(الفتح: 29).
أمّا في وصفه اليهود، فيقول تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ ـ لا يستطيعون أن يقاتلوا وجهاً لوجه ـ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ـ الخلافات بينهم شديدة ـ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً ـ تظنُّ أنّهم يمثِّلون أمّةً واحدةً وقوةًّ واحدةً ـوَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}(الحشر: 14). أمَّا الآن، فقد أصبح اليهود أشدّاء علينا، رحماء بينهم، وأصبح بأسنا بيننا شديداً، فالمسلم يقاتل المسلم، وعندما انقلبت الآية انقلب الواقع".
"وفي مولد النبيّ(ص)، سواء كان تاريخه الثاني عشر من ربيع الأوّل، أو السابع عشر منه، علينا أن نعرف أنّ ولادته توحي إلينا بولادة الحقّ والعدل والخير، وعلينا أن نقتدي به ليعيش في كلِّ عقولنا وحركتنا وواقعنا، وعلينا أن نتوحَّد برسول الله(ص)، لأنّنا في تشهّدنا عندما نشهد بأن لا إله إلا الله، وأنّ محمّداً رسول الله، فإنّ هاتين الشّهادتين تؤكّدان أصالة الوحدة بين المسلمين جميعاً. ولذلك، علينا أن نعمل لتأكيد هذه الوحدة، ليكون الإسلام قوّةً في العالم.
والسّلام على سيدنا رسول الله، يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربّه، ويوم يبعث حيّاً".
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركااته
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً* وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً}(الأحزاب: 45-46). ويقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}(سبأ: 28).
هو رسول الله محمد بن عبد الله(ص)، الذي أرسله الله تعالى ليكون شاهداً على الأمَّة، يعيش معها ويبلّغها رسالات ربّه، ويربّيها ويزكّيها ويعلّمها الكتاب والحكمة، ويواجه الذين يقفون ضدَّ الرسالة، ويؤكّد مبدأ التوحيد في مقابل الشّرك، ليثير في ذلك المجتمع الجاهلي الغارق في تخلّف الوثنية، والسائر في أوضاع الجهل، معركة التّمييز بين الحقيقة والخرافة، وبين التخلّف والتطوّر، وليفتح عقول الناس ليميّزوا الصواب من الخطأ، والخير من الشر، وليفكّروا في كل حركة يتحركون بها، تفكيراً عقلانياً يرتفع بهم إلى الإيمان بالله الواحد، ويبتعد بهم عن عبادة الأصنام التي يصنعونها من مجرَّد أحجار جامدة لا تحسّ ولا تختزن في داخلها أيّ حياة.ولقد أرسل الله رسوله الله شاهداً ومبشّراً؛ يبشّر الذين يؤمنون بالله وبرسالاته، بأنَّ الله سوف يجزيهم جزاء المتَّقين بأن يدخلهم الجنَّة، ونذيراً للَّذين يكفرون بالله وينحرفون عن خطّه المستقيم، بأنّ النَّار مثواهم وبئس القرار.
وقد كانت مهمَّته(ص) أن يدعو النّاس إلى الله الّذي حدَّد له منهاج الدعوة بقوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ}(النّحل: 125)، وأراد له أن يكون السّراج المنير الذي ينير للنَّاس عقولهم، ويضيء لهم تفكيرهم، ويُدخل الخير إلى قلوبهم وحياتهم العامّة، لأنَّ دور النبيّ(ص) هو أن يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، ولذلك كان(ص) نوراً في عقله، فلم يكن فيه أيّة ظلمة، بل كان المعصوم في العقل الّذي لا يخطئ في التفكير، وكان نوراً في قلبه، فلم يكن قلبه ينبض إلّا بما ينير للناس إحساسهم الشّعوريّ والعاطفيّ، وكان نوراً في حياته، فلم تصدر عنه أيّة معصية".
الرّسول الّذي هو رحمة مهداة للعالمين جميعاً، والّذي كان البشارة التي تحدّث عنها الأنبياء قبله:
"كان النبيّ(ص) معصوماً بكلّه؛ بعقله وقلبه وحياته كلّها، ولم تكن دعوته مقتصرةً على المنطقة التي عاش فيها، وإن مثَّلت تلك المنطقة قاعدة الدعوة ومنطلقها، بل كانت دعوةً للنَّاس كافةً: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ}(سبأ: 28)، وفي آية أخرى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(الأنبياء: 107). وأراد الله له أن يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا}(الأعراف: 158)، فقد كان الرَّسول العالميّ الذي لا تقتصر رسالته على مجتمع دون مجتمع، وكانت رسالته خاتمة الرِّسالات، لذلك فهي لا تختصّ بمكانٍ دون مكان، ولا بزمانٍ دون زمان، بل هي دعوة للحياة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}(الأنفال: 24).
وامتدَّت رسالة النبيّ(ص) في أرجاء العالم كلّه، كما كانت رحمةً للعالمين كلّهم. وكان النبي(ص) يمثّل بشارة الأنبياء قبله، وهذا ما حدّثنا القرآن عنه في حديث عيسى بن مريم(ع) لبني إسرائيل: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}(الصَّف:6).
وقد حدّثنا الله سبحانه وتعالى عن الخلق العظيم للنبيّ، حيث كان(ص) يمثّل القمَّة في أخلاقه، لأنه كان ليّن القلب، ويحبّ النّاس كلّهم، سواء كانوا من أعدائه أو من أصدقائه، وكان يتألم لأعدائه ألماً عميقاً، لأنّهم لم ينفتحوا على الرسالة، ولأنّهم سوف يخسرون الدنيا والآخرة، وكان قلبه ينبض بالرحمة والخير والمحبة، وكان طيب اللّسان، ينفتح لسانه على كلّ ما ينصح الناس ويرتفع بمستواهم ويؤلّف بينهم، وهكذا ألّف(ص) بين الفئات المتخاصمة، كما بين "الأوس" و"الخزرج"، بعدما كانت الحروب بينهم تمتدّ إلى عشرات السنين.
وكان (ص) يتابع المجتمع كلّه، من أجل أن يضع له النظام الذي يجمع كلمته وينظّم حياته، وفي هذا يقول تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ ـ عظّموه ـ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(الأعراف: 175).
وقد أراد الله تعالى لنا أن نقتدي برسول الله(ص)، وأن نتخلَّق بأخلاقه، فيكون النبيّ(ص) أسوةً لنا: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَاليَوْمَ الآَخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا}(الأحزاب: 21)، فإذا كان رسول الله طيّب القلب واللّسان، فعلينا أن تكون قلوبنا وألسنتنا طيبةً، وإذا كان(ص) يحبّ النّاس ويحنو عليهم، فعلينا أن نحبّ النّاس ونحنو عليهم.
وعندما نواجه شهادة أخ رسول الله ووصيّه وتلميذه وصهره في حقّه، وهو أعرف النّاس به، فإنّنا نقرأ في قول عليّ(ع) عنه: "بعثه والنَّاس ضلالٌ في حيرة، وحاطبون في فتنة ـ أيّ أنّهم كانوا يعمدون إلى إثارة نار الفتن ـ قد استهوتهم الأهواء، واستنـزلتهم الكبرياء ـ عاشوا التكبّر ـ واستخفّتهم الجاهلية الجهلاء ـ كما استخفّ فرعون قومه فأطاعوه ـ حيارى في زلزال من الأمر، وبلاء من الجهل، فبالغ (صلى الله عليه وآله) في النصيحة، ومضى على الطريقة ـ الطريقة التي علّمه الله أن يأخذ بها ـ ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة".
ويقول(ع) عنه: "فهو إمام من اتَّقى، وبصيرة من اهتدى. سراج لمع ضوؤه، وشهابٌ سطع نوره، وزند ـ وهو الزناد الذي يُقدح فيطلع منه الضوء ـ برق لمعه. سيرته القصد ـ الاستقامة ـ وسنّته الرشد، وكلامه الفصل ـ فلا تغيّر ولا تبدّل في كلامه ـ وحكمه العدل. أرسله على حين فترة من الرسل ـ لأن هناك فاصلاً بينه وبين عيسى(ع) ـ وهفوة عن العمل، وغباوة من الأمم".
ويقول عليّ(ع): "دفن الله به الضَّغائن ـ فقد استطاع الرسول(ص) من خلال المحبّة الّتي تمثّلت به وبرسالته، أن يدفن العداوات والبغضاء والحقد بين النّاس ـ وأطفأ به النوائر ـ وهي العداوة الواثبة بصاحبها على أخيه ليضرّه إن لم يقتله ـ ألّف به إخواناً، وفرّق به أقراناً، أعزّ به الذلّة، وأذلّ به العزَّة. كلامه بيان، وصمته لسان"، لأنَّ صمته كان يوحي إلى النّاس بكلِّ ما يفكّر فيه.
ويكمل عليّ(ع) في وصفه: "أرسله بالضياء، وقدّمه في الاصطفاء، فرتق به المفاتق ـ وهي ما كان بين الناس من فساد، وفي مصالحهم من اختلال ـ وساور به المُغالب ـ أي أنَّ الله تعالى واثب بالنبي(ص) كلَّ من يغالب الحقّ ـ وذلّل به الصعوبة، وسهّل به الحزونة، حتى سرح الضلال عن يمين وشمال".
وقد عاش النبيّ(ص) مع المسلمين الذين أسلموا على يديه، وأخلصوا لله وللرّسالة، وجاهدوا في سبيل الله، وقد تحدَّث الله تعالى عن صحابة النبي(ص)، الذين كان يتقدَّمهم ربيب رسول الله وصهره وأوَّل الناس إسلاماً، فقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ ـ الّذين هاجروا معه وقاتلوا معه في بدر وأُحد وخيبر وحنُين وفي كثير من مواقع الجهاد ـ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّار ـ إذا دخلوا الحرب، فإنهم ينطلقون للأخذ بأسباب القوّة ضدّ الذين يسيئون إلى الإسلام والمسلمين ـ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ـ يتواصون فيما بينهم بالمرحمة ـ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ الله وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}(الفتح: 29).
أمّا في وصفه اليهود، فيقول تعالى: {لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ ـ لا يستطيعون أن يقاتلوا وجهاً لوجه ـ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ـ الخلافات بينهم شديدة ـ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً ـ تظنُّ أنّهم يمثِّلون أمّةً واحدةً وقوةًّ واحدةً ـوَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ}(الحشر: 14). أمَّا الآن، فقد أصبح اليهود أشدّاء علينا، رحماء بينهم، وأصبح بأسنا بيننا شديداً، فالمسلم يقاتل المسلم، وعندما انقلبت الآية انقلب الواقع".
"وفي مولد النبيّ(ص)، سواء كان تاريخه الثاني عشر من ربيع الأوّل، أو السابع عشر منه، علينا أن نعرف أنّ ولادته توحي إلينا بولادة الحقّ والعدل والخير، وعلينا أن نقتدي به ليعيش في كلِّ عقولنا وحركتنا وواقعنا، وعلينا أن نتوحَّد برسول الله(ص)، لأنّنا في تشهّدنا عندما نشهد بأن لا إله إلا الله، وأنّ محمّداً رسول الله، فإنّ هاتين الشّهادتين تؤكّدان أصالة الوحدة بين المسلمين جميعاً. ولذلك، علينا أن نعمل لتأكيد هذه الوحدة، ليكون الإسلام قوّةً في العالم.
والسّلام على سيدنا رسول الله، يوم وُلد، ويوم انتقل إلى رحاب ربّه، ويوم يبعث حيّاً".