السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ
✨💠✨💠✨💠✨💠✨
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
{يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}. سورة الصف / 2-3
الموضوع الذي تقرر أن أتحدث بشأنه هو: (كيف يهيئ المبلّغ الرسالي نفسه ليكون كلامه مؤثراً في المجتمع؟)، وكيف يعظ نفسه أولاً ليعظ الآخرين؟ ولذا يصح أن نعنون لحديثنا باتعاظ الواعظ، إذ لابد للواعظ أن يكون متعظاً في نفسه كما يمكن أن نقول (فلنبدأ من أنفسنا).
لا شك أن المهمة الرسالية الملقاة على عواتق المبلغين، وعلى عواتق المؤمنين المثقفين الواعين، مهمة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر أحكام الدين ودعوة الناس إلى التمسك بالفضائل.
وبصورة موجزة، (الدعوة إلى الله تبارك وتعالى)، هذا الهدف المقدس، هذا الواجب الرسالي، ينبغي أن يصدر من أناس تتوافر فيهم شروط عديدة، أبسط هذه الشروط، الإحاطة العلمية بالموضوع الذي يريد الإنسان أن يتحدث فيه، كما أن قوة الأداء وقوة التعبير أيضاً من المكملات. لكن التأثير في قلوب الناس، ونجاح المبلغ في دعوته إلى الله تبارك وتعالى، نجاحه في أداء هذه المهمة الرسالية متوقف على أن يكون متعظاً في نفسه.
وإذا أردنا أن نكون واقعيين في معالجتنا لمشكلات المجتمع، أقترح - وهذه موعظة لنفسي - (أن نبدأ من أنفسنا) وإلا فما قيمة أن يمضي الإنسان ويقضي ساعات طويلة في المحاضرة والكتابة والحديث والحث والتشجيع، لكن عمله لا يُصدِّق ولا يوافق كلامه.
إذا رأيت مبلغاً يأمر الناس بالفضائل، ولكنه لا يلتزم بها، ولا يعمل بها، تستنتج رأساً أنه كاذب في دعواه، وأنه غير مخلص فيما يدّعي، وإذا رأيت أحدا يمنع الناس ويزجرهم عن الغيبة، وعن الفحشاء، وعن المنكر، ولكنّه غارق في الغيبة والفحشاء والمنكر. فبطبيعة الحال تبقى في حيرة من أمرك، إما أن يكون هذا الشخص الذي يدعو إلى الانزجار عن هذه المحرمات لا يعي ما يقول أو أنه لا يحترم نفسه، فالذي يحترم نفسه لا يدّعي شيئاً زوراً، ولا يدافع عن شيء غير مؤمن به. لهذا جاءت الآية الكريمة لتبيّن أن المؤمن المتّصف بصفة الإيمان لا يفرّق ولا يفصل بين قوله وعمله. {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} الصف / 302. وهناك آيات أخرى في هذا المجال، لا نريد أن نستقصيها جميعاً ولكن نشير إشارة عابرة ما دامت تؤدي وتدل على نفس المضمون، قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبرِّ وتنسون أنفسكم} البقرة / 44.
إذن هذه حقيقة ما نريد أن ندعو إليه، وهي أن نبدأ من أنفسنا، فإذا كان هذا الشيء الذي تدعو الناس إليه مصداقاً من مصاديق البر فلماذا لا تطبقه على نفسك؟ لماذا لا تلتزم به؟ لماذا تدعو إلى شيء أنت غير متلبس به؟ {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} البقرة / 44. وفي قصة شعيب (ع): {قال يا قومِ أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} هود / 88. هذا النمط من السلوك نجده عند كل الأنبياء، فلا يمكن أن يدعو نبي إلى شيء وينهي ثم يخالف دعوته ونهيه، لأن مخالفة الفعل القول أمر معيب ولا يليق بساحة الأنبياء (ع). وفي تقسيمه الشرائح البشرية في سلوكها يقسم القرآن الكريم هؤلاء إلى مجموعتين:
المجموعة (أ): {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلاً} الأحزاب / 23.
المجموعة (ب): وهي مغايرة للنموذج المتقدم، كما جاء في الآية الكريمة: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدّقن ولنكونّن من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون. فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} التوبة / 75. فهذا النموذج يعاهد الله ولا يلتزم بما عاهد الله عليه فالنتيجة أن الله عزّ وجلّ وصفهم بالكاذبين عكس النماذج المتقدمة التي وصفت بالصدق والصلاح.
هذه التعاليم الإلهية ونظائرها تلزمنا بأن نطبّق ما نقول ونتّعظ بما نعظ الناس به، وقد صاغ أبو الأسود الدؤلي هذا المضمون في أبيات تناسب ما نحن فيه:
ابدأ بنفسك فانهها عن غـيها فإذا انتهـت عنه فأنت حكيم
فهناك يُسمع ما تقول ويقتدى بالـرأي منـك وينفع التعليم
لا تنه عن خلـق وتأتي مثـله عارٌ عليك –إذا فعلت- عظيم
وقد خطّ الرسول (ص) بسلوكه قدوة ممتازة في هذا المجال، نذكر منها انموذجا أو انموذجين، والرواية في صحيح مسلم يقول:
(حين سأل رجل رسول الله (ص) عن أمر فقال: إني أفعله. فقال له: إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) غضب رسول الله (ص) وقال: (والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعملكم بما أتقي). يعني أن رسول الله (ص)، إذا كان قد حصل على وعد إلهي بالنصر والتسديد وغفران الذنب، فهذا لا يعني أنه قد أعفي من مسؤولياته.
وهناك قصة مشهورة لم يسعني التحقق من وثاقتها ولكنها مشهورة وهي: أنه لما نهى الرسول (ص) عن الربا قال: (أول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب). فبدأ بأقرب الناس إليه، حتى لا يقال بأنه يحابي قرابته. وهذا التصرف من رسول الله (ص) كافٍ في أن يدعونا للامتثال والاستنان بسنته.
ونجد هذا المعنى في كلام للإمام علي (ع) يقول فيه: (قصم ظهري رجلان، عالم متهتّك، وجاهل متنسّك).
فمن هو العالم المتهتك؟ العالم المتهتك هو الذي يفيض أدباً وعلماً، وهو أستاذ في المعاني والبيان ومحيط بالأصول والفقه والقواعد الرجالية ودراية الحديث ولكن سلوكه لا ينبئ عن التزامه بالقيم الإسلامية. هذا هو العالم المتهتك الذي يقول الإمام عليه السلام عنه أنه واحد من اثنين قصما ظهره.
هذه الآيات، وهذه السيرة من رسول الله والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين كلها تؤيد وتثبت أن الإنسان إذا أراد أن يُصلح المجتمع يجب أن يبدأ بإصلاح نفسه. الواقع أنه لا يوجد طريق آخر للتأثير في قلوب الناس وفي إصلاح أمورهم غير أن يصلح الإنسان بينه وبين الله تبارك وتعالى، ولذا جاء في الحديث عن الرسول (ص): (من أفسد جوّانيّه أفسد الله برّانيّه).
فأنت إذا لم تستطع إصلاح قلبك ونفسك لا تستطيع التأثير على غيرك. يتأكد هذا المعنى حين نضيف إلى ما تقدم الدليل العقلي في وجوب عصمة النبي (ص) والأئمة (ع)، الذي مفاده: (لو ارتكب النبي معصية أمام الناس لسقط مكانه ولتنفر الناس منه).
إذا كان هذا المحذور العقلي يدعونا إلى القول بعصمة الأنبياء، حيث نقول: يسقط احترامهم وتنفر القلوب منهم إذا كانت المعاصي تصدر منهم فكيف بالإنسان الذي هو أقل منزلة بكثير من النبي؟ كيف بالعالم والخطيب والمبلّغ؟ ولهذا يقول الشهيد الثاني (رض) في (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد) ص78: مثل العالم والمتعلم في انتقاشه بأخلاقه وأفعاله، مثل الفص والشمع فإنه لا ينتقش في الشمع إلا ما هو مكتوب منقوش في الفص). لأنهم كانوا في السابق يستخدمون الشمع في الأختام والفص الذي عليه الختم، وفي هذا الزمان نستخدم الأختام المطاطية والمحبرة التي تكون عليها، من هذا الختم وهذه المحبرة لا ينعكس في الورقة إلا ما كان منطبعاً في الخاتم.
فأنت الملقي للكلام إذا كنت غير متأثر به كيف تريد من الآخرين أن يتأثروا به. وهو تعبير جميل جداً من الشيخ الشهيد الثاني.
أخوتي الأعزاء، لنتأمل قليلاً في واجبنا الاجتماعي وفي اهتمامنا بإصلاح أنفسنا، وأنا أقلكم شأناً في هذا المجال، ولكن لا بأس أن يذكّر بعضنا البعض الآخر، فإن الذكرى تنفع المؤمنين. ليذكر بعضنا بعضاً في هذه القضايا حتى نتأثر بها وحتى يكون كلامنا مؤثراً، ولا نكون سخرية خصوصاً في هذه الأيام وفي هذا العصر، فهناك الكثير من شبابنا، والناس من حولنا متهيئون للانتقاد والانتقاص، وإذا صدرت منا مواقف غير ملتزمة فالآثار ستكون سلبية، وقدرة التأثير في الناس ستكون منعدمة ثم نكون مدعاة للسخرية، فإذا لم نقدِر على العفو وعلى الإغضاء عن السيئة، ولسنا من مصاديق قوله تعالى: {ويدرءون بالحسنة السيئة} فنحن فاشلون في عملية التبليغ والدعوة إلى الله.
إذا كنا نغضب وننتقم ونثأر لكرامتنا الشخصية فلا بد من أن نعيد النظر في حساباتنا، إذ المفروض أن نتأثر لكرامة الإسلام، والكرامة الشخصية ليست شيئاً مهماً قبال كرامة الإسلام.
بعد أن عرفنا أهمية أن نبدأ بأنفسنا، ننتقل إلى مطلب آخر وهو كيف نبدأ بأنفسنا؟
هذه النفس التي تحتاج إلى جهاد، وأي جهاد أعظم من وصف رسول الله (ص) حينما يرجع من إحدى الغزوات منتصراً والأصحاب كلهم مرتاحون يقول (ص): (الآن رجعنا من الجهاد الأصغر وعليكم بالجهاد الأكبر). وهذا هو جهاد النفس، لأن النفس تشتهي وهي أمّارة بالسوء.
فالمرحلة السفلى للنفس هي كونها أمّارة بالسوء، ولكن إذا اصطرعنا معها وبذلنا جهدنا في تقويمها تصبح لوّامة. ولكن إذا رزق الإنسان هداية وكان عزمه على إصلاح نفسه قد يصل إلى مرحلة النفس المطمئنة حيث يخاطبها الله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية} ولكي ندعّم المطالب السابقة بالأمثلة نجد في كتاب (محاسبة النفس) للشيخ الكفعمي مثالين جميلين في التحذير من المعاصي، يقول: يا نفسُ لو أخبرك طبيب يهودي أو حكيم نصراني بأن طعاماً لذيذاً ترجحينه مضر بصحتك ومزاجك وعليك الامتناع عنه فأنت تعملين كل جهد وتجاهدين نفسك على تركه ويواصل الشيخ الكفعمي (رض) خطابه للنفس قائلاً: فهل صار إخبار القرآن الكريم وإخبار الأنبياء والصلحاء والأئمة بضرر المعاصي أقل عندك من إخبار الطبيب اليهودي أو الحكيم النصراني وأن أهمية الطعام المضر عندك صارت أشد عندك من المعصية بحيث لا تحذرين المعصية وتحذرين الطعام.
أما المثال الآخر فهو: ولو أن طفلاً أخبرك أن في جيبك عقرب، وأن تحت ردائك حية، فأنت لا تتوقفين ولو للحظة في رمي ذلك الثوب خشية من أثر تلك الحية أو ذلك العقرب، فهل صار الأنبياء والأئمة أقل قدراً عندك من ذلك الطفل وإخباره هذه الأمثلة وغيرها تساعد على بيان فداحة المعصية، وجسامة الذنب، ثم نجد أهمية ذلك أي الإشارة إلى فداحة المعصية، في أدعية الأئمة (ع) كدعاء أبي حمزة الثمالي ودعاء كميل، وهذه إن دلت على شيء فهي ترشد إلى أهمية مجاهدة النفس وأهمية محاسبتها والانتباه إلى دور المعصية في تخريب وهدم الشخصية الإسلامية وكما جاء في الحديث الشريف: (أكيس الكيّسين من حاسب نفسه)، و (ليس منا من لم يحاسب نفسه في اليوم والليلة) وأحاديث أخرى كثيرة تصب في هذا المجال.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا إلى مراضيه وأن يجعلنا ممّن إتّعظ قبل أن يعظ، وأن يوفقنا لأن نبدأ بإصلاح أنفسنا، والاستعاذة من شرورها، وان نهذب ألسنتنا وسلوكنا وأعمالنا لكي نكون دعاة صادقين بأعمالنا وأفعالنا لا بألسنتنا.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وآلِ مُحَمَّدٍ
✨💠✨💠✨💠✨💠✨
قال الله تعالى في محكم كتابه المجيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
{يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون. كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}. سورة الصف / 2-3
الموضوع الذي تقرر أن أتحدث بشأنه هو: (كيف يهيئ المبلّغ الرسالي نفسه ليكون كلامه مؤثراً في المجتمع؟)، وكيف يعظ نفسه أولاً ليعظ الآخرين؟ ولذا يصح أن نعنون لحديثنا باتعاظ الواعظ، إذ لابد للواعظ أن يكون متعظاً في نفسه كما يمكن أن نقول (فلنبدأ من أنفسنا).
لا شك أن المهمة الرسالية الملقاة على عواتق المبلغين، وعلى عواتق المؤمنين المثقفين الواعين، مهمة الدعوة إلى الله تبارك وتعالى بالحكمة والموعظة الحسنة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونشر أحكام الدين ودعوة الناس إلى التمسك بالفضائل.
وبصورة موجزة، (الدعوة إلى الله تبارك وتعالى)، هذا الهدف المقدس، هذا الواجب الرسالي، ينبغي أن يصدر من أناس تتوافر فيهم شروط عديدة، أبسط هذه الشروط، الإحاطة العلمية بالموضوع الذي يريد الإنسان أن يتحدث فيه، كما أن قوة الأداء وقوة التعبير أيضاً من المكملات. لكن التأثير في قلوب الناس، ونجاح المبلغ في دعوته إلى الله تبارك وتعالى، نجاحه في أداء هذه المهمة الرسالية متوقف على أن يكون متعظاً في نفسه.
وإذا أردنا أن نكون واقعيين في معالجتنا لمشكلات المجتمع، أقترح - وهذه موعظة لنفسي - (أن نبدأ من أنفسنا) وإلا فما قيمة أن يمضي الإنسان ويقضي ساعات طويلة في المحاضرة والكتابة والحديث والحث والتشجيع، لكن عمله لا يُصدِّق ولا يوافق كلامه.
إذا رأيت مبلغاً يأمر الناس بالفضائل، ولكنه لا يلتزم بها، ولا يعمل بها، تستنتج رأساً أنه كاذب في دعواه، وأنه غير مخلص فيما يدّعي، وإذا رأيت أحدا يمنع الناس ويزجرهم عن الغيبة، وعن الفحشاء، وعن المنكر، ولكنّه غارق في الغيبة والفحشاء والمنكر. فبطبيعة الحال تبقى في حيرة من أمرك، إما أن يكون هذا الشخص الذي يدعو إلى الانزجار عن هذه المحرمات لا يعي ما يقول أو أنه لا يحترم نفسه، فالذي يحترم نفسه لا يدّعي شيئاً زوراً، ولا يدافع عن شيء غير مؤمن به. لهذا جاءت الآية الكريمة لتبيّن أن المؤمن المتّصف بصفة الإيمان لا يفرّق ولا يفصل بين قوله وعمله. {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} الصف / 302. وهناك آيات أخرى في هذا المجال، لا نريد أن نستقصيها جميعاً ولكن نشير إشارة عابرة ما دامت تؤدي وتدل على نفس المضمون، قوله تعالى: {أتأمرون الناس بالبرِّ وتنسون أنفسكم} البقرة / 44.
إذن هذه حقيقة ما نريد أن ندعو إليه، وهي أن نبدأ من أنفسنا، فإذا كان هذا الشيء الذي تدعو الناس إليه مصداقاً من مصاديق البر فلماذا لا تطبقه على نفسك؟ لماذا لا تلتزم به؟ لماذا تدعو إلى شيء أنت غير متلبس به؟ {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} البقرة / 44. وفي قصة شعيب (ع): {قال يا قومِ أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} هود / 88. هذا النمط من السلوك نجده عند كل الأنبياء، فلا يمكن أن يدعو نبي إلى شيء وينهي ثم يخالف دعوته ونهيه، لأن مخالفة الفعل القول أمر معيب ولا يليق بساحة الأنبياء (ع). وفي تقسيمه الشرائح البشرية في سلوكها يقسم القرآن الكريم هؤلاء إلى مجموعتين:
المجموعة (أ): {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلاً} الأحزاب / 23.
المجموعة (ب): وهي مغايرة للنموذج المتقدم، كما جاء في الآية الكريمة: {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدّقن ولنكونّن من الصالحين. فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون. فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} التوبة / 75. فهذا النموذج يعاهد الله ولا يلتزم بما عاهد الله عليه فالنتيجة أن الله عزّ وجلّ وصفهم بالكاذبين عكس النماذج المتقدمة التي وصفت بالصدق والصلاح.
هذه التعاليم الإلهية ونظائرها تلزمنا بأن نطبّق ما نقول ونتّعظ بما نعظ الناس به، وقد صاغ أبو الأسود الدؤلي هذا المضمون في أبيات تناسب ما نحن فيه:
ابدأ بنفسك فانهها عن غـيها فإذا انتهـت عنه فأنت حكيم
فهناك يُسمع ما تقول ويقتدى بالـرأي منـك وينفع التعليم
لا تنه عن خلـق وتأتي مثـله عارٌ عليك –إذا فعلت- عظيم
وقد خطّ الرسول (ص) بسلوكه قدوة ممتازة في هذا المجال، نذكر منها انموذجا أو انموذجين، والرواية في صحيح مسلم يقول:
(حين سأل رجل رسول الله (ص) عن أمر فقال: إني أفعله. فقال له: إنك لست مثلنا قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) غضب رسول الله (ص) وقال: (والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعملكم بما أتقي). يعني أن رسول الله (ص)، إذا كان قد حصل على وعد إلهي بالنصر والتسديد وغفران الذنب، فهذا لا يعني أنه قد أعفي من مسؤولياته.
وهناك قصة مشهورة لم يسعني التحقق من وثاقتها ولكنها مشهورة وهي: أنه لما نهى الرسول (ص) عن الربا قال: (أول رباً أضعه ربا العباس بن عبد المطلب). فبدأ بأقرب الناس إليه، حتى لا يقال بأنه يحابي قرابته. وهذا التصرف من رسول الله (ص) كافٍ في أن يدعونا للامتثال والاستنان بسنته.
ونجد هذا المعنى في كلام للإمام علي (ع) يقول فيه: (قصم ظهري رجلان، عالم متهتّك، وجاهل متنسّك).
فمن هو العالم المتهتك؟ العالم المتهتك هو الذي يفيض أدباً وعلماً، وهو أستاذ في المعاني والبيان ومحيط بالأصول والفقه والقواعد الرجالية ودراية الحديث ولكن سلوكه لا ينبئ عن التزامه بالقيم الإسلامية. هذا هو العالم المتهتك الذي يقول الإمام عليه السلام عنه أنه واحد من اثنين قصما ظهره.
هذه الآيات، وهذه السيرة من رسول الله والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين كلها تؤيد وتثبت أن الإنسان إذا أراد أن يُصلح المجتمع يجب أن يبدأ بإصلاح نفسه. الواقع أنه لا يوجد طريق آخر للتأثير في قلوب الناس وفي إصلاح أمورهم غير أن يصلح الإنسان بينه وبين الله تبارك وتعالى، ولذا جاء في الحديث عن الرسول (ص): (من أفسد جوّانيّه أفسد الله برّانيّه).
فأنت إذا لم تستطع إصلاح قلبك ونفسك لا تستطيع التأثير على غيرك. يتأكد هذا المعنى حين نضيف إلى ما تقدم الدليل العقلي في وجوب عصمة النبي (ص) والأئمة (ع)، الذي مفاده: (لو ارتكب النبي معصية أمام الناس لسقط مكانه ولتنفر الناس منه).
إذا كان هذا المحذور العقلي يدعونا إلى القول بعصمة الأنبياء، حيث نقول: يسقط احترامهم وتنفر القلوب منهم إذا كانت المعاصي تصدر منهم فكيف بالإنسان الذي هو أقل منزلة بكثير من النبي؟ كيف بالعالم والخطيب والمبلّغ؟ ولهذا يقول الشهيد الثاني (رض) في (منية المريد في آداب المفيد والمستفيد) ص78: مثل العالم والمتعلم في انتقاشه بأخلاقه وأفعاله، مثل الفص والشمع فإنه لا ينتقش في الشمع إلا ما هو مكتوب منقوش في الفص). لأنهم كانوا في السابق يستخدمون الشمع في الأختام والفص الذي عليه الختم، وفي هذا الزمان نستخدم الأختام المطاطية والمحبرة التي تكون عليها، من هذا الختم وهذه المحبرة لا ينعكس في الورقة إلا ما كان منطبعاً في الخاتم.
فأنت الملقي للكلام إذا كنت غير متأثر به كيف تريد من الآخرين أن يتأثروا به. وهو تعبير جميل جداً من الشيخ الشهيد الثاني.
أخوتي الأعزاء، لنتأمل قليلاً في واجبنا الاجتماعي وفي اهتمامنا بإصلاح أنفسنا، وأنا أقلكم شأناً في هذا المجال، ولكن لا بأس أن يذكّر بعضنا البعض الآخر، فإن الذكرى تنفع المؤمنين. ليذكر بعضنا بعضاً في هذه القضايا حتى نتأثر بها وحتى يكون كلامنا مؤثراً، ولا نكون سخرية خصوصاً في هذه الأيام وفي هذا العصر، فهناك الكثير من شبابنا، والناس من حولنا متهيئون للانتقاد والانتقاص، وإذا صدرت منا مواقف غير ملتزمة فالآثار ستكون سلبية، وقدرة التأثير في الناس ستكون منعدمة ثم نكون مدعاة للسخرية، فإذا لم نقدِر على العفو وعلى الإغضاء عن السيئة، ولسنا من مصاديق قوله تعالى: {ويدرءون بالحسنة السيئة} فنحن فاشلون في عملية التبليغ والدعوة إلى الله.
إذا كنا نغضب وننتقم ونثأر لكرامتنا الشخصية فلا بد من أن نعيد النظر في حساباتنا، إذ المفروض أن نتأثر لكرامة الإسلام، والكرامة الشخصية ليست شيئاً مهماً قبال كرامة الإسلام.
بعد أن عرفنا أهمية أن نبدأ بأنفسنا، ننتقل إلى مطلب آخر وهو كيف نبدأ بأنفسنا؟
هذه النفس التي تحتاج إلى جهاد، وأي جهاد أعظم من وصف رسول الله (ص) حينما يرجع من إحدى الغزوات منتصراً والأصحاب كلهم مرتاحون يقول (ص): (الآن رجعنا من الجهاد الأصغر وعليكم بالجهاد الأكبر). وهذا هو جهاد النفس، لأن النفس تشتهي وهي أمّارة بالسوء.
فالمرحلة السفلى للنفس هي كونها أمّارة بالسوء، ولكن إذا اصطرعنا معها وبذلنا جهدنا في تقويمها تصبح لوّامة. ولكن إذا رزق الإنسان هداية وكان عزمه على إصلاح نفسه قد يصل إلى مرحلة النفس المطمئنة حيث يخاطبها الله تعالى: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية} ولكي ندعّم المطالب السابقة بالأمثلة نجد في كتاب (محاسبة النفس) للشيخ الكفعمي مثالين جميلين في التحذير من المعاصي، يقول: يا نفسُ لو أخبرك طبيب يهودي أو حكيم نصراني بأن طعاماً لذيذاً ترجحينه مضر بصحتك ومزاجك وعليك الامتناع عنه فأنت تعملين كل جهد وتجاهدين نفسك على تركه ويواصل الشيخ الكفعمي (رض) خطابه للنفس قائلاً: فهل صار إخبار القرآن الكريم وإخبار الأنبياء والصلحاء والأئمة بضرر المعاصي أقل عندك من إخبار الطبيب اليهودي أو الحكيم النصراني وأن أهمية الطعام المضر عندك صارت أشد عندك من المعصية بحيث لا تحذرين المعصية وتحذرين الطعام.
أما المثال الآخر فهو: ولو أن طفلاً أخبرك أن في جيبك عقرب، وأن تحت ردائك حية، فأنت لا تتوقفين ولو للحظة في رمي ذلك الثوب خشية من أثر تلك الحية أو ذلك العقرب، فهل صار الأنبياء والأئمة أقل قدراً عندك من ذلك الطفل وإخباره هذه الأمثلة وغيرها تساعد على بيان فداحة المعصية، وجسامة الذنب، ثم نجد أهمية ذلك أي الإشارة إلى فداحة المعصية، في أدعية الأئمة (ع) كدعاء أبي حمزة الثمالي ودعاء كميل، وهذه إن دلت على شيء فهي ترشد إلى أهمية مجاهدة النفس وأهمية محاسبتها والانتباه إلى دور المعصية في تخريب وهدم الشخصية الإسلامية وكما جاء في الحديث الشريف: (أكيس الكيّسين من حاسب نفسه)، و (ليس منا من لم يحاسب نفسه في اليوم والليلة) وأحاديث أخرى كثيرة تصب في هذا المجال.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا إلى مراضيه وأن يجعلنا ممّن إتّعظ قبل أن يعظ، وأن يوفقنا لأن نبدأ بإصلاح أنفسنا، والاستعاذة من شرورها، وان نهذب ألسنتنا وسلوكنا وأعمالنا لكي نكون دعاة صادقين بأعمالنا وأفعالنا لا بألسنتنا.