نص الشبهة:
هناك من يقول: إن الآيات التي تقول:﴿ الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ﴾ وتقول:﴿ ... يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ... ﴾ هي من الآيات المتشابهة، التي تحتاج إلى التأويل.. وهناك من يقول: إنه لا بد من أخذها على ما هي عليه، والالتزام بظواهرها.. فأي ذلك صحيح؟! وما هو المقصود بالتأويل؟!
الجواب:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله الطاهرين..
وبعد..
1 ـ فيما يرتبط بالجواب على السؤال الأول، نقول: الفَسْرُ هو الإظهار والبيان، وكشف المغطى، وفسّر شُدّدَ للمبالغة.
وعلم التفسير هو علم يعالج الظهورات اللفظية ليتخذ منها وسيلة للكشف عن الخصوصيات والمعاني المقصودة في الآيات القرآنية الشريفة.
ومن الواضح: أن في اللغة العربية استعمالات للألفاظ في المعاني الحقيقية، وفيها مجازات (المجاز اللغوي، والمجاز العقلي، والمجاز بالحذف) وغير ذلك، وهناك كنايات، واستعارات، ودلالة الإقتضاء، ودلالة الإشارة، وأنحاء أخرى مختلفة، وقد تكفل علم المعاني والبديع بذكر طائفة من التعابير التي تشير إلى العديد من الخصوصيات في المعنى.. وهي كثيرة..
وبعدما تقدم نقول:
إن قوله تعالى:﴿ الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ﴾ 1و﴿ ... يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ... ﴾ 2و﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ... ﴾ 3، الآية: 82، الصفحة: 245. و﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّىٰ لَهُ الذِّكْرَىٰ ﴾ 4و﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ... ﴾ 5قد جاء على هذا النمط.. ووفق هذه القواعد..
فإذا قلت: رأيت اليوم يزيد بن معاوية، وواضح أن يزيد لعنه الله قد مات قبل مئات السنين، فإن المقصود هو رؤية من يشبهه في الإجرام والشر. وأما قوله تعالى:﴿ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ﴾ 3وقوله:﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ ... ﴾ 6فقد اعتمد المجاز بالحذف. أي اسأل أهل القرية، واسأل أصحاب العير، وجاء أمر ربك. إذ أن نفس القرية ما هي إلا بيوت لا يصح سؤالها. كما لا يصح سؤال نفس العير، وهكذا بالنسبة لمجيء الرب تعالى..
وليس هذا ولا ذاك من المتشابه في مقابل المحكم، ولا من الباطن في مقابل الظاهر.. بل هو نفسه الظاهر الذي يفهمه الإنسان العربي بمجرد إلقائه إليه..
وقوله تعالى:﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ... ﴾ 5إنما يقصد منه أن يصبح للصلاة تجسُّدٌ وأثر ظاهر في سلوك الإنسان، وحضور في حياته، حتى كأنها جسد متماسك وقائم، وذلك في مقابل الصلاة التي يكون وجودها كعدمها، وليس لها أي حضور في حياة الإنسان..
وفي هذا السياق يأتي قوله تعالى:﴿ ... يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ... ﴾ 2فإنه أيضاً من الكنايات التي يعرفها العرب، عن قدرة الله، وهيمنته، ومالكيته.. فهو من قبيل قولهم: فلان أمسك بمقاليد الحكم، فإن ذلك لا يعني وجود شيء اسمه مقاليد، وقد أمسكه بيده.. وكذا قولهم: فلان يضرب بيد من حديد، فإن ذلك لا يعني أن له يداً حديدية يضرب بها، وكذا لو قلت: فلان رفع كتاباً إلى رئيس الجمهورية.. فإن ذلك لا يعني وجود رفع حقيقي، بل هو كناية عن علو المقام لذلك الرئيس بالنسبة لمن يريد مكاتبته.
وكذا قوله تعالى:﴿ ... أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ﴾ 7فإنه لا يعني: أن صدر النبي (صلى الله عليه وآله) قد شق بالآلة الحادة كما يشق أي جسم آخر، كما ادّعاه بعض أهل الأهواء، بل هو كناية عن حصول الرغبة في الأمر، والاندفاع إليه، بتفهم، ووعي، ورضى..
وقوله تعالى:﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ﴾ 8أيضاً كذلك، إذ أنه كناية عن شدة يوم القيامة وهوله.. فهو من قبيل: قامت الحرب على قدم وساق، فإن الحرب ليس لها ساق ولا قدم، وإنما هو كناية عن شدة هيجانها، واضطرامها.. وهذا هو الظاهر الذي يفهمه الناس من هكذا تعابير، وليس هذا من التأويل في شيء..
فلا معنى لتفسير هذه الآية بأن الله تعالى يأتيهم يوم القيامة، فلا يعرفونه حتى يكشف لهم عن ساقه، كما ادعت بعض الروايات الموضوعة، والتي لا أساس لها.
ولا ندري لماذا لا يعرفونه من وجهه الذي يقابلهم به، وإنما يعرفونه بواسطة ساقه (!!) تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً..
وقد أصبح واضحاً أيضاً: أن قول الله سبحانه:﴿ الرَّحْمَٰنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ ﴾ 1ليس معناه جلوسه على عرش يشبه الكرسي، بل معناه أنه تعالى مالك لكل شيء، وله السلطان والهيمنة على الموجودات كلها..
فهو من قبيل:
قد استوى بِشر على العراق *** من غير قتل أو دم مهراق..
فإن هذا لا يعني أن بشراً قد جلس على العراق، وأصبح العراق تحته، بل معناه أنه قد تسلط عليه. وأصبح مالكاً لأموره حتى في حال نومه، واضطجاعه، ومشيه..
وكذا لو قلت: فلان على عرش العراق، فهو لا يعني أنه جالس على عرشٍ بالفعل، إذ لعله نائم، أو جالس على الأرض، أو ماش أيضاً..
وهكذا يقال بالنسبة لقوله تعالى:﴿ ... وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ ﴾ 9
فاتضح أن هذه المعاني هي نفسها ظهورات، ولا يحتاج الوصول إليها إلى تأويل، بل هي داخلة فقط في التفسير، بمعنى أنها تحتاج إلى لفت النظر إلى وجه تحمل اللفظ لتلك المعاني على النحو الذي أشرنا إليه. وبيان أنها قد جاءت على سبيل الكناية، والمجاز، أو الاستعارة، أو غير ذلك.. وليس هذا أيضاً من المتشابه الذي لا يعرف وجهه..
كما أنه لا يصح أن يفهم على سبيل الالتزام بالحرفية، والأخذ بالمعاني الوضعية للمفردات، فإن المجازات والاستعارات أيضاً قد وضع العرب سنخها، ولا بد من الأخذ بها أينما وجدت. ويكون حمل اللفظ على معناه الموضوع له في موردها غلطاً، وخروجاً عن طريقة العرب في التخاطب.
2 ـ وأما بالنسبة للسؤال عما هو المقصود بالتأويل، فإننا نقول: التأويل: تارة يطلق ويراد به ما يؤول إليه الأمر بعد تقلب الأحوال، على أساس قانون التسبيب والعلية، المهيمن على حركة الحياة..
وتارة يقصد به التماس معان محتملة للفظ ليحمل عليها.. حين يتعذر حمله على معناه الظاهر فيه ظهوراً بدوياً غير مستقر، لمخالفة هذا الظاهر البدوي لأحكام العقل الصريحة، أو لثوابت الشريعة الواضحة مثلاً، فيرى بعض الناس أن ذلك المعنى هو من التأويل، أي ما يؤول إليه الأمر بعد التدبر بالظهورات، والتدقيق فيها، وإرجاع الأمور إلى أصولها..
وتارة يراد تأويله بمعنى عطف اتجاهه عن مساره، والذهاب به بعيداً عن معناه الحقيقي، بهدف خداع الناس، وإيقاعهم في الشبهة والغلط..
والمعنى الأول للتأويل لعله هو المقصود بقوله تعالى:﴿ ... وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ... ﴾ 10هو المقصود من الكلمة المروية عنهم (عليهم السلام): نحن نتيقن تأويله ولا نتظنى.. وربما يكون المقصود بالآية والرواية أيضاً المعنى الثاني.. أي أنهم (عليهم السلام) يعرفون المرجع الحقيقي لكل أمر، أما غيرهم فيرجعه إلى غير أصوله الصحيحة ابتغاء الفتنة.
فإن هذا المعنى أيضاً منسجم مع مضمون الرواية، ومع ما ذكرناه في تفسير تلك الآيات المباركة، وهو يرجع إلى اكتشاف مداليل الكلام، وتحديد ظهوراته.. كما قلنا. وأما المعنى الثالث فهو مرفوض ومدان جملة وتفصيلاً..
والحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وآله الطاهرين.. 11.
المصادر
1. القران الكريم: سورة طه (20)، الآية: 5، الصفحة: 312.
2. القران الكريم: سورة الفتح (48)، الآية: 10، الصفحة: 512.
3. القران الكريم: سورة يوسف (12)، الآية: 82، الصفحة: 245.
4. القران الكريم: سورة الفجر (89)، الآية: 22 و 23، الصفحة: 593.
5. القران الكريم: سورة البقرة (2)، الآية: 43، الصفحة: 7.
6. القران الكريم: سورة الفجر (89)، الآية: 22، الصفحة: 593.
7. القران الكريم: سورة الشرح (94)، من بداية السورة إلى الآية 1، الصفحة: 596.
8. القران الكريم: سورة القلم (68)، الآية: 42، الصفحة: 565.
9. القران الكريم: سورة الحاقة (69)، الآية: 17، الصفحة: 567.
10. القران الكريم: سورة آل عمران (3)، الآية: 7، الصفحة: 50.
11. مختصر مفيد.. (أسئلة وأجوبة في الدين والعقيدة)، للسيد جعفر مرتضى العاملي، «المجموعة الثانية»، المركز الإسلامي للدراسات، الطبعة الأولى، 1423 ـ 2002، السؤال (133 و 134).
تعليق