اللهم صل على محمد وآل محمد
يُحدّثُ بشار المكاري يقول : دخلتُ علىٰ أبي عبدالله (صلوات الله عليه) بالكوفة وقد قُدّم لهُ طبقُ رُطب طبرزد وهو يأكل ، فقال : "يا بشّار ، ادنُ فكُلْ" ، فقلتُ : هنَّاكَ الله ، وجعلني فِداك ، قد أخذتني الغَيرة مِن شيءٍ رأيتهُ فِي طريقي أوجع قلبي ، وبلغ منّي ، فقالَ (صلوات الله عليه) لي : "بحقّي لما دنوتَ فأكلت" ، قال : فدنوتُ فأكلت ، فقال لي : "حديثك" ؟ (وسؤال الإمام هُنا هو سؤال العارف) .
قلتُ : رأيتُ جِلوازاً يضربُ رأسَ امرأة ، ويسوقها إلى الحَبس وهي تُنادِي بأعلىٰ صوتها : المُستغاثُ باللهِ ورسوله ، ولا يغيثُها أحد ! قال : "ولِم فعل بها ذٰلك" ؟ قلتُ : سمعتُ النّاس يقولون إنَّها عثرتْ فقالت : لعَنَ اللهُ ظالميكِ يا فاطِمَة ، فارتُكِبَ منها ما ارتكب .
فقَطَعَ الإمام (صلوات الله عليه) الأكل ولم يزلْ يبكي حتَّى ابتلَّ منديلهُ ولِحْيتهُ وصدرهُ بالدُّموع ، ثُمَّ قال :
"يا بشّار ، قُم بنا إلىٰ مسجد السهلة فندعو الله عزَّ وجل و نسألهُ خلاصَ هذهِ المرأة" .
ووجه بعْضُ الشيعة إلىٰ بابِ السلطان ، وتقدَّم إليهِ بأن لا يبرح إلى أن يأتيه رسولهُ ، فإنْ حدَثَ بالمرأةِ حدَث صارَ إلينا حيث كُنّا . فصرْنا إلىٰ مَسجدِ السهلة ، وصلَّى كل واحدٍ منَّا ركعتين ، ثُمَّ رَفعَ الصّادق (صلوات الله عليه) يدهُ إلى السّماء وقال : أنت اللهُ - إلىٰ آخر الدعاء - فخرَّ ساجداً لا أسمعُ منهُ إلاَّ النفس ثمَّ رفعَ رأسهُ : فقال : "قُم فقدْ أطْلِقتْ المرأة" .
فخرجنا جميعاً ، فبينما نحنُ فِي بعْضِ الطريق ، إذ لَحِقَ بنا الرجل الَّذي وجَّهناهُ إلىٰ باب السلطان فقال لهُ (صلوات الله عليه) : "ما الخبر" ؟ قال : قد أطْلِقَ عنها ،
قال : "كيف كانَ إخراجُها" ؟ قال : لا أدري ولكنَّني كُنتُ واقفاً علىٰ بابِ السُلطان ،
إذْ خَرَجَ حاجبٌ فدعاها وقال لها : ما الَّذي تكلَّمتِ ؟ قالتْ : عثرتُ فقلْتُ : لعَنَ اللهُ ظالميكِ يا فاطِمَة ، ففُعِلَ بي ما فُعِلَ .
فأخرجَ مائتي دِرهم وقال : خُذي هذهِ واجعلي الأمير فِي حل ،
فأبتْ أن تأخُذَها ، فلمَّا رأى ذلكَ منها دخل ، وأعلم صاحبهُ بذلك . ثُمَّ خرجَ فقال : انصرفي إلىٰ بيتكِ ، فذهبتْ إلىٰ منزلها .
فقالَ أبو عبد الله (صلوات الله عليه) :
"أبتْ أن تأخذ المائتي دِرهم" ؟ قال : نعم وهي واللهِ محتاجة إليها .
فأخرجَ من جيبهِ صُرَّة فيها سَبعة دنانير ، وقال :
"اذهبْ أنتَ بهذهِ إلىٰ منزلها فأقرئها منّي السّلام وادفعْ إليها هذهِ الدنانير" ، قال : فذهبنا جميعاً فأقرأناها منهُ السّلام فقالتْ : بالله أقرأني جعفر بن مُحمّد السّلام ؟ فقلتُ لها : رَحِمَك الله ، واللهِ إنَّ جعفرَ بن مُحمّد أقرأكِ السّلام ، فشقَّتْ جَيبها ووقعتْ مَغشيَّةً عليها ، فصبرنا حتَّى أفاقتْ ، وقالتْ : أعدْها عليّ ، فأعدناها عليها حتَّى فعلتْ ذلكَ ثلاثاً ! ثُمَّ قُلنا لها : خُذي ! هٰذا ما أَرْسَل بهِ إليكِ ، وأبشري بذلك ، فأخذتهُ منا ، وقالتْ :
سَلُوهُ أن يستوهِبَ أمتهُ مِن اللهِ فما أعْرِفُ أحداً أتوسَّلَ بهِ إلى الله أكثر منهُ ومن آبائهِ وأجداهِ (صلوات الله عليهم) .
فرجعنا إلىٰ أبي عبد الله (صلوات الله عليه) فجعلنا نحدّثهُ بما كان منها ، فجَعَلَ يبكي ويدعو لها .
------------------------
بحار الأنوار : ج٤٣