بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
إن المنهج الذي طرحه الإمام الكاظم عليه السلام في التعامل مع مخالفيه هو من أبدع المناهج وأعظمها فائدة وتمثل ذلك في عدة أمور :
1- وصيته بالإحسان والعفو لمن أساء:
كان الإمام الكاظم عليه السلام يوصي أبناءه بالعفو والإحسان لمن أساء إليهم فقد روى الإربلي في [كشف الغمة] قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْجَنَابِذِيُّ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ عليه السلام أَحْضَرَ وُلْدَهُ يَوْماً فَقَالَ لَهُمْ : ( يَا بَنِيَّ إِنِّي مُوصِيكُمْ بِوَصِيَّةٍ فَمَنْ حَفِظَهَا لَمْ يَضَعْ مَعَهَا إِنْ أَتَاكُمْ آتٍ فَأَسْمَعَكُمْ فِي الْأُذُنِ الْيُمْنَى مَكْرُوهاً ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْأُذُنِ الْيُسْرَى فَاعْتَذَرَ وَ قَالَ لَمْ أَقُلْ شَيْئاً فَاقْبَلُوا عُذْرَهُ )[1]
وفي نص آخر :
( يا بَنِيَّ ، إِنّي اُوْصيكُم بِوَصِيَّة مَنْ حَفِظَها انْتَفَعَ بِها ، إِذا أَتاكُمْ آت فَأَسْمَعَ أَحَدَكُمُ في الاُْذنِ الْيُمنى مَكْروهاً ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْيُسْرى فَاعْتَذَرَ لَكُم وَقالَ : إِنّي لَمْ أَقُلْ شَيْئاً ، فَاقْبَلوا عُذْرَه ) [2]
ما أعظمها وأجلها من وصية فقد حكت روح العظمة والنبل والرحمة لما ينطوي عليها هذا البيت الطاهر كما حكت روح الأخوة والترابط الاجتماعي الذي يركز عليها الإسلام ومن الطبيعي أن هذه الوصيّة التي كشفت مدى حلمه وسعة خُلقه ، لم تكن خاصية شخصية بمقدار ما هو منهج إسلامي سار عليه هؤلاء الأفذاذ ومن الطبيعي أنّ هذا الخُلق الرفيع يوجب التآلف وشيوع المحبّة والمودّة بين النّاس بين أفراد المجتمع كل المجتمع .
وهذه الوصية وإن كان المخاطب بها عدد معين وهم أولاد الإمام عليه السلام ولكن المقصود هو الأمة الإسلامية ككل وذلك :
1- إن الإمام عليه السلام هو قائد الأمة ومسئول عن إرشادها إلى ما فيه خيرها وصلاحها وإنقاذها من الهوة السحيقة التي هي فيها وإخراجها من الظلمات إلى النور .
2- إن الإمام هو الأب الروحي للأمة والناس جميعا بمنزلة أولاده .
3- أن الأئمة يقدمون نصائحهم وإرشاداتهم حتى لأعدائهم فضلا عن أحبائهم فعليه أن الخطاب موجه للأمة جمعا فهل يا ترى الأمة تسمع وتطيع لهذه النصيحة ؟ أو أن من يدعي الولاء لأهل البيت يسمع ويطيع لإمامه ، أو أن من ينتسب إلى المؤسسة الدينية ومن هو مشرف عليها هل يسمع ويطيع لهذه الوصية ؟
الوصية تركز على منهج في الحياة لا بد من تواجده ذلك هو التسامح والإحسان والعفو عن الآخرين حتى وإن كانوا من الأعداء وتقول أن من يلتزم بهذه الوصية لا يضيع بل الجولة في الحياة له وإن طال الزمان .
2- صُرره لأعدائه :
روى الخطب البغدادي بسنده قال : وكان سخيا كريما ، وكان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار ، وكان يصر الصرر ثلاثمائة دينار ، وأربعمائة دينار ، ومائتي دينار ، ثم يقسمها بالمدينة .
وكان مثل صرر موسى بن جعفر إذا جاءت الإنسان الصرة فقد استغنى .[3]
إن العظمة والنبل والرحمة وطهارة النفس التي اتصف بها الإمام عليه السلام دعته أن يكافي أعدائه ومبغضيه بالإحسان إليهم جزاء لمواقفهم العدائية فيرسل إليهم 1000 دينار أو 300 أو 400 أو 200 دينار حتى أصبحت صرره مضرب المثل ويستغني بها من تصله .
صُرره مضرب المثل
رَوَى أَبُو الْفَرَجِ فِي مُقَاتِلِ الطَّالِبِينَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَسَنِ قَالَ : كَانَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ مَا يَكْرَهُ بَعَثَ إِلَيْهِ بِصُرَّةِ دَنَانِيرَ وَ كَانَتْ صراره [صُرَرُهُ] مَا بَيْنَ الثَّلَاثِمِائَةِ إِلَى المائتين [الْمِائَتَيْ] دِينَارٍ فَكَانَتْ صرار [صُرَرُ] مُوسَى مَثَلًا ) [4]
وقال الشيخ المفيد : ذكر جماعة من أهل العلم أن أبا الحسن عليه السلام كان يصل بالمائتي دينار إلى الثلاثمائة دينار و كانت صرار أبي الحسن موسى مثلا . [5]
3- التضحية بالمال لحل النزاع :
ومن آيات حلمه أنّه اجتاز على جماعة من حسّاده ومبغضيه ، وكان فيهم ابن هياج ، فأوعز إلى بعض أصحابه أن يمسك بلجام بغلة الإمام ، ويدّعيها له ، فمضى الرجل إلى ما اُمر به ، فعرف الإمام غايته ، فنزل عن بغلته وأعطاها له [6]، لقد كان الإمام عليه السلام المربّي والمعلّم للأخلاق الفاضلة .
4- التودد للناس المخالفين :
من منهج أهل البيت عليهم السلام في هذه الحياة توحيد المجتمع وربط بعضهم مع البعض الآخر والتعايش بين مختلف الفئات والمذاهب العقائدية والفقهية بل والسياسية ولا يحصل ذلك إلا بوضع قواعد معينة يقوم عليها المجتمع المتماسك المترابط ومن أهمها هو التودد بين الناس ومن المفهوم في لغة أهل البيت أن المراد بالناس هم المخالفون لهم في الفكر والعقيدة فعن مُوسَى بْنِ بَكْرٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ موسى بن جعفر عليه السلام قَالَ : ( التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ ) [7]
والتودد إلى الناس لا يلغي اختلاف الرأي والموقف أو يلغي الأفكار فهذا شيء والتودد شيء آخر .
الـرفق
وَرَوَى الحديث المتقدم ابْنُ إِدْرِيسَ مع زيادة : ( وَ الرِّفْقُ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ وَ مَا عَالَ امْرُؤٌ فِي اقْتِصَادٍ ) [8]
وعَنْ مُوسَى بْنِ بَكْرٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام قَالَ : ( الرِّفْقُ نِصْفُ الْعَيْشِ ) [9]
يبدو أن الرفق هنا في حال التعامل الاجتماعي وذلك لأن الرفق له أقسم متعددة أولاً : الفق الاجتماعي والتعامل مع الآخرين ثانياً الرفق الفكري والعقائدي ثالثاً الرفق السياسي رابعاً الرفق الاقتصادي .
5- الرفق العقائدي بالمخالفين :
عَنْ هِشَامِ بْنِ أَحْمَرَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ موسى بن جعفر عليه السلام قَالَ : قَالَ لِي وَ جَرَى بَيْنِي وَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْقَوْمِ كَلَامٌ ..
فَقَالَ لِي : ( ارْفُقْ بِهِمْ فَإِنَّ كُفْرَ أَحَدِهِمْ فِي غَضَبِهِ ، وَ لَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ كُفْرُهُ فِي غَضَبِهِ )[10]
يبدو أن الرفق هذا إنما هو في الجانب الفكري والعقائدي .
6- الإحسان لمن وشى به :
سيرة أهل البيت عليهم السلام قائمة على العفو عمن أساء إليهم وظلمهم وقد حفلت حياتهم بأروع الأمثلة في ذلك ولو راجع الإنسان أي ترجمة من تراجمهم أوسيرة من سيرهم لرأى ذلك جليا واضحا وإليك هذه الحادثة العجيبة في العفو والإحسان لمن يعرف أنه يسيء إليه :
عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ سَأَلَهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَمَّهُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْعِرَاقِ قَالَ فَأَذِنَ لَهُ .
فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَ : يَا عَمِّ أُحِبُّ أَنْ تُوصِيَنِي فَقَالَ : ( أُوصِيكَ أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ فِي دَمِي ! فَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَسْعَى فِي دَمِكَ ثُمَّ قَالَ يَا عَمِّ أَوْصِنِي .
فَقَالَ : أُوصِيكَ أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ فِي دَمِي !
ثُمَّ قَالَ : ثُمَّ نَاوَلَهُ أَبُو الْحَسَنِ صُرَّةً فِيهَا مِائَةٌ وَ خَمْسُونَ دِينَاراً فَقَبَضَهَا مُحَمَّدٌ .
ثُمَّ نَاوَلَهُ أُخْرَى فِيهَا مِائَةٌ وَ خَمْسُونَ دِينَاراً فَقَبَضَهَا .
ثُمَّ أَعْطَاهُ أُخْرَى فِيهَا مِائَةٌ وَ خَمْسُونَ دِينَاراً فَقَبَضَهَا .
ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِأَلْفٍ وَ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَتْ عِنْدَهُ فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَاسْتَكْثَرْتَهُ !
فَقَالَ : هَذَا لِيَكُونَ أَوْكَدَ لِحُجَّتِي عَلَيْهِ إِذَا قَطَعَنِي وَ وَصَلْتُهُ )
ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّهُ سَعَى بِعَمِّهِ إِلَى الرَّشِيدِ وَ أَنَّهُ يَدَّعِي الْخِلَافَةَ وَ يَجِيءُ لَهُ الْخَرَاجُ فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَ مَاتَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ .[11]
وَرَوَاهُ الْكُلَيْنِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ مُوسَى بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ وَ قَالَ فِي آخِرِهِ : فِيهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ .[12]
7- العفو عن السارق حتى مع عدم الحاجة :
وعَنْ مُعَتِّبٍ قَالَ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام فِي حَائِطٍ لَهُ يَصْرِمُ فَنَظَرْتُ إِلَى غُلَامٍ لَهُ قَدْ أَخَذَ كَارَةً مِنْ تَمْرٍ فَرَمَى بِهَا وَرَاءَ الْحَائِطِ فَأَتَيْتُهُ وَ أَخَذْتُهُ وَ ذَهَبْتُ بِهِ إِلَيْهِ فَقُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي وَجَدْتُ هَذَا وَ هَذِهِ الْكَارَةَ .
فَقَالَ لِلْغُلَامِ يَا فُلَانُ قَالَ لَبَّيْكَ قَالَ أَتَجُوعُ؟
قَالَ لَا يَا سَيِّدِي .
قَالَ فَتَعْرَى .
قَالَ لَا يَا سَيِّدِي .
قَالَ فَلِأَيِّ شَيْءٍ أَخَذْتَ هَذِهِ .
قَالَ اشْتَهَيْتُ ذَلِكَ .
قَالَ اذْهَبْ فَهِيَ لَكَ وَقَالَ خَلُّوا عَنْهُ .[13]
يصرم : أي يقطع التمر بعد نضجه .
الكارة : مقدار معلوم من الطعام .
قال العلامة المجلسي : صرم النخل جزه و الفعل كضرب و في القاموس الكارة مقدار معلوم من الطعام و يدل على استحباب العفو عن السارق و ترك ما سرقه له .[14]
8- الإحسان للمخالفين :
ذكر الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعْبَةَ فِي تُحَفِ الْعُقُولِ ، عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ لِهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ فِي وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِ : ( يَا هِشَامُ وَ إِنْ خَالَطْتَ النَّاسَ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تُخَالِطَ أَحَداً مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ كَانَتْ يَدُكَ عَلَيْهِ الْعُلْيَا فَافْعَلْ )[15]
إيضاح العليا بالضم مؤنث الأعلى و هي خبر كانت و عليه متعلق بالعليا و التعريف يفيد الحصر فافعل أي الإحسان أو المخالطة و الأول أظهر أي كن أنت المحسن عليه أو أكثر إحسانا لا بالعكس و يحتمل كون العليا صفة لليد و عليه خبر كانت أي يدك المعطية ثابتة أو مفيضة أو مشرفة عليه و الأول أظهر .
وفي كتاب الزهد للحسين بن سعيد يدك عليه العليا.
قال في النهاية فيه اليد العليا خير من اليد السفلى العليا المتعففة و السفلى السائلة روي ذلك عن ابن عمر و روي عنه أنها المنفقة و قيل العليا المعطية و السفلى الآخذة و قيل السفلى المانعة .
وقال السيد المرتضى رضي الله عنه في الغرر و الدرر معنى قوله اليد : النعمة و العطية و هذا الإطلاق شائع بين العرب فالمعنى أن العطية الجزيلة خير من العطية القليلة و هذا حث منه على المكارم و تحضيض على اصطناع المعروف بأوجز الكلام و أحسنه ... انتهى
والتعليل المذكور بعده مبني على أن الكرم أيضا من حسن الخلق أو هو من لوازمه.[16]
والمراد بالناس المخالفين .
9- أن الحق هو الحق لا يتبدل :
( يَا هِشَامُ لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ جَوْزَةٌ وَ قَالَ النَّاسُ لُؤْلُؤَةٌ مَا كَانَ يَنْفَعُكَ وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا جَوْزَةٌ وَ لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ لُؤْلُؤَةٌ وَ قَالَ النَّاسُ إِنَّهَا جَوْزَةٌ مَا ضَرَّكَ وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا لُؤْلُؤَةٌ )[17]
يعني أنك لو قلت الحق وقال الناس هو الباطل فلا يتبدل ولو كان قلت الباطل وقال الناس هو الحق فأيضا لا يتبدل . وكذلك في جانب المدح والذم .
10- الشفافية في الخطاب :
( يَا هِشَامُ إِنَّ الْعَاقِلَ لَا يُحَدِّثُ مَنْ يَخَافُ تَكْذِيبَهُ وَ لَا يَسْأَلُ مَنْ يَخَافُ مَنْعَهُ وَ لَا يَعِدُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَ لَا يَرْجُو مَا يُعَنَّفُ بِرَجَائِهِ وَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى مَا يَخَافُ الْعَجْزَ عَنْهُ وَ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُوصِي أَصْحَابَهُ يَقُولُ أُوصِيكُمْ بِالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَ الْعَلَانِيَةِ وَ الْعَدْلِ فِي الرِّضَا وَ الْغَضَبِ وَ الِاكْتِسَابِ فِي الْفَقْرِ وَ الْغِنَى وَ أَنْ تَصِلُوا مَنْ قَطَعَكُمْ وَ تَعْفُوا عَمَّنْ ظَلَمَكُمْ وَ تَعْطِفُوا عَلَى مَنْ حَرَمَكُمْ وَ لْيَكُنْ نَظَرُكُمْ عَبَراً وَ صَمْتُكُمْ فِكْراً وَ قَوْلُكُمْ ذِكْراً وَ إِيَّاكُمْ وَ الْبُخْلَ وَ عَلَيْكُمْ بِالسَّخَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَخِيلٌ وَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ سَخِيٌّ )[18]
بيان : التعنيف اللوم و التعيير بعنف و ترك الرفق و الغلظة و كلاهما محتمل و السر و العلانية بالنظر إلى الخلق و الرضا و الغضب أي سواء كان راضيا عمن يعدل فيه أو ساخطا عليه
والحاصل : أن لا يصير رضاه عن أحد أو سخطه عليه سببا للخروج عن الحق و الاكتساب يحتمل اكتساب الدنيا و الآخرة .[19]
11- الإنصاف للآخرين والتوازن في الخطاب :
( يَا هِشَامُ مَنْ كَفَّ نَفْسَهُ عَنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ عَنِ النَّاسِ كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ غَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )[20]
بيان العثرة الزلة و المراد المعاصي و الإقالة في الأصل فسخ البيع بطلب المشتري و الاستقالة طلب ذلك و المراد هنا تجاوز الله و ترك العقاب الذي اكتسبه العبد بسوء فعله فكأنه اشترى العقوبة و ندم فاستقال [21]
فمن منهج أهل البيت في التعامل مع مخالفيهم عدم التعرض لأعراض الآخرين مهما كانت عليها من ملاحظات فليس من أخلاقهم ولا من منهجهم الانتقام من أعدائهم بتعييرهم وكشف المغطى من الأعراض .
وكذلك توازنهم في الخطاب وعدم الانفعال والغضب إلا إذا كان لله .
12- الإصلاح بين الناس :
( يَا هِشَامُ مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ طُوبَى لِلْمُتَرَاحِمِينَ أُولَئِكَ هُمُ الْمَرْحُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طُوبَى لِلْمُصْلِحِينَ بَيْنَ النَّاسِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طُوبَى لِلْمُطَهَّرَةِ قُلُوبُهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طُوبَى لِلْمُتَوَاضِعِينَ فِي الدُّنْيَا أُولَئِكَ يَرْتَقُونَ مَنَابِرَ الْمُلْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )[22]
بيان : تخصيص كونهم من المتقين بيوم القيامة لأن في ذلك اليوم يتبين المتقون واقعا و يمتازون عن المجرمين و يحشرون إلى الرحمن وفدا و أما في الدنيا فكثيرا ما يشبه غيرهم بهم [23]
مهمة أهل البيت في هذه الأمة هو الإصلاح فيها كما عبر عن ذلك سيد الشهداء ( وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي )
13- عدم القول القبيح حتى لأعدائهم :
( يَا هِشَامُ الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ وَ الْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَ الْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ وَ الْجَفَاءُ فِي النَّارِ )[24]
بيان : البذاء بفتح الباء ممدودا الفحش و كل كلام قبيح و الجفاء ممدودا خلاف البر و الصلة و قد يطلق على البعد عن الآداب و قال المطرزي الجفاء الغلظ في العشرة و الخرق في المعاملة و ترك الرفق . [25]
14- الخلق الحسن مع الآخرين :
( يَا هِشَامُ الْغَضَبُ مِفْتَاحُ الشَّرِّ وَ أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً وَ إِنْ خَالَطْتَ النَّاسَ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تُخَالِطَ أَحَداً مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ كَانَتْ يَدُكَ عَلَيْهِ الْعُلْيَا فَافْعَلْ )[26]
بيان: اليد العليا المعطية أو المتعففة .
15- التصرف بحنكة :
( يَا هِشَامُ عَلَيْكَ بِالرِّفْقِ فَإِنَّ الرِّفْقَ يُمْنٌ وَ الْخُرْقَ شُؤْمٌ إِنَّ الرِّفْقَ وَ الْبِرَّ وَ حُسْنَ الْخُلُقِ يَعْمُرُ الدِّيَارَ وَ يَزِيدُ فِي الرِّزْقِ )[27]
بيان قال الفيروزآبادي الخرق بالضم و بالتحريك ضد الرفق و أن لا يحسن العمل و التصرف في الأمور و الحمق .
16- أن تكون أحسن من عدوك :
( يَا هِشَامُ قَوْلُ اللَّهِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ جَرَتْ فِي الْمُؤْمِنِ وَ الْكَافِرِ وَ الْبَرِّ وَ الْفَاجِرِ مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَافِئَ بِهِ وَ لَيْسَتِ الْمُكَافَأَةَ أَنْ تَصْنَعَ كَمَا صَنَعَ حَتَّى تَرَى فَضْلَكَ فَإِنْ صَنَعْتَ كَمَا صَنَعَ فَلَهُ الْفَضْلُ بِالِابْتِدَاءِ )[28]
والحاصل : أنما ذكرناها هي أمثلة بسيطة من تعاليمهم ومنهجهم التي عرضوه للأمة وندبوهم إليه وأنهم عليهم السلام كانوا يعاملون أعدائهم ومبغضيهم بالعدل والإنصاف بل والإحسان إليهم ويقابلون الإساءة بالإحسان ، والسب والشتم واللعن بالعفو والمغفرة ، ولم يقتصروا على ممارستهم لهذا المنهج بل دعوا أولادهم والمقربين إليهم وأتباعهم وشيعتهم ومن يسمع كلامهم ويطيعهم إلى هذا المنهج اللاهب الوضاء وأكدوا عليه .
------------------------اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
إن المنهج الذي طرحه الإمام الكاظم عليه السلام في التعامل مع مخالفيه هو من أبدع المناهج وأعظمها فائدة وتمثل ذلك في عدة أمور :
1- وصيته بالإحسان والعفو لمن أساء:
كان الإمام الكاظم عليه السلام يوصي أبناءه بالعفو والإحسان لمن أساء إليهم فقد روى الإربلي في [كشف الغمة] قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ الْجَنَابِذِيُّ رُوِيَ أَنَّ مُوسَى بْنَ جَعْفَرٍ عليه السلام أَحْضَرَ وُلْدَهُ يَوْماً فَقَالَ لَهُمْ : ( يَا بَنِيَّ إِنِّي مُوصِيكُمْ بِوَصِيَّةٍ فَمَنْ حَفِظَهَا لَمْ يَضَعْ مَعَهَا إِنْ أَتَاكُمْ آتٍ فَأَسْمَعَكُمْ فِي الْأُذُنِ الْيُمْنَى مَكْرُوهاً ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْأُذُنِ الْيُسْرَى فَاعْتَذَرَ وَ قَالَ لَمْ أَقُلْ شَيْئاً فَاقْبَلُوا عُذْرَهُ )[1]
وفي نص آخر :
( يا بَنِيَّ ، إِنّي اُوْصيكُم بِوَصِيَّة مَنْ حَفِظَها انْتَفَعَ بِها ، إِذا أَتاكُمْ آت فَأَسْمَعَ أَحَدَكُمُ في الاُْذنِ الْيُمنى مَكْروهاً ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْيُسْرى فَاعْتَذَرَ لَكُم وَقالَ : إِنّي لَمْ أَقُلْ شَيْئاً ، فَاقْبَلوا عُذْرَه ) [2]
ما أعظمها وأجلها من وصية فقد حكت روح العظمة والنبل والرحمة لما ينطوي عليها هذا البيت الطاهر كما حكت روح الأخوة والترابط الاجتماعي الذي يركز عليها الإسلام ومن الطبيعي أن هذه الوصيّة التي كشفت مدى حلمه وسعة خُلقه ، لم تكن خاصية شخصية بمقدار ما هو منهج إسلامي سار عليه هؤلاء الأفذاذ ومن الطبيعي أنّ هذا الخُلق الرفيع يوجب التآلف وشيوع المحبّة والمودّة بين النّاس بين أفراد المجتمع كل المجتمع .
وهذه الوصية وإن كان المخاطب بها عدد معين وهم أولاد الإمام عليه السلام ولكن المقصود هو الأمة الإسلامية ككل وذلك :
1- إن الإمام عليه السلام هو قائد الأمة ومسئول عن إرشادها إلى ما فيه خيرها وصلاحها وإنقاذها من الهوة السحيقة التي هي فيها وإخراجها من الظلمات إلى النور .
2- إن الإمام هو الأب الروحي للأمة والناس جميعا بمنزلة أولاده .
3- أن الأئمة يقدمون نصائحهم وإرشاداتهم حتى لأعدائهم فضلا عن أحبائهم فعليه أن الخطاب موجه للأمة جمعا فهل يا ترى الأمة تسمع وتطيع لهذه النصيحة ؟ أو أن من يدعي الولاء لأهل البيت يسمع ويطيع لإمامه ، أو أن من ينتسب إلى المؤسسة الدينية ومن هو مشرف عليها هل يسمع ويطيع لهذه الوصية ؟
الوصية تركز على منهج في الحياة لا بد من تواجده ذلك هو التسامح والإحسان والعفو عن الآخرين حتى وإن كانوا من الأعداء وتقول أن من يلتزم بهذه الوصية لا يضيع بل الجولة في الحياة له وإن طال الزمان .
2- صُرره لأعدائه :
روى الخطب البغدادي بسنده قال : وكان سخيا كريما ، وكان يبلغه عن الرجل أنه يؤذيه فيبعث إليه بصرة فيها ألف دينار ، وكان يصر الصرر ثلاثمائة دينار ، وأربعمائة دينار ، ومائتي دينار ، ثم يقسمها بالمدينة .
وكان مثل صرر موسى بن جعفر إذا جاءت الإنسان الصرة فقد استغنى .[3]
إن العظمة والنبل والرحمة وطهارة النفس التي اتصف بها الإمام عليه السلام دعته أن يكافي أعدائه ومبغضيه بالإحسان إليهم جزاء لمواقفهم العدائية فيرسل إليهم 1000 دينار أو 300 أو 400 أو 200 دينار حتى أصبحت صرره مضرب المثل ويستغني بها من تصله .
صُرره مضرب المثل
رَوَى أَبُو الْفَرَجِ فِي مُقَاتِلِ الطَّالِبِينَ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَسَنِ قَالَ : كَانَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ إِذَا بَلَغَهُ عَنِ الرَّجُلِ مَا يَكْرَهُ بَعَثَ إِلَيْهِ بِصُرَّةِ دَنَانِيرَ وَ كَانَتْ صراره [صُرَرُهُ] مَا بَيْنَ الثَّلَاثِمِائَةِ إِلَى المائتين [الْمِائَتَيْ] دِينَارٍ فَكَانَتْ صرار [صُرَرُ] مُوسَى مَثَلًا ) [4]
وقال الشيخ المفيد : ذكر جماعة من أهل العلم أن أبا الحسن عليه السلام كان يصل بالمائتي دينار إلى الثلاثمائة دينار و كانت صرار أبي الحسن موسى مثلا . [5]
3- التضحية بالمال لحل النزاع :
ومن آيات حلمه أنّه اجتاز على جماعة من حسّاده ومبغضيه ، وكان فيهم ابن هياج ، فأوعز إلى بعض أصحابه أن يمسك بلجام بغلة الإمام ، ويدّعيها له ، فمضى الرجل إلى ما اُمر به ، فعرف الإمام غايته ، فنزل عن بغلته وأعطاها له [6]، لقد كان الإمام عليه السلام المربّي والمعلّم للأخلاق الفاضلة .
4- التودد للناس المخالفين :
من منهج أهل البيت عليهم السلام في هذه الحياة توحيد المجتمع وربط بعضهم مع البعض الآخر والتعايش بين مختلف الفئات والمذاهب العقائدية والفقهية بل والسياسية ولا يحصل ذلك إلا بوضع قواعد معينة يقوم عليها المجتمع المتماسك المترابط ومن أهمها هو التودد بين الناس ومن المفهوم في لغة أهل البيت أن المراد بالناس هم المخالفون لهم في الفكر والعقيدة فعن مُوسَى بْنِ بَكْرٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ موسى بن جعفر عليه السلام قَالَ : ( التَّوَدُّدُ إِلَى النَّاسِ نِصْفُ الْعَقْلِ ) [7]
والتودد إلى الناس لا يلغي اختلاف الرأي والموقف أو يلغي الأفكار فهذا شيء والتودد شيء آخر .
الـرفق
وَرَوَى الحديث المتقدم ابْنُ إِدْرِيسَ مع زيادة : ( وَ الرِّفْقُ نِصْفُ الْمَعِيشَةِ وَ مَا عَالَ امْرُؤٌ فِي اقْتِصَادٍ ) [8]
وعَنْ مُوسَى بْنِ بَكْرٍ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام قَالَ : ( الرِّفْقُ نِصْفُ الْعَيْشِ ) [9]
يبدو أن الرفق هنا في حال التعامل الاجتماعي وذلك لأن الرفق له أقسم متعددة أولاً : الفق الاجتماعي والتعامل مع الآخرين ثانياً الرفق الفكري والعقائدي ثالثاً الرفق السياسي رابعاً الرفق الاقتصادي .
5- الرفق العقائدي بالمخالفين :
عَنْ هِشَامِ بْنِ أَحْمَرَ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ موسى بن جعفر عليه السلام قَالَ : قَالَ لِي وَ جَرَى بَيْنِي وَ بَيْنَ رَجُلٍ مِنَ الْقَوْمِ كَلَامٌ ..
فَقَالَ لِي : ( ارْفُقْ بِهِمْ فَإِنَّ كُفْرَ أَحَدِهِمْ فِي غَضَبِهِ ، وَ لَا خَيْرَ فِيمَنْ كَانَ كُفْرُهُ فِي غَضَبِهِ )[10]
يبدو أن الرفق هذا إنما هو في الجانب الفكري والعقائدي .
6- الإحسان لمن وشى به :
سيرة أهل البيت عليهم السلام قائمة على العفو عمن أساء إليهم وظلمهم وقد حفلت حياتهم بأروع الأمثلة في ذلك ولو راجع الإنسان أي ترجمة من تراجمهم أوسيرة من سيرهم لرأى ذلك جليا واضحا وإليك هذه الحادثة العجيبة في العفو والإحسان لمن يعرف أنه يسيء إليه :
عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ سَأَلَهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَمَّهُ أَبَا الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْعِرَاقِ قَالَ فَأَذِنَ لَهُ .
فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَقَالَ : يَا عَمِّ أُحِبُّ أَنْ تُوصِيَنِي فَقَالَ : ( أُوصِيكَ أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ فِي دَمِي ! فَقَالَ : لَعَنَ اللَّهُ مَنْ يَسْعَى فِي دَمِكَ ثُمَّ قَالَ يَا عَمِّ أَوْصِنِي .
فَقَالَ : أُوصِيكَ أَنْ تَتَّقِيَ اللَّهَ فِي دَمِي !
ثُمَّ قَالَ : ثُمَّ نَاوَلَهُ أَبُو الْحَسَنِ صُرَّةً فِيهَا مِائَةٌ وَ خَمْسُونَ دِينَاراً فَقَبَضَهَا مُحَمَّدٌ .
ثُمَّ نَاوَلَهُ أُخْرَى فِيهَا مِائَةٌ وَ خَمْسُونَ دِينَاراً فَقَبَضَهَا .
ثُمَّ أَعْطَاهُ أُخْرَى فِيهَا مِائَةٌ وَ خَمْسُونَ دِينَاراً فَقَبَضَهَا .
ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِأَلْفٍ وَ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَتْ عِنْدَهُ فَقُلْتُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَاسْتَكْثَرْتَهُ !
فَقَالَ : هَذَا لِيَكُونَ أَوْكَدَ لِحُجَّتِي عَلَيْهِ إِذَا قَطَعَنِي وَ وَصَلْتُهُ )
ثُمَّ ذُكِرَ أَنَّهُ سَعَى بِعَمِّهِ إِلَى الرَّشِيدِ وَ أَنَّهُ يَدَّعِي الْخِلَافَةَ وَ يَجِيءُ لَهُ الْخَرَاجُ فَأَمَرَ لَهُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَ مَاتَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ .[11]
وَرَوَاهُ الْكُلَيْنِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى عَنْ مُوسَى بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ : فِيهَا مِائَةُ دِينَارٍ وَ قَالَ فِي آخِرِهِ : فِيهَا ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ .[12]
7- العفو عن السارق حتى مع عدم الحاجة :
وعَنْ مُعَتِّبٍ قَالَ كَانَ أَبُو الْحَسَنِ مُوسَى عليه السلام فِي حَائِطٍ لَهُ يَصْرِمُ فَنَظَرْتُ إِلَى غُلَامٍ لَهُ قَدْ أَخَذَ كَارَةً مِنْ تَمْرٍ فَرَمَى بِهَا وَرَاءَ الْحَائِطِ فَأَتَيْتُهُ وَ أَخَذْتُهُ وَ ذَهَبْتُ بِهِ إِلَيْهِ فَقُلْتُ : جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنِّي وَجَدْتُ هَذَا وَ هَذِهِ الْكَارَةَ .
فَقَالَ لِلْغُلَامِ يَا فُلَانُ قَالَ لَبَّيْكَ قَالَ أَتَجُوعُ؟
قَالَ لَا يَا سَيِّدِي .
قَالَ فَتَعْرَى .
قَالَ لَا يَا سَيِّدِي .
قَالَ فَلِأَيِّ شَيْءٍ أَخَذْتَ هَذِهِ .
قَالَ اشْتَهَيْتُ ذَلِكَ .
قَالَ اذْهَبْ فَهِيَ لَكَ وَقَالَ خَلُّوا عَنْهُ .[13]
يصرم : أي يقطع التمر بعد نضجه .
الكارة : مقدار معلوم من الطعام .
قال العلامة المجلسي : صرم النخل جزه و الفعل كضرب و في القاموس الكارة مقدار معلوم من الطعام و يدل على استحباب العفو عن السارق و ترك ما سرقه له .[14]
8- الإحسان للمخالفين :
ذكر الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ شُعْبَةَ فِي تُحَفِ الْعُقُولِ ، عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُ قَالَ لِهِشَامِ بْنِ الْحَكَمِ فِي وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِ : ( يَا هِشَامُ وَ إِنْ خَالَطْتَ النَّاسَ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تُخَالِطَ أَحَداً مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ كَانَتْ يَدُكَ عَلَيْهِ الْعُلْيَا فَافْعَلْ )[15]
إيضاح العليا بالضم مؤنث الأعلى و هي خبر كانت و عليه متعلق بالعليا و التعريف يفيد الحصر فافعل أي الإحسان أو المخالطة و الأول أظهر أي كن أنت المحسن عليه أو أكثر إحسانا لا بالعكس و يحتمل كون العليا صفة لليد و عليه خبر كانت أي يدك المعطية ثابتة أو مفيضة أو مشرفة عليه و الأول أظهر .
وفي كتاب الزهد للحسين بن سعيد يدك عليه العليا.
قال في النهاية فيه اليد العليا خير من اليد السفلى العليا المتعففة و السفلى السائلة روي ذلك عن ابن عمر و روي عنه أنها المنفقة و قيل العليا المعطية و السفلى الآخذة و قيل السفلى المانعة .
وقال السيد المرتضى رضي الله عنه في الغرر و الدرر معنى قوله اليد : النعمة و العطية و هذا الإطلاق شائع بين العرب فالمعنى أن العطية الجزيلة خير من العطية القليلة و هذا حث منه على المكارم و تحضيض على اصطناع المعروف بأوجز الكلام و أحسنه ... انتهى
والتعليل المذكور بعده مبني على أن الكرم أيضا من حسن الخلق أو هو من لوازمه.[16]
والمراد بالناس المخالفين .
9- أن الحق هو الحق لا يتبدل :
( يَا هِشَامُ لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ جَوْزَةٌ وَ قَالَ النَّاسُ لُؤْلُؤَةٌ مَا كَانَ يَنْفَعُكَ وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا جَوْزَةٌ وَ لَوْ كَانَ فِي يَدِكَ لُؤْلُؤَةٌ وَ قَالَ النَّاسُ إِنَّهَا جَوْزَةٌ مَا ضَرَّكَ وَ أَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهَا لُؤْلُؤَةٌ )[17]
يعني أنك لو قلت الحق وقال الناس هو الباطل فلا يتبدل ولو كان قلت الباطل وقال الناس هو الحق فأيضا لا يتبدل . وكذلك في جانب المدح والذم .
10- الشفافية في الخطاب :
( يَا هِشَامُ إِنَّ الْعَاقِلَ لَا يُحَدِّثُ مَنْ يَخَافُ تَكْذِيبَهُ وَ لَا يَسْأَلُ مَنْ يَخَافُ مَنْعَهُ وَ لَا يَعِدُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَ لَا يَرْجُو مَا يُعَنَّفُ بِرَجَائِهِ وَ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى مَا يَخَافُ الْعَجْزَ عَنْهُ وَ كَانَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ يُوصِي أَصْحَابَهُ يَقُولُ أُوصِيكُمْ بِالْخَشْيَةِ مِنَ اللَّهِ فِي السِّرِّ وَ الْعَلَانِيَةِ وَ الْعَدْلِ فِي الرِّضَا وَ الْغَضَبِ وَ الِاكْتِسَابِ فِي الْفَقْرِ وَ الْغِنَى وَ أَنْ تَصِلُوا مَنْ قَطَعَكُمْ وَ تَعْفُوا عَمَّنْ ظَلَمَكُمْ وَ تَعْطِفُوا عَلَى مَنْ حَرَمَكُمْ وَ لْيَكُنْ نَظَرُكُمْ عَبَراً وَ صَمْتُكُمْ فِكْراً وَ قَوْلُكُمْ ذِكْراً وَ إِيَّاكُمْ وَ الْبُخْلَ وَ عَلَيْكُمْ بِالسَّخَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ بَخِيلٌ وَ لَا يَدْخُلُ النَّارَ سَخِيٌّ )[18]
بيان : التعنيف اللوم و التعيير بعنف و ترك الرفق و الغلظة و كلاهما محتمل و السر و العلانية بالنظر إلى الخلق و الرضا و الغضب أي سواء كان راضيا عمن يعدل فيه أو ساخطا عليه
والحاصل : أن لا يصير رضاه عن أحد أو سخطه عليه سببا للخروج عن الحق و الاكتساب يحتمل اكتساب الدنيا و الآخرة .[19]
11- الإنصاف للآخرين والتوازن في الخطاب :
( يَا هِشَامُ مَنْ كَفَّ نَفْسَهُ عَنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَ مَنْ كَفَّ غَضَبَهُ عَنِ النَّاسِ كَفَّ اللَّهُ عَنْهُ غَضَبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )[20]
بيان العثرة الزلة و المراد المعاصي و الإقالة في الأصل فسخ البيع بطلب المشتري و الاستقالة طلب ذلك و المراد هنا تجاوز الله و ترك العقاب الذي اكتسبه العبد بسوء فعله فكأنه اشترى العقوبة و ندم فاستقال [21]
فمن منهج أهل البيت في التعامل مع مخالفيهم عدم التعرض لأعراض الآخرين مهما كانت عليها من ملاحظات فليس من أخلاقهم ولا من منهجهم الانتقام من أعدائهم بتعييرهم وكشف المغطى من الأعراض .
وكذلك توازنهم في الخطاب وعدم الانفعال والغضب إلا إذا كان لله .
12- الإصلاح بين الناس :
( يَا هِشَامُ مَكْتُوبٌ فِي الْإِنْجِيلِ طُوبَى لِلْمُتَرَاحِمِينَ أُولَئِكَ هُمُ الْمَرْحُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طُوبَى لِلْمُصْلِحِينَ بَيْنَ النَّاسِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طُوبَى لِلْمُطَهَّرَةِ قُلُوبُهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ طُوبَى لِلْمُتَوَاضِعِينَ فِي الدُّنْيَا أُولَئِكَ يَرْتَقُونَ مَنَابِرَ الْمُلْكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )[22]
بيان : تخصيص كونهم من المتقين بيوم القيامة لأن في ذلك اليوم يتبين المتقون واقعا و يمتازون عن المجرمين و يحشرون إلى الرحمن وفدا و أما في الدنيا فكثيرا ما يشبه غيرهم بهم [23]
مهمة أهل البيت في هذه الأمة هو الإصلاح فيها كما عبر عن ذلك سيد الشهداء ( وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي )
13- عدم القول القبيح حتى لأعدائهم :
( يَا هِشَامُ الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ وَ الْإِيمَانُ فِي الْجَنَّةِ وَ الْبَذَاءُ مِنَ الْجَفَاءِ وَ الْجَفَاءُ فِي النَّارِ )[24]
بيان : البذاء بفتح الباء ممدودا الفحش و كل كلام قبيح و الجفاء ممدودا خلاف البر و الصلة و قد يطلق على البعد عن الآداب و قال المطرزي الجفاء الغلظ في العشرة و الخرق في المعاملة و ترك الرفق . [25]
14- الخلق الحسن مع الآخرين :
( يَا هِشَامُ الْغَضَبُ مِفْتَاحُ الشَّرِّ وَ أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَاناً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً وَ إِنْ خَالَطْتَ النَّاسَ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ لَا تُخَالِطَ أَحَداً مِنْهُمْ إِلَّا مَنْ كَانَتْ يَدُكَ عَلَيْهِ الْعُلْيَا فَافْعَلْ )[26]
بيان: اليد العليا المعطية أو المتعففة .
15- التصرف بحنكة :
( يَا هِشَامُ عَلَيْكَ بِالرِّفْقِ فَإِنَّ الرِّفْقَ يُمْنٌ وَ الْخُرْقَ شُؤْمٌ إِنَّ الرِّفْقَ وَ الْبِرَّ وَ حُسْنَ الْخُلُقِ يَعْمُرُ الدِّيَارَ وَ يَزِيدُ فِي الرِّزْقِ )[27]
بيان قال الفيروزآبادي الخرق بالضم و بالتحريك ضد الرفق و أن لا يحسن العمل و التصرف في الأمور و الحمق .
16- أن تكون أحسن من عدوك :
( يَا هِشَامُ قَوْلُ اللَّهِ هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ جَرَتْ فِي الْمُؤْمِنِ وَ الْكَافِرِ وَ الْبَرِّ وَ الْفَاجِرِ مَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَافِئَ بِهِ وَ لَيْسَتِ الْمُكَافَأَةَ أَنْ تَصْنَعَ كَمَا صَنَعَ حَتَّى تَرَى فَضْلَكَ فَإِنْ صَنَعْتَ كَمَا صَنَعَ فَلَهُ الْفَضْلُ بِالِابْتِدَاءِ )[28]
والحاصل : أنما ذكرناها هي أمثلة بسيطة من تعاليمهم ومنهجهم التي عرضوه للأمة وندبوهم إليه وأنهم عليهم السلام كانوا يعاملون أعدائهم ومبغضيهم بالعدل والإنصاف بل والإحسان إليهم ويقابلون الإساءة بالإحسان ، والسب والشتم واللعن بالعفو والمغفرة ، ولم يقتصروا على ممارستهم لهذا المنهج بل دعوا أولادهم والمقربين إليهم وأتباعهم وشيعتهم ومن يسمع كلامهم ويطيعهم إلى هذا المنهج اللاهب الوضاء وأكدوا عليه .
[1] كشف الغمة ج : 2 ص : 218 بحار الأنوار ج : 68 ص : 425 ومستدرك الوسائل ج : 9 ص : 56 عن كشف الغمة
[2] الفصول المهمّة / ابن الصبّاغ : 220 .
[3] تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 13 ص 29 وتهذيب الكمال ج 29 ص 44 وسير أعلام النبلاء ج 6 ص 270 .
[4] بحارالأنوار ج : 48 ص : 104 .
[5] الإرشاد ج : 2 ص : 234وعنه في بحار الأنوار ج : 48 ص : 102 .
[6] حياة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام : 1/157 .
[7] وسائل الشيعة ج : 12 ص : 52 ح15619
[8] وسائل الشيعة ج : 12 ص : 52 ح15620
[9] الكافي ج : 2 ص : 120
[10] الكافي ج : 2 ص : 120
[11] وسائل الشيعة ج : 12 ص : 175
[12] وسائل الشيعة ج : 12 ص : 175
[13] الكافي ج : 2 ص : 108
[14] بحار الأنوار ج : 68 ص : 402
[15] مستدرك الوسائل ج : 8 ص : 317 ح 9539
[16] بحار الأنوار ج : 68 ص : 379
[17] بحار الأنوار ج : 1 ص : 136
[18] بحار الأنوار ج : 1 ص : 142
[19] بحار الأنوار ج : 1 ص : 142
[20] بحار الأنوار ج : 1 ص : 143
[21] بحار الأنوار ج : 1 ص : 143
[22] بحار الأنوار ج : 1 ص : 143
[23] بحار الأنوار ج : 1 ص : 148
[24] بحار الأنوار ج : 1 ص : 148
[25] بحار الأنوار ج : 1 ص : 148 .
[26] بحار الأنوار ج : 1 ص : 151 .
[27] بحار الأنوار ج : 1 ص : 151 .
[28] بحار الأنوار ج : 1 ص : 152 .