إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

(حكاية الدرس الاول من مذكرات مدرس دين)2

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • (حكاية الدرس الاول من مذكرات مدرس دين)2



    &&&

    (12)
    يبدو أن هذا الصف قد انشغل تماما فيما يعده من أسئلة معلوماتية تصل حد ابتكار بعض ثيمات التعالق بين الأسئلة، ويعني هناك امكانية تلاقح المعلومة مع ثناياها، والتمحور حول ثمرة استنتاج فيه الجدة. وكلما ظننت أن التلاميذ سيكتفون وسينضبون، أرى أسئلتهم تزداد جمالاً، فكانوا بحق صفاً مشتعلاً في التنافس المبدع...
    :- أستاذ، لقد قرأنا في (سورة النساء: الآية: 12) ووقعنا في حيرة أمام هذه مفردة (كلالة) فما معنى كلالة؟
    :- جاء في صحاح اللغة اشتقاق من الكلال.
    :- أستاذ، وما معنى كلال؟
    :- جاء في صحاح اللغة، الكلال هو ذهاب القوة، لكنها استعملت في ما بعد في اخوة الميت واخواته الذين يرتقونه.
    :- أستاذ، أين العلاقة بين الأمرين؟
    :- لكونه من الطبقة الثانية من طبقات الارث، وهم لا يرثون إلا في حالة عدم وجود الابناء، ومن هذا المعنى، يقترب من منطق الضعف وذهاب القوة، وجاء في كتاب (المفردات: للراغب)، أن الكلالة اسم لما عدا الولد والوالد من الورثة.
    رفع أحد الطلاب يده وهو ينادي:- أستاذ، وردت في نفس السورة مفردة (أَرْكَسَهُم) في قوله تعالى: (وَاللّهُ أَركَسَهُم بمَا كَسَبُوا)؟
    :- جاء في كتاب (التبيان في تفسير القرآن الكريم للشيخ الطوسي) أن قوماً من المفسرين قالوا: نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله (ص) في الذين تخلفوا عن رسول الله (ص) يوم أحد، وانصرفوا الى المدينة، وقالوا لرسول الله وأصحابه: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، وقيل: انها في قوم قدموا من مكة، واظهروا اسلامهم، ثم رجعوا الى مكة مشركين، ثم سافروا ببضائع المشركين الى اليمامة، فأراد المسلمون أن يأخذوهم وما معهم، فاختلفوا في الامر، فقال البعض: إن دماءهم وأموالهم حلال، وآخرون قالوا: لا، بل هو حرام، فمن (أركسهم) يعني اوقعهم في النفاق، وعن ابن عباس وبعض المفسرين يعني: اهلكهم.
    التفت احد الطلاب وهو يقرأ في دفتره
    :- أستاذ، قال الله تعالى: (وَلآمُرَنَّهُم فَليُبَتكُنَّ آذَانَ الأَنعَامِ)؟
    قلت: غوى الشيطان بعض عباد الله، وأمرهم بتشقيق آذان البهائم لتغيير خلق الله: كخصي الدواب، والوشم، ويبتكن يعني: يشققن.
    &&&&


    (13)

    علي حسين الخباز, [21.01.21 01:04]
    هذا الحراك ناتج وعي، أو ربما هو اثارة لوعي ساهم في مشاركة جميع طلاب الصف في البحث عن سؤال أو التعقيب على جواب، ولذلك ترى جميع الأيادي مرفوعة لطلب الاذن في المشاركة الجماعية دون أن يتخلف أحد عنها، والطريف أني أرى على أنامل كل يد أكثر من سؤال، وهذا بطبيعته محفز جيد للمدرس، ودافع مهم من دوافع التحفيز القيمي عند الطلاب أنفسهم...
    قال أحدهم:- أستاذ، ما معنى السحت؟
    قلت:- وردت هذا المفردة في آية (42) من سورة المائدة: (سَمَّاعُونَ للكَذب أَكَّالُونَ للسُّحتِ) والسحت: يعني الرشوة في الحكم. وروي عن علي (عليه السلام) تفسير معنى السحت بأنه الرشوة في الحكم، ومهر البغي، وثمن الخمرة والميتة وبيع الكلب، وفسرها الكثير من المفسرين بأنها الرشوة، وأصل السحت في اللغة يعني الاستئصال، أي أذهب ماله.
    وقف أحد الطلاب ليسأل:ـ أستاذ، قرّب لنا المعنى أكثر؟
    جميل هذا التجاوب المدرك مع الموضوع فقلت:- كانت العرب تسمي الرجل الشره الأكول بالمسحوت، وجاء في كتاب اللسان تفسير المسحت بالمهلك، وأسحت ماله أي خسره.
    رفع طالب اصبع يده وهو ينادي:ـ أستاذ، هو اساسا لماذا سمي السحت سحتا؟
    قلت:- لأنه لا يبقي عند صاحبه شيئاً، فهو يستأصل الخير وهو حرام ولا بركة فيه لأهله، ولزيادة المعلومة هناك قول للخليل الفراهيدي يفسر به معنى السحت بأنه القبيح الذي يرث العار، ويخسر الانسان مروءته، ويرى بعض المفسرين أن الله نهاهم عن أكل السحت؛ لكونهم كانوا يحرفون كتاب الله ويغيرون حكمه، ومعناه في كتم حكم الله الذي انزله في كتابه، وجعله حكما بين عباده، فأخفاه وحكم بغيره، فأولئك هم الكافرون، وقال الامام الباقر (عليه السلام): (السحت هو أكل مال اليتيم).

    &&&
    (14)
    تدفقت سعادة لا حدود لها، وأنا أرى الجميع يجتهد ويتذاكر ما يحمله فكره من أسئلة أو معان غمضت عليه ذات يوم، وصرت أرى البعض يحاول أن يختلس النظر الى مدوناته، وهذا لا يضر مادام يسترجع لنا المعلومة، فما أجمل أن ترى هذه الأيادي مرفوعة والكلمات متوسلة السؤال، وأنا انتقي الوجوه اثر ما تملك من حماسة وحضور، واطمح في تفعيل المشاركة لمن يشترك لأول مرة في السؤال او التعقيب، اخترت احدى الأيادي المرفوعة...
    :- أستاذ، قال الله تعالى في سورة الانعام آية 142: (وَمِنَ الأَنعَامِ حَمُولَةً وَفَرشًا كُلُوا مِما رَزَقَكُمُ اللّهُ) فما معنى (فرشا) أستاذ؟
    قلت:- قبل أن ندخل في موضوع الآية، أود أن أركز على تنوع معاني الكثير من المفردات القرآنية، وامتلاكها جناسات متنوعة كان يتداولها العرب، فالفراش هو فراش الطين بعدما يبس على وجه الأرض، وله معنى آخر هو الفراش الذي يطير، والفرش صغار النعم، والمهاد، وهذه المعاني هي الواردة في (تفسير الميزان) للعلامة الطباطبائي.
    إن الحمولة أكابر الأنعام، وفي كتاب (مجمع البيان) تفسير الطبرسي، الحمولة تعني الابل يحمل على الاثقال، والحمولة هي الاحمال، وقيل للصغار الفرش...
    وحينها صاح أحد الطلاب:- أستاذ، لماذا أطلقوا على الصغار الفرش؟
    قلت:- هناك معان كثيرة بهذا الخصوص، مثلا البعض يرى أن هذه التسمية اطلقت عليها لاستواء اسنانها في الصغر كاستواء ما يفرش، وهناك تفسير آخر لهذه المفردة، الارض المستوية الفرش، والحمولة تعني ما يحمل عليها: كالإبل والبقر والخيل والبغال والفرش الغنم، فقد تنوعت هذه المعاني، ما يحملون وما يفترش في الذبح بمعنى الافتراش من أصوافها وأوبارها...
    &&&

    علي حسين الخباز, [21.01.21 01:04]
    (15)
    توهج الصف بفاعلية هؤلاء الطلبة الذين أدهشوني حقاً بما يحملون من شغف معرفي، أين خزنوا كل تلك الأسئلة؟ التي بدأت تتنوع وتبحث في كل المعاني، فالمنهج المدرسي لا يمتلك مثل هذه القابلية المشعة، ويبقى هذا الاشعاع وليد جلسات المساجد والجوامع والحسينيات والجمعيات الدينية القرآنية.
    رفع أحد الطلاب يده متسائلاً: أستاذ، ما معنى الوليجة؟ قلت: قد وردت هذه المفردة في سورة التوبة آية (16) في قوله تعالى: (أَمْ حَسِبتُم أَن تُترَكُوا وَلَمَّا يَعلَمِ اللّهُ الذِينَ جَاهدُوا مِنكُم وَلَم يَتخِذُوا مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المُؤمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعمَلُونَ). ولنفهم معنى الوليجة، نرجع الى كتاب التبيان للشيخ الطوسي (قدس سره)، إذ يقول: إنها الدخيلة في القوم.
    قال الطالب:- أستاذ، لم أفهم ما تعني الوليجة بعد.
    قلت:- وليجة الرجل خاصته، وفي تفسير هذه الآية قال إمامنا الباقر (عليه السلام): يعني بالمؤمنين الأئمة الأطهار من آل محمد (ص)، والوليجة خاصتهم، وقال (عليه السلام): إياكم والولايج، فأن كل وليجة دوننا فهي طاغوت.
    رفع طالب آخر يده وهو يقول: أستاذ، هل مفردة (لجة) لها متعلقا بالوليجة؟
    قلت:- إن مفردة لجة وردت في سورة النمل آية (44) في قوله تعالى (قِيلَ لَهَا ادخُلِي الصرحَ فَلَما رَأَتهُ حَسِبَتهُ لُجةً وَكَشَفَت عَن سَاقيهَا قَالَ إِنهُ صَرحٌ ممَردٌ من قوَارِيرَ) هذه حكاية سيدنا نبي الله سليمان (عليه السلام) مع بلقيس، إذ أمر سليمان أن ينكروا لبلقيس عرشها، أي يغيّرونه الى حال تنكره، فلما رأته حسبته لجة، ولجة البحر عمقه، وليس ساحل البحر لجة، ويقال: يلج في الامر، إذا بالغ بالدخول فيه، وكأنها كانت تريد أن تخوض في الماء.
    &&&
    (16)
    كنت أتصور بأن هذا الحشد من الأسئلة سيضعف نوعية السؤال عند الطلاب، أو ربما يعرضنا للتكرار أو للعادي المفهوم، لكن الحضور البهي زاد التوهج ألقاً مميزاً، فانثالت الأسئلة المبدعة والتي زادت من فاعلية هذا الدرس العجيب.
    :- أستاذ، ما معنى كلمة النسيء الواردة في سورة التوبة: (إِنمَا النسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفرِ يُضَلُّ بِهِ الذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُواطئُوا عِدةَ مَا حرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُم سُوءُ أَعمَالِهِم وَاللَّهُ لَا يَهدِي القَومَ الكَافِرِينَ).
    قلت:- أولاً علينا معرفة ما معنى الأشهر الحرم؟ فالله سبحانه تعالى حرم القتال في الاشهر الاربعة والتي هي: (ذي العقدة، ذي الحجة، ومحرم، ورجب) وتحريم القتال في هذه الاشهر الاربعة هو إحدى الطرائق المهمة لإيقاف الحروب الطويلة الامد، والتحريم وسيلة للعودة الى الصلح والسلام؛ لأن المحاربين اذا وضعوا اسلحتهم في هذه الاشهر الأربعة، وأخمدت نيران الحرب، وأوجدت الفرصة للتفكير، فمن غير المستبعد ان تنتهي الحرب ويحل السلام محلها؛ لأن الشروع المجدد بعد ايقاف القتال وانطفاء نار الحرب في غاية الصعوبة.
    :- أستاذ، وما هي الغاية من النسيء؟
    :- النسيء هو بمعنى التأخير، فهم كانوا يلغون التحريم عن شهر، ويبدلونه بشهر آخر، وكان اهل الجاهلية يحلون القتال في محرم ويحلونه في صفر. يرى بعض العلماء ان هذا المحور القرآني يتناول ابحاثا مفصلة حول قتال المشركين، فهي تشير الى احد مقررات الحرب والجهاد في الاسلام وهو احترام اشهر الحرم.
    وأما النسيء فهو يكشف طريقة التفكير التي يديرون بها حياتهم، ودرجة تحمسهم للحرب، ويكثرون من الاغارة والى سفك الدماء والحرب، فكان هذا القتل يمثل جزءا من حياتهم، فهم كانوا يستجيبون لبعض هذا التحريم، مثلا في موسم الحج، لم يكن الحج لديهم مسألة عبادية، وإنما كان موسما تجاريا منذ زمن ابراهيم (عليه السلام)، يجتمع فيه خلق كبير، وتقام الاسواق التجارية والاقتصادية والمحافل الشعرية والخطابية، ويجنون منها فوائد جمة، وهكذا كان القوم تحركهم مصالحهم.
    &&&
    (17)

    علي حسين الخباز, [21.01.21 01:04]
    صرت أتوقع المزيد من الأسئلة، فحالة الاطمئنان فعّلت هذا الحضور الذهني، وهذا الحوار، والنقاش الجاد... وهذه الأيادي المرفوعة صارت تتزاحم لتعبر عن معنى وجودها، ليس بين أولئك التلاميذ من انتحى جانباً، بل الجميع تفاعلوا، أحدهم يسأل عن معنى مفردة (حنيذ)؟
    قلت:- هذه المفردة القرآنية موجودة في سورة هود آية: 69: (فَمَا لَبثَ أَن جَاء بِعِجلٍ حَنِيذٍ)، ويعني انه لم يتوقف حتى جاء على عادته في اكرام الضيوف، وتقديم الطعام اليهم.
    العجل: هو ولد البقرة، سمي بذلك لتعجيل أمره بقرب ميلاده. والحنيذ: المشوي، ومعناه محنوذ، وقيل بمعنى نضيج مشوي، وقال بعض النحاة: إن الحنيذ هو الذي يقطر ماؤه، فتقول العرب: أحنذ، أي قدم الطعام إليهم، وهم ملائكة؛ لأنه رآهم في صورة البشر. وقال الامام الصادق (عليه السلام): الحنيذ يعني زكيا مشويا نضيجا، وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (قال لهم: كلوا، فقالوا: لا نأكل إلا بعد أن نعرف ثمنه، قال: اذا أكلتم قولوا بسم الله، وإذا فرغتم قولوا: الحمد لله، قال: فالتفت جبرئيل الى أصحابه وقال لهم: حق الله أن يتخذ هذا خليلاً).
    &&&
    18))

    أثمر الجهد عن تفاعل نادر في عرض الأسئلة، والتحاور في بنية كل سؤال، وهذا الثمر الزاكي يمنحني البهجة والسعادة والرضا، رفع أحد التلاميذ يده بقوة تعلو على بقية الأيادي المرفوعة، وعندما سمحت له قال:- أستاذ، في سورة الأنبياء: آية 58، وردت (فجعَلَهُم جُذَاذًا إلا كَبيرًا لهُم لَعَلهُم إِلَيهِ يَرجعُونَ) فما معنى مفردة (جذاذا)؟
    قلت:- لو تأملنا القصة لعرفنا أن نبي الله ابراهيم (عليه السلام)، كسر اصنامهم فجعلهم جذاذا أي قطعاً، وقال ابن عباس: إن معنى الجذاذ الحطام، وركز الشيخ الطوسي في كتاب (التبيان في تفسير القرآن) على مفردة (كبيرهم) ربما هو كبيرهم حجما، وجائز ايضا ان يكون كبيرهم قدرا وتعظيما عندهم، فيرجعون اليه عساهم يندمون.
    يقول الفيض الكاشاني (قدس سره): بعدما بلغ نبي الله ابراهيم (عليه السلام) رسالة الله سبحانه تعالى، قال (عليه السلام): (وَتَاللَّهِ لَأَكيدَنَّ أَصنَامَكُم) والكيد هنا اسلوب عمل به ابراهيم (عليه السلام) إذ ترك كبيرهم من أجل أن يسألوه عن الفاعل، عساهم يدركون انه لا ينفعهم بشيء، وحين اتهموه قال: فعل هذا العمل كبيرهم.
    رفع تلميذ يده ليعقب أو ربما ليتداخل مع معلومة لاحت في دماغه، هذا الطالب شكل عندي انموذجا طيبا للحراك الذهني، إذ أجده يلج عمق الموضوع في تعليقاته أو تعقيباته، قلت له:- تفضل.
    فقال:- عفواً أستاذ، ألا يشكل مثل هذا المحور نوعا من انواع الكذب حين اخبرهم ان كبيرهم قد كسر الاصنام الباقية وحطمها، وحاشا نبي الله ابراهيم من الكذب، فلابد هناك من معنى آخر قد لا نستطيع أن نقف نحن على استيعابه؟
    قلت:- قال الامام الصادق (عليه السلام): انما قال ابراهيم: ان كانوا ينطقون فكبيرهم فعل، وان لم ينطقوا فلم يفعل كبيرهم شيئا، فما نطقوا وما كذب ابراهيم (عليه السلام).
    وهنا انقلب القوم من المجادلة الى التفكر والمراجعة: لقد علمت يا ابراهيم ما هؤلاء ينطقون، فكيف تأمر بسؤالهم؟ فأجابهم (عليه السلام): (أَفَتعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ما لَا يَنفعُكُم شَيئًا وَلَا يَضُرُّكُم)؟
    فالجذاذ: يعني جعله حطاما من الجذ وهو القطع.
    رفع يده تلميذ آخر، وقد شخصته في عدة محاورات، بأنه بليغ الملاحظة، فقال:- أستاذ، أنا أقف عند مفردة (فتى) في قوله تعالى: (قَالُوا سَمِعنَا فَتى يَذكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبرَاهِيمُ)، وهذا يعني لي أن عمر ابراهيم كان صغيراً حسب منطوق التفسير؟
    قلت:- كان ابراهيم (عليه السلام) رجلا فيه كل خصائص الرجولة من الشجاعة والشهامة والصرامة، إلا أنك لو تأملت في قولهم (فتى)، فستجد مرادهم لم يكن سوى التحقير، فبدل أن يقولوا: ان ابراهيم قد فعل، قالوا: ان فتى يقال له ابراهيم، وكأنهم يريدون أن يقولوا: إن فردا مجهولا لا قيمة له قد فعل هذا.
    &&&
    (19)

    علي حسين الخباز, [21.01.21 01:04]
    صرت أبحر بين الأيادي المرفوعة متفحصاً الوجوه لأضمن شمولية المشاركة، فأنا أريد من الجميع الحضور الذهني الفاعل، ولا أريد أن ينعزل أحد منهم، فانتقيت واحداً من التلاميذ، كنت قد شخصته في عدة محاورات، بأنه بليغ الملاحظة، فقال:- أستاذ، أنا أقف عند مفردة (فتى) في قوله تعالى: (قَالُوا سَمِعنَا فَتى يَذكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبرَاهِيمُ)، وهذا يعني لي أن عمر ابراهيم كان صغيراً حسب منطوق التفسير؟
    قلت:- كان ابراهيم (عليه السلام) رجلا فيه كل خصائص الرجولة من الشجاعة والشهامة والصرامة، إلا أنك لو تأملت في قولهم (فتى)، فستجد مرادهم لم يكن سوى التحقير، فبدل أن يقولوا: ان ابراهيم قد فعل، قالوا: ان فتى يقال له ابراهيم، وكأنهم يريدون أن يقولوا: إن فردا مجهولا لا قيمة له قد فعل هذا.
    رفع يده تلميذ آخر، فقال:- أستاذ، ما معنى مفردة (الجرز)؟
    قلت:- الجرز: الأرض التي ليس فيها شيء، بدلالة قوله تعالى: (أَوَلَم يَرَوا أَنَّا نَسُوقُ المَاء إِلَى الأَرضِ الجُرُزِ فَنُخرِجُ بِهِ زَرعًا تَأكُلُ مِنهُ أَنعَامُهُم وَأَنفُسُهُم أَفَلَا يُبصِرُونَ). قال الشيخ الطوسي: إن السوق هو الحث على السير، بمعنى: نسوق ماء المطر الى هذه الارض الجزر، فتنبت ضروبا من النبات الذي يتغذى عليه الانسان والانعام.
    ويذهب العلامة الفيض الكاشاني الى ان الجرز هي الارض التي قطع نباتها، وأزيل. والعلامة القمي قال: انها الارض الخراب... انبسطت روحي امام هذا الزهو الجميل، فصرت انظر بهدوء الى وجومهم، وكأنهم يريدون أن يأخذوا وقتا لهضم المعلومة.
    رفع احد الطلاب يده وقال: (وَلَقَد خَلَقنَا السمَاوَاتِ وَالأَرضَ وَمَا بَينَهُمَا فِي ستةِ أَيامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لغُوبٍ) فما معنى لغوب يا أستاذ؟
    قلت: بعض علماء اللغة يراها الوجع، ويراها الشيخ الطوسي انها تعني الاعياء او العناء... وقطع الحديث طالب متحمس لسؤاله: حسناً يا أستاذ، ما معنى حُبك؟
    قلت: قسم أقسمه الله تعالى: (وَالسمَاء ذاتِ الحُبُكِ) وهي تعني الطرائق التي ترى من السماء، وترى من الماء الصافي إذا مرت عليه الريح و(الحبك) أثر الصفة في الشيء المحبوك، أي حسن الطرائق. حبك السيف اذا قطع اللحم دون العظم. ويقول سعيد بن جبير: ذات الحبك يعني الزينة بالنجوم، وهي صفة للسماء، وقيل: الحبك النسيج الحسن، يقال: ثوب محبوك.
    &&&

    (20)

    مثلما أرى انبهارهم بالأجوبة وسرعتها، فأنا أيضاً منبهر بما يملكون من امكانية صناعة السؤال، والقدرة على خلق السؤال فهم لوضعية الدرس، وخاصة عندما يفكر أولئك الطلبة باستثمار الدرس بمعلومات من خارج المنهج الدراسي... ويبدو لي أن المؤسسة الدينية الثقافية التي استوعبت هؤلاء الطلبة بتنظيمهم تحت لواء مجمع قرآني في اماكن سكناهم، له دور كبير في ترسيخ هذا الوعي...
    رفع احد الطلاب يده:- أستاذ، جاء في قوله تعالى: (وقَالُوا رَبنَا عَجِّل لنَا قطنَا قَبلَ يَومِ الحِسَابِ)، فما معنى (قطنا)؟
    قلت:- يقول الشيخ الطوسي في كتاب (التبيان في تفسير القرآن) يخبرنا الله عن هؤلاء الكفار الذين يقولون مستهزئين بيوم الحساب، ويطلبون من الله ان يعجل بتقديم نصيبهم من العذاب، ويرى بعض المفسرين أنما سألوا أن يريهم حظهم من النعيم، بينما أمير المؤمنين وسيد المفسرين (عليه السلام) قال عنهم: انهم استعجلوا نصيبهم من العذاب قبل يوم الحساب استهزاء.
    رفع أحد الطلاب يده:- أستاذ، ما هو معناها اللغوي؟
    :- القطوط هي الكتب التي تعد للجوائز، والقط النصيب، وأصله القطع، وورد في تفسير الأمثل للسيد مكارم الشيرازي أن الغرور قد بلغ مبلغاً كبيراً عند المغرورين، لحد الاستهزاء بعذاب الله ومحكمته العادلة الى القول: لم تأخرت علينا حصتنا من العذاب؟ لماذا لا يوفينا الله حظنا من العذاب بسرعة؟
    رفع مراقب الصف يده، وقال:- أستاذ، نحن نشكر مجهودك معنا، ونأمل أن يسع صدرك حجم إلحاحنا، فما لدينا هو تراكم أسئلة في البال؟
    قلت: أنا أديب قبل أن أكون مدرسا، وقبل هذا انا ابن شيخ حوزوي، يعني ابن هذه البيئة التي تتحاورون في صلبها اليوم، فاسألوا وسأجيب بما أعرفه، وأترك ما لا أعرفه إلى درس آخر.
    قال: أستاذ، طالما استوقفتنا مفردة (ضيزى ) فما هو معناها؟
    قلت:- لو تمعنا في الآية، لوجدنا أن الكفار قالوا: إن الملائكة بنات الله، ولم يقولوا ابناء الله، فلذلك صار التجاوز من محورين: الأول: إنهم أضافوا لله مالا يليق به، فهو وحده لا شريك له، فهذا التجاوز الاول عندما وضعوا له ابناء. أما الثاني: انهم يميزون الاولاد على البنات، لكنهم اضافوا مالا يقبلون به، تمايزا الى الله، اي لا يرضون بالبنات، لكنهم يرضون ان تكون لله تعالى..!
    قال المراقب:- أستاذ، نريد أن نعرف ما معناها لغة؟
    قلت:- قسمة (ضيزى) أي انها جائرة، ويرى البعض انها تعني المنقوصة، وقيل أيضاً: إن (ضيزى) تعني الفاسدة، وهي غير جائزة.
    قال تلميذ: أستاذ، الذي لا أفهمه هو: هل يرى الله ان البنت أقل حظا من الولد؛ كي يراها ضيزى؟

    علي حسين الخباز, [21.01.21 01:04]
    قلت:- أخبرتكم أن الأمر اساسا غير جائز سواء بنتا أم ولداً، لكن المسألة في انهم حتى بهذا غير الجائز فضلوا أنفسهم على الله سبحانه، أي النظر الى المسألة المعنوية، بينما يرى البعض من المفسرين أن أفضلية الذكر على الانثى كما يرى المجتمع آنذاك تأتي لكون الذكر يصلح لما لا تصلح له الأنثى، وينتفع بالولد بما لا ينتفع بالأنثى لمشاق الحياة، ويبررون ذلك بأن الله لم يبعث نبياً من الإناث.
    &&&&
    (21)

    أشعر باعتزاز لأني استطعت أن أوفر لهؤلاء الطلبة هذا الجو الذي حفزهم للتفاعل مع الأسئلة، ونحن نصل الى الدقائق الأخيرة من زمن الفصل، رفع أحد الطلاب يده: أستاذ، هناك سورة قرآنية مباركة ورد فيها قوله تعالى: (وهُو الذِي يَتوفاكُم بالليلِ ويَعلَمُ مَا جَرحتُم بالنهَار) فما معنى كلمة (جرحتم)؟ قلت: أولاً، علينا أن نعرف معنى (يتوفاكم بالليل)، يرى الشيخ الطوسي (قدس سره) أنه عند قبض الأنفس يكون الانسان فاقداً للتمييز والعقل، وان لم يفقد الحياة، الوفاة مخصصة ضد الموت، والوفاة المعنية هنا مخصصة ضد اليقظة.
    وفي (تفسير الآصفي) جاء في معنى (جرحتم) أنها اشتقت من الجوارح اي بمعنى ما كسبت جوارحكم. وأجد أن هناك معنى لابد أن نبحث فيه، وهو ان الله تعالى يقول للناس:- انكم تعيشون تحت قدرة الله، والله قادر على جمع شمل الانسان النائم باليقظة، وهذا الامر يحفز السلامة واستقامة الجوارح.
    رفع طالب يده معقباً:- أستاذ، نحن نعلم أن كل كلمة وردت في القرآن لها اشتغال معين، واستبدال مفردة كسبتم بجرحتم لابد أن لها معنى اشتغاليا معينا نود معرفته؟ سؤال جميل من طالب ذكي، تميز بادراك العمق المعنوي لكل اشتغال، قلت:
    إن قيمة ذكر الجوارح جاءت بمعنى ذكر التفاصيل الدقيقة على كثرتها، فالجوارح وما تخفيه من تفاصيل هي بعلم الله سبحانه وتعالى. هناك دليل آخر لمعنى أعم يشمل الرحمة الواسعة، وأنا شخصيا ارى ان هذه الاية فيها قيمة الحركة من النوم الى اليقظة، وهي صورة اولية موثقة من يقظة الميت الى الحساب.
    فاجأني أحد الطلاب في اللحظات الاخيرة من الدرس، وهو يرفع يده:-
    أستاذ، وردت في سورة عيسى (وفَاكهَةً وأَبًّا) وبقيت في حيرة من امري، وبحثت عن معنى (أَبًّا) فلم أجده؟ قلت:- سأختصر الاجابة، سألوا احد الخلفاء عن معنى (أبّا) فقال:ـ أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، اذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم، وحين بلغ ذلك أمير المؤمنين علياً (عليه السلام)، قال:- اما علم ان (الأبا) هو الكلأ والمرعى. ورفع أحد الطلاب يده وقال: أستاذ، اسئلتنا كثيرة، فحبذا لو كتبنا لك الأسئلة في اوراق كي تراجعها في البيت وتكتب الاجوبة لنا، ونحن نشكر لك هذا المجهود الطيب منك يا أستاذ.
    &&&
    (22)
    انتهى أجمل درس في حياتي، ولم يبق منه سوى قصاصات ورق دوّنها لي الطلبة، تحمل بعض استفساراتهم التي لم يسعفها الوقت للطرح، رأيت في قصاصات الورق حياة تتحرك، حيث أصابع مرفوعة وألسنة تلهج بطلب السؤال، قصاصات ورق لرؤى فيها وجوههم وقلوبهم التي تحلم بالمعرفة، أشياء جميلة بقيت معي في الذاكرة.
    بعض هذه الأسئلة مكررة، وبعضها الآخر معلوم ومعروف، وهذا لا يعبر إلا عن صفاء مشاعرهم، فقد عزموا على المشاركة في هذه التظاهرة بكل ما لديهم من وقت، حتى لو كان عبر هذه القصاصات البسيطة.
    سؤال واحد سحب اهتمامي، وكان عن معنى (غُلف) في قوله تعالى: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلفٌ بَل لعَنَهُمُ اللَّه بِكُفرِهِم فَقَلِيلاً ما يُؤمِنُونَ) كتبت في نهاية القصاصة، قال الشيخ الطوسي (قدس سره) إذ قال: إن جماعة من الكفار ادعوا أن قلوبهم ممنوعة من القبول، وعليها غشاوة، وذهبوا الى أن هذه الغشاوة مقدرة لهم من الله، ولا شأن لهم بها، فلعنهم الله بكفرهم، وهذا يعني أنهم كفروا وأعجبوا بكفرهم، وهذه الآية كما يرى الكثير من العلماء انها رد على جماعة (المجبرة) من اهل الجبر والتفويض؛ لأنهم قالوا مثل هذا القول الذي قالته اليهود من أن على قلوبهم ما يجمع من الايمان.
    والغلف هو الغلاف ويعني الغطاء، ورحت بعدها أقلب في القصاصات التي أمامي، كانت القصاصة الأخيرة بين يدي عن معنى (الغول)، والتي وردت في الآية (47) من سورة الصافات: (لَا فيهَا غَولٌ وَلَا هُم عَنهَا يُنزَفُونَ)، والغول هو الفساد الذي يلحق العقل، ومنها الاغتيال والغيلة.
    ويرى بعض النقاد أن ليس فيها (غول) يعني ليس فيها صداع ولا أذى، كما يكون في خمر الدنيا، فخمر الآخرة ليس فيه نزف أي أنهم لا يسكرون من نزف، وبهذا انتهت مذكرات الدرس الأول، لكن ذكرياته بقيت تلازمني طوال حياتي التدريسية، أودعهم في كل جيل دراسي لاستقبلهم في السنة التي بعدها، أبحث في كل دفعة جديدة عن وجوههم وعن حماسهم، ولهذا أفرح كثيراً عندما أرى نشاطاً ثقافياً قرآنياً لأي دائرة أو مؤسسة تحتضن الشباب، وتؤسس لهم مشروعهم الثقافي والقرآني، لكونها تزرع فيهم حب البحث والقراءة.

  • #2
    اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وفقكم الله

    تعليق

    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
    حفظ-تلقائي
    Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
    x
    يعمل...
    X