الإمامُ موسى بن جعفر الكاظم ( عليه السلام ) يَستَشهِدُ في السجنِ مَسموما
______________________________________
قالَ اللهُ تعالى في مُحكم كتابه العزيز:
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً }الأحزاب23
في سنة 179 للهجرة أمرَ الطاغيّةُ هارون (170-193 هجري) خَليفةُ العباسيين على المسلمين
باعتقال الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام )
وتذكرُ الأخبارُ ( أنَّ هارون الرشيد قبضَ على موسى بن جعفر سنة تسع وسبعين ومائة في سفره إلى مكة المعظمة , وهو (عليه السلام ) عند رأس النبي محمد
(صلى الله عليه وآله ) قائماً يُصلي ، فقطعَ عليه صلاته وحُمِلَ وهو يبكي
ويقول : إليك أشكو يا رسول الله ما ألقى .
وأقبلَ الناسُ من كل جانبٍ يبكون ويضجون , فلما حُمِلَ إلى بين يدي الرشيد سلَّم على الرشيد , فلم يردَّ عليه السلام وشتمه وجفاه وقيَّده , فلما جَنَّ عليه الليل أمر بقبتين فهيأ له , فحُمِلَ موسى بن جعفر إلى إحداهما في خفاء ,
ودفعه إلى حسان السروي وأمره أن يسير به في قبته إلى البصرة , فيسلمه إلى عيسى بن جعفر - وهو أميرها , ووجه قبة أخرى علانية نهارا إلى الكوفة معها جماعة ليعمى على الناس أمر موسى بن جعفر , فقِدمَ حسان البصرة قبل التروية بيوم , فدفعه إلى عيسى بن جعفر نهارا علانية حتى عرف ذلك وشاع أمره )
: عيون أخبار الرضا : الصدوق :ج2:ص82.
( فحبسه عيسى بن جعفر في بيتٍ من بيوت المَحبس الذي كان يحبس فيه ، وأقفلَ عليه وشغله عنه العيد , فكان لا يفتح عن الإمام الكاظم الباب إلاّ في حالتين :
حالٍ يخرج فيها إلى الطهور , وحالٍ يدخل إليه فيها الطعام )
: المناقب :ابن شهر آشوب :ج3:ص440.
وبقيَ ( عليه السلام ) في السجن هناك سنةً ثم اُرسِلَ إلى بغداد
قال الشيخ الثقةُ الصدوق (رحِمَه الله تعالى )
( لما مضتْ أيام قضاها في سجن البصرة , حُمِلَ موسى بن جعفر سراً إلى بغداد وحُبسَ عند الفضل بن الربيع , ثم أُطلقَ ثم حُبسَ , ثم سُلِّمَ إلى السندي بن شاهك
فحبسه وضيَّقَ عليه )
: عيون أخبار الرضا : الصدوق :ج2:ص84.
( فسُجِنَ الإمام الكاظم (عليه السلام ) في بغداد , عند الفضل بن الربيع وبقي عنده فترة طويلة , فكان :الفضل بن الربيع :يقول :
قد أرسلوا إليَّ في غير مرة يأمرونني بقتله , فلم أجبهم إلى ذلك ، وأعلمتهم أنَّي لا أفعل ذلك , ولو قتلوني ما أجبتهم إلى ما سألوني .
فلما كان بعد ذلك حُوِّلَ الإمام الكاظم إلى الفضل بن يحيى البرمكي ، فحبس عنده أياما )
: الأمالي : الصدوق :ص211.
( ثم حُبِسَ في سجن السندي بن شاهك أخيرا , وعندما أدخل عليه السندي بن شاهك جماعة من الوجوه ليروا حال الإمام الكاظم , فقد خاطبهم (عليه السلام )
فقال:
أيها النفر ، إنِّي قد سُقيتُ السمُ في تسع تمرات
وإنِّي أحضرُ غدا ، وبعد غد أموت )
:الأمالي : الصدوق :ص213.
و تكمن العبرة والدروس الحقيقية في منظومة الإمام موسى بن جعفر الكاظم الجهادية والمعرفية والعبادية , باتخاذه من السجن مَعبداً مُقدَّساً , ومن وحشته ووحدته أنساً بذكر الله تعالى .
فنهاره صائم وليله قائم .
( وروى أحدُ الذين كُلُّفُوا بمراقبته في سجن البصرة
أنه سمع الإمام الكاظم : يقول :
ألّلهُمّ إنَّك تعلم أني كنتُ أسألكَ أن تفرغني لعبادتك
وقد فعلتَ ذلك فلك الحمدُ )
:بحار الأنوار: المجلسي :ج48 :ص107.
كانَ الطاغية هارون العباسي ينقلُ الإمام الكاظم من سجن الى سجن محاولةً منه,
لاستضعاف الإمام (عليه السلام )
حتى أنّ هارون ذات يوم أرسل مَن يتوسط إلى الإمام الكاظم , ليظهر لهارون الاعتذار ويسأله العفو , فيطلق سراح الإمام .
( روى محمد بن خالد البرقي ، عن محمد بن عباد المهلبي
قال : لما حبسَ هارون الرشيد أبا إبراهيم أي( الإمام موسى بن جعفر الكاظم )
وأظهر الدلائل والمعجزات وهو في الحبس , تحيَّرَ الرشيد فدعا يحيى بن خالد البرمكي فقال له :
يا أبا علي أما ترى ما نحن فيه من هذه العجائب , ألا تدبر في أمر هذا الرجل تدبيرا يريحنا من غمه ؟
فقال له يحيى بن خالد البرمكي :
الذي أراه لك يا أمير المؤمنين أن تمنن عليه
وتصل رحِمَه , فقد - والله - أفسد علينا قلوب شيعتنا .
فقال هارون : انطلق إليه وأطلق عنه الحديد , وأبلغه عني السلام
وقل له : يقول لك ابن عمك :
إنه قد سبق مني فيك يمين أنِّي لا أخليك
حتى تقر لي بالإساءة ، وتسألني العفو عما سلف منك , وليس عليك في إقرارك عار , ولا في مسألتك إياي منقصة .
وهذا يحيى بن خالد هو ثقتي ووزيري
وصاحب أمري ، فسله بقدر ما أخرج من يميني وانصرف راشدا .
ولكن رفض الإمام الكاظم ذلك بشدة ,
وكان جوابه لهارون
( وستعلم غداً إذا جاثيتك بين يدي الله
مَن الظالم والمُعتدي على صاحبه والسلام ) )
: الغَيبَة : الطوسي :ص25.
وهكذا حَطّمَ الإمامُ الكاظمُ بصبره وجهاده وبثقته القوية بالله تعالى كل وسائل الجور والإرهاب العباسي , وإنْ كان الثمن نفسه الشريفة , ليتكفّلَ
سلامة الدين ورضا الله تعالى .
ولما نفذتْ كل وسائل الإرهاب عند هارون العباسي , لجأ إلى الحلِّ الأخير وهو اغتيال الإمام الكاظم بالسم في داخل السجن الظالم .
وهذا هو ديدن الطغاة الجبناء على مر التاريخ ...
فأمر هارون العباسي مديرَ شرطته في بغداد المُجرم السندي بن شاهك ,
وكان قاسيا مُجرما حيث وضع الامام في سجن مُظلم ومُطبق وأرهق الامام
بالسلاسل والقيود الحديدية ...
فعمل هذا المجرم على دس السم المقيت في طعام
قُدِّمَ للإمام , فلما تناول الإمام الطعامَ وأحسَّ بالسم يسري في جسده الطاهر ,
راح يقاوم أثار السم ثلاثة أيام , ولكنه لم يستطع مغالبة المنية المحتومة
هذا ما ذكره التأريخ نصاً
(وكان سبب وفاته: أي الإمام الكاظم , أنَّ يحيى بن خالد سمَّه في رطب وريحان
أرسل بهما إليه مسمومين بأمر الرشيد , :بعدما اجتمع بالسندي بن شاهك وقدّمَ له مُخطط اغتيال الإمام الكاظم فأجابه السندي مُتقبّلا طائعا )
:دلائل الإمامة : محمد بن جرير الطبري:الشيعي:ص305.
( ولما سُمَّ الإمام الكاظم , وجه الرشيد إليه بشهود حتى يشهدون عليه بخروجه عن أملاكه , ولما دخلوا قال (عليه السلام) : يا فلان بن فلان سُقيتَ السم
في يومي هذا , وفي غدٍ يصفار بدني ويحمار، وبعد غدٍ يسود وأموت .
فانصرف الشهود من عنده ,
فكان كما قال ( عليه السلام )
وتولى أمره ابنه الإمام علي الرضا , ودفن ببغداد بمقابر قريش ، في بقعة كان قبل وفاته ابتاعها :أي أشتراها : لنفسه )
:مقاتل الطالبيين :أبو الفرج الأصفهاني:ص333.
ويذكر شيخ الطائفة المفيد (رحمه الله تعالى ) أيضاً
( أنَّ الإمام الكاظم , قُبضَ قتيلا بالسم ببغداد في حبس السندي بن شاهك )
:المقنعة : المفيد :ص476 .
وفي رواية:
( قد عمدوا إلى ترك الإمام الكاظم ثلاثة أيام مُسجّى في السجن
ثم وضِعَ على جسر الكرخ ببغداد , يُنادى على جنازته
هذا موسى بن جعفر قد ماتَ فانظروا إليه )
:كشف الغمة في معرفة أحوال الأئمة: الأربلي :ج3:ص24.
ففاضت روحه الطاهرة في يوم 25 رجب من سنة 183 للهجرة, ورحلَ
(عليه السلام ) إلى جوار ربه مظلوماً مسموماً شهيدا
فسلامٌ على الإمام موسى بن جعفر الكاظم في العالمين , إنَّه من عباد الله المُخلَصين
____________________________________________
مرتضى علي الحلي : النجف الأشرف:
تعليق