قَالَ تَعَالَى : ﴿۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ - [سُّورَةُ الْمَائِدَةِ : 51.] وَقَالَ تَعَالَى : ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ - [سُّورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ : 1.]
تخبرنا الآية الكريمة أنّ بعضاً ممن كان مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يُكنُّ الولاء والود للكافرين واليهود المشركين ، وكان في يهود خيبر والمدينة وأم القرى ونجران واليمن والحيرة أكثر من مئة حاخام ، وكانت لهم مدارس متعددة ، وفي المدينة كان لهم مدرستان ، أكبرهما بيت المدراس أو بيت المدراش ، وكان يحضر فيها عمر بن الخطاب وبعض الصحابة .
صحيح البخاري - الجزء (4) - الصفحة (169) :- 3456 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ!»
لم يكن عُمَر بن الخطاب يسكن في المدينة ، بل كان يسكن منطقة اسمها العوالي خارج المدينة بعيداً عن مدينة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ولم يحضر عُمَر لمسجد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلّا كل يومين مرّة ! فيقول عُمَر عن نفسه كما روى البخاري في صحيحه - الجزء (1) - الصفحة (29) :- 89 - حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ ((عَوَالِي المَدِينَةِ)) وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ . ويقول أيضاً : « وَكَانَ مَنْزِلِي فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَوَالِي » . (مسند أحمد بن حنبل : ج1، ص347.)
وهنا السؤال : كيف لمسلمٍ يفضل مجاورة اليهود على مجاورة خاتم الأنبياء مُحَمَّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ؟! خاصةً وأنّه على قيد الحياة ، وكيف لمسلمٍ يتلّقى تعاليم يهوديّة في الوقت الذي كان يهود ونصارى الجزيرة يؤمنون بالنبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ؟!
-----
وقد كان عُمَر بن الخطاب يدرس عند اليهود ويأتي للنبي بكتب اليهود ويعرضها عليه . فكان عُمَر يأتي للنبي بصحف من التوراة حتى تضايق منه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وزجره في قوله المشهور : (أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ) ؟! قال ابن كثير في كتابه البداية والنهاية - الجزء (3) - الصفحة (35) :- قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا هَشِيمٌ أَنْبَأَنَا مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَغَضِبَ، وَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ . حسنّه الشيخ الألباني في" الإرواء " (6/ 34 رقم 1589) . وحسنّه الشيخ الأرناؤط عند تعليقه على" شرح السنة " (1/ 270) . وحسّنه الشيخ أبي الأشبال الزهيري في " جامع بيان العلم وفضله " (2/ 19)
والعوالي هذه كانت منطقة مساكن اليهود . ففي كتاب المعالم الأثيرة في السنة والسيرة لمحمد بن محمد حسن شُرّاب - الصفحة (228) :- «جُلُّ سُكنى اليهود كانت بالعالية من المدينة» . وفي كتاب السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري - الصفحة (427) :- «وكانت ديار بني قريظة في العوالي في الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مهزور». وفي كتاب مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول لأحمد إبراهيم الشريف - الصفحة (246) :- «وقد سكن اليهود الجهات الخصيبة الغنية في منطقة يثرب؛ فقد أقام بنو النضير بالعوالي في الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مذينب، وأقام بنو قريظة إلى شمالهم على وادي مهزور، أما بنو قينقاع فقد أقاموا عند منتهى جسر وادي بطحان مما يلي العالية، وكان لهم هناك سوق من أسواق المدينة عُرفت بهم».
وما دام أنّ عُمَر كان مقيماً في المناطق اليهوديّة فلابُدّ أن يتردد إلى مدارسهم من أجل تلقّي التعاليم والأحاديث اليهودية ، فكان عُمَر يواضب على الحضور في كنائس اليهود كما يروي عُمَر نفسه حيث يقول : «إِنِّي كُنْتُ (أَغْشَى) الْيَهُودَ يَوْمَ دِرَاسَتِهِمْ ، فَقَالُوا: مَا مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ أكرم علينا منك؛ لأَنك تَأْتِينَا» . (المطالب العاليّة لابن حجر العسقلاني : ج2، ص446، ح3521.) وكما شهد به السدّي إذ يقول : «كَانَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَرْضٌ بِأَعْلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَأْتِيهَا، وَكَانَ مَمَرُّهُ عَلَى طَرِيقِ مِدْرَاسِ الْيَهُودِ، وَكَانَ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ سَمِعَ مِنْهُمْ. وَإِنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِمْ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالُوا: يَا عُمَرُ مَا فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْكَ. إِنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِنَا فَيُؤْذُونَنَا، وَتَمُرُّ بِنَا فَلَا تُؤْذِينَا، وَإِنَّا لَنَطْمَعُ فِيكَ» . (تفسير الطبري : ج2، ص290 . وتفسير السيوطي : ج1، ص223.)
-----
فاستغل اليهود عُمَر وطمعوا في أن يتركوا تأثيراً على النبي بواسطته ، فقاموا بترجمة التوراة للعربية وكلفوه ان يأخذها للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويعرضها عليه لكي يعترف بها ، فجاء عُمَر بن الخطاب يوماً وطلب من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يسمح له بدراسة التوراة مع اليهود ، ذكر الهيثمي في كتابه كشف الأستار - الجزء (1) - الصفحة (78) :- 124 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ، أنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، ثنا خَالِدٌ، حَدَّثَنِي عَامِرٌ، ثنا جَابِرٌ، ح، وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: نَسَخَ عُمَرُ كِتَابًا مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: وَيْحَكَ يَابْنَ الْخَطَّابِ! أَلا تَرَى وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي» .
وذكر البيهقي في كتابه شعب الإيمان - الجزء (7) - الصفحة (171) :- 4838 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أنا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الضُّبَعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ الْعُودِيُّ، ثنا الشَّاذَكُونِيُّ، ثنا يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ، ثنا أَبُو النَّصْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ سَمِعَ خَلَّادَ بْنَ السَّائِبِ، يُحَدِّثُ بِهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ، قَالَ: " لَا تَتَعَلَّمْهَا وَآمِنْ بِهَا، وَتَعَلَّمُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَآمَنُوا بِهِ " .
وكان يقول عُمَر بن الخطاب عن نفسه : (إِنِّي انْطَلَقْتُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَيْتُ خَيْبَرَ، فَوَجَدْتُ يَهُودِيًّا يَقُولُ قَوْلًا فَأَعْجَبَنِي، فَقُلْتُ: هَلْ أَنْتَ مُكْتِبِي مِمَّا تَقُولُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَتَيْتُهُ بِأَدِيمِ ثَنِيَّةٍ أَوْ جَذَعَةٍ، فَجَعَلَ يُمْلِي عَلَيَّ حَتَّى كَتَبْتُ فِي الْأَكْرَعِ رَغْبَةً فِي قَوْلِهِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أَتَيْتُ يَهُودِيًّا، يَقُولُ قَوْلًا لَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهُ بَعْدَكَ، قَالَ: «فَلَعَلَّكَ اكْتَتَبْتَ مِنْهُ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «ائْتِنِي بِهِ» ، فَانْطَلَقْتُ أَرْغَبُ عَنِ الْمَشْيِ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ جِئْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ مَا يُحِبُّ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ بِهِ قَالَ: «اجْلِسِ اقْرَأْهُ عَلَيَّ» فَقَرَأْتُ سَاعَةً، ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا هُوَ يَتْلُونَ، فَخِرْتُ مِنَ الْفَرَقِ، فَمَا اسْتَطَعْتُ أُجِيزُ مِنْهُ حَرْفًا، فَلَمَّا رَأَى الَّذِي بِي دَفَعْتُهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَتَبَّعُهُ رَسْمًا فَيَمْحُوهُ بَرِيقِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «لَا تَتَّبِعُوا هَؤُلَاءِ قَدْ هَوَّكُوا وَتَهَوَّكُوا» حَتَّى مَحَا آخِرَهُ حَرْفًا) . (مسند الشاميين للطبراني : ج3، ص85، ح1844.)
وكان عُمَر بن الخطاب ينبهر ويتعجّب بالأحاديث اليهوديّة التي استهوت قلبه ، ذكر الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - الجزء (2) - الصفحة (161) :- 1488 - أنا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ نِيخَابٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا جَرِيرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُحَدِّثُونَا بِأَحَادِيثَ قَدْ أَخَذَتْ بِقُلُوبِنَا وَقَدْ هَمَمْنَا أَنْ نَكْتُبَهَا فَقَالَ: «أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا يَتَهَوَّكُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟! أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً ، وَلَكِنِّي أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ، وَاخْتُصِرَ لِي الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا» . راجع أيضاً الدر المنثور للسيوطي : (ج6، ص473.)
-----
واستمر عمر بن الخطاب مع جماعته بالحضور عند اليهود إلى أن ضبطه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوما وهو يحمل كتابا نسخه من أهل الكتاب جاء به في أديم ، فقال له النبي : «مَا هَذَا الَّذِي فِي يَدِكَ يَا عُمَرُ» ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كِتَابٌ نَسَخْتُهُ لِنَزْدَادَ بِهِ عِلْمًا إِلَى عِلْمِنَا. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ ثُمَّ نُودِيَ بِالصَّلاةِ جَامِعَةً. فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: غَضِبَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّلاحَ السِّلاحَ؛ فَجَاءُوا حَتَّى أَحْدَقُوا بِمِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَاخْتَصَرَ لِي اخْتِصَارًا وَلَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً فَلا تَهَوَّكُوا وَلا يَغُرَّنَّكُمُ الْمُتَهَوِّكُونَ» . (الهيثمي في المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي : ج1، ص60، ح62.)
-----
بل أنّ عُمَر بن الخطاب قد تآخى مع اليهود ، حيث قال للنبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «إِنِّي مَرَرْتُ بِأَخٍ لِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَكَتَبَ لِي جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَلَا أَعْرِضُهَا عَلَيْكَ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . (الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد للهيثمي : ج1، ص173، ح806.) ولقد أصرّ عُمَر بن الخطاب مرّةً أخرى للتأثير على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، لدرجة أنّ عبد الله بن زيد قال لعمر بلهجة قوية "امسخ الله عقلك"؟! ، ذكر الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد - الجزء (1) - الصفحة (174) :- 810 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «جَاءَ عُمَرُ بِجَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَوَامِعُ مِنَ التَّوْرَاةِ أَخَذْتُهَا مِنْ أَخٍ لِي مَنْ بَنِي زُرَيْقٍ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الَّذِي أُرِيَ الْأَذَانَ: أَمَسَخَ اللَّهُ عَقْلَكَ؟ أَلَا تَرَى الَّذِي بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا. فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ كَانَ مُوسَى بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا، أَنْتُمْ حَظِّي مِنَ الْأُمَمِ وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَفِيهِ أَبُو عَامِرٍ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيُّ، وَلَمْ أَرَ مَنْ تَرْجَمَهُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ مُوَثَّقُونَ .
وقد أدى ذلك إلى غضب النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتّى احمَّرت وجنتاه وتغير لون وجهه الكريم ! وأنّ الأنصار حين رأوا هذا الغضب الشديد رفعوا السلاح وقالوا : «أَغْضِبَ نَبِيُّكُمْ؟! السِّلَاحَ السِّلَاحَ، فَجَاءُوا حَتَّى أَحْدَقُوا بِمِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ، وَاخْتُصِرَ لِي اخْتِصَارًا، وَلَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، فَلَا تَتَهَوَّكُوا، وَلَا يَغُرَّنَّكُمُ الْمُتَهَوِّكُونَ» . (تفسير ابن كثير : ج4، ص315.)
-----
ولم يكن عمر يدرس عند اليهود فقط بل كان مدافعاً عنهم ، فعندما اتفق النبي مع عروة بن مسعود على دفع يهود بني قريظة لطلب رهائن من قريش كشرط لهجومهم لم يوافق عُمَر وقال له: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْرُ بَنِي قُرَيْظَةَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يُؤْثَرُ عَنْك شَيْءٌ مِنْ أَجْلِ صَنِيعِهِمْ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْحَرْبُ خُدْعَةٌ يَا عُمَرُ» . فَكَانَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ سَبَبَ تَفَرُّقِهِمْ وَتَفَرُّقِ كَلِمَتِهِمْ وَانْهِزَامِهِمْ . (السرخسي في كتابه شرح السير الكبير : ص121.) ولم يستمع النبي لعمر بن الخطاب وأخفى عنه الخطة .
-----
وعندما عجز عُمَر حاول التأثير على النبي من خلال زوجاته ، فأرسل ابنته (حفصة) بصحيفة من التوراة فيها قصة يوسف ومن دون اذن من النبي جعلت حفصة تقرأ على النبي من التوراة ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ حَفْصَةَ، جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ مِنْ قَصَصِ يُوسُفَ فِي كَتِفٍ، فَجَعَلَتْ تَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَلَوَّنُ وَجْهُهُ، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَتَاكُمْ يُوسُفُ وَأَنَا بَيْنَكُمْ فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ» . (جامع معمر بن راشد : ج11، ص110، ح20061.)
-----
فإذاً لا يمكن اعتبار ما كان من عمر حادثة عرضية عابرة بسيطة أو فلتة مقبولة ؛ لأنّها لو كانت كذلك لمَّا أصرَّ على النبي مرّاتٍ كثيرة في سبيل قبول كتب اليهود المحرّفة ، والذي أدَّى لغضب النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كاحمرار وجنتاه الشريفة وتغير وجهه الكريم على عُمَر ! ولمّا أدَّى إلى قيام الأنصار برفع السلاح وتعجبهم من غضب النبي على عُمَر حتى احدقوا على منبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يريدون القتال ! كل هذا يعني أنّ عُمَر في مؤاخاته لليهود ومجاورتهم وتلقي الأحاديث والكتب المحرّفة منهم كان أمراً خطيراً يهدد كيان الإسلام . حتّى أنزل الله قرآناً يذمُ اليهود ويلعنهم في عشرات الآيات الكريمة ، فلقد انطبقت على عُمَر بن الخطاب هذه الآية الكريمة ، قَالَ تَعَالَى : ﴿۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ - [سُّورَةُ الْمَائِدَةِ : 51.] ولأَنّه إذا كان الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غاضباً على عُمَر بن الخطاب بسبب تلك الأفعال المنكرة ؛ فإنّ اليهود في المقابل كانوا راضين عن عُمَر تمام الرضا ، وكانوا يُكِنِّون له حبّاً خاصّاً لأَنّه يتواصل معهم ويأتيهم .
علاقة الحب بين عُمَر بن الخطاب واليهود امتدت إلى ما بعد استشهاد النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رغم الآيات التي نزلت في ذمهم والتحذير منهم ؛ ورغم الغدر الذي كان منهم والحروب التي نشبت بينهم وبين المسلمين . من صورها أن اليهود كانوا أول من منح عمر بن الخطاب وسام (الفاروق) ! خلافًا لما يتوهمه معظم المسلمين من أنّ عُمَر اكتسب هذا اللقب من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، فالحقيقة أنّه لم يكتسبه منه إطلاقاً بل لم يكتسبه من المسلمين ، بل اكتسبه من إخوانه اليهود إذ يقول ابن شهاب : «بَلَغَنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ، كَانُوا أَوَّلَ مَنْ قَالَ لِعُمَرَ الْفَارُوقَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُؤْثِرُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا لِعُمَرَ» . (تاريخ المدينة لابن شبة :ج، ص662 . والطبقات الكبرى لابن سعد : ج3، ص270 . وتاريخ دمشق لابن عساكر : ج44، ص51 . ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور : ج18، ص277 . وأسد الغابة لابن الأثير : ج3، ص648 . وأنساب الأشراف للبلاذري : ج10، ص297 . وتاريخ الطبري : ج4، 195)
-----
فقد حظي عمر بن الخطاب بحب كثير من اليهود الذين اعتبروه (حبيب إسرائيل) ! وذلك تفسيراً لنبوءة جاءت في كتاب حاخام شهير كان يعيش في القرن الثاني للميلاد ، ذلك الحاخام هو شمعون بار يوحاي الذي جاء في كتابه الأسرار والملوك العشرة والصلاة - الصفحة (29) :- «الملك الثاني الذي يقوم من إسماعيل سوف يكون حبيب إسرائيل، إنه يرمم صدوعها وصدوع الهيكل، إنه يحفر جبل موريا ويجعله مستقيما بالكامل، ويبني مسجدا هناك على صخرة الهيكل كما يقال: على الصخرة وكرك، ويشن حربا على أبناء عيسو ويقتل جيوشه ويأخذ أسرى عديدين منه، وسوف يموت بسلام وبمجد عظيم».
وقد نقل الباحث نبيل فياض آراء اليهود في تفسير هذا النص في كتابه نصان يهوديان حول الإسلام - الصفحة (60) حيث يقول : «الذي نعتقد أنه كان الفاروق عمر بن الخطاب، يشاركنا في هذا الرأي الباحثان مايكل كوك وباتريشيا كرونه إضافة إلى الموسوعة اليهودية… والتقليد اليهودي يعتبر عمر حاكما خيِّرا، والمدراش (تستاروت أسرار دراف شمعون بار يوحاي) يشير إليه بصديق إسرائيل أو عاشق إسرائيل!… الموسوعة اليهودية كما لاحظنا وأشرنا تقول دون أدنى تردد أن المقصود بالملك الثاني من إسماعيل، حبيب أو صديق إسرائيل، هو عمر بن الخطاب» .
-----
وذكر البلاذري في كتابه أنساب الأشراف - الجزء (10) - الصفحة (429) :- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ لاحِقٍ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: لَيْتَنِي أَنْجُو مِنَ الأَمْرِ كَفَافًا لا عَلَيَّ وَلا لِي، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ضَعْ خَدِّي عَلَى الأَرْضِ، وَيْلٌ لِعُمَرَ وَأُمِّ عُمَرَ إِنْ لَمْ يُنْجِهِ اللَّهُ مِنَ النَّارِ.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عاصم بن عمر عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ كَعْبَ الأَحْبَارِ قَالَ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ مَيِّتٌ فِي ثَلاثٍ، أَجِدُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ:
أَتَجِدُ اسْمِي وَنَسَبِي؟ قَالَ: لا وَلَكِنِّي أَجِدُ صِفَتَكَ وَسِيرَتَكَ، فَقَالَ عُمَرُ:
أَيُوعِدُنِي كَعْبٌ ثَلاثًا أَعُدُّهَا ... وَلا شَكَّ أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَ لِي كَعْبُ
وَمَا بِيَ خَوْفُ الْمَوْتِ إِنِّي لَمَيِّتٌ ... وَلَكِنَّ خَوْفِي الذَّنْبَ يَتْبَعُهُ الذَّنْبُ
ومن صور علاقة الحب العجيبة هذه تقريب عُمَر لكعب الأحبار اليهودي وتمكينه من الفتيا للناس في مدينة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ! فبعد ان استلم عُمَر بن الخطاب الخلافة بوصايةٍ من أبي بكرٍ ، برزت شخصية يهوديّة على الساحة تدعي الإسلام ظاهراً ، غير أنّ هذه الشخصية قد عملت بشتّى الطرق على تخريب الإسلام وتحريفه والتي قد انخدع بها عُمَر بن الخطاب وتأثر فيها كثيراً . وهذه الشخصية هي كعب الأحبار اليهوديُّ عدو الله ورسوله ، واسمه كعب بن ماتع الحميري أبو إسحاق ، والأحبار لقبٌ يُطلق على عالم الدّين وخاصةً لغير المسلمين ، مثل رئيس الكهنة عند اليهود والبَطْرَك عند النّصارى ، واسمه عبري محرف إلى العربية والحقيقي هو "عقيبا" أما "كعب" فهو اسم منتشر بين يهود شبه الجزيرة العربية وهو تحريفٌ للاسم العبري . لقد كان كعب الأحبار بمثابة الزعيم الديني ليهود الجزيرة العربية ، أدرك الجاهلية وأسلم في أيام عمر بن الخطاب .
قال الذهبي عنه في كتاب سير أعلام النبلاء - الجزء (4) - الصفحة (472) :- "هُوَ كَعْبُ بنُ مَاتِعٍ الحِمْيَرِيُّ ، اليَمَانِيُّ ، العلَّامة ، الحَبْر ، الَّذِي كَانَ يَهُودِيّاً فَأَسْلَمَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَدِمَ المَدِيْنَةَ مِنَ اليَمَنِ فِي أَيَّامِ عُمَرَ ، فَجَالَسَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَكَانَ يُحَدِّثُهُم عَنِ الكُتُبِ الإِسْرَائِيْليَّةِ ، وَيَحْفَظُ عَجَائِبَ ، وَيَأْخُذُ السُّنَنَ عَنِ الصحابة , وكان حسن الإسلام ، مَتِيْنَ الدّيَانَةِ ، مِنْ نُبَلاَءِ العُلَمَاءِ" .
وقال ابن كثير عنه في كتاب البداية والنهاية - الجزء (1) - الصفحة (19) :- فَإِنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ لَمَّا أَسْلَمَ فِي زَمَنِ عُمَرَ كَانَ يَتَحَدَّثُ بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِأَشْيَاءَ مِنْ عُلُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَيَسْتَمِعُ لَهُ عُمَرُ تَأْلِيفًا لَهُ وَتَعَجُّبًا مِمَّا عِنْدَهُ مِمَّا يُوَافِقُ كَثِيرٌ مِنْهُ الْحَقَّ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ ، فَاسْتَجَازَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ نَقْلَ مَا يُورِدُهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ ; لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَلَمَّا جَاءَ مِنَ الْإِذْنِ فِي التَّحْدِيثِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، لَكِنَّ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِيمَا يَرْوِيهِ غَلَطٌ .
وقال ابن كثير عنه في كتاب البداية والنهاية - الجزء (2) - الصفحة (159) :- أَسْلَمَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَكَانَ يَنْقُلُ شَيْئًا عَنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَكَانَ عُمَرُ يَسْتَحْسِنُ بَعْضَ مَا يَنْقُلُهُ ; لِمَا يُصَدِّقُهُ مِنَ الْحَقِّ ، وَتَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ فَتَوَسَّعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي أَخْذِ مَا عِنْدَهُ ، وَبَالَغَ أَيْضًا هُوَ فِي نَقْلِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَثِيرٌ مِنْهَا مَا يُسَاوِي مِدَادَهُ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ بَاطِلٌ لَا مَحَالَةَ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ لِمَا يَشْهَدُ لَهُ الْحَقُّ الَّذِي بِأَيْدِينَا .
الأمر العجيب والغريب جداً في هذا اليهودي أنّه كيف لم يؤمن رغم ما رآه من معجزات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) طوال فترة حياته الشريفة ؟ وبعد ما رأى انتصارات الإسلام على يد الإمام علي (عليه السلام) في خيبر وقتل أقوى فرسان اليهود .. كلُّ ذلك لم يقتنع به أو يكترث له ولم يعجبه حتّى ! ثم فجأةً يقتنع كعب الأحبار بالإسلام ويعتنقه في زمن عُمَر بن الخطاب ! ما ذلك إلّا بسبب علاقات عُمَر باليهود القديمة . وقد سَمحَ له عُمَر مباشرةً بأن يجلس في مسجد النبي ويُحدث المسلمين من أدبيات أهل الكتاب وثقافتهم ، وهذا ما كان يصبو إليه عمر بن الخطاب الذي حاول ذلك على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلم يفلح . وكان عُمَر لا يسمح لأحد من الصحابة أن يتحدث في المسجد أو يروي أحاديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وكان يُعاقب بشدّة كل من يفعل ذلك ، وكان يوصي ولاته بأن يُجردوا القرآن من الحديث ، لا بل أنّه احرق كل الاحاديث التي جمعها الصحابة ، وإذا بعُمَر يخالف كل ذلك ويسمح فقط لكعب الأحبار بأن يتحدث في المسجد !
-----
لقد كان عُمَر يستشير كعب الأحبار في أهم أمور الحكم ويأخذ بآرائه مثنياً عليها ! مثلاً ما يرويه أحمد بن حنبل في مسنده - الجزء (1) - الصفحة (389) :- 293 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنِي أَبُو الْمُخَارِقِ زُهَيْرُ بْنُ سَالِمٍ، أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيَّ، كَانَ وَلَّاهُ عُمَرُ حِمْصَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - قَالَ عُمَرُ يَعْنِي لِكَعْبٍ: إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ أَمْرٍ فَلا تَكْتُمْنِي، قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكْتُمُكَ شَيْئًا أَعْلَمُهُ، قَالَ: " مَا أَخْوَفُ شَيْءٍ تَخَوَّفُهُ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَئِمَّةً مُضِلِّينَ "، قَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ، قَدْ أَسَرَّ ذَلِكَ إِلَيَّ وَأَعْلَمَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وذكر أبو بكر بن زنجويه في كتابه الأموال - الجزء (1) - الصفحة (389) :- 640 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أني هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ، أَنَّ عِمْرَانَ الْعَبْسِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ جَدِّيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: لَمَّا وَلِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ زَارَ أَهْلَ الشَّامِ، فَنَزَلَ الْجَابِيَةَ وَأَرْسَلَ رَجُلًا مِنْ جَدِيلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَافْتَتَحَهَا صُلْحًا، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ وَمَعَهُ كَعْبٌ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ أَتَعْرِفُ مَوْضِعَ الصَّخْرَةِ؟ فَقَالَ: أَذْرُعٍ مِنَ الْحَائِطِ الَّذِي يَلِي وَادِي جَهَنَّمَ كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا، ثُمَّ احْفِرْ فَإِنَّكَ تَجِدُهَا قَالَ: وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مَزْبَلَةٌ قَالَ: فَحَفَرُوا فَظَهَرَتْ لَهُمْ فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ: «أَيْنَ تَرَى أَنْ نَجْعَلَ الْمَسْجِدَ» ، أَوْ قَالَ: «الْقِبْلَةَ؟» فَقَالَ: «اجْعَلْهُ خَلْفَ الصَّخْرَةِ، فَتَجْمَعَ الْقِبْلَتَيْنِ، قِبْلَةَ مُوسَى، وَقِبْلَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقَالَ: «ضَاهَيْتَ الْيَهُودِيَّةَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، خَيْرُ الْمَسَاجِدِ مُقَدَّمُهَا» قَالَ: فَبَنَاهَا فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ .
وكثيراً ما كان عُمَر يسأل هذا كعب اليهودي عن أمور الدين ، حيث ذكر الطبري في تفسيره - الجزء (9) - الصفحة (167) :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: ثنا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثني أَبُو الْمُخَارِقِ زُهَيْرُ بْنُ سَالِمٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ: مَا أَوَّلُ شَيْءٍ ابْتَدَأَهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ؟ فَقَالَ كَعْبٌ: " كَتَبَ اللَّهُ كِتَابًا لَمْ يَكْتُبْهُ بِقَلَمٍ وَلَا مِدَادٍ، وَلَكِنَّهُ كَتَبَ بِأُصْبُعِهِ يَتْلُوهَا الزَّبَرْجَدُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ: «أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي».
وعندما قرأ عمر الآية : "وأدخلهم جنات عدن" لم يجد غير هذا اليهودي الذي أسلم حديثا لكي يسأله عن تفسيرها ! ذكر الطبري في تفسيره - الجزء (20) - الصفحة (121) :- وَقَدْ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [ص: 50] قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ كَعْبًا مَا عَدْنٌ؟ قَالَ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قُصُورٌ فِي الْجَنَّةِ مِنْ ذَهَبٍ يَسْكُنُهَا النَّبِيُّونَ وَالصِدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَأَئِمَّةُ الْعَدْلِ».
وذكر البيهقي في شعب الإيمان - الجزء (9) - الصفحة (493) :- 7008 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ الْفَقِيهُ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلٍ، نا حَرْمَلَةُ، نا ابْنُ وَهْبٍ، نا مَالِكٌ، أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ كَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: وَيْلٌ لِسُلْطَانِ الْأَرْضِ مِنْ سُلْطَانِ السَّمَاءِ فَقَالَ عُمَرُ: " إِلَّا مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ " فَقَالَ: مَا بَيْنَهُمَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وذكر السيوطي في كتابه جامع الأحاديث - الجزء (26) - الصفحة (308) :- 29175- عن سالم بن عبد الله: أن كعب الأحبار قال لعمر بن الخطاب: إنا لنجد: ويل لملك الأرض من ملك السماء فقال عمر: إلّا من حاسب نفسه، فقال كعب: والذى نفسي بيده إنها في التوراة لتابعتها، فكبر عمر ثم خر ساجدا (العسكري فى المواعظ، وعثمان بن سعيد، الدارمي فى الرد على الجهمية، والخرائطي فى الشكر، والبيهقي) [كنز العمال 35797]
بل أنّ كعب الأحبار كان يفتي في المسلمين بعض الأحيان ، ذكر مالك بن أنس في موطأه - الجزء (1) - الصفحة (449) :- 1142 - أخبرنا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ كَعْبَ الأَحْبَارِ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ فِي رَكْبٍ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، وَجَدُوا لَحْمَ صَيْدٍ، فَأَفْتَاهُمْ كَعْبٌ بِأَكْلِهِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: مَنْ أَفْتَاكُمْ بِهَذَا؟ فقَالُوا: كَعْبٌ الأَحْبَارِ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَمَّرْتُهُ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا، فلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ , مَرَّتْ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ، فَأَفْتَاهُمْ كَعْبٌ أَنْ يَأْخُذُوهُ، فَيَأْكُلُوهُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ أَنْ أَفْتَيْتَهُمْ بِهَذَا؟ قَالَ: هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ هِو إِلاَّ نَثْرَةُ حُوتٍ يَنْثُرُهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ .
وكان عمر يسأل كعب الأحبار عن الغيب وما سيجري في المستقبل ويرسل كلامه إرسال المسلّمات ، فقد ذكر الطبراني في معجمه الكبير - الجزء (1) - الصفحة (126) :- 120 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِرْقٍ الْحِمْصِيُّ، ثنا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، ثنا أَبِي، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَالِمٍ، أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ رَبِيعَةَ، حَدَّثَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: يَا كَعْبُ كَيْفَ تَجِدُ نَعْتِي؟ قَالَ: «أَجِدُ نَعْتَكَ قَرْنًا مِنْ حَدِيدٍ» قَالَ: وَمَا قَرْنٌ مِنْ حَدِيدٍ؟ قَالَ: «أَمِيرٌ سَدِيدٌ لَا يَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ» ، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: «ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَكَ خَلِيفَةٌ تَقْتُلُهُ فِئَةٌ ظَالِمَةٌ» قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: «ثُمَّ يَكُونُ الْبَلَاءُ».
وذكر ابن حجر في كتابه فتح الباري - الجزء (13) - الصفحة (82) :- عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ تَخْرُجُ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ فَإِذَا سَمِعْتُمُ بِهَا فَاخْرُجُوا إِلَى الشَّامِ .
وذكر السيوطي كتابه الحاوي للفتاوي - الجزء (1) - الصفحة (311) :- وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ عمرو بن ميمون أَنَّ عمر لَمَّا طُعِنَ دَخَلَ عَلَيْهِ كعب فَقَالَ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ قَدْ أَنْبَأْتُكَ أَنَّكَ شَهِيدٌ، فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ لِي بِالشَّهَادَةِ وَأَنَا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؟ . راجع أيضاً تاريخ المدينة لابن شبة (ج3، ص917.)
بل كان عُمَر يستشير كعب الأحبار في وجهات سفره ! إذ أراد ذات مرة أن يسافر العراق لكن كعب الأحبار نصحه بعدم الذهاب فامتثل لذلك عُمَر ! فقد ذكر السيوطي في كتابه جامع الأحاديث - الجزء (28) - الصفحة (8) :- 30588- عن أبي إدريس قال: قدم علينا عمر بن الخطاب الشام فقال: إني أريد أن آتي العراق، فقال له كعب الأحبار: اعيذك بالله يا أمير المؤمنين من ذلك! قال وما تكره من ذلك؟ قال: بها تسعة أعشار الشر وكل داء عضال وعصاة الجن وهاروت وماروت، وبها باض إبليس وفرخ! [كنز العمال 38280] أخرجه ابن عساكر (1/159) .
ولم يكن ذم هذا اليهودي الخبيث للعراق إلا لأن أهله كانوا مشهورين بالولاء والتشيع لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه) ، بينما نراه يثني ثناءً عظيماً على الشام إلى درجة أنّه يعتبرها أفضل من المدينة المنورة ! وما ذلك إلّا لأنّ بني أمية كانوا هم من باضوا هناك وفرّخوا وزرعوا مشاعر النصب والعداء لأمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) .
-----
ولقد تصدّى لكعبٍ عليُّ بن أبي طالبٍ (عليه الصلاة والسلام) في قصة (التفلة) بصاق الله الذي تكونت منه البحار والأنهار والمحيطات ! حيث روى كعب الأحبار (أنّ الجبار كان واقف على صخرة بيت المقدس عندما خلق الأرض ثم بصق الله بصقة تكونت منها المحيطات والبحار والانهار . فقال له عليٌّ (عليه الصلاة والسلام) : يا كعب ، ويحك ! إنّ الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ، ولا تسع عظمته ، والهواء الذي ذكرت لا يجوز أقطاره . ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكانت لهما قدمته . وعز الله وجل أن يقال : له مكان يومى إليه . والله ليس كما يقول الملحدون ولا كما يظن الجاهلون ، ولكن كان ولا مكان بحيث لا تبلغه الأذهان . وقولي: (كان) عجز عن كونه.. وهو مما علَّم من البيان. يقول الله عز وجّل {خَلَقَ الإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} . فقولي له : (كان) مما علمني من البيان ، لأنطق بحججه و عظمته . وكان ولم يزل ربنا مقتدراً على ما يشاء ، محيطاً بكل الأشياء . ثم كوَّن ما أراد بلا فكرة حادثة له أصاب ، ولا شبهة دخلت عليه فيما أراد . وأنّه عز وجل خلق نوراً ابتدعه من غير شيء ، ثم خلق منه ظلمة ، وكان قديراً أن يخلق الظلمة لا من شيء ، كما خلق النور من غير شيء . ثم خلق من الظلمة نوراً وخلق من النور ياقوتة غلظها كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين ، ثم زجر الياقوتة فماعت (أي : ذابت) لهيبته ، فصارت ماء مرتعداً ، ولا يزال مرتعداً إلى يوم القيامة . ثم خلق عرشه من نوره ، و جعله على الماء . وللعرش عشرة آلاف لسان ، يسبح الله كل لسان منها بعشرة آلاف لغة ، ليس فيها لغة تشبه الأخرى . وكان العرش على الماء من دونه حجب الضباب (مثل الشيباء) وذلك قوله : {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ} . يا كعب ويحك ، إنّ من كانت البحار تفلته على قولك ، كان أعظم من أن تحويه صخرة بيت المقدس ، أو تحويه الهواء الذي أشرت إليه أنه حل فيه) .
المصدر : (البحار : ج30، ص101، عن تنبيه الخواطر و نزهة النّواظر.)
فقد اعترض أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على كعبٍ بالإعلان باستعظام ما يقوله هذا الحبر اليهودي واستفظاعه ، كما أنّه اسقط هيبة كعب الأحبار أمام الناس ، ومنع من أخذ الناس عنه من دون تأمل أو تمحيص . وقد كان أهل الكتاب يسعون للهيمنة الفكرية على المسلمين ولتقديم أنفسهم كعلماء بكل ما كان ويكون .
-----
وقد ضرب أبو ذر الغفاري كعب الأحبار في مجلس عثمان وقال له : (أتعلمنا ديننا يا ابن اليهودية) ؟! . ذكر البلاذري في كتابه أنساب الأشراف - الجزء (5) - الصفحة (542) :- قَالَ عُثْمَان يومًا: أيجوز للإمام أَن يأخذ من المال فَإِذَا أيسر قضى؟ فَقَالَ كعب الأحبار: لا بأس بِذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو ذر: يا ابْن اليهوديين أتعلمنا ديننا؟ فَقَالَ عُثْمَان: مَا أَكْثَر أذاك لي وأولعك بأَصْحَابي، الحق بمكتبك، وكان مكتبه بالشام.
-----
وأنّ عبد الله بن العباس قد غضب غضباً شديداً لمَّا جاءه رجل يخبره بأن كعباً قد أخبره أن الله سوف يأتي بالشمس والقمر يوم القيامة ويقذف بهما في جهنم ، حيث رأى ابن العباس في ذلك مخالفة صريحة للآيات القرآنية التي تذكر أنّ الشمس والقمر طائعان لله ، فكيف يعذبهما الله وهما دائبين في طاعة الله ؟! حيث قال ابن عباس : كُعْبُ الْأَحْبَارُ كَذَّابٌ يُرِيدُ ادْخَال الْيَهُودِيَّة فِي الْإِسْلَامِ . وقال عنه : كَذَبَ كَعْبٌ! كَذَبَ كَعْبٌ! كَذَبَ كَعْبٌ! قَاتَلَ اللَّهُ هَذَا الْحَبْرَ وَقَبَّحَ حَبْرِيَّتَهُ! مَا أَجْرَأَهُ عَلَى اللَّهِ وَأَعْظَمَ فِرْيَتِهِ . (تاريخ الرسل والملوك للطبري : ج1، ص65. والعظمة لأبي الشيخ الأصبهاني : ج4، ص1163 .)
فانتقل كعب الأحبار إلى الشام بعدما أحس بالخطر من الإمام علي (عليه السلام) وأصحابه (رضي الله عنهم) ، فأقام عند معاوية حتى وفاته في مدينة حمص ، قال ابن سعد في طبقاته الكبرى - الجزء (7) - الصفحة (445) :- كَعْبُ الْأَحْبَارِ بْنُ مَاتِعٍ وَيُكْنَى أَبَا إِسْحَاقَ، وَهُوَ مِنْ حِمْيَرَ، مِنْ آلِ ذِي رُعَيْنٍ، وَكَانَ عَلَى دِينِ يَهُودَ، فَأَسْلَمَ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فَسَكَنَ حِمْصَ حَتَّى تُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ .
وليس عُمَر بن الخطاب وحده من يؤمن باليهود , لقد كانت عائشة عندما تمرض تأتي بامرأة يهودية لكي ترقيها وتدعو لها بالشفاء وتشعر بزوال أمراضها عندما تقرأ عليها يهوديّة من التوراة ! وقد ذكر ذلك مالك بن أنس في موطأه - الجزء (5) - الصفحة (1377) :- 3472 - مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمنِ؛ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تَشْتَكِي. وَيَهُودِيَّةٌ تَرْقِيهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ارْقِيهَا بِكِتَابِ اللهِ .
وقد سافر أبو هريرة خصيصاً إلى الطور ليقابل كعب الأحبار . ويذكر أبو الدرداء فضلَ كعب الأحبار ، فيقول : «إِنَّ عِنْدَ ابْنِ الْحِمْيَرِيَّةِ لَعِلْمًا كَثِيرًا» . (الطبقات الكبرى لابن سعد : ج7، ص446.) أما معاوية بن أبي سفيان ، فيقول : «إِلَّا إِنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ لَعِلْمٌ كَالْبِحَارِ وَإِنْ كُنَّا فِيهِ لَمُفَرِّطِينَ» . (فتح الباري لابن حجر العسقلاني : ج13، ص335.)
والأغرب من ذلك أنّ عمر بن الخطاب يُشكك في خلافته فلا يطمئن لها إلّا بتزكية من اليهود ، وقد سأل عُمَر كعباً عن رأيه فيه ، هل أنّه خليفة شرعي لرسول الله حقاً أم مجرد ملك وحاكم غير شرعي ؟! وقد ذكر السيوطي في كتابه جامع الأحاديث - الجزء (26) - الصفحة (131) :- 28728- عن كعب: أن عمر بن الخطاب قال: أنشدك بالله يا كعب! أتجدني خليفة أم ملكا؟ قال: بل خليفة، فاستحلفه فقال كعب: خليفة والله! من خير الخلفاء، وزمانك خير زمان. [كنز العمال 35794] أخرجه نعيم بن حماد في الفتن : (1/102، رقم 241) .
أما رواية (حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فتلك لا تصحُّ ؛ لأنّها مخالفة صريحة لقول النبي المتواتر بشأن اليهود : «لَا تَتَّبِعُوا هَؤُلَاءِ قَدْ هَوَّكُوا وَتَهَوَّكُوا» . وقد ورد في صحيح البخاري - الجزء (9) - الصفحة (111) :- 7363 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ، وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الكِتَابَ، وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا؟ أَلاَ يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ العِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ؟ لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ ".
وَعَنْ إِسْمَاعِيْلَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيْدَ، سَمِعَ عُمَرَ يَقُوْلُ لأَبِي هُرَيْرَةَ: لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيْثَ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ دَوْسٍ. وَقَالَ لِكَعْبٍ: لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيْثَ أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ القِرَدَةِ . (سير أعلام النبلاء للذهبي : ج2، ص600.)
وبعد هذا يعجب المرء كيف يرمينا المخالفون بأنّنا قد أخذنا ديننا من اليهود بدعوى أنّ هناك شخصا أسطورياً اسمه عبد الله بن سبأ ! كان يهوديا ثم أسلم وهو الذي صنع التشيع ؟! بينما لا يلتفتون إلى أنّ دينهم في أصله وجذوره إنما جاء من اليهود ؛ لأنّ أئمتهم وخلفاءهم كعمر بن الخطاب وأبو الدرداء وأبو هريرة ومعاوية ابن ابي سفيان وغيرهم إنّما كانوا تلاميذ عندهم يأخذون عنهم العقائد والأحكام ويستشيرونهم في كل صغيرة وكبيرة . بل أنّ مؤسس أساس التشيّع هو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)
تخبرنا الآية الكريمة أنّ بعضاً ممن كان مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يُكنُّ الولاء والود للكافرين واليهود المشركين ، وكان في يهود خيبر والمدينة وأم القرى ونجران واليمن والحيرة أكثر من مئة حاخام ، وكانت لهم مدارس متعددة ، وفي المدينة كان لهم مدرستان ، أكبرهما بيت المدراس أو بيت المدراش ، وكان يحضر فيها عمر بن الخطاب وبعض الصحابة .
صحيح البخاري - الجزء (4) - الصفحة (169) :- 3456 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ، قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ»، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: «فَمَنْ!»
لم يكن عُمَر بن الخطاب يسكن في المدينة ، بل كان يسكن منطقة اسمها العوالي خارج المدينة بعيداً عن مدينة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، ولم يحضر عُمَر لمسجد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلّا كل يومين مرّة ! فيقول عُمَر عن نفسه كما روى البخاري في صحيحه - الجزء (1) - الصفحة (29) :- 89 - حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ، قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ وَهِيَ مِنْ ((عَوَالِي المَدِينَةِ)) وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَنْزِلُ يَوْمًا وَأَنْزِلُ يَوْمًا، فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِخَبَرِ ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الوَحْيِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ . ويقول أيضاً : « وَكَانَ مَنْزِلِي فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَوَالِي » . (مسند أحمد بن حنبل : ج1، ص347.)
وهنا السؤال : كيف لمسلمٍ يفضل مجاورة اليهود على مجاورة خاتم الأنبياء مُحَمَّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ؟! خاصةً وأنّه على قيد الحياة ، وكيف لمسلمٍ يتلّقى تعاليم يهوديّة في الوقت الذي كان يهود ونصارى الجزيرة يؤمنون بالنبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ؟!
-----
وقد كان عُمَر بن الخطاب يدرس عند اليهود ويأتي للنبي بكتب اليهود ويعرضها عليه . فكان عُمَر يأتي للنبي بصحف من التوراة حتى تضايق منه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وزجره في قوله المشهور : (أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ) ؟! قال ابن كثير في كتابه البداية والنهاية - الجزء (3) - الصفحة (35) :- قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا هَشِيمٌ أَنْبَأَنَا مُجَالِدٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ أَصَابَهُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَرَأَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فَغَضِبَ، وَقَالَ: أَمُتَهَوِّكُونَ فِيهَا يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟! وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، لَا تَسْأَلُوهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَيُخْبِرُوكُمْ بِحَقٍّ فَتُكَذِّبُوا بِهِ، أَوْ بِبَاطِلٍ فَتُصَدِّقُوا بِهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ مُوسَى كَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا أَنْ يَتَّبِعَنِي» تَفَرَّدَ بِهِ أَحْمَدُ، وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ . حسنّه الشيخ الألباني في" الإرواء " (6/ 34 رقم 1589) . وحسنّه الشيخ الأرناؤط عند تعليقه على" شرح السنة " (1/ 270) . وحسّنه الشيخ أبي الأشبال الزهيري في " جامع بيان العلم وفضله " (2/ 19)
والعوالي هذه كانت منطقة مساكن اليهود . ففي كتاب المعالم الأثيرة في السنة والسيرة لمحمد بن محمد حسن شُرّاب - الصفحة (228) :- «جُلُّ سُكنى اليهود كانت بالعالية من المدينة» . وفي كتاب السيرة النبوية الصحيحة للدكتور أكرم ضياء العمري - الصفحة (427) :- «وكانت ديار بني قريظة في العوالي في الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مهزور». وفي كتاب مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول لأحمد إبراهيم الشريف - الصفحة (246) :- «وقد سكن اليهود الجهات الخصيبة الغنية في منطقة يثرب؛ فقد أقام بنو النضير بالعوالي في الجنوب الشرقي للمدينة على وادي مذينب، وأقام بنو قريظة إلى شمالهم على وادي مهزور، أما بنو قينقاع فقد أقاموا عند منتهى جسر وادي بطحان مما يلي العالية، وكان لهم هناك سوق من أسواق المدينة عُرفت بهم».
وما دام أنّ عُمَر كان مقيماً في المناطق اليهوديّة فلابُدّ أن يتردد إلى مدارسهم من أجل تلقّي التعاليم والأحاديث اليهودية ، فكان عُمَر يواضب على الحضور في كنائس اليهود كما يروي عُمَر نفسه حيث يقول : «إِنِّي كُنْتُ (أَغْشَى) الْيَهُودَ يَوْمَ دِرَاسَتِهِمْ ، فَقَالُوا: مَا مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ أكرم علينا منك؛ لأَنك تَأْتِينَا» . (المطالب العاليّة لابن حجر العسقلاني : ج2، ص446، ح3521.) وكما شهد به السدّي إذ يقول : «كَانَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَرْضٌ بِأَعْلَى الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَأْتِيهَا، وَكَانَ مَمَرُّهُ عَلَى طَرِيقِ مِدْرَاسِ الْيَهُودِ، وَكَانَ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهِمْ سَمِعَ مِنْهُمْ. وَإِنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِمْ ذَاتَ يَوْمٍ، فَقَالُوا: يَا عُمَرُ مَا فِي أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْنَا مِنْكَ. إِنَّهُمْ يَمُرُّونَ بِنَا فَيُؤْذُونَنَا، وَتَمُرُّ بِنَا فَلَا تُؤْذِينَا، وَإِنَّا لَنَطْمَعُ فِيكَ» . (تفسير الطبري : ج2، ص290 . وتفسير السيوطي : ج1، ص223.)
-----
فاستغل اليهود عُمَر وطمعوا في أن يتركوا تأثيراً على النبي بواسطته ، فقاموا بترجمة التوراة للعربية وكلفوه ان يأخذها للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويعرضها عليه لكي يعترف بها ، فجاء عُمَر بن الخطاب يوماً وطلب من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يسمح له بدراسة التوراة مع اليهود ، ذكر الهيثمي في كتابه كشف الأستار - الجزء (1) - الصفحة (78) :- 124 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ، أنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، ثنا خَالِدٌ، حَدَّثَنِي عَامِرٌ، ثنا جَابِرٌ، ح، وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ، ثنا هُشَيْمٌ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: نَسَخَ عُمَرُ كِتَابًا مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ، فَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ وَوَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَغَيَّرُ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: وَيْحَكَ يَابْنَ الْخَطَّابِ! أَلا تَرَى وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، وَإِنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، وَاللَّهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلا أَنْ يَتَّبِعَنِي» .
وذكر البيهقي في كتابه شعب الإيمان - الجزء (7) - الصفحة (171) :- 4838 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أنا الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الضُّبَعِيُّ، أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ هَارُونَ الْعُودِيُّ، ثنا الشَّاذَكُونِيُّ، ثنا يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ، ثنا أَبُو النَّصْرِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ سَمِعَ خَلَّادَ بْنَ السَّائِبِ، يُحَدِّثُ بِهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تَعْلِيمِ التَّوْرَاةِ، قَالَ: " لَا تَتَعَلَّمْهَا وَآمِنْ بِهَا، وَتَعَلَّمُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَآمَنُوا بِهِ " .
وكان يقول عُمَر بن الخطاب عن نفسه : (إِنِّي انْطَلَقْتُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَيْتُ خَيْبَرَ، فَوَجَدْتُ يَهُودِيًّا يَقُولُ قَوْلًا فَأَعْجَبَنِي، فَقُلْتُ: هَلْ أَنْتَ مُكْتِبِي مِمَّا تَقُولُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَأَتَيْتُهُ بِأَدِيمِ ثَنِيَّةٍ أَوْ جَذَعَةٍ، فَجَعَلَ يُمْلِي عَلَيَّ حَتَّى كَتَبْتُ فِي الْأَكْرَعِ رَغْبَةً فِي قَوْلِهِ، فَلَمَّا رَجَعْتُ قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنِّي أَتَيْتُ يَهُودِيًّا، يَقُولُ قَوْلًا لَمْ أَسْمَعْ مِثْلَهُ بَعْدَكَ، قَالَ: «فَلَعَلَّكَ اكْتَتَبْتَ مِنْهُ؟» فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ: «ائْتِنِي بِهِ» ، فَانْطَلَقْتُ أَرْغَبُ عَنِ الْمَشْيِ رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ جِئْتُ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ مَا يُحِبُّ، فَلَمَّا أَتَيْتُهُ بِهِ قَالَ: «اجْلِسِ اقْرَأْهُ عَلَيَّ» فَقَرَأْتُ سَاعَةً، ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا هُوَ يَتْلُونَ، فَخِرْتُ مِنَ الْفَرَقِ، فَمَا اسْتَطَعْتُ أُجِيزُ مِنْهُ حَرْفًا، فَلَمَّا رَأَى الَّذِي بِي دَفَعْتُهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَتَبَّعُهُ رَسْمًا فَيَمْحُوهُ بَرِيقِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «لَا تَتَّبِعُوا هَؤُلَاءِ قَدْ هَوَّكُوا وَتَهَوَّكُوا» حَتَّى مَحَا آخِرَهُ حَرْفًا) . (مسند الشاميين للطبراني : ج3، ص85، ح1844.)
وكان عُمَر بن الخطاب ينبهر ويتعجّب بالأحاديث اليهوديّة التي استهوت قلبه ، ذكر الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع - الجزء (2) - الصفحة (161) :- 1488 - أنا الْحَسَنُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ نِيخَابٍ، نا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أنا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، نا جَرِيرٌ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُحَدِّثُونَا بِأَحَادِيثَ قَدْ أَخَذَتْ بِقُلُوبِنَا وَقَدْ هَمَمْنَا أَنْ نَكْتُبَهَا فَقَالَ: «أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا يَتَهَوَّكُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟! أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً ، وَلَكِنِّي أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ ، وَاخْتُصِرَ لِي الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا» . راجع أيضاً الدر المنثور للسيوطي : (ج6، ص473.)
-----
واستمر عمر بن الخطاب مع جماعته بالحضور عند اليهود إلى أن ضبطه النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوما وهو يحمل كتابا نسخه من أهل الكتاب جاء به في أديم ، فقال له النبي : «مَا هَذَا الَّذِي فِي يَدِكَ يَا عُمَرُ» ؟ قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كِتَابٌ نَسَخْتُهُ لِنَزْدَادَ بِهِ عِلْمًا إِلَى عِلْمِنَا. فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ ثُمَّ نُودِيَ بِالصَّلاةِ جَامِعَةً. فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: غَضِبَ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّلاحَ السِّلاحَ؛ فَجَاءُوا حَتَّى أَحْدَقُوا بِمِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَاخْتَصَرَ لِي اخْتِصَارًا وَلَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً فَلا تَهَوَّكُوا وَلا يَغُرَّنَّكُمُ الْمُتَهَوِّكُونَ» . (الهيثمي في المقصد العلي في زوائد أبي يعلى الموصلي : ج1، ص60، ح62.)
-----
بل أنّ عُمَر بن الخطاب قد تآخى مع اليهود ، حيث قال للنبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «إِنِّي مَرَرْتُ بِأَخٍ لِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَكَتَبَ لِي جَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ، أَلَا أَعْرِضُهَا عَلَيْكَ؟ فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» . (الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد للهيثمي : ج1، ص173، ح806.) ولقد أصرّ عُمَر بن الخطاب مرّةً أخرى للتأثير على النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، لدرجة أنّ عبد الله بن زيد قال لعمر بلهجة قوية "امسخ الله عقلك"؟! ، ذكر الهيثمي في كتابه مجمع الزوائد - الجزء (1) - الصفحة (174) :- 810 - وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: «جَاءَ عُمَرُ بِجَوَامِعَ مِنَ التَّوْرَاةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَوَامِعُ مِنَ التَّوْرَاةِ أَخَذْتُهَا مِنْ أَخٍ لِي مَنْ بَنِي زُرَيْقٍ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ الَّذِي أُرِيَ الْأَذَانَ: أَمَسَخَ اللَّهُ عَقْلَكَ؟ أَلَا تَرَى الَّذِي بِوَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: رَضِينَا بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَبِالْقُرْآنِ إِمَامًا. فَسُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ كَانَ مُوسَى بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ثُمَّ اتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا، أَنْتُمْ حَظِّي مِنَ الْأُمَمِ وَأَنَا حَظُّكُمْ مِنَ النَّبِيِّينَ». رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ، وَفِيهِ أَبُو عَامِرٍ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيُّ، وَلَمْ أَرَ مَنْ تَرْجَمَهُ، وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ مُوَثَّقُونَ .
وقد أدى ذلك إلى غضب النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتّى احمَّرت وجنتاه وتغير لون وجهه الكريم ! وأنّ الأنصار حين رأوا هذا الغضب الشديد رفعوا السلاح وقالوا : «أَغْضِبَ نَبِيُّكُمْ؟! السِّلَاحَ السِّلَاحَ، فَجَاءُوا حَتَّى أَحْدَقُوا بِمِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي قَدْ أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ، وَاخْتُصِرَ لِي اخْتِصَارًا، وَلَقَدْ أَتَيْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً، فَلَا تَتَهَوَّكُوا، وَلَا يَغُرَّنَّكُمُ الْمُتَهَوِّكُونَ» . (تفسير ابن كثير : ج4، ص315.)
-----
ولم يكن عمر يدرس عند اليهود فقط بل كان مدافعاً عنهم ، فعندما اتفق النبي مع عروة بن مسعود على دفع يهود بني قريظة لطلب رهائن من قريش كشرط لهجومهم لم يوافق عُمَر وقال له: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْرُ بَنِي قُرَيْظَةَ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ يُؤْثَرُ عَنْك شَيْءٌ مِنْ أَجْلِ صَنِيعِهِمْ. فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْحَرْبُ خُدْعَةٌ يَا عُمَرُ» . فَكَانَتْ تِلْكَ الْكَلِمَةُ سَبَبَ تَفَرُّقِهِمْ وَتَفَرُّقِ كَلِمَتِهِمْ وَانْهِزَامِهِمْ . (السرخسي في كتابه شرح السير الكبير : ص121.) ولم يستمع النبي لعمر بن الخطاب وأخفى عنه الخطة .
-----
وعندما عجز عُمَر حاول التأثير على النبي من خلال زوجاته ، فأرسل ابنته (حفصة) بصحيفة من التوراة فيها قصة يوسف ومن دون اذن من النبي جعلت حفصة تقرأ على النبي من التوراة ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَنَّ حَفْصَةَ، جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ مِنْ قَصَصِ يُوسُفَ فِي كَتِفٍ، فَجَعَلَتْ تَقْرَؤُهُ عَلَيْهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَلَوَّنُ وَجْهُهُ، فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَتَاكُمْ يُوسُفُ وَأَنَا بَيْنَكُمْ فَاتَّبَعْتُمُوهُ وَتَرَكْتُمُونِي لَضَلَلْتُمْ» . (جامع معمر بن راشد : ج11، ص110، ح20061.)
-----
فإذاً لا يمكن اعتبار ما كان من عمر حادثة عرضية عابرة بسيطة أو فلتة مقبولة ؛ لأنّها لو كانت كذلك لمَّا أصرَّ على النبي مرّاتٍ كثيرة في سبيل قبول كتب اليهود المحرّفة ، والذي أدَّى لغضب النبي محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كاحمرار وجنتاه الشريفة وتغير وجهه الكريم على عُمَر ! ولمّا أدَّى إلى قيام الأنصار برفع السلاح وتعجبهم من غضب النبي على عُمَر حتى احدقوا على منبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يريدون القتال ! كل هذا يعني أنّ عُمَر في مؤاخاته لليهود ومجاورتهم وتلقي الأحاديث والكتب المحرّفة منهم كان أمراً خطيراً يهدد كيان الإسلام . حتّى أنزل الله قرآناً يذمُ اليهود ويلعنهم في عشرات الآيات الكريمة ، فلقد انطبقت على عُمَر بن الخطاب هذه الآية الكريمة ، قَالَ تَعَالَى : ﴿۞ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ - [سُّورَةُ الْمَائِدَةِ : 51.] ولأَنّه إذا كان الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غاضباً على عُمَر بن الخطاب بسبب تلك الأفعال المنكرة ؛ فإنّ اليهود في المقابل كانوا راضين عن عُمَر تمام الرضا ، وكانوا يُكِنِّون له حبّاً خاصّاً لأَنّه يتواصل معهم ويأتيهم .
علاقة الحب بين عُمَر بن الخطاب واليهود امتدت إلى ما بعد استشهاد النبي الأعظم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رغم الآيات التي نزلت في ذمهم والتحذير منهم ؛ ورغم الغدر الذي كان منهم والحروب التي نشبت بينهم وبين المسلمين . من صورها أن اليهود كانوا أول من منح عمر بن الخطاب وسام (الفاروق) ! خلافًا لما يتوهمه معظم المسلمين من أنّ عُمَر اكتسب هذا اللقب من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، فالحقيقة أنّه لم يكتسبه منه إطلاقاً بل لم يكتسبه من المسلمين ، بل اكتسبه من إخوانه اليهود إذ يقول ابن شهاب : «بَلَغَنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ، كَانُوا أَوَّلَ مَنْ قَالَ لِعُمَرَ الْفَارُوقَ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُؤْثِرُونَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ ذَلِكَ إِلَّا لِعُمَرَ» . (تاريخ المدينة لابن شبة :ج، ص662 . والطبقات الكبرى لابن سعد : ج3، ص270 . وتاريخ دمشق لابن عساكر : ج44، ص51 . ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور : ج18، ص277 . وأسد الغابة لابن الأثير : ج3، ص648 . وأنساب الأشراف للبلاذري : ج10، ص297 . وتاريخ الطبري : ج4، 195)
-----
فقد حظي عمر بن الخطاب بحب كثير من اليهود الذين اعتبروه (حبيب إسرائيل) ! وذلك تفسيراً لنبوءة جاءت في كتاب حاخام شهير كان يعيش في القرن الثاني للميلاد ، ذلك الحاخام هو شمعون بار يوحاي الذي جاء في كتابه الأسرار والملوك العشرة والصلاة - الصفحة (29) :- «الملك الثاني الذي يقوم من إسماعيل سوف يكون حبيب إسرائيل، إنه يرمم صدوعها وصدوع الهيكل، إنه يحفر جبل موريا ويجعله مستقيما بالكامل، ويبني مسجدا هناك على صخرة الهيكل كما يقال: على الصخرة وكرك، ويشن حربا على أبناء عيسو ويقتل جيوشه ويأخذ أسرى عديدين منه، وسوف يموت بسلام وبمجد عظيم».
وقد نقل الباحث نبيل فياض آراء اليهود في تفسير هذا النص في كتابه نصان يهوديان حول الإسلام - الصفحة (60) حيث يقول : «الذي نعتقد أنه كان الفاروق عمر بن الخطاب، يشاركنا في هذا الرأي الباحثان مايكل كوك وباتريشيا كرونه إضافة إلى الموسوعة اليهودية… والتقليد اليهودي يعتبر عمر حاكما خيِّرا، والمدراش (تستاروت أسرار دراف شمعون بار يوحاي) يشير إليه بصديق إسرائيل أو عاشق إسرائيل!… الموسوعة اليهودية كما لاحظنا وأشرنا تقول دون أدنى تردد أن المقصود بالملك الثاني من إسماعيل، حبيب أو صديق إسرائيل، هو عمر بن الخطاب» .
-----
وذكر البلاذري في كتابه أنساب الأشراف - الجزء (10) - الصفحة (429) :- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ لاحِقٍ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمَرَ قَالَ عِنْدَ مَوْتِهِ: لَيْتَنِي أَنْجُو مِنَ الأَمْرِ كَفَافًا لا عَلَيَّ وَلا لِي، يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ ضَعْ خَدِّي عَلَى الأَرْضِ، وَيْلٌ لِعُمَرَ وَأُمِّ عُمَرَ إِنْ لَمْ يُنْجِهِ اللَّهُ مِنَ النَّارِ.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عاصم بن عمر عن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ كَعْبَ الأَحْبَارِ قَالَ لِعُمَرَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ مَيِّتٌ فِي ثَلاثٍ، أَجِدُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ:
أَتَجِدُ اسْمِي وَنَسَبِي؟ قَالَ: لا وَلَكِنِّي أَجِدُ صِفَتَكَ وَسِيرَتَكَ، فَقَالَ عُمَرُ:
أَيُوعِدُنِي كَعْبٌ ثَلاثًا أَعُدُّهَا ... وَلا شَكَّ أَنَّ الْقَوْلَ مَا قَالَ لِي كَعْبُ
وَمَا بِيَ خَوْفُ الْمَوْتِ إِنِّي لَمَيِّتٌ ... وَلَكِنَّ خَوْفِي الذَّنْبَ يَتْبَعُهُ الذَّنْبُ
ومن صور علاقة الحب العجيبة هذه تقريب عُمَر لكعب الأحبار اليهودي وتمكينه من الفتيا للناس في مدينة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ! فبعد ان استلم عُمَر بن الخطاب الخلافة بوصايةٍ من أبي بكرٍ ، برزت شخصية يهوديّة على الساحة تدعي الإسلام ظاهراً ، غير أنّ هذه الشخصية قد عملت بشتّى الطرق على تخريب الإسلام وتحريفه والتي قد انخدع بها عُمَر بن الخطاب وتأثر فيها كثيراً . وهذه الشخصية هي كعب الأحبار اليهوديُّ عدو الله ورسوله ، واسمه كعب بن ماتع الحميري أبو إسحاق ، والأحبار لقبٌ يُطلق على عالم الدّين وخاصةً لغير المسلمين ، مثل رئيس الكهنة عند اليهود والبَطْرَك عند النّصارى ، واسمه عبري محرف إلى العربية والحقيقي هو "عقيبا" أما "كعب" فهو اسم منتشر بين يهود شبه الجزيرة العربية وهو تحريفٌ للاسم العبري . لقد كان كعب الأحبار بمثابة الزعيم الديني ليهود الجزيرة العربية ، أدرك الجاهلية وأسلم في أيام عمر بن الخطاب .
قال الذهبي عنه في كتاب سير أعلام النبلاء - الجزء (4) - الصفحة (472) :- "هُوَ كَعْبُ بنُ مَاتِعٍ الحِمْيَرِيُّ ، اليَمَانِيُّ ، العلَّامة ، الحَبْر ، الَّذِي كَانَ يَهُودِيّاً فَأَسْلَمَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , وَقَدِمَ المَدِيْنَةَ مِنَ اليَمَنِ فِي أَيَّامِ عُمَرَ ، فَجَالَسَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَكَانَ يُحَدِّثُهُم عَنِ الكُتُبِ الإِسْرَائِيْليَّةِ ، وَيَحْفَظُ عَجَائِبَ ، وَيَأْخُذُ السُّنَنَ عَنِ الصحابة , وكان حسن الإسلام ، مَتِيْنَ الدّيَانَةِ ، مِنْ نُبَلاَءِ العُلَمَاءِ" .
وقال ابن كثير عنه في كتاب البداية والنهاية - الجزء (1) - الصفحة (19) :- فَإِنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ لَمَّا أَسْلَمَ فِي زَمَنِ عُمَرَ كَانَ يَتَحَدَّثُ بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بِأَشْيَاءَ مِنْ عُلُومِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَيَسْتَمِعُ لَهُ عُمَرُ تَأْلِيفًا لَهُ وَتَعَجُّبًا مِمَّا عِنْدَهُ مِمَّا يُوَافِقُ كَثِيرٌ مِنْهُ الْحَقَّ الَّذِي وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ الْمُطَهَّرُ ، فَاسْتَجَازَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ نَقْلَ مَا يُورِدُهُ كَعْبُ الْأَحْبَارِ ; لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَلَمَّا جَاءَ مِنَ الْإِذْنِ فِي التَّحْدِيثِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ، لَكِنَّ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِيمَا يَرْوِيهِ غَلَطٌ .
وقال ابن كثير عنه في كتاب البداية والنهاية - الجزء (2) - الصفحة (159) :- أَسْلَمَ فِي زَمَنِ عُمَرَ وَكَانَ يَنْقُلُ شَيْئًا عَنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، فَكَانَ عُمَرُ يَسْتَحْسِنُ بَعْضَ مَا يَنْقُلُهُ ; لِمَا يُصَدِّقُهُ مِنَ الْحَقِّ ، وَتَأْلِيفًا لِقَلْبِهِ فَتَوَسَّعَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ فِي أَخْذِ مَا عِنْدَهُ ، وَبَالَغَ أَيْضًا هُوَ فِي نَقْلِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي كَثِيرٌ مِنْهَا مَا يُسَاوِي مِدَادَهُ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ بَاطِلٌ لَا مَحَالَةَ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ صَحِيحٌ لِمَا يَشْهَدُ لَهُ الْحَقُّ الَّذِي بِأَيْدِينَا .
الأمر العجيب والغريب جداً في هذا اليهودي أنّه كيف لم يؤمن رغم ما رآه من معجزات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) طوال فترة حياته الشريفة ؟ وبعد ما رأى انتصارات الإسلام على يد الإمام علي (عليه السلام) في خيبر وقتل أقوى فرسان اليهود .. كلُّ ذلك لم يقتنع به أو يكترث له ولم يعجبه حتّى ! ثم فجأةً يقتنع كعب الأحبار بالإسلام ويعتنقه في زمن عُمَر بن الخطاب ! ما ذلك إلّا بسبب علاقات عُمَر باليهود القديمة . وقد سَمحَ له عُمَر مباشرةً بأن يجلس في مسجد النبي ويُحدث المسلمين من أدبيات أهل الكتاب وثقافتهم ، وهذا ما كان يصبو إليه عمر بن الخطاب الذي حاول ذلك على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلم يفلح . وكان عُمَر لا يسمح لأحد من الصحابة أن يتحدث في المسجد أو يروي أحاديث النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، وكان يُعاقب بشدّة كل من يفعل ذلك ، وكان يوصي ولاته بأن يُجردوا القرآن من الحديث ، لا بل أنّه احرق كل الاحاديث التي جمعها الصحابة ، وإذا بعُمَر يخالف كل ذلك ويسمح فقط لكعب الأحبار بأن يتحدث في المسجد !
-----
لقد كان عُمَر يستشير كعب الأحبار في أهم أمور الحكم ويأخذ بآرائه مثنياً عليها ! مثلاً ما يرويه أحمد بن حنبل في مسنده - الجزء (1) - الصفحة (389) :- 293 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ، حَدَّثَنِي أَبُو الْمُخَارِقِ زُهَيْرُ بْنُ سَالِمٍ، أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ سَعْدٍ الْأَنْصَارِيَّ، كَانَ وَلَّاهُ عُمَرُ حِمْصَ - فَذَكَرَ الْحَدِيثَ - قَالَ عُمَرُ يَعْنِي لِكَعْبٍ: إِنِّي أَسْأَلُكَ عَنْ أَمْرٍ فَلا تَكْتُمْنِي، قَالَ: وَاللَّهِ لَا أَكْتُمُكَ شَيْئًا أَعْلَمُهُ، قَالَ: " مَا أَخْوَفُ شَيْءٍ تَخَوَّفُهُ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: أَئِمَّةً مُضِلِّينَ "، قَالَ عُمَرُ: صَدَقْتَ، قَدْ أَسَرَّ ذَلِكَ إِلَيَّ وَأَعْلَمَنِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وذكر أبو بكر بن زنجويه في كتابه الأموال - الجزء (1) - الصفحة (389) :- 640 - قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: أني هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ، أَنَّ عِمْرَانَ الْعَبْسِيَّ قَالَ: سَمِعْتُ جَدِّيَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، يَقُولُ: لَمَّا وَلِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ زَارَ أَهْلَ الشَّامِ، فَنَزَلَ الْجَابِيَةَ وَأَرْسَلَ رَجُلًا مِنْ جَدِيلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَافْتَتَحَهَا صُلْحًا، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ وَمَعَهُ كَعْبٌ فَقَالَ: يَا أَبَا إِسْحَاقَ أَتَعْرِفُ مَوْضِعَ الصَّخْرَةِ؟ فَقَالَ: أَذْرُعٍ مِنَ الْحَائِطِ الَّذِي يَلِي وَادِي جَهَنَّمَ كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا، ثُمَّ احْفِرْ فَإِنَّكَ تَجِدُهَا قَالَ: وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مَزْبَلَةٌ قَالَ: فَحَفَرُوا فَظَهَرَتْ لَهُمْ فَقَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ: «أَيْنَ تَرَى أَنْ نَجْعَلَ الْمَسْجِدَ» ، أَوْ قَالَ: «الْقِبْلَةَ؟» فَقَالَ: «اجْعَلْهُ خَلْفَ الصَّخْرَةِ، فَتَجْمَعَ الْقِبْلَتَيْنِ، قِبْلَةَ مُوسَى، وَقِبْلَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» فَقَالَ: «ضَاهَيْتَ الْيَهُودِيَّةَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، خَيْرُ الْمَسَاجِدِ مُقَدَّمُهَا» قَالَ: فَبَنَاهَا فِي مُقَدَّمِ الْمَسْجِدِ .
وكثيراً ما كان عُمَر يسأل هذا كعب اليهودي عن أمور الدين ، حيث ذكر الطبري في تفسيره - الجزء (9) - الصفحة (167) :- حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ، قَالَ: ثنا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثني أَبُو الْمُخَارِقِ زُهَيْرُ بْنُ سَالِمٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لِكَعْبٍ: مَا أَوَّلُ شَيْءٍ ابْتَدَأَهُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ؟ فَقَالَ كَعْبٌ: " كَتَبَ اللَّهُ كِتَابًا لَمْ يَكْتُبْهُ بِقَلَمٍ وَلَا مِدَادٍ، وَلَكِنَّهُ كَتَبَ بِأُصْبُعِهِ يَتْلُوهَا الزَّبَرْجَدُ وَاللُّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ: «أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي».
وعندما قرأ عمر الآية : "وأدخلهم جنات عدن" لم يجد غير هذا اليهودي الذي أسلم حديثا لكي يسأله عن تفسيرها ! ذكر الطبري في تفسيره - الجزء (20) - الصفحة (121) :- وَقَدْ حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثنا يَزِيدُ، قَالَ: ثنا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [ص: 50] قَالَ: سَأَلَ عُمَرُ كَعْبًا مَا عَدْنٌ؟ قَالَ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قُصُورٌ فِي الْجَنَّةِ مِنْ ذَهَبٍ يَسْكُنُهَا النَّبِيُّونَ وَالصِدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ وَأَئِمَّةُ الْعَدْلِ».
وذكر البيهقي في شعب الإيمان - الجزء (9) - الصفحة (493) :- 7008 - أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنِي أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ الْفَقِيهُ، نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَعْقِلٍ، نا حَرْمَلَةُ، نا ابْنُ وَهْبٍ، نا مَالِكٌ، أَنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ كَلَّمَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَ: وَيْلٌ لِسُلْطَانِ الْأَرْضِ مِنْ سُلْطَانِ السَّمَاءِ فَقَالَ عُمَرُ: " إِلَّا مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ " فَقَالَ: مَا بَيْنَهُمَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وذكر السيوطي في كتابه جامع الأحاديث - الجزء (26) - الصفحة (308) :- 29175- عن سالم بن عبد الله: أن كعب الأحبار قال لعمر بن الخطاب: إنا لنجد: ويل لملك الأرض من ملك السماء فقال عمر: إلّا من حاسب نفسه، فقال كعب: والذى نفسي بيده إنها في التوراة لتابعتها، فكبر عمر ثم خر ساجدا (العسكري فى المواعظ، وعثمان بن سعيد، الدارمي فى الرد على الجهمية، والخرائطي فى الشكر، والبيهقي) [كنز العمال 35797]
بل أنّ كعب الأحبار كان يفتي في المسلمين بعض الأحيان ، ذكر مالك بن أنس في موطأه - الجزء (1) - الصفحة (449) :- 1142 - أخبرنا أَبُو مُصْعَبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ كَعْبَ الأَحْبَارِ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ فِي رَكْبٍ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِبَعْضِ الطَّرِيقِ، وَجَدُوا لَحْمَ صَيْدٍ، فَأَفْتَاهُمْ كَعْبٌ بِأَكْلِهِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ , ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: مَنْ أَفْتَاكُمْ بِهَذَا؟ فقَالُوا: كَعْبٌ الأَحْبَارِ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ أَمَّرْتُهُ عَلَيْكُمْ حَتَّى تَرْجِعُوا، فلَمَّا كَانُوا بِبَعْضِ طَرِيقِ مَكَّةَ , مَرَّتْ رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ، فَأَفْتَاهُمْ كَعْبٌ أَنْ يَأْخُذُوهُ، فَيَأْكُلُوهُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ أَنْ أَفْتَيْتَهُمْ بِهَذَا؟ قَالَ: هُوَ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ، قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنْ هِو إِلاَّ نَثْرَةُ حُوتٍ يَنْثُرُهُ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّتَيْنِ .
وكان عمر يسأل كعب الأحبار عن الغيب وما سيجري في المستقبل ويرسل كلامه إرسال المسلّمات ، فقد ذكر الطبراني في معجمه الكبير - الجزء (1) - الصفحة (126) :- 120 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِرْقٍ الْحِمْصِيُّ، ثنا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ، ثنا أَبِي، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُهَاجِرِ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ سَالِمٍ، أَنَّ عُمَيْرَ بْنَ رَبِيعَةَ، حَدَّثَهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: يَا كَعْبُ كَيْفَ تَجِدُ نَعْتِي؟ قَالَ: «أَجِدُ نَعْتَكَ قَرْنًا مِنْ حَدِيدٍ» قَالَ: وَمَا قَرْنٌ مِنْ حَدِيدٍ؟ قَالَ: «أَمِيرٌ سَدِيدٌ لَا يَأْخُذُهُ فِي اللهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ» ، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: «ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَكَ خَلِيفَةٌ تَقْتُلُهُ فِئَةٌ ظَالِمَةٌ» قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: «ثُمَّ يَكُونُ الْبَلَاءُ».
وذكر ابن حجر في كتابه فتح الباري - الجزء (13) - الصفحة (82) :- عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ قَالَ تَخْرُجُ نَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ فَإِذَا سَمِعْتُمُ بِهَا فَاخْرُجُوا إِلَى الشَّامِ .
وذكر السيوطي كتابه الحاوي للفتاوي - الجزء (1) - الصفحة (311) :- وَأَخْرَجَ ابن سعد عَنْ عمرو بن ميمون أَنَّ عمر لَمَّا طُعِنَ دَخَلَ عَلَيْهِ كعب فَقَالَ: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ قَدْ أَنْبَأْتُكَ أَنَّكَ شَهِيدٌ، فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ لِي بِالشَّهَادَةِ وَأَنَا فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ؟ . راجع أيضاً تاريخ المدينة لابن شبة (ج3، ص917.)
بل كان عُمَر يستشير كعب الأحبار في وجهات سفره ! إذ أراد ذات مرة أن يسافر العراق لكن كعب الأحبار نصحه بعدم الذهاب فامتثل لذلك عُمَر ! فقد ذكر السيوطي في كتابه جامع الأحاديث - الجزء (28) - الصفحة (8) :- 30588- عن أبي إدريس قال: قدم علينا عمر بن الخطاب الشام فقال: إني أريد أن آتي العراق، فقال له كعب الأحبار: اعيذك بالله يا أمير المؤمنين من ذلك! قال وما تكره من ذلك؟ قال: بها تسعة أعشار الشر وكل داء عضال وعصاة الجن وهاروت وماروت، وبها باض إبليس وفرخ! [كنز العمال 38280] أخرجه ابن عساكر (1/159) .
ولم يكن ذم هذا اليهودي الخبيث للعراق إلا لأن أهله كانوا مشهورين بالولاء والتشيع لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله وسلامه عليه) ، بينما نراه يثني ثناءً عظيماً على الشام إلى درجة أنّه يعتبرها أفضل من المدينة المنورة ! وما ذلك إلّا لأنّ بني أمية كانوا هم من باضوا هناك وفرّخوا وزرعوا مشاعر النصب والعداء لأمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام) .
-----
ولقد تصدّى لكعبٍ عليُّ بن أبي طالبٍ (عليه الصلاة والسلام) في قصة (التفلة) بصاق الله الذي تكونت منه البحار والأنهار والمحيطات ! حيث روى كعب الأحبار (أنّ الجبار كان واقف على صخرة بيت المقدس عندما خلق الأرض ثم بصق الله بصقة تكونت منها المحيطات والبحار والانهار . فقال له عليٌّ (عليه الصلاة والسلام) : يا كعب ، ويحك ! إنّ الصخرة التي زعمت لا تحوي جلاله ، ولا تسع عظمته ، والهواء الذي ذكرت لا يجوز أقطاره . ولو كانت الصخرة والهواء قديمين معه لكانت لهما قدمته . وعز الله وجل أن يقال : له مكان يومى إليه . والله ليس كما يقول الملحدون ولا كما يظن الجاهلون ، ولكن كان ولا مكان بحيث لا تبلغه الأذهان . وقولي: (كان) عجز عن كونه.. وهو مما علَّم من البيان. يقول الله عز وجّل {خَلَقَ الإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} . فقولي له : (كان) مما علمني من البيان ، لأنطق بحججه و عظمته . وكان ولم يزل ربنا مقتدراً على ما يشاء ، محيطاً بكل الأشياء . ثم كوَّن ما أراد بلا فكرة حادثة له أصاب ، ولا شبهة دخلت عليه فيما أراد . وأنّه عز وجل خلق نوراً ابتدعه من غير شيء ، ثم خلق منه ظلمة ، وكان قديراً أن يخلق الظلمة لا من شيء ، كما خلق النور من غير شيء . ثم خلق من الظلمة نوراً وخلق من النور ياقوتة غلظها كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين ، ثم زجر الياقوتة فماعت (أي : ذابت) لهيبته ، فصارت ماء مرتعداً ، ولا يزال مرتعداً إلى يوم القيامة . ثم خلق عرشه من نوره ، و جعله على الماء . وللعرش عشرة آلاف لسان ، يسبح الله كل لسان منها بعشرة آلاف لغة ، ليس فيها لغة تشبه الأخرى . وكان العرش على الماء من دونه حجب الضباب (مثل الشيباء) وذلك قوله : {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ} . يا كعب ويحك ، إنّ من كانت البحار تفلته على قولك ، كان أعظم من أن تحويه صخرة بيت المقدس ، أو تحويه الهواء الذي أشرت إليه أنه حل فيه) .
المصدر : (البحار : ج30، ص101، عن تنبيه الخواطر و نزهة النّواظر.)
فقد اعترض أمير المؤمنين علي (عليه السلام) على كعبٍ بالإعلان باستعظام ما يقوله هذا الحبر اليهودي واستفظاعه ، كما أنّه اسقط هيبة كعب الأحبار أمام الناس ، ومنع من أخذ الناس عنه من دون تأمل أو تمحيص . وقد كان أهل الكتاب يسعون للهيمنة الفكرية على المسلمين ولتقديم أنفسهم كعلماء بكل ما كان ويكون .
-----
وقد ضرب أبو ذر الغفاري كعب الأحبار في مجلس عثمان وقال له : (أتعلمنا ديننا يا ابن اليهودية) ؟! . ذكر البلاذري في كتابه أنساب الأشراف - الجزء (5) - الصفحة (542) :- قَالَ عُثْمَان يومًا: أيجوز للإمام أَن يأخذ من المال فَإِذَا أيسر قضى؟ فَقَالَ كعب الأحبار: لا بأس بِذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو ذر: يا ابْن اليهوديين أتعلمنا ديننا؟ فَقَالَ عُثْمَان: مَا أَكْثَر أذاك لي وأولعك بأَصْحَابي، الحق بمكتبك، وكان مكتبه بالشام.
-----
وأنّ عبد الله بن العباس قد غضب غضباً شديداً لمَّا جاءه رجل يخبره بأن كعباً قد أخبره أن الله سوف يأتي بالشمس والقمر يوم القيامة ويقذف بهما في جهنم ، حيث رأى ابن العباس في ذلك مخالفة صريحة للآيات القرآنية التي تذكر أنّ الشمس والقمر طائعان لله ، فكيف يعذبهما الله وهما دائبين في طاعة الله ؟! حيث قال ابن عباس : كُعْبُ الْأَحْبَارُ كَذَّابٌ يُرِيدُ ادْخَال الْيَهُودِيَّة فِي الْإِسْلَامِ . وقال عنه : كَذَبَ كَعْبٌ! كَذَبَ كَعْبٌ! كَذَبَ كَعْبٌ! قَاتَلَ اللَّهُ هَذَا الْحَبْرَ وَقَبَّحَ حَبْرِيَّتَهُ! مَا أَجْرَأَهُ عَلَى اللَّهِ وَأَعْظَمَ فِرْيَتِهِ . (تاريخ الرسل والملوك للطبري : ج1، ص65. والعظمة لأبي الشيخ الأصبهاني : ج4، ص1163 .)
فانتقل كعب الأحبار إلى الشام بعدما أحس بالخطر من الإمام علي (عليه السلام) وأصحابه (رضي الله عنهم) ، فأقام عند معاوية حتى وفاته في مدينة حمص ، قال ابن سعد في طبقاته الكبرى - الجزء (7) - الصفحة (445) :- كَعْبُ الْأَحْبَارِ بْنُ مَاتِعٍ وَيُكْنَى أَبَا إِسْحَاقَ، وَهُوَ مِنْ حِمْيَرَ، مِنْ آلِ ذِي رُعَيْنٍ، وَكَانَ عَلَى دِينِ يَهُودَ، فَأَسْلَمَ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ، فَسَكَنَ حِمْصَ حَتَّى تُوُفِّيَ بِهَا سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ .
وليس عُمَر بن الخطاب وحده من يؤمن باليهود , لقد كانت عائشة عندما تمرض تأتي بامرأة يهودية لكي ترقيها وتدعو لها بالشفاء وتشعر بزوال أمراضها عندما تقرأ عليها يهوديّة من التوراة ! وقد ذكر ذلك مالك بن أنس في موطأه - الجزء (5) - الصفحة (1377) :- 3472 - مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمنِ؛ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تَشْتَكِي. وَيَهُودِيَّةٌ تَرْقِيهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ارْقِيهَا بِكِتَابِ اللهِ .
وقد سافر أبو هريرة خصيصاً إلى الطور ليقابل كعب الأحبار . ويذكر أبو الدرداء فضلَ كعب الأحبار ، فيقول : «إِنَّ عِنْدَ ابْنِ الْحِمْيَرِيَّةِ لَعِلْمًا كَثِيرًا» . (الطبقات الكبرى لابن سعد : ج7، ص446.) أما معاوية بن أبي سفيان ، فيقول : «إِلَّا إِنَّ كَعْبَ الْأَحْبَارِ أَحَدُ الْعُلَمَاءِ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ لَعِلْمٌ كَالْبِحَارِ وَإِنْ كُنَّا فِيهِ لَمُفَرِّطِينَ» . (فتح الباري لابن حجر العسقلاني : ج13، ص335.)
والأغرب من ذلك أنّ عمر بن الخطاب يُشكك في خلافته فلا يطمئن لها إلّا بتزكية من اليهود ، وقد سأل عُمَر كعباً عن رأيه فيه ، هل أنّه خليفة شرعي لرسول الله حقاً أم مجرد ملك وحاكم غير شرعي ؟! وقد ذكر السيوطي في كتابه جامع الأحاديث - الجزء (26) - الصفحة (131) :- 28728- عن كعب: أن عمر بن الخطاب قال: أنشدك بالله يا كعب! أتجدني خليفة أم ملكا؟ قال: بل خليفة، فاستحلفه فقال كعب: خليفة والله! من خير الخلفاء، وزمانك خير زمان. [كنز العمال 35794] أخرجه نعيم بن حماد في الفتن : (1/102، رقم 241) .
أما رواية (حدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فتلك لا تصحُّ ؛ لأنّها مخالفة صريحة لقول النبي المتواتر بشأن اليهود : «لَا تَتَّبِعُوا هَؤُلَاءِ قَدْ هَوَّكُوا وَتَهَوَّكُوا» . وقد ورد في صحيح البخاري - الجزء (9) - الصفحة (111) :- 7363 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ، أَخْبَرَنَا ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: "كَيْفَ تَسْأَلُونَ أَهْلَ الكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ وَكِتَابُكُمُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْدَثُ، تَقْرَءُونَهُ مَحْضًا لَمْ يُشَبْ، وَقَدْ حَدَّثَكُمْ أَنَّ أَهْلَ الكِتَابِ بَدَّلُوا كِتَابَ اللَّهِ وَغَيَّرُوهُ، وَكَتَبُوا بِأَيْدِيهِمُ الكِتَابَ، وَقَالُوا: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا؟ أَلاَ يَنْهَاكُمْ مَا جَاءَكُمْ مِنَ العِلْمِ عَنْ مَسْأَلَتِهِمْ؟ لاَ وَاللَّهِ مَا رَأَيْنَا مِنْهُمْ رَجُلًا يَسْأَلُكُمْ عَنِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكُمْ ".
وَعَنْ إِسْمَاعِيْلَ بنِ عُبَيْدِ اللهِ، عَنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيْدَ، سَمِعَ عُمَرَ يَقُوْلُ لأَبِي هُرَيْرَةَ: لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيْثَ عَنْ رَسُوْلِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ دَوْسٍ. وَقَالَ لِكَعْبٍ: لَتَتْرُكَنَّ الحَدِيْثَ أَوْ لأُلْحِقَنَّكَ بِأَرْضِ القِرَدَةِ . (سير أعلام النبلاء للذهبي : ج2، ص600.)
وبعد هذا يعجب المرء كيف يرمينا المخالفون بأنّنا قد أخذنا ديننا من اليهود بدعوى أنّ هناك شخصا أسطورياً اسمه عبد الله بن سبأ ! كان يهوديا ثم أسلم وهو الذي صنع التشيع ؟! بينما لا يلتفتون إلى أنّ دينهم في أصله وجذوره إنما جاء من اليهود ؛ لأنّ أئمتهم وخلفاءهم كعمر بن الخطاب وأبو الدرداء وأبو هريرة ومعاوية ابن ابي سفيان وغيرهم إنّما كانوا تلاميذ عندهم يأخذون عنهم العقائد والأحكام ويستشيرونهم في كل صغيرة وكبيرة . بل أنّ مؤسس أساس التشيّع هو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)