الحتمية البشرية ومشروع الدولة العادلة
الشيخ محمّد السند
لم يقتصـر الحديث عن الدولة المهدوية وانتشار مشـروع الدولة العادلة على الكُتّاب المسلمين أو بعض المترفين من المستشـرقين الذين حاولوا ملأ الفراغ في الحديث عن المهدوية، وإنَّما سجَّل أبرز المحلِّلين الاستراتيجيين بصمات واضحة في حديثهم عن المشـروع المهدوي، وانتهوا إلى أنَّ البشـرية تسير قهراً باتِّجاه هذا المشـروع. ومن بين أُولئك المحلِّل الاستراتيجي (فرانسو توال)(١) (عضو مجلس الشيوخ الفرنسـي) الذي لديه مركز بحثي من أكبر المراكز التي تعنى بالدراسات الاستراتيجية. وقد كتب كثيراً عن التشيّع والشيعة. وهناك شخص آخر وهو بروفيسور ألماني يُسمّى (يوخن روكا)(٢)، ولعلَّه يختلف عن الأوَّل، حيث إنَّ هذا الأخير مملوء حقداً، ويُقدِّم دراساته مشفوعة بنصائح القضاء على الشيعة والتشيّع، ويدقُّ أجراس الخطر عند نهاية كلّ تقرير ودراسة يُقدِّمها.المهمُّ أنَّ كليهما يلتقي ويدقُّ على نفس الوتر بأنَّ المشـروع المهدوي وشعاراته تتصاعد في أُوروبا وأمريكا، وأنَّ البشرية شئنا أم أبينا هي في مسير تدشين شعارات أُطروحة المشروع المهدوي.
إنَّ عموم الشعوب يهفو فكرها فضلاً عن روحها إلى معرفة المهدي عليه السلام.
ومن اللطيف أنَّ هذه المعرفة الروحية والفكرية لعموم الناس تنسجم مع بيان لأمير المؤمنين عليه السلام(٣) بأنَّ معرفة أهل البيت عليهم السلام بالنورانية أعظم من معرفتهم بالجسد أو البدن كما يشير إليه النصُّ، وهذا لا يعني إقصاءً لمعرفتهم عليهم السلام بأبدانهم وأجسادهم من خلال معاشرتهم أو الاعتقاد بهم، إذ إنَّ هذه المعرفة لا بدَّ منها، ولا نقول بإقصائها البتَّة، وأنَّها - أي معرفة البدن - ضرورة لا محيص عنها لمن يعتقد بهم عليهم السلام، إلَّا أنَّ تلك المعرفة النورانية أعظم من هذه المعرفة.
فالبشـرية تسيرُ نحو أُفق إبصار قلوبها، نحو هذه الحقيقة، وتنجذب إلى هذا الهيكل المهدوي النوراني، ذلك الذي هدأت به الملائكة(٤) عندما عرفوا أنَّه صاحب هذا المشروع الإلهي العظيم.
إذن فممَّا لا شكَّ فيه - ليس روائياً فقط كما أشارت إلى ذلك الأخبار الكثيرة المتحدِّثة عن مضمون (لو لم يبقَ من الدنيا إلَّا يوم واحد لبعث الله فيه رجلاً اسمه اسمي)(٥)، وإنَّما على مستوى ما يُقدَّم من دراسات استراتيجية غربية - أنَّ البشـرية مرغمةً تسيرُ باتِّجاه معرفة المشـروع المهدوي، ومن ثَمَّ الاضطلاع به.
بل إنَّنا ندَّعي أنَّ ما يحصل في هذا الكوكب من طرح شعارات، كالتي ترفعها منظَّمة الأُمم المتَّحدة، ووضع بنود قوانين كما في مجلس الأمن الدولي، ورفع شعارات ضدّ العنصـرية والقومية والمذهبية والطائفية، وتجريم سفك الدماء وإزهاق الأرواح وتعبيد الناس، كلُّ تلك القوانين التي تهدف للارتقاء هي تتوافق مع المشـروع المهدوي، فهي تقصـي الملل والنحل، وتُوحِّد وتضمُّ المتفرِّق، وتمزج المختلف لتشكّل العالم في نواة إدارية كونفيدرالية(٦) أو فيدرالية(٧) إلى أن تصير البشـرية تألف القانون العدلي الواحد والمحكمة الدولية الواحدة التي يتساوى فيها الجميع ثقافياً واجتماعياً، والذي تذوب فيه جميع التقاليد، وتنصهر لتبني مجتمعاً عالمياً في الإدارة والسياسة والحكم والعدل، مجتمعاً يتساوى فيه الصغير والكبير، مجتمعاً يُعطي العلم للجميع ويكافئ الفرص بين الجميع.
إنَّ هذا كلّه يسير بالناس ويأخذ بأيدهم إلى المشروع المهدوي.
إنَّ الاستفتاءات التي تجريها الأنظمة الغربية عن كلِّ ما قدَّمته للبشـرية تُؤشِّـر إلى حالة من القلق والتردّد، وتُؤشِّر إلى وجود لغطٍ من أنَّ هناك شيئاً ما لم يُقَدَّم إلى الآن، أنَّ هناك عدالة وراء هذه العدالة، أنَّ هناك محرومية، وهي تُشكِّل رقعة جغرافية واسعة ما زالت تؤرق الجميع، ومفادها أنَّ هناك تزايداً في الطبقات المسحوقة(٨)، أنَّ هناك تهالكاً على المادَّة، كلُّ ذلك والدول الأُوروبية والأمريكية من خلال أنظمتها وإمكانيتها الإعلامية العملاقة وتغطيتها على إخفاقات شعاراتها وتلاعب الكبار بمصير الصغار، كلُّ ذلك يُؤشِّـر إلى حالة ينشدها الجميع، حالةٍ تتطلَّع إليها شعوب العالم بأسره، وهي حالة خطورة تؤشِّرها الدراسات لدى المراكز السلطوية في هذه الدول، أنَّ هذا المشـروع يبقى يؤرقهم، فإنَّنا مهما قدَّمنا من عدالة فإنَّ هناك عدالة منشودة تسمع عنها الشعوب وتنشدها وتطلب تحقيقها، أنَّه مهما قُدِّم من رفاه، وأنَّه مهما حصل تطوّر في الثقافة، وأنَّه مهما حصل تفتّقٌ في العلم، فإنَّهم ينشدون ما لم يلمسوه، إنَّهم ينشدون ما سمعوه عن عدالة مطلقة ومساواة لا نظير لها.
تعميق مفردة الانتظار:
إنَّ من أبرز معالم هوية الإمام المهدي عليه السلام أنَّه الأمل، وأنَّ الفرج المهدوي يساوي الأمل(٩)، لذلك عبَّرت بعض الروايات أنَّ الانتظار من أفضل العبادة(١٠).
وفي العلوم العصـرية نلاحظ أنَّ الأمل يتدخَّل في الحياة الإنسانية ويعطيها الحيوية، بل إنَّ البدن ونشاطهُ معقود بالأمل، فأيّ إنسانٍ ينسدُّ لديه باب الأمل فإنَّ ذلك يكون بداية انهياره، ولا حبل نجاة وإنقاذ لمثل هكذا إنسان إلَّا الأمل المرتبط بالمستقبل.
وإنَّ أحد المعاني الماهوية العقلية لمعنى الإمام والإمامة الإلهية أنَّها الأمل، أي غاية تأملها وتقصدها وتنحو إليها، فـ (أَمَمَ)(١١) يعني قصدَ وتبعَ، فهو منطوٍ على غاية، والغاية منطويةٌ على شيءٍ يريده، فأنت تلاحظ أنَّ الأمل مقرَّر بالمعنى الماهوي للإمامة، والأُمَّة لا تُسمّى أُمَّةً(١٢) ما لم تُؤَم وتقصد وتنحو وتتَّجه، فالإمامة أملُ القاصدين والأُمَّةُ سيرٌ باتِّجاه المقصودين، فإذا كانت الحضارات التي شكَّلتها الأُمم هي شاخصها وبارزها فإنَّه لم تكن تلك الحضارات إلَّا من أُمم كانت لها أهدافٌ ومقاصد قمميةٌ تطلَّعت إليها فبنت وأسَّست ما صار بعد ذلك حضارةً لها، فدور الأُمَّة في بناء الحضارة دورٌ ريادي أساسي، ولا بدَّ أن يكون على نظام (لا جبر ولا تفويض)(١٣)، وعلى نظام (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (الرعد: ١١)، فالأُمَّة عليها مسؤوليات في بناء حضارتها واتِّجاه نظام الخالق، وهو نظام الدولة الإلهية ونظام الأمل، فالأُمَّة مسؤولةٌ عن الأمل والفرج، وعليها السعي لتعبيد طريقه.
من هنا ينفتحُ مجال الحديث عن مسؤوليات الأُمَّة تجاه إمامها، وما هي الطرق التي ينبغي أن تصلها لتعبيد الطريق من خلال الأمل للوصول إلى الظهور.
من هنا تكمن خطورة عقيدة الإمامة - والإمام المهدي عليه السلام بالخصوص - على المناوئين وأهمّيتها للموالين، فهذه الشخصية الإلهية التي تفتح للأُمم تطلّعاً فوق مستوى غايات إدراكها وفوق مستوى قمم ما تصبو إليه، فكلُّ ما تنتج، بل وما تُفكِّر أمام ما يمكن التطلّع إليه في هذه العقيدة هو قليل، وتكمن خطورته عند الأعداء في أنَّه يُمثِّل تهديداً لكلِّ واقعهم، إذ عند شعوبهم لا يكون ما حقَّقوه أو ما سيريدون تحقيقه هو الهدف القممي، إذا عرفت تلك الشعوب أنَّ هناك أملاً أعظم لتحقيق أهدافها على كلِّ المستويات والصعد.
وهو في نفس الوقت فيه أهمّية للموالين في شحذ الهمم، لأنَّ كلَّ ما أنتجه المؤمنون، بل وكلَّ ما يُفكِّرون فيه ويخطر في أذهانهم هو مراتب دنيا ممَّا يُحقِّقه الفرج المطلق والأُطروحة الكبرى، فالانتظار شيء ولا يُقاس به أيّ أُطروحة أُخرى.
الانتظار هو: أنَّ كلَّ ما يُطرَح عليك تقول: هل من مزيد؟ لا يقف أمام القمَّة المهدوية والانتظار المهدوي في هذه البورصة شيء، وكلُّ ذلك أعطته الروايات في كبسولةٍ عبَّرت عنها بانتظار الفرج، فالرؤية العقائدية، والسعادة، والأُفق المفتوح، والسياسة، والمال والاقتصاد، وكلُّ شيء تجده صغيراً متضعضعاً أمام الأمل والفرج، لذلك عبَّرت الروايات بأنَّ (أعظم الفرج انتظار الفرج).
تعميق مفردة العدالة:
إنَّ ما تتمتَّع به العقيدة المهدوية من تحقيق للعدالة، وما يُسلِّط عليه الضوء من قبل الخبراء الاستراتيجيين، يُمثِّل نوعاً من الخطورة عند هؤلاء ونوعاً من التعميق لمفردة العدالة عندنا، ووجه كونه يُمثِّل خطورة عندهم أنَّه يلاشي ويُصغِّر العدالة التي ينادون بها، فإنَّ هذه العقيدة تبرمج للأفراد وللأُمم استراتيجية حضارية عليا، ويقول بأنَّ كلَّ ما تُقدِّمه البشـرية من أُطروحات هو مُهَيمَن عليه من قِبَل الانتظار، ومن قِبَل العدالة المهدوية، لأنَّ الانتظار شيء أعظم وأعلى وأشمخ، فعلى سبيل المثال لو أنَّ أيَّة دولة أقامت نظاماً عادلاً، فإنَّ الانتظار يقول بأنَّ هناك ما هو أكثر عدلاً، حتَّى لو كانت تلك الدولة شيعية وترفع شعار الولاء لأهل البيت عليهم السلام، فإنَّ العدالة التي تُقدِّمها مهما كانت سامية فهناك عدالة أسمى منها.
أثر الأمل في بناء الفرد والمجتمع:
تُعتَبر العقيدة وما تُعطيه للنفس من ثقة وضمان واطمئنان أعظم من الفروع في الدين، وإن كانت الفروع من الأهمّية بمكان في الشـريعة، ولكن طبيعة الرؤية العقائدية في أنَّها رؤية واسعة أشبه بالفضاء الواسع بالنسبة إلى الأرض، وهذه الحقيقة لمن يمتلكها يتمكَّن من خلالها أن يتنقَّل دون اضطراب أو حيرة، فإذا كانت العقيدة بالنسبة لصاحبها كالخريطة المنضبطة المنظَّمة وواضحة المعالم فإنَّ الإنسان تهون عليه الأهوال ولا يقع في الخطر مهما كان عظيماً.
إنَّ الخريطة العقائدية إذا كانت مكشوفة معلومة فإنَّها تُمثِّل لصاحبها الصـراط في قراءة متقدِّمة للمستقبل والعوالم، ولا يقع معها في بلبلات ولا يقف عند مفاجآت، بل تراه يسير في طريقه سريعاً لأنَّه متبصِّـر. بخلاف من لا يملك العقيدة والرؤية، فإنَّه يهوي عند أوَّل مفاجأة، وعند أوَّل قراءة يُقدِّمها له غيره على أنَّها قراءة عقائدية، وكلَّما كانت العقيدة واسعة وذات رؤية شمولية كلَّما كانت حالة الاتِّزان والثبوت والاستقرار في نفس الإنسان وروحه أكبر، فلا ينخدعُ بالصور البرّاقة والعقائد المصطنعة والمفاجآت المهلكة.
وعندما نُسئَل من أين جاءتكم هذه القوَّة والصلابة والاستقامة يا من تحملون هذه العقيدة الانتظارية؟
نقول: إنَّها وليدة لهذا المشـروع العملاق، مشـروع الأمل، لأنَّنا إذا أُصبنا بأيِّ محنة أو ابتلاء فإنَّنا نلاحظ أنَّ هناك فرجاً أكبر من هذا البلاء والامتحان، وإذا جاء الفرج فإنَّنا نأمل بفرج أكبر منه، هذا ما يصنعه انتظار الفرج لمستقبلنا المُشـرق الذي يضخُّ في أرواح المؤمنين طاقة جبّارة من النشاط والصبر، تُولِّد الفضائل، وتنبع منها الكمالات، وتدعو صاحبها إلى التكامل وعدم الوقوف والخمول، تدعوه إلى الإخلاص، فلا يغويه أحد مهما كانت المبيعات في الأسواق أخّاذة بالأبصار، فإنَّما يأمله وينتظره أعلى وأثمن وآخذ للنفس والروح.
إنَّ الأمل لا يجذب المؤمنين فقط، إنَّه يجذب الجميع، فهو يدعو العلماء للتعلّم أكثر وأكثر، ويدعو الحوزات لمزيد من الغور في الدين والفحص في العلوم أكثر وأكثر، وهذا لا يعني القفز على الثوابت بأيَّة حال، فإنَّ هذا وهم وظنّ لا ينبغي أن يقع فيه سامع، فالأمل يدفع العالم باتِّجاه العلم مهما كان يحمل من علم فإنَّ هناك علماً أكبر فيدفعه الأمل ليحصل عليه.
إنَّ هذه العقيدة تصيحُ في الباحث وتخاطبهُ، تصيح في العالم، في المفكِّر: استيقظ، انتبه، التفت، فإنَّ هناك أُفقاً، بل آفاقاً أكبر وأكبر، وعليك بمواصلة السعي والمسير العلمي فلا تقف عند حدٍّ، الأمل يحدو بك، الانتظار يسعى بك، فلا يأخذ بك بريق ما اكتشفته من نظريات وما حصلت عليه من معلومات، في كلِّ الفنون، وعلى مختلف الصُعُد والميادين، في الفقه والأُصول، في السياسة، في الرياضيات، في الهندسة.
يصيح هذا الصوت عالياً: لا للوقوف، إنَّك تنتظر ما هو أعلى، ما هو أغلى، ما هو أثمن.
إنَّ هذا كلّه لا يعني التفسير الخاطئ لمعنى الحديث (يأتي بدين جديد)(١٤)، لا يعني ذلك والعياذ بالله أنَّ هناك بدعاً في الدين وخروجاً عن الأُصول، إنَّ هذا ينطوي على السُّذَّج فقط، ويستفيد منه المتلاعبون لإغواء من يستمع لهم، إنَّ معنى ذلك هو أنَّ العلوم لا تقف عند حدٍّ، وهي كلّ يوم في اكتشاف جديد وفي مسألة جديدة، فالفيزياء الموجودة اليوم لو عُرِضَت انجازاتها على العلماء قبل خمسين أو قبل مئة سنة فإنَّهم سيذهلون، إذا لم يصابوا بالجنون من عظمة ما اكتشفه علماء الفيزياء المتأخِّرون، ولا يعني ذلك أنَّ هناك تناقضاً في بديهيات الفيزياء القديمة، إنَّ ما جيء به ليس بدين جديد في الفيزياء أو هو فيزياء غير الفيزياء، بل على العكس تماماً إنَّ الفيزياء القديمة والجديدة مترابطة أيّما ترابط، وإنَّ الجديد إنَّما بني على القديم وانطلق منه وتفرَّع وتوسَّع، وكذلك في كلِّ العلوم الأُخرى من كيمياء، وبايلوجيا، وفسيولوجيا، ورياضيات، وهندسة، هذا كلّه توسّع في العلوم، لا تناقض فيها.
ألم نسمع الحديث القائل: إنَّ العلم إلى الآن حرفان، وسيُخرج المهدي عليه السلام الخمس والعشرين الأُخريات من حروف العلم(١٥)، كلُّ ذلك ليس في علوم المادَّة أو الطبيعة أو البدن فقط، بل إنَّه في كلِّ العلوم، في علوم العقيدة والدين والفلسفة والتفسير، كلّها ستُكتَشف وكلّها ننتظر اكتشافها، ويدفعنا الأمل لرؤيتها، فهل معنى ذلك أنَّ ما يأتي به عليه السلام لا ينسجم مع ما كان؟
وهل معنى ذلك أنَّ الخمسة والعشـرين حرفاً ستناقض الحرفين؟ معاذ الله إنَّه التلاؤم، الانسجام، كلُّ ذلك صادر من واحد.
لاحظ انتظار الفرج كيف هو أكبر الفرج، ولاحظ بنفسك كيف هو باعث لمزيد من السعي لدى العلماء فضلاً عن غيرهم، وليس هو ساع لنسف العلم وتدميره وإبادته، ليس هناك سعي لقتل العلماء ولا اغتيال العلم، إنَّما هو سعي توسّعي حثيث يدفعنا له انتظار الفرج على كلِّ الصعد.
الانتظار ساعٍ لتوسّع العلم وساعٍ لتكامل الأخلاق:
إذا تحدَّثنا بلغة أرقام، وأنَّه كيف يستطيع أحدنا أن يلتمس معنى العقيدة في هذه اللغة؟ سيجد أنَّها تشبه إلى حدٍّ ما ملفّاً كبيراً وبرنامجاً فعّالاً، يدخل ويخترق عوالم عديدة، تبقى فاعليته دائمة مستمرَّة ليس لها حدٌّ ولا زمان تنتهي فيه الفاعلية ويتلف فيه البرنامج وتنتهي الصلاحية.
فالمدَّة ليس لها تحديد، والمساحة واسعة جدّاً ومنفتحة على العوالم بأسرها، وهذا ما نلاحظه في قضيَّة أنَّ انتظار الفرج أكبر وأعظم الفرج(١٦)، فالذي يحصل عنده شدَّة وإحباط بسبب محنة، ربَّما يعيشها كفرد أو أُسرة أو أُمَّة، يخرج وهو حامل لهذا البرنامج الفعّال أشدّ ممَّا كان قبل تلك المحنة والابتلاء، وهذا ما سار عليه أتباع أهل البيت عليهم السلام طيلة قرون طويلة، يمكن استقراء حالهم من خلال ما عكسه التأريخ عن واقعهم الذي عاشوه وشدَّة المحن التي ابتلوا بها والتي أخرجتهم في كلِّ مرَّة أقوى وأشدّ وأبصر وأصلب وأيقن وأخلص ممَّا كانوا عليه قبلها.
إنَّ هذا الملف الضخم والبرنامج الفعّال يُوجِد في نفوسهم إخلاصاً في النيَّة، في السياسة، في الاجتماع، في الفكر، في العقيدة. إنَّ هذه الرؤية الأشمل التي يُولِّدها انتظار الفرج، والتي تُمثِّل في أنفسهم المنبع والمخزن العقائدي لكلِّ الكمالات الاجتماعية والأُسرية والفردية، هي إحدى سياسات الإسلام ونظره للمستقبل، وإذا لاحظت على سبيل المثال هذا البرنامج، وما يجذب العلماء للتعلّم، فإنَّهم كلَّما غاصوا في بحور العلم واستخرجوا من أعماقها الدرر، فإنَّهم يُحدِّثون أنفسهم بأنَّ ما ينتظرهم أكثر، لأنَّ انتظار الفرج أكبر، والمستقبل يحمل لهم ما لم يروه ويعرفوه، بل ولم يتصوَّره ذهنهم أو تناله أحلامهم.
وهذا ليس من الباطل في شيء، بل هو انطلاق من الثوابت التي لا تزول ولا تتزلزل، بخطى رصينة توصل العالم إلى هذه التحقيقات في أعماق الدين والفكر والسياسة، ليجدها متناغمةً متلائمةً مع ظواهر الدين وثوابته.
إنَّ انتظار الفرج كما هو ذلك الملف العملاق، والبرنامج الفعّال الذي يفتح الآفاق، ويُولِّد المعلومات، ويُرسِّخ الأفكار، ويبني الكمالات، هو كذلك في عين الوقت، العاصم من الانحراف، فيعصم المؤمنين من أن تأخذ بهم الرياح ذات الشمال وذات اليمين، إذ إنَّه يقول لهم: لا تميلوا إلى أُطروحة الحزب الفلاني، والجماعة الفلانية، فلستم وُعِدتم بهذا، إنَّما وُعِدتم بما هو أكبر، فما يُقدِّمه هؤلاء، سلفيّون كانوا أو وهّابيّون أو غيرهم، ليسوا آخر المطاف، وما يُقدِّمه الأدعياء لكم، سُذَّجاً كانوا، أو صنيعة لدوائر غربية، أو غير غربية، هو أيضاً ليس نهاية المطاف، وليس البديل الحقيقي، إنَّ كلَّ ذلك صناعة مزيَّفة، تحاول أن تختطف ا لأذهان وتُحرِّفها عن البوصلة الحقيقة، فهذه العقيدة المهدوية، عقيدة انتظار الفرج، تُمثِّل أعظم واقية ووقاية للمؤمنين من الاغترار بأيِّ أُطروحة ناقصة قاصرة زائفة، فلا العرفان ولا التصوّف ولا الوهّابية ولا الإخوانية ولا الحزبية هي الموعودة بها، نحن موعودون على لسان النبيِّ الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم(١٧)، وفي الروايات الشـريفة بانتظار فرج الإمام المهدي عليه السلام.
إنَّ الانتظار يُقدِّم هندسة وحيانية في هذا الزمان والأوان، الانتظار يعني أنَّ استراتيجيتك لا يمكن التلاعب فيها حتَّى ولو أتت أيُّ دولة عظمى تريد أن تحتال عليك، فإنَّها لن تستطيع، لأنَّ البرمجة التي أودعها الوحي من خلال آياته ورواياته لا تدع مجالاً لأن يُستحمَر الشعب أو يستغفل، لاحظ أنَّ بني اسرائيل عندما كانوا ينتظرون فرج الله موسى عليه السلام لم يغرّهم حضارة فرعون، ولا هولها، ولا عظمة ما يملك، ولا سطوة ما تحت يده، ولا جبروت جنده، لكنَّهم عندما تركوا(١٨) المشروع ولم ينهضوا به ولم يعطوه استحقاقه؛ انتكسوا وأُلبس عليهم، وتيه بهم، فضلّوا سواء السبيل، وابتعدوا عن الصراط المستقيم. ونحن الآن كذلك فإنَّنا نملك ما هو الأعظم من كلِّ ما هو موجود، إنَّه انتظار الفرج، فلا بدَّ أن نعمل فيه كما أراد النبيِّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم له.
علوّ الهمَّة في المشروع الإلهي:
إنَّ خريطة كلّ فرد منّا و جماعة لا بدَّ أن تكون هي المشـروع الإلهي، وأن يكون همّنا هو مشـروع المنجي، فإذا وجدت أنَّ المؤمنين أخذوا دوراً معيَّناً شغلوا الفراغ فيه، لا تقف وتقول: إنَّ المؤمنين كفوني المؤنة، بل لا بدَّ أن تأخذ دوراً آخر في موقع آخر، إذ لا بدَّ من السعي وعلوّ الهمَّة.
يستعرض لنا القرآن الكريم في سورة البقرة علوّ الهمَّة في قصَّة جالوت وطالوت، فطالوت كان إماماً معصوماً: (إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) (البقرة: ٢٤٧)، بعثه الله بعثة إمامة وليست بعثة نبوَّة، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (البقرة: ٢٤٦)، فبعد أن فُعِّل الخذلان من بني إسرائيل، وبسبب عدم تحمّل مسؤولياتهم تأخَّر إنجاز المشـروع، فلم يُنجَز في زمن هارون ولا في زمن موسى عليهما السلام إلى أن وصلت القضيَّة لداود، حيث تحدَّث القرآن عنه وعن رجوع بني إسرائيل بعد زمن طويل إلى تحمّل مسؤولياتهم، فبعثه الله إليهم، ولكنَّهم زهدوا فيه لأنَّه وحسب بعض الروايات(١٩) لم يكن صاحب مقام ومكانة ومال إذ تذكر بعضها أنَّه راعي غنم، وهو في مقامه هذا سيكون بطبيعة الحال مزهوداً فيه، حتَّى أنَّه لم يكن يملك آلة حرب من درع أو سيف وفرس أو غيرها، بل جاء ولا يملك من آلات الحرب ومعدّاتها سوى (مصيدة صغيرة)، فراعي غنم ولا يملك سوى مصيدة صغيرة ويريد أن يكون قائداً على بني إسرائيل، إنَّ هذا لم يُعجِبْ بني إسرائيل ولم يرق لهم، فاعترضوا: (لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ)(٢٠)، بل وصل حدُّ اعتراضهم إلى الاستهزاء به، لكنَّه صاحب همَّة عالية، كِبرُ همَّته لم تقعسه ولم تيئسه الإقدام، حتَّى فتح الله تعالى بهذه الهمَّة العالية على يديه (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ)(٢١)، اُنظر ماذا يفعل علوّ الهِمَّة وامتلاكها، فلا تقل أيّها المنتظر المؤمن: إنَّه ليس بيدك شيء، وإنَّه كيف أُحارب هذه القوى العظمى، لتكن همَّتك مع هذا المشـروع الإلهي بهمَّة داود، ولا تستهن بقدرتك، الله تعالى يريد منك الإرادة الصادقة، والهمَّة العالية، يريد منك عندما تقرأ القرآن أن تقرأه لكي تُجسِّده، لا أن تقرأه قراءة قصص وتأريخ.
الهوامش:
(١) الباحث الاستراتيجي الخطير والمُنظِّر الدولي فرانسوا توال الفرنسـي في كتاب كتبه حول الجغرافيا السياسية للشيعة، وهذا الكتاب خطير جدّاً، وقد نُسِخَ وتُرجِم للوقوف بدقَّة على أبحاثه، لأنَّ البحوث الاستراتيجية أشبه بالسـرّية، وقد ذكر هذا الباحث في كتابه أنَّ معنى غيبة الإمام المهدي عليه السلام عند الشيعة بمعنى الخفاء والسـرّية، ليكون الإمام المهدي عليه السلام أنشط في حركته وحيويته في تدبير الأُمور في العلوم الاستراتيجية والأمنية، فإنَّ السـرّية رمز القدرة، والدول ترى في السرّية قدرةً وقوّةً.
(٢) رئيس جامعة قسم الاقتصاد في جامعة مالبورن الاسترالية.
(٣) عن محمّد بن صدقة، عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّه قال: (... إنَّه لا يستكمل أحد الإيمان حتَّى يعرفني كنه معرفتي بالنورانية، فإذا عرفني بهذه المعرفة فقد امتحن الله قلبه للإيمان، وشرح صدره للإسلام، وصار عارفاً مستبصـراً، ومن قصَّـر عن معرفة ذلك فهو شاكٌّ ومرتاب...). (بحار الأنوار ٢٦: ١ و٢/ باب ١٣/ ح ١).
(٤) في علل الشـرائع (ص ١٣٧): عن أبي جعفر، قال: (لـمَّا قُتِلَ جدّي الحسين ضجَّت الملائكة إلى الله (عزَّ وجلَّ) بالبكاء والنحيب، وقالوا: إلهنا وسيِّدنا أتغفل عمَّن قتل صفوتك وابن صفوتك وخيرتك من خلقك؟ فأوحى الله (عزَّ وجلَّ) إليهم: قرّوا ملائكتي، فوَعزَّتي وجلالي لأنتقمنَّ منهم ولو بعد حين. ثمّ كشف الله (عزَّ وجلَّ) عن الأئمَّة من ولد الحسين عليه السلام للملائكة، فسرَّت الملائكة بذلك، فإذا أحدهم قائم يُصلّي، فقال الله (عزَّ وجلَّ): بذلك القائم أنتقم منهم).
(٥) بحار الأنوار ٥١: ٨١.
(٦) مجموعة من الولايات أو الدول تتَّحد للقيام ببعض وظائف الحكم بصفة موحَّدة كالدفاع والسياسة الخارجية وغيرها.
(٧) خاصٌّ باتِّحاد ولايات تعترف بسيادة سلطة مركزيَّة وتحتفظ ببعض القوى الحكوميَّة الباقية.
(٨) في آخر تقرير لمنظَّمة الأغذية والزراعة العالمية التابعة للأُمم المتَّحدة: عدد الجياع في العالم يُقدَّر بحوالي (٨٠٠) مليون شخص.
(٩) عن الحسن بن الجهم، قال: سألت أبا الحسن عليه السلام عن شـيء من الفرج، فقال: (أوَلست تعلم أنَّ انتظار الفرج من الفرج؟)، قلت: لا أدري إلَّا أن تُعلِّمني. فقال: (نعم، انتظار الفرج من الفرج). (الغيبة للطوسي: ٤٥٩/ ح ٤٧١).
(١٠) عن موسى بن بكر الواسطي، عن أبي الحسن، عن آبائه عليهم السلام أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أفضل أعمال أُمَّتي انتظار الفرج من الله (عزَّ وجلَّ)). (كمال الدين: ٦٤٤/ باب ٥٥/ ح ٣).
(١١) أُمَّمَ، يؤمِّم، تأميماً، فهو مؤمِّم، والمفعول مؤمَّم.
(١٢) معنى مفردة (الأُمَّة): جماعة من الناس تجمعهم روابط تاريخية مشتركة، قد يكون فيما ما هو لغوي أو ديني أو اقتصادي، ولهم أهداف مشتركة في العقيدة أو السياسة أو الاقتصاد، الأُمَّة العربية، الأُمَّة الإسلاميَّة.
(١٣) اُنظر: الكافي ١: ١٦٠/ ح ١٣.
(١٤) (بالجملة) ظاهر هذا النوع من الأخبار أنَّ المصلحة الإلهية قد اقتضت إخفاء عدَّة من الأحكام إلى زمان ظهور المهدي عليه السلام، ولعلَّ هذا المعنى هو المراد ممَّا ورد في بعض الروايات من أنَّه عليه السلام يأتي بدين جديد. وعليه فلا يرتبط هذا الحديث بالمقام من الأحكام التي لم يحجب الله تعالى علمه عن العباد، بل بيَّنها بلسان نبيِّه وأخفاها الظالمون. وهذا الإشكال أيضاً مدفوع بأنَّ الموجب لخفاء الأحكام التي بيَّنها الله تعالى بلسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأوصيائه عليهم السلام وإن كان هو الظالمين إلَّا أنَّه تعالى قادر على بيانها بأن يأمر المهدي عليه السلام بالظهور وبيان تلك الأحكام، فحيث لم يأمره بالبيان لحكمة لا يعلمها إلَّا هو، صحَّ إسناد الحجب إليه تعالى. (مصباح الأُصول ٢: ٢٧١).
(١٥) عن أبان، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: (العلم سبعة وعشـرون حرفاً، فجميع ما جاءت به الرسل حرفان، فلم يعرف الناس حتَّى اليوم غير الحرفين، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشـرين حرفاً فبثَّها في الناس، وضمَّ إليها الحرفين، حتَّى يبثّها سبعة وعشرين حرفاً). (بحار الأنوار ٥٢: ٣٣٦/ ح ٧٣).
(١٦) عن محمّد بن الفضيل، عن أبي الحسن الرضا عليه السلام، قال: سألته عن شيء في الفرج، فقال: (أوَليس تعلم أنَّ انتظار الفرج من الفرج؟ إنَّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول: (فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) [الأعراف: ٧١]). (تفسير العيّاشي ٢: ١٣٨/ ح ٥٠).
(١٧) عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أُبشِّـركم بالمهدي يُبعَث في أُمَّتي على اختلاف من الناس وزلزال، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض). (الغيبة للطوسي: ١٧٨/ ح ١٣٦).
(١٨) ممَّا لا شكَّ ولا ريب فيه أنَّ الله تعالي ميَّز الإنسان عن بقيَّة المخلوقات بنطقه العقلي، أي بعقله الذي هو أعظم شيء في وجود الإنسان، قال تعالى: (الرَّحْمنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسانَ * عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (الرحمن: ١ - ٤). إنَّ استبيان المعلومات والإدراك من أعظم الميزات التي أتحف الله (عزَّ وجلَّ) بها الإنسان عن بقيَّة المخلوقات، ومن ثَمَّ تكون أعظم الامتحانات هي من نصيب العقل الإنساني، وهو امتحان المعرفة وامتحان البصيرة، فهذه ميزة مهمَّة. فيجب أن يُفَعِّل الإنسان قوَّة عقله وقوَّة دركه وقوَّة تمييزه، ويكون في يقظة تامَّة دوماً وبشكل مستمرّ، كي لا تجذبه الفتن يميناً ويساراً ويقع في الزيغ والضلال. فالعقل أعظم تحفة أنالها اللهُ (عزَّ وجلَّ) الإنسانَ، فلا يمكن أن تظلَّ معطَّلة راكدة، بل يجب أن تكون دوماً مُفَعَّلة كبرج مراقبةٍ. ولذلك فالامتحانات كثيرةٌ لهذه القوَّة، وهي قوَّة العقل في الإنسان وبأشكال وألوان وتلوينات وصور قد لا يكون الإنسان عهدها من قبل. وإنَّما يتمُّ النجاح في الامتحان والافتتان مثمراً وناجحاً إذا كان الإنسان دوماً في حالة إعداد لنفسه، قال تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) (الأنفال: ٦٠)، وحتَّى الشعوب تفتتن وتضلّل وتُعَوم، وذلك من خلال الهجوم الثقافي أي التضليل الثقافي والغسيل الثقافي، يعني أنَّ الشعوب تستقوي أو تستضعف من خلال الثقافة والمعرفة. والمنهج القرآني والإسلامي ومدرسة أهل البيت عليهم السلام مفعمة بمحورية البيان والبرهان والدلائل والتعقّل، فهي حكمة مهمَّة، وهذا ما لم يُعهَد عند بني إسرائيل، ومع ذلك امتحنهم الله به، ألم يخاطبهم الله (عزَّ وجلَّ): (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (طه: ٨٩)، إنَّ هذا لا يُرجِع لكم قولاً أي جواباً، وإن سمعتم منه صوتاً ولكن بقيَّة كمالات الأُلوهية غير موجودة فيه. كيف إذاً استجبتم مع أنَّه نوع من الطلسم الملكوتي ونوع من المسحة الخلّابة ونوع من التشويش في الإدراك. ولذا انتابت بني إسرائيل الفتنة، مع أنَّ الله (عزَّ وجلَّ) أعطى كلَّ بني البشـر قدرة تمييز، فلماذا لم يُميِّزوا؟ فهو امتحان في أصعب وأحلك بحوث الإدراك.
(١٩) اُنظر: تفسير الطبري ٢: ٨٥٢/ ح ٤٤٨٤.
(٢٠) (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة: ٢٤٧).
(٢١) (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (البقرة: ٢٥١).
تعليق