ضرورة القانون الإلهي للمجتمع
﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾([1]).
هناك بحوث كثيرة تعرضت لهذه الآية الشريفة قرأنا جلّها أو سمعنا به، أما ما يرتبط منها ببحثنا فهو أن الله تعالى يؤكد فيها أن إرسال الرسل قد تزامن مع إنزال الكتاب والميزان وكان الهدف من إنزالهما إلى الناس تمكينهم من القيام بالقسط وتحكيم العدالة في المجتمع. الجزء الثاني من الآية يتعلق بالتحركاتالتي ينبغي القيام بها بتوجيه الأنبياء ﴿ليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب﴾، أما جزؤها الأول الذي يرتبط ارتباطاً مباشراً ببحوثنا فيقول: إن الله تعالى أنزل قانوناً وميزاناً حيث يضمن تطبيق ذلك القانون إقرار العدل في المجتمع الاجتماعي، فالقرآن يصرح إذن أن الله تعالى وضع القوانين من أجل إقرار العدل في المجتمع الإنساني وأنزلها بواسطة الأنبياء في صورة كتب سماوية، وهذا هو الفصل الأول من بحوثنا الذي أشرنا إليه في الحديث السابق إذ قلنا إنه ينبغي أن يسود النظام الإسلامي قانون الله، وهو بالضبط ما تقوله هذه الآية من أن خالق الوجود أنزل إلى الناس مثل هذا القانون، وهم ملزمون بتطبيقه لكي تقام العدالة في المجتمع، وسوف نبحث هنا ثلاثة مواضيع تتعلق بهذا الشأن وهي:
1ـ مفهوم القانون.
2ـ ضرورة القانون للمجتمع.
3ـ ضرورة أن يكون القانون إلهياً.
مفهوم القانون:
لكلمة (القانون) دلالات كثيرة حيث تستخدم في مختلف العلوم فنقول مثلاً: القوانين المنطقية والقوانين الفلسفية والقوانين الفيزياوية والقوانين الرياضية و... وتدل كلمة القانون في مثل هذه المواضع ـ بغض النظر عن سلوك البشر ـ على علاقات موضوعية وواقعية في العالم الخارجي.
ولا تطرح كلمة القانون للدلالة على هذا المعنى في المجالات الحقوقية، فحين يرد ذكر القانون في هذه البحوث يقصد به الفرضيات التي تقرر طريقة سلوك الإنسان في الحياة الاجتماعية، ويقصد به تلك الفرضية التي تنص نصاً صريحاً أو إلزامياً أو ضمنياً ـ على ما يجب على الناس فعله وما يجب عليهم تركه في حياتهم الفردية والاجتماعية، فتلك الفرضية هي التي نسميها قانوناً حين تطرح في البحوث الحقوقية والسياسية.
وحين يكون القانون منهاجاً يوضح للناس ما يجب عليهم فعله أو تركه أو شيئاً ينص على ذلك أو يتطلبه ـ ولو بغير صراحة ـ فإنه يعين حقاً للناس أو لفئة منهم، فلا يتضمن في ظاهره ما يجب فعله وما لا يجب لكنه يستلزم ذلك، أي أن على الآخرين أن يراعوا ذلك الحق لتلك الفئة ولا يعتدوا عليه.
هذا هو مجمل ما أردناه من تعريف للقانون لكي لا يختلط خطأً بالمفاهيم الرياضية والفلسفية والمنطقية وغيرها، وقد بحثنا ذلك بالتفصيل في محله.
ضرورة القانون للمجتمع:
قلنا في بحثنا حول الموضوع الأول وهو (مفهوم القانون): إن "القانون عبارة عن الأمور التي ينبغي فعلها وتلك التي لا ينبغي فعلها وهو الذي يحدد طريقة سلوك الإنسان في الحياة الاجتماعية". وهنا نقول:
ما هي ضرورة القانون للمجتمع أساساً؟ وبتعبير آخر، ماذا سيحصل لو لم يكن للناس قانون إطلاقاً؟ وقد أوجد طرح هذا السؤال بحوثاً مهمة في فلسفة الحقوق ورد عليه كل من المذاهب الفكرية المختلفة بجوابه الخاص.
ونكتفي هنا بالإشارة إلى دليل واضح يحظى بالقبول لدى النظرة الإسلامية ونمتنع عن طرح سائر الآراء ونقدها لأن التأمل في كل الآراء يتطلب مجالاً آخر لا يسعه هذا البحث المختصر.
وسوف يرافق الدليل الذي ننوي إيراده لإثبات (ضرورة القانون للمجتمع) عدة مقدمات ونتيجة واحدة.
المقدمة الأولى:
حياة الإنسان حياة اجتماعية، أما لماذا هي اجتماعية، وهل أن كونها اجتماعية قد فرض على الإنسان فرضاً أم أن طبيعة الإنسان تقضي الحياة الاجتماعية بحد ذاتها وليس هناك ثمة عامل عقلائي واختياري يدفع إلى اختيار الحياة الاجتماعية أم العكس؟ وقد دارت حول هذه البحوث مناقشات كثيرة، أما رأينا فهو أن عامل التعقل يترك تأثيره في اختيار الحياة الاجتماعية، فلما كان الإنسان يرى في الحياة الاجتماعية منافع له، ويلاحظ أن حاجاته المادية والمعنوية لا تؤمّن إطلاقاً بمعزل عن المجتمع أو لا تلبى بالشكل المطلوب والكامل لذا نراه يرضخ للحياة الجماعية ويتقبل ظروفها وشروطها.
على أية حال مهما كان الدافع وراء حياة الإنسان حياة اجتماعية فهو لا يخل بمقدمتنا الأولى التي تقول إن: "حياة الإنسان حياة اجتماعية عملياً" فلو لم نحي حياة اجتماعية فلنتلبى حاجاتنا ورغباتنا المادية والمعنوية بالشكل المطلوب، وهذه قضية بديهية لاتحتاج إلى كثير من التوضيح.
المقدمة الثانية:
من مستلزمات الحياة الاجتماعية التزاحم والتعارض فيما بين مصالح أبناء المجتمع، فإذا أراد الناس أن يعيشوا حياة اجتماعية والتعايش مع بعضهم والتعاون فيما بينهم وتقسيم منجزات هذا التعاون وتوزيعه فيما بينهم، فسيظهر التضاد والتعارض بين مصالحهم ورغباتهم، إذ سيرغب بعضهم في الانتفاع بقدر أكبر من بعضهم الآخر والاستفادة من أمور خاصة واستثمار المواهب الطبيعة بشكل غير محدود، أو يرغبون في التعامل مع الآخرين بما يوافق رغباتهم، وهذه أمور لا يقبلها الآخرون، وهكذا تبرز بالضرورة نزاعات في الميدان الاجتماعي ينبغي تعيين (حدود) للحيلولة دون وقوعها وتدوين قوانين من أجل ذلك، وهذه أيضاً قضية بديهية ينبع وضوحها من أننا لو تأملنا قليلاً في رغبات الإنسان ـ سواء المادية منها أو المعنوية ـ (والمقصود هنا ما يرتبط بحياته الاجتماعية) فسوف نجد أن تلبية كل رغبات الأفراد بشكل غير محدود أمر غير ممكن، ولو أراد البشر أن يحيوا جماعية فعليهم تعيين (حدود) لرغباتهم والامتناع عن التصرف كيفما يشاؤون.
أما (أين تقع هذه الحدود؟) و(كيف يتم وضعها؟) فهي قضية ينبغي البحث فيها في موضعها. أما ما نريده هنا فهو أنه: لو لم تراع الحدود فسوف تبرز بالتأكيد تناقضات تزعزع الحياة الاجتماعية وتؤدي إلى انهيارها.
المقدمة الثالثة:
إننا بحاجة إلى (الحدود) من أجل إزالة هذه التناقضات أو التقليل منها، فلو لم نضع حدوداً لانتفاع الأفراد في الحياة الاجتماعية، أو لم يراع الناس هذه الحدود فلن يتحقق هدف الحياة الجماعية المتمثل في الانتفاع بأكبر قدر ممكن من المواهب الطبيعية من أجل تكامل الإنسان مادياً ومعنوياً، إذن ينبغي أن تدار الحياة الاجتماعية وبما يفسح من المجال للتكامل المضطرد لكل أفراد المجتمع، وعند ذاك فقط يتحقق الغرض من الحياة الاجتماعية بالشكل الصحيح.
النتيجة:
من مجموع هذه المقدمات الثلاث نتوصل إلى أنّ: (وجود القانون ضروري للمجتمع) أي يجب على أفراد أي مجتمع مراعاة حدود معينة في سلوكهم وأعمالهم لكي يتمكن الجميع من الانتفاع مادياً ومعنوياً من الحياة بالشكل المطلوب واللائق، ولو اضطربت الحدود ولم يحكم القانون فلن يبلغ المجتمع هدفه، وهكذا فالقانون وفقاً لهذا الدليل الذي ذكرناه ضروري لأيّ حياة اجتماعية.
ضرورة كون القانون إلهياً:
القضية الرئيسية التي يدور حولها بحثنا والتي نستند إليها هي أنه لابدّ أن يكون القانون إلهياً في النظام القائم على الإسلام مبادئ وتصورات.
ولكن لماذا نصّر على أن نثبت أن القانون السائد في المجتمع ينبغي أن يكون إلهياً لا غير؟ السبب هو الادعاء بأنّ الإسلام كنظام شامل قادر على تدبير أمور المجتمع وإدارته، وبما أننا مسلمون ونؤمن بأن تطبيق مبادئه يضمن السعادة للجميع فيجب علينا الوقوف بحزم في وجه الأنظمة والمذاهب المختلفة، والاتجاهات المتنوعة التي خضع لها معظم بلدان العالم بدرجات متفاوتة، والدفاع كما ينبغي عن حرمة عقيدتنا ومبادئنا بسلاح الاستدلال والفكر، وكذلك دعوة الآخرين إلى اعتناق هذه العقيدة، وفكرة (كون القانون إلهياً) تواجه أيضاً معارضين لها يقولون:
لا وجود لـ (القانون الإلهي) على الإطلاق، بل إن القانون هو الذي يضعه فرد أوجماعة أو كل الناس، وليس لدينا مصدر للتشريع غير هذا.
وأصحاب هذه الفكرة ينقسمون إلى فريقين:
فريق ينكرون بالأساس ما وراء الطبيعة ولا يؤمنون بالغيب ونتيجة لذلك ينكرون الأديان السماوية. ويمثل هذا الفريق: المذاهب الإلحادية والمادية.
وفريق يقولون: إن الدين موجود لكن فاعليته تنحصر فقط في تحديد العلاقة بين الإنسان والله، ومكانه في المعابد والمساجد والكنائس ولا مكان له في الحياة الاجتماعية، وهذه هي بالذات فكرة (فصل الدين عن السياسة) التي نبذها مجتمعنا الإسلامي منذ أمد بعيد.
ومن الواضح أنه لا نقاش لنا مع الفريق الأول، لأن بناءهم منهار من أساسه، فهؤلاء لا يعترفون أصلاً بأسس إيديولوجيتنا وأصولها فضلاً عن القوانين النابعة عنها، ولو كان هناك نقاش مع هذا الفريق فسيكون حول الأفكار الأساسية، أي اثبات الخالق والنبي والإمام والوحي وأمثال ذلك.
فكلامنا في هذا المجال إذن موجّه إلى أولئك الذين يؤمنون بوجود الله والنبي والدين لكنهم يعتقدون أن الأمور التي أوحى بها الله إلى النبي عبارة عن مجموعة من المناهج الأخلاقية والعبادية والفردية ولا علاقة لها بالمجتمع والحياة الاجتماعية لبني البشر.
أما نحن فنؤمن أن مضمون الأديان الإلهية يشتمل على تعاليم للحياة الاجتماعية أيضاً، أي أن هناك قوانين في هذا المجال، وهي قوانين حقوقية واجتماعية والعمل بهذه القوانين واجب أيضاً، ونحن لا نحتاج إلى كثير من الايضاح لإثبات هذا الأمر من وجهة نظر الإسلام، إذ يُفهم من الآية التي أوردناها أن هناك قوانين وضعت في الإسلام تخص الحياة الاجتماعية.
والإسلام يقول: إن الله أنزل قوانين تضمن الحفاظ على العدالة الاجتماعية في المجتمع، والهدف من إنزال القوانين الاجتماعية يتمثل أيضاً في إقرار (العدالة الاجتماعية)، لكن تعاليم الإسلام لا تنحصر في القوانين الاجتماعية، حيث تتضمن أيضاً الكثير من الأحكام العبادية والفردية التي لم يكن الهدف من إنزالها إقرار القسط في المجتمع، لكن الذي تحدث عنه القرآن بعنوان (الكتاب والميزان) هو بالذات ما يطلق عليه اليوم في القاموس العالمي اسم (القوانين).
والهدف من إنزال الكتاب والميزان، أن يكون ميزاناً يقاس به سلوك الإنسان في حياته الجماعية، وليعرف كيف يتصرف، وهكذا كان إرسال هذا الميزان والقانون من أجل إقامة العدالة في المجتمع. إذن:
أولاً: (ينبغي إقامة العدالة الاجتماعية).
ثانياً: (يتمثل سبيل بلوغ العدالة الاجتماعية في العمل بالتعاليم والقوانين التي أنزلها الله تعالى).
ووجود هذا الادعاء أمر واضح، أي لو كان لأحدنا أقل إلمام بالقرآن والأفكار الإسلامية، لما شك في أن الإسلام يرغب في إقرار العدالة الاجتماعية عن طريق العمل بتعاليم الله تعالى.
أما لماذا يؤكد الإسلام هذا الحد على وجوب تطبيق القوانين الإلهية في المجتمع؟ ولماذا تعد هذه القوانين مما يضمن إقرار العدالة الاجتماعية؟
فسوف نورد بشكل مختصر دليلاً واضحاً لإثبات هذه القضية، ثم نواصل بحثنا.
بالتعريف الذي أوردناه لـ (القانون) وكذلك الدليل الذي ذكرناه لإثبات (ضرورة وجود القانون) يمكن القول إن (المطلوب هو ذلك القانون الذي يشمل كل أبعاد كيان الإنسان من مادية ومعنوية ويضمن تكامله في الجوانب كله). وتوضيح ذلك هو أننا قد ذكرنا في البحوث السابقة في معرض إجابتنا عن السؤال القائل: لماذا يعد القانون ضروري للمجتمع؟ أن ذلك من أجل تحقيق الهدف من الحياة الاجتماعية بالشكل الصحيح، وهذا الهدف هو أن يبلغ أفراد البشر أكبر قدرٍ يمكن من الكمال المادي والمعنوي بأفضل صورة. وهنا نقول: إن القانون المطلوب هو ذلك القانون الذي يساعد أفراد المجتمع كافة على التكامل المادي والمعنوي.
ولو وجدنا قانوناً ينفع فئة من المجتمع ويحقق تطبيقه مصالح جماعة معينة وتبقى الفئات الأخرى محرومة من ذلك ـ سواء كانت أقلية أو أكثرية ـ ولا تؤمّن مصالحها الحقيقية، فلن يرغب في مثل هذا القانون، لأن على القانون أن يحقق مصالح أفراد المجتمع كافة، فإحدى خصائص القانون إذن أن يكون مؤشراً وبنّاءً في تحقيق مصالح كل الأفراد الذين يعيشون في المجتمع بأفضل صورة ـ عند تطبيقه بالطبع، وبحثنا يدور هنا حول القانون نفسه وليس حول تطبيقه ـ وأن لا يقتصر على تحقيق المصالح المادية للأفراد، بل يفسح المجال كذلك أمام نضجهم المعنوي، إذ إن الإنسان لا يقتصر على الجسم، وأبعاد كيانه ليست مادية فقط.
وقد أثبتنا مبدأ عدم كون الإنسان مادياً في البحوث الأخرى بصورة وافية، وهنا نستند إليه كمبدأ موضوعي، فالإنسان ـ في نظر الإسلام على الأقل ـ لا يعدّ كائناً مادياً منحصراً في البدن وتقتصر رغباته وحاجاته على المادة، ولا يفوتنا أننا هنا في معرض تبيان النظرة الإسلامية التي تعتبر الإنسان كائناً ذا أبعاد مادية وروحية بل يعد البعد الروحي بعده الرئيس، وليست المادة والبدن سوى وسيلة لتكامل روح الإنسان، وهكذا ينبغي أن تكون القوانين الاجتماعية لهذا الإنسان بشكل يوفّر مصالحه المعنوية وتكامله الروحي المعنوي والروحي، فوضع مثل هذه القوانين لا يقدر عليه إلا الذي يعرف أبعاد كيان الإنسان كلها.
آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (قدس سره)