مقتبس من كتاب: الامام الصادق (ع) للعلامة الشيخ محمّد الحسين المظفّر
لأبي عبد الله الامام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) الكثير من الحجج البوالغ التي أظهر فيها الحقّ وقطع فيها العذر، نوافيك بشطر منها لأنها ناحية من نواحي حياته العلميّة المليئة بالعبر والعظات لا يستغني المسلم عن الوقوف عليها.
فمن تلك المناظرات ما يروى عن هشام بن الحكم، قال: كان بمصر زنديق يبلغه عن أبي عبد الله (عليه السلام) أشياء، فخرج الى المدينة ليناظره فلم يصادفه بها، وقيل: إنه خارج بمكّة، فخرج الى مكّة ونحن مع أبي عبد الله (عليه السلام) فصادفنا ونحن مع أبي عبد الله في الطواف وكان اسمه عبد الملك وكنيته أبو عبد الله، فضرب كتفه كتف أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال له: ما اسمك؟ قال: عبد الملك، قال: فما كنيتك؟ قال: أبو عبد الله، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فمن هذا الملك الذي أنت عبده؟ أمن ملوك الأرض أم ملوك السماء؟ واخبرنى عن ابنك عبد إله السماء أم عبد إله الأرض؟ قل ما شئت تخصم. فلم يحر جوابا.
ثمّ أن الصادق (عليه السلام) قال له: اذا فرغت من الطواف فأتنا، فلما فرغ أبو عبد الله (عليه السلام) أتاه الزنديق فقعد بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام) ونحن مجتمعون عنده، فقال أبو عبد الله للزنديق: أتعلم أن للأرض تحتا وفوقا؟ قال: نعم، قال: فدخلت تحتها؟ قال: لا، قال: فما يدريك ما تحتها؟ قال: لا أدري إلاّ أني أظن أن ليس تحتها شيء، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فالظنّ عجز فلم لا تستيقن، ثمّ قال أبو عبد الله (عليه السلام): أفصعدت الى السماء؟ قال: لا، قال: أفتدري ما فيها؟ قال: لا، قال: عجبا لك لم تبلغ المشرق ولم تبلغ المغرب، ولم تنزل الى الأرض ولم تصعد الى السماء، ولم تجز هناك فتعرف ما خلفهنّ، وأنت جاحد بما فيهنّ، فهل يجحد العاقل ما لا يعرف؟ قال الزنديق: ما كلّمني بها أحد غيرك.
فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فأنت من ذلك في شكّ فلعلّه هو ولعلّه ليس هو، فقال الزنديق: ولعلّ ذلك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أيّها الرجل ليس لمن لا يعلم حجّة على من يعلم، ولا حجّة للجاهل، يا أخا أهل مصر تفهم عنّي فإنّا لا نشكّ في الله أبدا، أما ترى الشمس والقمر والليل والنهار يلجان فلا يشتبهان ويرجعان، قد اضطرّا ليس لهما مكان إلاّ مكانهما فإن كانا يقدران على أن يذهبا فلم يرجعان؟ وإن كانا غير مضطرّين فلم لا يصير الليل نهارا والنهار ليلا؟ اضطرّا والله يا أخا أهل مصر الى دوامهما والذي اضطرّهما أحكم منهما واكبر (1) فقال الزنديق: صدقت.
ثمّ قال أبو عبد الله (عليه السلام): يا أخا أهل مصر إن الذي تذهبون إليه وتظنّون أنه الدهر إن كان الدهر يذهب بهم فلم لا يردّهم؟ وإن كان يردّهم لم لا يذهب بهم؟ القوم مضطرّون يا أخا أهل مصر، لم السماء مرفوعة والأرض موضوعة؟ لم لا تنحدر السماء على الأرض؟ لم لا تنحدر الأرض فوق طباقها؟
ولا يتماسكان ولا يتماسك من عليها؟ قال الزنديق: أمسكهما الله ربّهما سيّدهما.
قال: فآمن الزنديق على يدي أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال حمران بن أعين (2): جعلت فداك إن آمنت الزنادقة على يدك فقد آمن الكفّار على يد أبيك، فقال المؤمن الذي آمن على يدي أبي عبد الله (عليه السلام): اجعلني من تلامذتك، فقال أبو عبد الله: يا هشام بن الحكم خذه إليك، فعلّمه هشام، وكان معلّم أهل الشام وأهل مصر الايمان، وحسنت طهارته حتّى رضي بها أبو عبد الله (عليه السلام) (3).
وجاء إليه زنديق آخر وسأله عن أشياء نقتطف منها ما يلي: قال له: كيف يعبد الله الخلق ولم يروه؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): رأته القلوب بنور الايمان، وأثبتته العقول بيقظتها إثبات العيان، وأبصرته الأبصار بما رأته من حسن التركيب وإحكام التأليف، ثمّ الرسل وآياتها، والكتب ومحكماتها، واقتصرت العلماء على ما رأت من عظمته دون رؤيته، قال: أليس هو قادر أن يظهر لهم حتّى يروه فيعرفونه فيعبد على يقين؟ قال (عليه السلام): ليس للمحال جواب.
أقول: إنما الرؤية تثبت للأجسام وإذا لم يكن تعالى جسما استحالت رؤيته، والمحال غير مقدور لا من جهة النقص في القدرة بل النقص في المقدور.
قال الزنديق: فمن أين أثبت أنبياء ورسلا، قال (عليه السلام): إنّا لمّا أثبتنا أنّ لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا وعن جميع ما خلق، وكان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه ولا أن يلامسوه ولا أن يباشرهم ويباشروه ويحاجّهم ويحاجّوه، ثبت أن له سفراء في خلقه وعبادة يدلّونهم على مصالحهم ومنافعهم وما به بقاؤهم وفي تركه فناؤهم، فثبت الآمرون والناهون عن الحكيم العليم في خلقه، وثبت عند ذلك أن لهم معبّرين وهم الأنبياء وصفوته من خلقه، حكماء مؤدّبين بالحكمة، مبعوثين عنه، مشاركين للناس في أحوالهم على مشاركتهم لهم في الخلق والتركيب، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة والدلائل والبراهين والشواهد من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص.
ثمّ قال الزنديق: من أيّ شيء خلق الأشياء؟ قال (عليه السلام): من لا شيء، فقال: كيف يجيء شيء من لا شيء؟ قال (عليه السلام): إن الأشياء لا تخلو إما أن تكون خلقت من شيء أو من غير شيء فإن كانت خلقت من شيء كان معه، فإن ذلك الشيء قديم، والقديم لا يكون حديثا، ولا يتغيّر ولا يخلو ذلك الشيء من أن يكون جوهرا واحدا ولونا واحدا، فمن أين جاءت هذه الألوان المختلفة والجواهر الكثيرة الموجودة في هذا العالم من ضروب شتّى؟ ومن أين جاء الموت إن كان الشيء الذي انشئت منه الأشياء حيّا؟ أو من أين جاءت الحياة إن كان ذلك الشيء ميّتا؟ ولا يجوز أن يكون من حيّ وميّت قديمين لم يزالا، لأن الحيّ لا يجيء منه ميّت وهو لم يزل حيّا، ولا يجوز أيضا أن يكون الميّت قديما لم يزل لما هو به من الموت، لأن الميّت لا قدرة به ولا بقاء.
أقول: إن هذا الأمر على دقّته قد أوضحه الامام بأحسن بيان وردّده بين امور لا يجد العقل سواها عند الترديد، وحقّا إن كان الشيء الذي خلقت الأشياء منه قديما لزم أن يكون مع الله تعالى شيء قديم غير مخلوق له، ولو فرض أنه مخلوق له عاد الكلام الأول أنه من أيّ شيء كان مخلوقا، هذا غير أن القديم لا يكون حادثا، والميّت لا يكون منه الحيّ، والحيّ لا يكون منه الميّت، والحياة والممات لا يتركّبان، ولو تركّبا عاد الكلام السابق، فإن الموت لا يصلح أن يكون في الأشياء الحيّة، ولا بقاء ولا دوام ليكون باقيا إلى أن خلق الله منه الأشياء الحيّة، فلا بدّ إذن من أن يكون تعالى قد خلق الأشياء من لا شيء.
ثمّ قال: من أين قالوا إن الأشياء أزليّة؟ قال (عليه السلام): هذه مقالة قوم جحدوا مدبّرا الأشياء فكذّبوا الرسل ومقالتهم، والأنبياء وما أنبئوا عنه، وسمّوا كتبهم أساطير، ووضعوا لأنفسهم دينا بآرائهم واستحسانهم، وإن الأشياء تدلّ على حدوثها من دوران الفلك بما فيه وهي سبعة أفلاك، وتحرّك الأرض ومن عليها، وانقلاب الأزمنة، واختلاف الحوادث التي تحدث في العالم من زيادة ونقصان، وموت وبلى، واضطرار الأنفس الى الإقرار بأن لها صانعا ومدبّرا، ألا ترى الحلو يصير حامضا، والعذاب مرّا، والجديد باليا، وكلّ الى تغيّر وفناء (4).
أقول: إن الاستدلال بانقلاب الأزمنة ودوران الفلك من أدقّ الأدلّة العلميّة على حدوث العالم، الذي قصرت عنه أفهام كثير من الفلاسفة العظام كما أنه جعل الفلك الدائر فلكا واحدا ثمّ تفسيره بالأفلاك السبعة لا ينطبق إلاّ على نظرية الهيئة الحديثة إذ يراد به النظام الشمسي، ومثله تصريحه بحركة الأرض التي لم يكن يحلم بها أحد من السابقين، وهي من مكتشفات العلم الحديث.
مع ابن أبي العوجاء
وللصادق (عليه السلام) مناظرات جمّة مع ابن أبي العوجاء، وكان بعضها في التوحيد، وكان ابن أبي العوجاء واسمه عبد الكريم من الملاحدة المشهورين واعترف بدسّه الأحاديث الكاذبة في أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله) وكفى في معرفة حاله هذه المناظرات، وقد قتل على الإلحاد كما قتل صاحبه ابن المقفّع (5).
فمن تلك المناظرات أنه كان يوما هو وعبد الله بن المقفّع في المسجد الحرام فقال ابن المقفّع: ترون هذا الخلق ـ وأومأ بيده الى موضع الطواف ـ ما منهم أحد أوجب له اسم الانسانيّة إلاّ ذلك الشيخ الجالس ـ يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد (عليهما السلام) ـ وأما الباقون فرعاع وبهائم، فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء، فقال: لأني رأيت عنده ما لم أره عندهم، فقال ابن أبي العوجاء: لا بدّ من اختبار ما قلت فيه منه، فقال له ابن المقفّع: لا تفعل فإني أخاف أن يفسد عليك ما في يدك، فقال: ليس ذا رأيك لكن تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إيّاه هذا المحلّ الذي وصفت، فقال ابن المقفّع: أمّا اذا توسّمت عليّ فقم إليه وتحفّظ من الزلل ولا تثن عنانك الى استرسال فيسلمك الى عقال، وسمة ما لك وعليك، فقام ابن أبي العوجاء فلمّا رجع قال: ويلك يا ابن المقفّع ما هذا ببشر وإن كان في الدنيا روحاني يتجسّد اذا شاء ظاهرا ويتروّح اذا شاء باطنا فهو هذا، فقال له: كيف ذلك؟ فقال: جلست إليه فلمّا لم يبق عنده أحد غيري ابتدأني فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون ـ يعني أهل الطواف ـ فقد سلموا وعطبتم، وإن يكن الأمر كما تقولون، وليس كما تقولون، فقد استويتم وهم، فقلت: يرحمك الله وأيّ شيء نقول وأيّ شيء يقولون، ما قولي وقولهم إلاّ واحد، فقال: وكيف يكون قولك وقولهم واحدا، وهم يقولون إن لهم معادا وثوابا وعقابا، ويدينون بأن للسماء إلها وأنها عمران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد، قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما يقولون أن يظهر لخلقه يدعوهم الى عبادته حتّى لا يختلف فيه اثنان؟ لم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل؟ ولو باشرهم بنفسه كان أقرب الى الإيمان به، فقال لي: ويلك كيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك؟ نشوءك (6) ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوّتك بعد ضعفك، وضعفك بعد قوّتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبّك بعد بغضك وبغضك بعد حبّك، وعزمك بعد إنابتك (7)، وإنابتك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاءك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك لما لم يكن في وهمك، وغروب (8) ما أنت معتقده عن ذهنك وما زال يعدّ (9) عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها، حتّى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه (10).
ودخل على الصادق (عليه السلام) يوما فقال: أليس تزعم أن الله تعالى خالق كلّ شيء؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): بلى، فقال: أنا أخلق، فقال له:
كيف تخلق؟ فقال: أحدث في الموضع ثمّ ألبث عنه فيصير دوابا فكنت انا الذي خلقتها، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): أليس خالق الشيء يعرف كم خلقه؟ قال: بلى، قال (عليه السلام): فتعرف الذكر من الانثى وتعرف عمرها؟
فسكت.
وللصادق (عليه السلام) نظير ذلك مع الجعد بن درهم، وكان من أهل الضلال والبدع، وقتله والي الكوفة يوم النحر لذلك، قال ابن شهر اشوب: قيل إن الجعد بن درهم جعل في قارورة ماء وترابا فاستحال دودا وهواما فقال لأصحابه: أنا خلقت ذلك لأني كنت سبب كونه، فبلغ ذلك جعفر بن محمّد (عليهما السلام)، فقال: ليقل كم هي؟ وكم الذكران منه والاناث إن كان خلقه، وكم وزن كلّ واحدة منهنّ، وليأمر الذي سعى الى هذا الوجه أن يرجع الى غيره، فانقطع وهرب.
ثمّ أن ابن أبي العوجاء عاد إليه في اليوم الثاني فجلس وهو ساكت لا ينطق فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كأنك جئت تعيد بعض ما كنّا فيه، فقال: أردت ذلك يا ابن رسول الله، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما أعجب هذا تنكر الله وتشهد أني ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)! فقال: العادة تحملني على ذلك، فقال له الصادق (عليه السلام): فما يمنعك من الكلام، قال: إجلال لك ومهابة، ما ينطق لساني بين يديك، فإني شاهدت العلماء وناظرت المتكلّمين فما تداخلني هيبة قط مثلما تداخلني من هيبتك، قال (عليه السلام): يكون ذلك، ولكن أفتح عليك سؤالا، وأقبل عليه فقال له: أمصنوع أنت أم غير مصنوع؟
فقال له ابن أبي العوجاء: أنا غير مصنوع، فقال له الصادق (عليه السلام): فصف لي لو كنت مصنوعا كيف كنت تكون؟ فبقي عبد الكريم مليّا لا يحير جوابا وولع بخشبة كانت بين يديه وهو يقول: طويل عريض عميق قصير متحرّك ساكن كلّ ذلك من صفة خلقه، فقال له الصادق (عليه السلام) فإن كنت لم تعلم صفة الصنعة من غيرها فاجعل نفسك مصنوعا لما تجد في نفسك ممّا يحدث من هذه الامور، فقال له عبد الكريم: سألتني عن مسألة لم يسألني أحد عنها قبلك، ولا يسألني أحد بعدك عن مثلها، فقال له أبو عبد الله: هبك علمت أنك لم تسأل فيما مضى فما علمك إنك لم تسأل فيما بعد؟ على أنك يا عبد الكريم نقضت قولك، لأنك تزعم أن الأشياء من الأوّل سواء فكيف قدّمت وأخّرت؟ ثمّ قال: يا عبد الكريم: أنزيدك وضوحا؟ أرأيت لو كان معك كيس فيه جواهر، فقال لك قائل: هل في الكيس دينار فنفيت كون الدينار في الكيس، فقال لك قائل: صف لي الدينار؟ وكنت غير عالم بصفة، هل لك أن تنفي كون الدينار في الكيس وأنت لا تعلم؟ قال: لا، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): فالعالم اكبر وأطول وأعرض من الكيس، فلعلّ في العالم صنعة من حيث لا تعلم، لا تعلم صفة الصنعة من غير الصنعة، فانقطع عبد الكريم، وأجاب إلى الإسلام بعض أصحابه وبقي معه بعض.
فعاد في اليوم الثالث فقال: أقلب السؤال، فقال أبو عبد الله (عليه السلام) سل عمّا شئت فقال: ما الدليل على حدوث الأجسام؟ فقال: إني ما وجدت صغيرا ولا كبيرا إلاّ واذا ضمّ إليه مثله صار اكبر، وفي ذلك زوال وانتقال عن الحالة الاولى، ولو كان قديما ما زال ولا حال، لأن الذي يزول ويحول يجوز أن يجود ويبطل، فيكون بوجوده بعد عدمه دخول في الحدث، وفي كونه في الاولى دخوله في العدم، ولن يجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد.
فقال عبد الكريم: هبك علمت في جري الحالين والزمانين على ما ذكرت واستدللت على حدوثها، فلو بقيت الأشياء على صغرها من أين كان لك أن تستدلّ على حدوثها؟ فقال الصادق (عليه السلام): إنما نتكلّم على هذا العالم الموضوع فلو رفعناه ووضعنا عالما آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إيّاه ووضعنا غيره، ولكن أجبت من حيث قدرت إنك تلزمنا وتقول: إن الأشياء لو دامت على صغرها لكان في الوهم أنه متى ما ضمّ شيء منه الى مثله كان اكبر، وفي جواز التغيّر عليه خروجه من القدم كما بان في تغيير دخوله في الحدث، ليس وراءه شيء يا عبد الكريم، فانقطع وخزي.
أقول: إن خلاصة كلام الصادق (عليه السلام): أن هذا العالم إذا ضمّ شيء منه إلى شيء آخر حدث شيء اكبر، وفي ذلك زوال عن الحالة الاولى وانتقال الى حال اخرى، والقديم لا تطرأ عليه هذه التحوّلات، ولو كان ذلك التأليف بالفرض والوهم، كما لو كانت الأشياء حسب فرض ابن أبي العوجاء باقية على صغرها لا تكبر، لأنه من الامور البديهيّة بل أبده البديهيّات أنه بضمّ شيء إلى شيء تحصل زيادة على كلّ من الشيئين، وهذه إحدى بديهيّات أربع هي أساس العلوم الرياضيّة كلّها، فقد أرجع الإمام الدليل على حدوث العالم الى أوضح بديهيّة في العقول التي لا يختلف فيها اثنان، على أنه (عليه السلام) مع ذلك أجاب على تقدير هذا الفرض المحال وهو أن الأشياء تبقى على ما هي عليه بضمّ بعضها الى بعض أجاب بأن هذا الفرض نفسه هو فرض جواز التغيير عليه وخروجه من القدم ودخوله في الحدث، لأن المفروض أن العالم تقبل الأشياء فيه الزيادة بضمّ بعضها الى بعض، فلو فرضناه عالما آخر لا يقبل ذلك فقد فرضنا رفع هذا العالم وتغييره، فيتحقّق فيه الاستدلال على المطلوب. ما أدقّ هذا الدليل وأبدعه، ولذلك انقطع به ابن أبي العوجاء وخزي.
ولمّا كان في العام القابل التقى معه في الحرم، فقال له بعض شيعته: إن ابن أبي العوجاء قد أسلم، فقال الصادق (عليه السلام): هو أعمى من ذلك لا يسلم، فلمّا بصر بالصادق (عليه السلام) قال: سيّدي ومولاي، فقال له: ما جاء بك الى هذا الموضع؟ فقال: عادة الجسد وسنّة البلد ولنبصر ما الناس فيه من الجنون والحلق ورمي الحجارة، فقال له الصادق (عليه السلام): أنت بعد على عتوّك وضلالك يا عبد الكريم، فذهب يتكلّم، فقال له: لا جدال في الحجّ ونفض رداءه من يده، وقال: إن يكن الأمر كما تقول وليس كما تقول نجونا ونجوت، وإن يكن الأمر كما نقول وهو كما نقول نجونا وهلكت (11).
وناظر الصادق (عليه السلام) يوما في تبديل الجلود في النار، فقال: ما تقول في هذه الآية «كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها» (12) هب هذه الجلود عصت فعذّبت فما بال الغير يعذّب؟ قال أبو عبد الله (عليه السلام): ويحك هي هي وهي غيرها، قال: اعقلني هذا القول، فقال له: أرأيت لو أن رجلا عهد الى لبنة فكسرها ثم صبّ عليها الماء وجبلها (13) ثم ردّها الى هيئتها الأولى، ألم تكن هي هي وهي غيرها؟ فقال: بلى أمتع الله بك (14).
أقول: هذا ما توصّل إليه عظماء الفلاسفة بعد جهد وبحوث طويلة في تحليل صحّة عذاب الانسان المجرم، مع أن ذرّات جسمه الذي وقع منه الجرم تتبدّل وتتحوّل دائما (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) (15). وبهذا البيان الدقيق يجاب عن شبهة الآكل والمأكول المعروفة، فمن أين تعلم هذه الفلسفة الدقيقة في تلك العصور التي ما شمّت رائحتها؟ إنه الامام، وكفى.
مع أبي شاكر الديصاني
وكان لأبي شاكر الديصاني ـ أحد ملاحدة العرب ـ مع الصادق (عليه السلام) مناظرات وأسئلة، واخرى بينه وبين هشام بن الحكم ويفزع هشام بها الى إمامه الصادق (عليه السلام)، قال يوما لهشام: إن في القرآن آية هي من قولنا، قال هشام: وما هي؟ فقال: « وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله » (16) قال هشام: فلم أدر بم اجيبه، فحججت فخبّرت أبا عبد الله (عليه السلام)، قال: هذا كلام زنديق خبيث، اذا رجعت إليه فقل له ما اسمك بالكوفة؟ فإنه يقول لك فلان فقل له: ما اسمك بالبصرة؟ فإنه يقول فلان، فقل له: كذلك ربّنا في السماء إله، وفي الأرض إله، وفي البحار إله، وفي القفار إله، وفي كلّ مكان إله، قال: فقدمت فأتيت أبا شاكر فأخبرته، فقال: هذه نقلت من الحجاز (17).
وسأل أبو شاكر هشام بن الحكم يوما فقال: ألك رب؟ فقال: بلى، فقال: أقادر هو؟ قال: نعم قادر، قال: يقدر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تكبر البيضة ولا تصغر الدنيا؟ قال هشام: النظرة، فقال له: قد أنظرتك حولا، ثمّ خرج عنه، فركب هشام الى أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذن عليه فأذن له، فقال له يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أتاني عبد الله الديصاني بمسألة ليس المعوّل فيها إلاّ على الله وعليك، فقال له أبو عبد الله (عليه السلام): يا هشام كم حواسّك؟ قال: خمس، قال: أيّها أصغر؟ قال: الناظر، قال: وكم قدر الناظر؟
قال: مثل العدسة أو أقلّ منها، فقال له: يا هشام فانظر أمامك وفوقك واخبرني بما ترى، فقال: أرى سماء وأرضا ودورا وقصورا وبراري وجبالا وأنهارا، فقال له أبو عبد الله: إن الذي قدر أن يدخل الذي تراه العدسة أو أقلّ منها قادر أن يدخل الدنيا كلّها البيضة لا تصغر الدنيا ولا تكبر البيضة، فأكبّ هشام عليه يقبّل يديه ورأسه ورجليه، وقال: حسبي يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وانصرف الى منزله.
أقول: إن هذا الجواب صدر عن الإمام (عليه السلام) على سبيل الإسكات والإقناع، والجواب البرهاني أن يقال: إن الله تعالى لا يقدر على مثل ذلك لأنه محال والمحال غير مقدور له، كما أنه لا يقدر على إيجاد شريك له وعلى الجمع بين النقيضين والضدّين، وهذا ليس من النقص في القدرة بل للنقص في المقدور، لأن القدرة تحتاج الى أن يكون متعلّقها ممكنا في ذاته، والفرق واضح بين النقص في القدرة والنقص في المقدور، ولعلّ الديصاني لو أجيب بمثل هذا لما اقتنع به أو لما عقله.
وروي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن مثل ذلك، فأجاب بأن الله لا ينسب إلى العجز، والذي سألتني لا يكون، وهذا هو الجواب الحقيقي، ومفاده ما أوضحناه.
ثمّ إن الديصاني غدا على هشام، فقال له هشام: إن كنت جئت متقاضيا فهاك الجواب، فقال له: إني جئتك مسلّما ولم أجئك متقاضيا للجواب، فخرج الديصاني عنه حتّى أتى باب أبي عبد الله (عليه السلام) فاستأذن عليه فأذن له، فلمّا قعد قال له: يا جعفر بن محمّد دلّني على معبودي، فقال له أبو عبد الله: ما اسمك؟ فخرج عنه ولم يخبره باسمه، فقال له أصحابه: كيف لم تخبره باسمك؟ قال: لو كنت قلت له عبد الله كان يقول من الذي أنت له عبد؟
فقالوا: عد إليه وقل له يدلّك على معبودك ولا يسألك عن اسمك، فرجع إليه وقال: يا جعفر بن محمّد دلّني على معبودي ولا تسألني عن اسمي، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): اجلس، واذا غلام له صغير في كفّه بيضة يلعب بها فقال أبو عبد الله (عليه السلام): يا ديصاني هذا حصن مكنون له جلد غليظ، وتحت الجلد الغليظ جلد رقيق وتحت الجلد الرقيق ذهبة مائعة وفضّة ذائبة، فلا الذهبة المائعة تختلط بالفضّة الذائبة، ولا الفضّة الذائبة تختلط بالذهبة المائعة، فهي على حالها لم يخرج منها خارج مصلح فيخبر عن صلاحها، ولا دخل فيها مفسد فيخبر عن فسادها، لا يدرى للذكر خلقت أم للانثى، تنفلق عن مثل ألوان الطواويس أترى لهذا مدبّرا؟ قال: فأطرق مليّا، ثمّ قال: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأن محمّدا عبده ورسوله، وأنك إمام وحجّة من الله على خلقه، وأنا تائب ممّا كنت فيه (18).
.....................................
(1) أي اكبر في القوّة والقدرة وما شابه ذلك..
(2) سنذكره في المشاهير من ثقاته..
(3) الكافي: 1 / 74..
(4) الاحتجاج للشيخ الطبرسي: 336 ـ 345..
(5) قتل محمّد بن سليمان عامل الكوفة من قبل المنصور ابن أبي العوجاء وكان ابن أبي العوجاء من تلامذة الحسن البصري، فانحرف عن التوحيد واعتزل حوزة الحسن البصري، وأمّا ابن المقفّع فقد كان مجوسيّا وأسلم ظاهرا، غير أن أعماله وأقواله لا تدلّ على إسلامه، وكان فارسيّا ماهرا في صنعة الإنشاء والأدب، وهو الذي عرّب كتاب كليلة ودمنة، وقتله سفيان المهلبي أمير البصرة عام 143 بأمر المنصور..
(6) نشأك في نسخة..
(7) الإنابة: الرجوع، وفي نسخة: إبائك، وفي نسخة اخرى: إناءتك وهي الإبطاء..
(8) وفي نسخة عزوب..
(9) وفي نسخة يعدّد..
(10) الكافي: كتاب التوحيد منه، باب حدوث العالم وإثبات المحدث..
(11) توحيد الصدوق طاب ثراه، باب حدوث العالم..
(12) النساء: 56..
(13) طبعها وليّنها..
(14) الاحتجاج للشيخ الطبرسي: 354..
(15) الدخان: 53..
(16) الزخرف: 84..
(17) الكافي: باب الحركة والانتقال..
(18) الكافي: كتاب التوحيد منه، باب حدوث العالم وإثبات المحدث.