بسم الله الرحمن الرحيم
"إضاءات جديدة على الملحمة الخالدة"-2-
إطلالة على المشهد العاشورائي من زوايا تصويرية معاصرة سعيا لحصر المعالم السمعية-البصرية في أبعاده المتعددة و تشكيل نماذج فنية مستقبلية.... (الجزء الثاني)
المكون الثاني للمشهد العاشورائي: "الباطل بكل صوره":
مقدمات لابد منها!
_ما أوذي نبي كما أوذي نبي الإسلام محمد صلى الله عليه و آله و سلم و ما عرف قوم ظلما كالظلم الذي أصاب آل محمد الأبرار في أيام حياتهم و عند اغتيالهم و بعد قتلهم, من دون سبب إلا لمحو ذكرهم و إخفاء قدرهم, و ما عانت جماعة حق من الباطل" بكل صوره" كما عانى "أهل البيت" عليهم السلام من ذلك ظلما و عدوانا و زورا و بهتانا, رغم التأكيد المستمر من قبل الله و رسوله على علو شأنهم و أهمية مودتهم و تقدير مكانتهم و حفظ قدرهم. فالتاريخ لم يعرف يوما مأساة بقدر المآسي التي تكبدتها جماعة قليلة نادرة إنطلقت من بيت نبوة لم يتجاوز عدد أفراده عدد أصابع اليد الواحدة و قد ألقيت عليها من السماء هالات الطهر و آيات القداسة و التقدير و المحبة ثم تعرضت لما تعرضت له من التآمر و الإنكار للحقوق و الملاحقة و القتل من قبل الذين يفترض أنهم عرفوا قدر من قتلوا و رأوا فضلهم و شهدوا كراماتهم و إحسانهم(!).
_لم يشهد التاريخ زورا و تزويرا و تواطؤا و تآمرا مع حادثة عظيمة كما شهده مع حادثة عاشوراء فلقد أخفيت المعالم مرارا و تكرارا و اجتهدت الألسنة و الأقلام في طمس الحقائق و تشويهها و تبرعت عقول الدهاء و المكر و الضغينة لتبرير أعمال القتلة أو الفصل بين المخططين و المنفذين و استخراج الأعذار لكل من الفريقين و الإيحاء بشكل مباشر أو غير مباشر إلى عوامل ضاغطة و أخرى قاهرة دفعت بالقتلة إلى ارتكاب القتل و أدت إلى ما أدت إليه عن غير عمد أو سوء نية!!!.
_ لم يعرف العقل محنة أو مواجهة مع نفسه و مع التاريخ كما عرفها أمام أدوار الباطل و صوره المتعددة في وقعة عاشوراء و ما قبلها من الأحداث و الأمور التي مهدت لحدوثها و ما بعدها من المحاولات و الحملات لتزوير معالمها و تشويه مقاصدها!. و يكفي العقل محنة و أزمة ما اعتراه من صدمة حين واجه الأسئلة الصعبة حول هوية الجناة المعروفة جدا و أصولهم القريبة جدا و أنسابهم المشهورة جدا و دينهم الذي حملوه و تشدقوا به خلال جنايتهم و ما عرفوه حق المعرفة و شهدوا له بأعينهم و أنفسهم من أحقية و أفضلية و أهمية أولئك الذين اغتالوا و قتلوا و أعدموا و نكلوا بهم أشد تنكيل, من دون تردد أو تنصل أو تراجع.
_"إجتهد" الباطل في ملحمة عاشوراء "إجتهادا" واسعا و شديدا في التخطيط للمجزرة و التحضير لتنفيذها و جمع أدواتها و توزيع مهمات القتلة فيها و قبلها و بعدها و تنظيم أدوارهم حتى لا يكون للحسين عليه السلام و أصحابه و عياله" منفذا" أو" مخرجا" أو أية قدرة على الصد أو الرد أو الدفاع أو حتى الإنسحاب, فإما البيعة للباطل و إما القتل و إما الذلة و الخضوع للشر و أسبابه و إما السلة و الهلاك و إما التسليم للباطل بشروطه و إما الفناء و الإفناء و إنهاء كل ذكر و أثر, و لقد استنفذت أجهزة الباطل الدعائية و الإعلامية و السياسية و الإقتصادية كل أساليبها الخبيثة و خططها الماكرة في محاصرة الحق و أصحابه و التضييق على حركته و تشويه قضيته قبل تنفيذ المجزرة و بعدها ولقد بقيت آثار ذلك و انعكست حقدا و تواطؤا و تآمرا و محاولات للتبرئة و التزوير و التبرير في بعض كتب التاريخ أو في عقول بعض المؤرخين أو المدعين!.
_لم تتعرض السير "المنصفة" و المؤلفات و المصنفات المحايدة للأسباب الدفينة و النوازع الكامنة وراء هذا القدر الهائل من الشرور و الأذى و السوء الذي واجه به البطل و أصحابه هذه الفئة القليلة و لم تقدم أجوبة وافية على الأسئلة المحيطة بالوازع الجرمي و سر اندفاع المجرمين و حماسهم اللامعقول و اللامسبوق في التنكيل و التقطيع و السلب و السبي و رفع الرؤوس فوق القنا من دون خجل أو تردد أو استغراب!!!. و في المقابل تلهت تلك السير و المؤلفات, عن قصد أو غير قصد, بذكر و تحليل و إبراز الجوانب "المشهدية" الثانوية و الصغيرة للباطل و أصحابه و أدواره و "نماذجه" المتعددة و الموزعة على جنبات المواجهة الظاهرة فيها و الخفية منها, مما أدى إلى حصر النوايا الخبيثة و الأساليب الوحشية للمجرمين المخططين منهم و المنفذين ضمن بوتقة من الأسباب الضاغطة و القاهرة كالترغيب و الترهيب لأجل موجبات الحكم و الأمارة و الخلافات من جراء الإستحقاقات السياسية و العقد الشخصية-النفسية و الوقوع تحت تأثير الخمرة أو تحت عوامل خارجية......و هكذا صارت جريمة "الأمير-الدعي" مبررة أو مخففة لأنه كان يعاقر الخمرة أو أنه تحت ضغط الحكم و موجباته و أضحت جرائم "المأمورين-الأدعياء" مبررة أو مخففة لأنها جاءت تحت ضغوط إكراهه وترغيبه و ترهيبه!!!!....
صور الباطل الظاهرة....و الخفية:
تعددت صور الباطل و تنوعت و تشعبت في الزمان و المكان حول واقعة العاشر من محرم و قبلها و بعدها , و توزعت أدوار المجرمين المخططين و المنفذين و المشاركين و المتواطئين على المشاهد المأساوية للمجزرة بشكل لم تقدر على إحصائه التفاصيل و لم تقدر على تفصيله الإحصاءات!.
هكذا ظهرت الصور الخفية حينا و خفيت الصور الظاهرة حينا أخرى, و برزت الصور الملتبسة التي كان ينفذ من خلالها الباطل ليبث سمومه القاتلة و إيحاءاته الخبيثة و خططه الماكرة (كالتي برع فيها الولاة و وعاظ السلاطين و أصحاب الأهواء و الضغائن) و تكاثرت الصور الوحشية المباشرة التي نفذ فيها الباطل جرائمه البشعة عبر أعمال القساة والفجرة(و التي برع فيها اللقطاء و الخونة و المرتزقة), أما الوسائط بين المجموعتين فلقد ظهرت في صور مشتركة و متشابكة و موزعة بين أبواق التشجيع و التحفيز و الترغيب بالقتل من جهة و أصداء التلبية و الولاء و الطاعة للشر من جهة أخرى.
صورة القاتل-الراوي:
حمل التاريخ بين دفات كتبه شهادات و اعترافات الكثير من القتلة الذين شاركوا في تفاصيل الجريمة و كانت شهاداتهم تلك تسجل لهم و تحفظ و تنقل إما ادعاءا منهم و افتخارا(!) و إما اعترافا لهم أمام أشخاص و هيئات طالبتهم بذلك و إما لدخولهم معترك التوبة مكرهين أو راضين.
و كانت أشهر الإعترافات و أوسعها نقلا و انتشارا على الألسن و في القراطيس ما رواه "حميد بن مسلم الأزدي" الذي كان ضمن جيش القتلة في عاشوراء و من بين الذين حملوا رأس الإمام الحسين عليه السلام إلى الكوفة ثم انتقل إلى الضفة الأخرى و شارك في ثورة "التوابين" المضادة.
ومما لا يسهل تصديقه و لاتقبله أن تكون معظم وقائع المجزرة الأليمة التي تعرض لها "البيت النبوي المطهر" منقولة و محفوظة في كتب التاريخ (كتاريخ الطبري و كتب أخرى) عن طريق أولئك الذين شاركوا في قطع الرؤوس النيرة و رفعها فوق الرماح (!). فكم من تفاصيل أسقطت و كم من أحداث تركت و كم من وقائع أهملت؟!......
صورة القاتل-الثابت على القتل!:
لم يعرف التاريخ قتلة كالذين ظهروا قبل واقعة عاشوراء و برزوا خلالها و استمروا بعدها و هم على نفس القدر و السيرة من الإمعان في القتل و الإغتيال و الملاحقة لأفراد هذا البيت المطهر الذي ما بادلهم سوءا و لا عدوانا, فلا استكانوا و لاملوا و لا ضجوا من كثرة الدماء التي أهدروها و أسقطوها من تلك الشجرة المباركة و لا شبعوا من هول المصائب و البلايا التي تسببوا بها لأتبا ع الحق و مريديه من أول حياتهم إلى آخرها. يكفي التاريخ ما نقلته كتبه من سيرة ذاتية مروعة لأ حد قواد جيش الباطل "الحصين بن نمير" الذي قاتل الإمام علي عليه السلام بعد أن سأله مرة مستهزئا في إحدى الوقائع المشهورة عن عدد شعرات رأسه عندما قال في الناس كلمته الشهير "سلوني فبل أن تفقدوني"....., ثم شارك في قتل مسلم بن عقيل رضوان الله عليه و قيس بن مسهر الصيداوي رسول الحسين عليه السلام و أخذ رأس الصحابي الجليل "حبيب بن مظاهر" بعد مقتله في عاشوراء و علقه في رقبة فرسه و دار به في الكوفة مفتخرا, و هو الذي نصب المنجنيق على جبل "أبي قبيس" في مكة و ضرب به الكعبة لما تحصن "ابن الزبير" في المسجد الحرام و هو الذي شارك في الهجوم على المدينة المنورة في عهد "يزيد" و تصدى لثورة التوابين....حتى قتل!.
صورة القاتل-المغالي في القتل!:
كان يمكن لقتلة الإمام الحسين عليه السلام و عياله و أصحابه أن يكتفوا بفعلتهم و ينهوا جريمتهم كما يفعل المجرمون!, و كان يمكن لهم أن يخفوا أعمالهم و يخفوا معالم جريمتهم فلا يمعنوا في الظهور في مسرح الجريمة و لا ينكبوا على سلب أجساد الشهداء المقطعة و الإمعان في تقطيعها و التمثيل بها.....حتى لا يدانوا مرتين أو مرات عديدة و لا يتحملوا الوزر أضعافا مضاعفة. لكن ما جرى في عاشوراء يندى له الجبين و تحار به العقول و تعجز في شرحه و وصفه الألسنة, فالتفاصيل الواردة حول ما ارتكبه المجرمون من أفعال بعد مصرع الشهداء في عاشوراء و التي نقلوها هم بأنفسهم (!) أو اعترفوا بها مكرهين أو تائبين (!) لا تحصى و لا تحصر, هذا بالإضافة إلى ما أخفوه عن الناس و ما سقط من أقوالهم سهوا أو عمدا و ما لم يشهده أحد و لم يعرفه أحد و بقي في في علم الله جل و علا.
و رغم قلة ما وصل من معلومات و تفاصيل و ضآلة ما نقل التاريخ من وصف تصويري دقيق لما حدث من وقائع على هذا الصعيد, أجمعت السير العديدة على أن أمورا شديدة الوقع على النفوس و بالغة القسوة حصلت لما سقط و بقي و ترك من أجساد شبان و كهول و شيوخ مقطعة على الرمضاء و أطفال هائمة على وجوهها في الصحراء و بنات و نساء حائرات" حاسرات" باكيات حول الخيم المحترقة و بين خيول العدو المهاجمة و تحت ظل السماء, حفظ التاريخ منها ما تناقله المجرمون في اعترافاتهم و ما أدلى به من كان شاهدا عليها أو مشاركا فيها, و من أشهرها:
_ قطع الرؤوس الطاهرة و رفعها فوق الرماح أو تعليقها على أعناق الجياد(!).
تعرية الأجساد المقطوعة الرأس و تركها على الرمل مسلوبة الرداء من دون دفن._
_ الهجوم على مخيم النساء و الأطفال و إشعال النار فيه.
_ ملاحقة النساء بعد حرق المخيم لسلبهن و سبيهن.
_ مطاردة الأطفال في الصحراء.
_ قطع آذان بعض البنات لسلبهن أقراطهن.
_ ملاحقة الفتيات في الصحراء لنزع الخلاخيل من أقدامهن.
_ ملاحقة الفتيات في الصحراء لنزع الخلاخيل من أقدامهن.
_ قطع أصابع أيادي الشهداء لسلب خواتمهم.
صورة القاتل-المتباكي على مقتوله!:
ظهرت في ملحمة عاشوراء فئة غير مسبوقة من القاتلين "الملتبسين" جمعت بين إظهار المودة و العداوة في المواقف المتلاحقة و أظهرت مشاعر متباينة و متضادة و متناقضة تجاه محور الصراع و جوهره المتمثل بالإمام الحسين عليه السلام و قضيته التي تصدى لها بدمه و عياله و خلص أصحابه.
و لقد عجت "الكوفة" بأولئك الذين"التبست" عليهم الأمور و "انفصمت" شخوصهم و مواقفهم و مشاعرهم و أفعالهم و أقوالهم من مكان إلى مكان آخر و من زمن إلى زمن مغاير حتى صاروا يشاركون في قتل من يوالون و يخونون من يعاهدون و يذبحون من كانوا يودون تقبيله!
صورة القاتل-المتنطح للحسم!:
مرت في يوم عاشوراء لحظات حرجة, قاسية, مهولة, انقطعت فيها أنفاس التاريخ أمام هول ما كان يرتكب الباطل من مجازر اقشعرت لها أبدان البعض ممن كانوا يشهدون المعركة في صفوفه, فوقفوا لوهلة محرجين, متحيرين, مترددين, متسائلين عن جدوى ما كانوا يرون من مغالاة و وحشية و كيفية التملص من مشاهدتها أو مقابلتها أو تحمل وزرها!. و كان على الباطل حينها و عند بدء ارتسام علامات الوجوم و الريبة على وجوه بعض أصحابه أن يطلب من أبنائه الخلص الأوفياء أن يتطوعوا لقطع "نزاع القوم" و حسم النقاش الداخلي!.
و هكذا برزت وجوه قبيحة بعقول عديمة الوعي و أنفس عديمة الإحساس في مشاهد مفصلية مأساوية لتلبي نداء الباطل و تقطع الطريق على كل متردد أو متحير و تأخذ بالفعل الإجرامي إلى أقصى حد و أبعد مدى و أعلى ذروة!. و اشتهر من تلك الوجوه "المتخصصة" في هذا المجال اللاإنساني و اللامعقول "حرملة بن كاهل الأسدي" الذي" تطوع" لذبح الطفل الرضيع من الوريد إلى الوريد بين يدي والده الإمام الحسين عليه السلام بعد أن خاطب "القوم" و طلب الرحمة للرضيع المتلظي عطشا بقليل من الماء, كما اشتهر "الشمر بن ذي الجوشن" الذي تطوع للجلوس على صدر الإمام الحسين عليه السلام لإحتزاز رأسه كما تطوع للهجوم على خيام النساء و الأطفال, مبديا تفانيه اللامحدود في الإجرام و إخلاصه اللامتناهي للباطل !.
ورث الإمام الحسين عليه السلام أدوار و محن و ابتلاءات من قبله من أولياء الله الصالحين كما ورث من تجاربهم و مواجهاتهم و معاركهم مع الباطل الصور المختلفة والأشكال المتنوعة والنماذج المتعددة للصراع و تحمل ما تحملوه جميعا و أكثر و عانى ما عانوه جميعا و أكثر و تكبد ما تكبدوه و أكثر و بذل نفسه و كل ما عنده كما بذلوا ما لديهم جميعا و أكثر....بل أكثر من ذلك و أكثر.
في العدد القادم : جغرافية المشهد العاشورائي.