بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد واله الطيبين الطاهرين
قال : عقيدتنا في النظر والمعرفة
(ملخص بسيط)
ولبيان هذا المطلب لابد من بيان ستة مسائل
المسألة الاولى : لماذا ذكر المصنف هذا البحث في كتابه الموسوم بعقائد الامامية ؟
الجواب : يستدعي بيان مقدمة وحاصلها ان العقائد التي هي عبارة عن اصول الدين الخمسة .
(التوحيد والعدل والنبوة والامامة والمعاد) هي من الامور الاعتقادية اليقينية وهذا اليقين لا يحصل الاّ بالدليل وهذا الدليل يتوقف على معرفة النظر والمعرفة فان النظر هو الذي يقودنا الى الدليل والمعرفة اي النتيجة التي تتوقف على النظر
المسألة الثانية : معنى النضر والمعرفة ؟
الجواب : عرفوا المتكلمين النظر هو : عبارة عن ترتيب مقدمات علمية او ظنية ليتوصل بها الى المطلوب .
مثال ذلك لو اردنا ان ننظر اي نستدل على ان لهذا العالم مؤثر اي خالق وواجد فان العقل هو الذي يقودنا الى ذلك من خلال ترتيب مقدمات فيقول: مثلا
1 العالم ممكن
2 وكل ممكن له مؤثر
اذاً العالم له مؤثر .
نلاحظ ان المقدمة رقم واحد والمقدمة رقم اثنين تسمى نظر
والنتيجة (العالم له مؤثر) هي المعرفة اي العلم المستخرج من تلك المقدمات
المسألة الثالثة : في ورود الاشكال على النظر وجوابه , نقول: للمتكلمين عادة مايذكرون لهم اشكالين ونحن سوف نذكر اشكالا واحداً فقط , لتوخي الاطالة وصعوبة المطلب , وحاصل هذا الاشكال قالوا : ان الغاية من النضر في الالهيات هو الاستدلال على وجود الله تعالى وصفاته وسائر افعاله .
وعليه ان المطلوب من الدليل ان كان معلوما (امراً واقعا وموجوداً) فالاستدلال عنه يكون تحصيلاً للحاصل فلا فائدة من اقامة البرهان على من كان معلوما واقعا .
واما ان يكون الدليل على مجهول فحينئذ كيف يتسنى لنا ان نعرف ان ماحصل من الدليل هو المطلوب بعينه خصوصا وان الذات الالهية لا تدرك فكذلك الدليل عليها غير محصل تبعا لها .
وفي مقام الجواب نقول : انا نسلم ان الذات المقدسة لا تدرك حقيقتها الا انا لانبحث عن الذات وكنهها وحقيقتها بل كل ماهنالك انا نقيم الدليل على وجوده .
وان للباري تبارك وتعالى صفاة كالقدرة والعلم وهي من الصفاة المشتركة بين الخالق والمخلوق .
فمثلاً نقول: زيد عالم والله تعالى عالم ,وفلان قادر والله تعالى قادر, و في الحقيقة انا ننتزع من القدرة المكتسبة من الله تعالى عندنا وكذلك العلم وغيرها من الصفاة المشتركة فنعلم ان هذه القدرة ورائها قادر والعِلم الذي عندنا ورائه عالم, وهذا القَدر كافي في معرفته تعالى فنحن نثبت وجوده من خلال صفاته تعالى (المشتركة)اي ننتزعها من الممكنات .
المسألة الرابعة : شرط حصول العلم عن النظر
وهو ان يكون الناظر عالم بالدليل من حيث انه موصل الى النتيجة اليقينية
والاّ لو كان الناظر يشك ان هذا الدليل قد يوصله الى النتيجة او كان يظن ان الدليل الذي اقامه سوف يوصله الى النتيجة لما صح ,ولا يستلزم المطلوب ,الاّ اذا كان عالماً ان ما اقامه هو الذي يوصله الى النتيجة يقيناً .
المسألة الخامسة : شرط وجود النظر
1 ان لا يكون الناظر عالما بالمطلوب قبل اقامة الدليل عليه والا صار تحصيلا للحاصل .
2 ان لا يجهل الدليل جهلا بسيطا مطلقاً .
3 ان لا يجهل الدليل بالجهل المركب لانه يمنع من الوصول الى المطلوب .
بيان الشرط الثاني والثالث : اقول : لابد من تعريف الجهل البسيط وكذلك المركب ليتضح المراد من كلا الشرطين .
الجهل البسيط : وهو ان يجهل الانسان شيء وهو ملتفت من نفسه انه جاهل
فلو سألنا زيد عن شيء وقال لا اعلم فمثل هذا يسمى جهل بسيط .
لكن لو قال : زيد حتى مع اقامة الدليل لا اعلم فمثل هذا يسمى جهل بسيط مطلق
اي سواء اقيم الدليل او لم يقم فلا يحصل له العلم بالمطلوب اوالنتيجة .
الجهل المركب : وهو ان يجهل الانسان شيء ولا يعلم من نفسه انه جاهل بل يعتقد انه على حق وصواب , فانه مركب من جهلين
الاول : بحسب الواقع هو جاهل
والثاني : اعتقاده بانه على حق وصواب , واعتقاده هذا هوجهل ثاني .
فمثل هذا ايضا يكون مانعاً من الوصول الى المطلوب لانه يعتقد اعتقاداً جازماً انه من اهل الحق والصواب وهذا يمنعه من ان ينظر ثانياً لتحقيق المطلوب .
المسألة السادسة : دعوى عدم جوازالتقليد بأصول الدين
و يمكن اعادة صياغة الدعوى على النحو التالي :
هل يجوز اخذ اصول الدين من التقليد ؟ وهل يحصل اليقين حينئذٍ , ام ان اليقين من يستقل به العقل فقط ؟
وقبل الجواب لابد لنا من تحرير محل النزاع وفهم الخلاف الحاصل .
اقول : اتفق المتكلمون قاطبة على ان التقليد عن عمى بأخذ العقيدة او اصول الاعتقادات من الاباء والاسلاف باطل محض ومنه قوله تعالى (قالوا بل نتبع ما الفينا عليه اباءنا اولوا كان آبائهم لا يعلمون شيئاً)الاية, فان اخذ العلم من هذا الطريق باطل كما هو بيّن ,لانه تقليد مذموم .
لكن وقع الخلاف في اخذ الاصول الاعتقادية عن التقليد الممدوح ونعني به مالوقلد الانسان الانبياء في طاعتهم واخذ عقيدته من دون الحاجة الى الدليل او مطالبته اليهم به لانهم ينطقون ماكان جزماً واعتقاداً وكذلك مالو قلد الانسان بمن هو اهل لذلك العلم كالمختصين بعلم الكلام من ارباب اعلامه وعلمائه فانهم ثقاة في اخذ العقيدة منهم من دون الحاجة الى النضر, اذاً حصل النزاع في هذا القسم من التقليد .
اقول : ولم نجد من قال: بعد جواز التقليد بالمعنى المذكور ولهذا من قال: بجواز التقليد كالمحقق الاردبيلي والشيخ الطوسي ومن تبعهم رح .
قالوا : ماهو محصله ان الغاية والغرض من الامور الاعتقادية الكلامية هو حصول اليقين والجزم بها من اي طريقٍ كان سواء عن تقليد او لا فان الملاك هو تحصيل الاعتقاد الجازم فلو حصل لدينا من الشخص الذي قلدناه جزمٌ ويقينٌ لكفى ذلك .
بدليل قوله تبارك وتعالى (قل اولوا جئتكم باهدى مما وجدتم عليه اباءكم قالوا انا بما ارسلتم به كافرون ) الاية .
فان الاية الكريمة تفيد ان النبي يأمر باتباعه فيقول لهم اولوا جئتكم باهدى )فلِسان حال الاية يقول: اتبعوني اي اطيعوني اهدكم وهذا يدل على تقليد الانبياء بما جاءوا به هذه من ناحية .
اما على فرض التسليم من عدم جواز التقليد (الممدوح),ولوصح ذلك لقلنا : ان الغرض من المعرفة اليقينية لاصول الدين هولغرض شكر المنعم فانا نعلم بالضرورة ان هنالك منعم انعم علينا الوجود والافاضة والرزق وغيرها من النعم فلابد من شكره وهذه الاّبدية قد فرضها العقل, فان من انعم علينا بشيء وجب شكره بالفطرة على قدر ما انعم به علينا,وعليه كيف يحصل لنا العلم بمعرفته او ماهو الامر الذي يحصّل لنا المعرفة ؟
قالوا :لا يخلوا من اربع
اما الظن فليس هو, لانه يبقي الاحتمال لغيره
واما الشك فهو من باب اولى لايحصّل اليقين
واما الوهم فهذا الاخر اوهن من بيت العنكبوت
فلزم ان يكون اليقين هو الذي يحصّل ذلك الاعتقاد الجازم وهو المطلوب .
هذاعلى ان كل قضية في اي علمٍ كان, اما ان تكون متكونة من يقينٍ واحد او يقينين .
فعلى سبيل المثال ان القضايا الشرعية مثلُ الصلاة واجبةٌ وان الصوم واجبٌ فانا نعلم بثبوت المحمول من كلا القضيتين(الوجوب) محمول يقيني فانا نعلم يقيناً بثبوت الوجوب للصلاة وكذلك الصوم لكن يمكن ان يفرض العقل ان الصلاة غير واجبة فينفك المحمول عن الموضوع .
واما في القضايا اليقينية الاعتقادية فانها متكونة من يقينين
اليقين الاول : ثبوت المحمول للموضوع على نحو اليقين كما لو قلت الله تعالى قادرٌ والله تعالى عالمٌ ,فانا نعلم باليقين والجزم ان المحمول ثابت ٌ له .
اليقين الثاني : بعدم انفكاك المحمول عن الموضوع فلا يمكن ان يفرض العقل ان الله تعالى قادر وانه غير قادر اذ الفرض لابد له نوع من الصحة وهنا غير صحيح .
اذاً كل القضايا في سائر العلوم متكونة من يقين واحد, بعد العلم بصدقها وانها مطابقة للواقع .
واما القضايا الاعتقادية والفلسفية فهي متكونة من يقينين الاول بثبوت المحمول للموضوع واليقين الثاني بعدم انفكاكه عن الموضوع .
وعلى ماتقدم نقول : انه لو جاز التقليد باصول الدين لحصل اليقين من جانب ثبوت المحمول للموضوع ,اما من جهة عدم انفكاكه يقيناً فكيف يتم لنا ذلك؟ فهذا ما يحتاج الى دليل ـ اعني عدم انفكاك المحمول عن الموضوع ـ وهذا الدليل يجب ان يكون بالنضر العقلي , الا ان هذا على فرض عدم جواز التقليد عن الطريق الثاني اي الممدوح فيكون هذا الجواب على فرض من قال : بعدم جواز التقليد مطلقا سواء التقليد الممدوح او المذموم ولاقائل به كما عرفت .
مستدركٌ : لما خفى من عبارات الماتن رحمه الله
قوله رحمه الله ... امرنا ان نتدبر في اثار صنعة وصولا الى الاية الكريمة سنريهم اياتنا في الافاق ...) نحو اشارة الى ان ادوات المعرفة ليس هو العقل فقط بل الحس ايضا فان من شاهد الافق العظيم واثار صنعة وكيفية خلقه لاستدل ايضا على الحق تبارك وتعالى , فان الدليل على الله تعالى تارة يكون بالنضر العقلي وتارة بالحواس الظاهرية, اذاً ادوات المعرفة هي العقل والحس .
قوله رحمه الله : (...ان عقولنا هي التي فرضت علينا النضر...) اشارة الى حكم النضر اي انه واجب عقلاً وهذا مافرضه العقل من التدبر ومعرفة الخالق بحسب الفطرة .
قوله رحمه الله : (...ما جُبِلت عليها من الاستعداد والتفكير ...) اشارة الى ان لكل انسان له استعداده الخاص في الوصول الى الحق تبارك وتعالى من ادنى مرتبة وهي مرتبة العوام وصولاً الى اعلى مرتبة وهي مرتبة النبي الكريم {صلى الله عليه واله} فان الدليل الذي قاده الى الحق {صلى الله عليه واله} بلغه قاب قوسين او ادنى دون سائر الانبياء فان ذلك كان بحسب استعداده عليه وعلى اله السلام وهكذا بقيت الانبياء وصولا الى اولياء الله الصالحين من علمائنا الاعلام ما يعرف ببرهان الصديقين وجملة القول :ان لكلٍ استعداده الخاص في التأمل والتدبر .
قوله رحمه الله : (...المسماة بأصول الدين اهمها التوحيد الخ ...) نحو اشارة الى وجود خلاف بين الاعلام من ارباب علم الكلام ,على ان العدل هل هو من اصول الدين ام من الصفاة الثبوتية الذاتية؟
وسيتضح في باب عقيدتنا في العدل ان العدل من الصفاة الثبوتية الذاتية على مبنى الشيخ رحمه الله, وسيأتي تفصيله .
قوله رحمه الله : (...ولزوم التفكر والاجتهاد في اصول الاعتقادات) فعطف الاجتهاد على التفكير بمعنى بذل الوسع في تحصيل الدليل العقلي وليس من الاجتهاد الاستنباطي كما هو واضح , وبعبارة ليس الاجتهاد بالمعنى الاخص بل من قبيل الاعم وهو مطلق ما يبذله الانسان في تحصيل الدليل او المطلوب .
والحمد لله رب العالمين
العمّاري
تعليق