بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
اللهم ارحمنا بمحمد واله ياكريم
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾[سورة الكهف، الآية:54].
لأنّ الإنسان كائن عاقل مفكر، فإنه ينتج الأفكار، كما يستقبلها من غيره، وحين ينتج فكرة فإنه يمرّ بمرحلة من التأمل وإعمال النظر، يقلّب المعلومات التي بين يديه، حتى يصل إلى صناعة تلك الفكرة، فهي عملية نقاش داخلي يعيشها الإنسان مع نفسه.
وإذا ما أراد أن يقدّم فكرته للآخرين، فإنّ عليه أن يعرض لهم الأدلة والبراهين لإقناعهم، وهنا يحصل نقاش خارجي، وهو ما يطلق عليه الجدل أو الجدال.
أصل كلمة جدال في اللغة مأخوذ من جدل الحبل، أي إحكام فتله.
وقال بعض اللغويين: إنّ أصل الجدل أو الجدال من الصرع، إذا دخل الإنسان مصارعة مع آخر، وأسقطه على الأرض الصلبة، يقال جدله، فالجدال مأخوذ من المصارعة، فكما يصارع الإنسان شخصًا ويسقطه أرضًا، كذلك في النقاش الفكري، يطرح فكرة ويناقش الآخرين لإثباتها، ويسعى لمغالبتهم والتغلب عليهم في النقاش فهو مصارعة وجدال.
الإنسان أكثر جدلًا
هل الجدال ومناقشة الأفكار خاصية للإنسان وحده، باعتباره كائنًا ناطقًا مفكرًا، أم أنّ هناك وجودات أخرى تمتلك هذه الخاصية؟
الآية الكريمة تقول عن الإنسان أنه ﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾، وهذا يعني أنّ هناك من يجادل، ولكن الإنسان هو الأكثر.
يرى بعض العلماء أنّ المقصود بالمجادلين الآخرين هم الملائكة والشياطين والجنّ، كما يظهر من قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾[سورة البقرة، الآية: 30].
وكذلك ما يتحدث به القرآن من جدال إبليس: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [سورة الأعراف، الآية: 12].
ويرى بعضهم أنّ اسم التفضيل هنا ﴿وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ مسلوب المفاضلة، كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾، فاسم التفضيل (أهون) مسلوب المفاضلة، إذ ليس على الله ما هو أسهل وأصعب، وكقوله تعالى:
﴿السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ [سورة يوسف، الآية: 33]، إذ ليس في نفس نبي الله يوسف ميل إلى ما يدعونه إليه.
فيكون معنى التفضيل في ﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ المبالغة في شدة جدل الإنسان، بحيث يتفوق على كلّ من يمكن أن يتصف به.
ولطبيعة الإنسان دور في نزوعه نحو كثرة الجدل، فإلى جانب قدرات التعقل والتفكير، هناك الدوافع والنوازع النفسية، فلا تبقى الأفكار لديه في إطارها العقلي الفكري، بل يتأثر موقفه منها بالأهواء والشهوات والمصالح، فيشتدّ جدله داخل نفسه، وجدله مع الآخرين!
قد يتضح له أنّ الفكرة صحيحة، لكنها تتضارب مع مصالحه، وتتعارض مع أهوائه وشهواته، لذلك لا يتقبل الرأي الآخر بسهولة.
يقول السيد المدرسي في تفسيره (من هدى القرآن): (إن كلمة ﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ﴾ إنّما هي على سبيل المبالغة، والواقع أنه لا مبالغة هناك، فلا يوجد شيء في الطبيعة أكثر جدلًا من الإنسان.
لنفترض أنّ شلالات الماء في (نياجارا) تحدث جدلًا لأنها تنزل وتصطرع مع المياه التي تصطدم بها، ولكن هذا الجدل أكثر أم جدل الأفكار؟
والتيارات المتعارضة في بعض البحار، والرياح المختلفة، والزوابع العاصفة أكثر جدلًا أم القلب، الذي تنعكس عليه كلّ تناقضات الوجود؟
وإذا بحثت فلن تجد تناقضًا قائمًا في الدنيا أكثر من ذلك الموجود في فكرك؛ لأنّ عقلك يحتوي على كلّ تناقضات الدنيا، ماديات ومعنويات، حقّ وباطل، خير وشرّ، ففكر الإنسان انعكاس لكلّ تناقضات الكون، لذلك فهو أكثر شيء تناقضًا وجدلًا) [1] .
تجليات حالة الجدل
تتفاوت تجليات حالة الجدل عند الإنسان، فكلّما زاد استخدامه لفكره وعقله زادت مناقشته للآراء والأفكار، وكلّما كانت النزعات النفسية أكثر ضغطًا زاد تردد الإنسان في قبول الأفكار أو التسليم بما يعرض عليه من آراء.
ونحن نرى في هذا العصر كيف أنّ استعداد الإنسان للنقاش والجدل أكبر بكثير من العصور الماضية، ذلك أنّ مستوى وعي الناس ومعرفتهم تقدّم كثيرًا، كما أنّ المؤثرات على أفكارهم وشخصياتهم تعددت واتسعت، فقد كان الإنسان يعيش في بيئة بسيطة، والمؤثرات التي تؤثر عليه محدودة، كما أنّ مستواه من المعرفة محدود، لذا فإنّ مناقشاته واعتراضاته وجدله الفكري كان محدودًا، أما في هذا العصر فنجد حالة النقاش محتدمة، في مختلف مجالات الحياة، في السياسة والدين والعلوم الطبيعية والفنّ والاقتصاد، فلا تجد مجالًا يرتبط بحياة الإنسان إلّا وفيه نقاشات وصراعات ومدارس وآراء متعددة، وهو أمر طبيعي.
وهنا يأتي السؤال: هل هذه الحالة إيجابية أم سلبية؟
الأصل أنّها حالة إيجابية، فهي إعمال للقدرة التي منحها الله للإنسان، فالمناقشة والحوار إعمال لقدرة التفكير، لكن ينبغي أن يتوفر النقاش والحوار على المواصفات التالية:
أولًا: استهداف المعرفة والحق
تارة يجادل الإنسان ويناقش حتى يتبيّن له الصحيح من الخطأ، كي يصل إلى الحقيقة، وهو هدف نبيل، وتارة أخرى يكون الجدل في إطار التعصب، أو إظهار الغلبة على الطرف الآخر، وهو جدل سلبي غير محبّذ، فلا بُدّ من التنبه إلى غايات النقاش وأهدافه.
ثانيًا: عدم شخصنة النقاشات
حين يكون هدف النقاش إسقاط شخصية الطرف الآخر، فإنه يبتعد بالحوار عن حقيقته وجوهره، فلا يؤدي الحوار وظيفته.
نحن نرى كيف أنّ بعض المتحاورين ينتقلون من مناقشة الفكرة وأدلتها إلى شخص الطرف الآخر، مما يؤدي إلى حالات من التشنج والخصومة.
ثالثًا: التزام أخلاقيات النقاش
لا يكفي أن يكون الهدف نبيلًا، فلا بُدّ من اعتماد الأسلوب الأمثل في النقاش، لذا نجد في القرآن الكريم طائفتين من الآيات، الأولى تدعو إلى الجدال مع اختيار أفضل أساليب الحوار، والأخرى تنهى عنه إن كان مخالفًا لمعايير الحوار وأخلاقياته.
الجدال في القرآن الكريم
الجدال من الوسائل التي ينبغي أن يستخدمها المؤمن لتبيين الفكرة التي يرى أنها حقّ، وهناك آيات في القرآن الكريم تدعو إلى الجدال، كما يأمر الله نبيه ويأمر كلّ مؤمن، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [سورة النحل، الآية: 125].
ويقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [سورة الزمر، الآية: 18].
ويقول تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [سورة البقرة، الآية: 111].
ويقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾ [سورة الأنعام، الآية: 148].
ويحكي القرآن الكريم قول قوم نوح ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ [سورة هود، الآية: 32].
فنبي الله نوح كان يناقش ويجادل، وهذا دليل على أنّ الجدل في حدّ ذاته ليس أمرًا سلبيًّا، وإنما يرتبط بالغاية والأسلوب.
في مقابل ذلك ينهى القرآن الكريم عن الجدل، حينما يكون بغير علم أو لغير هدف نبيل، يقول تعالى: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾ [سورة الحج، الآية: 3].
فهو يناقش من فراغ، كما نجد في حياتنا اليوم من يناقش موضوعًا لم يفكر فيه، ولم يقرأ عنه، لكنه يريد أن يدلي بدلوه، فهذا من الجدل بغير علم، وهو أمر مذموم منبوذ.
حين تريد أن تجادل وتقدم فكرة، أو تبدي رأيًا، أو تدافع عن فكرة، أو ترد فكرة، ينبغي أن تكون لك خلفية عن الموضوع الذي تجادل فيه، وبدون ذلك عليك أن تمتنع عن الدخول فيما لا تعلم، لا لأنّ أحدًا يمنعك أو يقمعك، بل ينبغي لك أن تمتنع عن ذلك بدافع ذاتي.
ويقول تعالى: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ [سورة غافر، الآية: 5].
أي إنّ البعض يجادل وهو يعلم أنّ جدله لمصلحة، أو لغاية ذاتية أو فئوية!
ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ [سورة غافر، الآية: 56].
أي من غير دليل وبرهان وحجة، وإنّما لخدمة أغراض في نفوسهم. فالجدل والنقاش في الآراء في حدّ ذاته وظيفة إنسانية، وهو أمر إيجابي مطلوب، شرط أن تكون الغاية نبيلة، والأسلوب مناسبًا.
النقاش في الأمور الدينية
أصبح لدى الناس ثقة بأنفسهم، ولديهم اطّلاع ومعرفة، فقد تجاوزوا حالة الأمية والجهل، وأصبحت لديهم قدرة للتعبير عن آرائهم، وامتلكوا الوسائل، فمن يستطيع إيقاف الناس؟!!
إذا استطاعت بعض الحكومات إيقاف النقاش في الشأن السياسي، فلن تستطيع منع الناس من النقاش في الشأن الديني، بل حتى لو قمعت إبداء التساؤلات فلن يعني ذلك إنهاءها، إذ ستبقى تتفاعل في النفوس، وتشقّ طريقها إلى أذهان الناس، والموقف الصحيح أن نقوي الجانب المعرفي في طرح الفكر الديني.
هناك نقاشات كبيرة ترتبط بالقضايا الدينية العقدية والفقهية، بدءًا من إثبات وجود الله تعالى، إلى النقاش حول الأنبياء والأئمة، وصلاحية بعض الأحكام والتشريعات الإسلامية في هذا العصر، وهو ما يزعج بعض المتديّنين، إذ يعتبر هذه الحالة مؤشرًا سلبيًّا!
لكن هل نستطيع أن نوقف هذه النقاشات؟!
لا يمكن ذلك، فهي واقع لا يمكن تجاوزه أو إيقافه.
والبعض يرى عدم تشجيع مثل هذه النقاشات، وعدم استقبالها، فهي (حركة تشكيكية)!!
ولنفترض ذلك، هل نستطيع أن نوقف هذه النقاشات؟!
أم نطالب الناس بـ (إيمان العجائز) كما يقولون، وينسبون إلى النبي أنه قال: (اللهم إيمانًا كإيمان العجائز)، وهذا الكلام لا أصل له ولا مصدر، وقد نسبه بعضهم إلى سفيان الثوري، ونسبه آخرون إلى الفخر الرازي.
روي أنّ عمر بن عبدالله المعتزلي قال: إنّ بين الكفر والايمان منزلة بين المنزلتين، فقالت عجوز: قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ﴾ فلم يجعل من عباده إلّا الكافر والمؤمن، فسمع سفيان كلامها فقال: عليكم بدين العجائز[2] .
والحقيقة أنّ المؤمن يبحث عن إيمان الأنبياء، وليس إيمان العجائز، فحين نقرأ القرآن الكريم نجد أن نبي الله إبراهيم يبحث عن الاطمئنان عبر الدليل، يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [سورة البقرة، الآية: 260].
هذا إيمان الأنبياء الذي يبحث عن مزيد من الأدلة والبراهين، ولا يمانع من طرح التساؤلات من أجل أن يستجلي الحقيقة.
تقوية الفكر الديني
إنّ التحديات الفكرية تدعونا إلى تطوير وتقوية الفكر الديني، وذلك عبر الأمور التالية:
1/ إنشاء مراكز أبحاث ودراسات تخصصية
وهو ما يغفل عنه كثير من المتديّنين ولا يتفهمونه، فالناس ـ بشكل عام ـ يتفاعلون مع بناء المساجد والحسينيات، لكنهم لا يدركون أهمية إنشاء المراكز العلمية.
والحقيقة أنّ المسجد والحسينية أشبه ما تكون بمكان لعرض المنتج الفكري الديني، لكننا نحتاج قبل ذلك إلى مصانع ومختبرات تنتج هذا الفكر وتطوره، بحيث لا يكون هذا المنتج المعروض هزيلًا أو ضعيفًا.
2/ التأهيل العلمي والفكري لرجل الدين
ينبغي لعالم الدين أن يتوفر على تأهيل علمي، يمكنه من الإجابة على هذه الإشكالات، فالبعض حين لا يتمكن من الإجابة، يعوّض ذلك النقص بالردود غير المناسبة، أو الشتم، والتشكيك في الأشخاص المتسائلين.
إنّ اعتذار طالب العلم عن الإجابة إن لم تكن حاضرة، ليس عيبًا، ورد عن الإمام علي : «وَلاَ يَسْتَحْيَنَّ أَحَدٌ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ، أَنْ يَقُولَ: لاَ أَعْلَمُ»[3] .
يقول الشيخ محمد جواد مغنية في مذكراته: كنت في مجلس فطرح عليَّ أحد الحضور مسألة.
فقلت له: لا أعلم، وأحتاج أن أبحث عن الإجابة.
فقال: أنت جالس في صدر المجلس، وهذا مكان من يعلم، فإذا كنت لا تعلم، لماذا تجلس هنا؟!
فأجبته: هذا مكان من يعلم شيئًا ويجهل شيئًا، أما الذي يعلم كلّ شيء فلا مكان له، وهو الله تعالى.
من جهة أخرى، علينا أن نستوعب الشباب المتسائلين أو المشككين ونحتضنهم، ونتعامل معهم بالخلق الإسلامي الرفيع؛ لأنّ التسرع في الحكم عليهم بالانحراف أو الإلحاد، أو اتباع الغرب، يدفعهم إلى التنصل من الدين ومعاداته!!
3/ فتح الخيارات الفكرية والفقهية
فلا يجبر الناس على رأي واحد في المسائل المختلف فيها، فنضطرهم إلى الجرأة على مخالفة الشرع، والخروج من الدين.
فإذا كان هناك رأي ضمن الإطار الديني، يعالج إشكالًا عقديًّا أو فقهيًّا، فلماذا نحظر تداوله بين الناس؟
وكمثال على ذلك: حكم المرتد، فالرأي المشهور هو استحقاقه للقتل، وبعض الناس لا يتقبلون هذا الرأي، ويتهمون الدين بسببه بالإرهاب والقمع، فإذا كان هناك رأي آخر لبعض علماء الإسلام، بأنّ المرتد إنما يكون حكمه القتل إذا انضم إلى معسكر الكفر، واتخذ موقف المناوأة للإسلام، فلماذا نمنع طرح مثل هذا الرأي، الذي يساعد في معالجة هذه الشبهة في أذهان المعترضين؟
نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإيّاكم للعلم والمعرفة، وأن يجعلنا من المتحلين بمكارم الأخلاق.
المصادر
[1] تفسير من هدي القرآن، ج5، ص68.
[2] العلامة المجلسي: بحار الأنوار، ج69، ص136.
[3] نهج البلاغة، حكمة رقم: 82.
اللهم صلِ على محمد واله الطاهرين
اللهم ارحمنا بمحمد واله ياكريم
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾[سورة الكهف، الآية:54].
لأنّ الإنسان كائن عاقل مفكر، فإنه ينتج الأفكار، كما يستقبلها من غيره، وحين ينتج فكرة فإنه يمرّ بمرحلة من التأمل وإعمال النظر، يقلّب المعلومات التي بين يديه، حتى يصل إلى صناعة تلك الفكرة، فهي عملية نقاش داخلي يعيشها الإنسان مع نفسه.
وإذا ما أراد أن يقدّم فكرته للآخرين، فإنّ عليه أن يعرض لهم الأدلة والبراهين لإقناعهم، وهنا يحصل نقاش خارجي، وهو ما يطلق عليه الجدل أو الجدال.
أصل كلمة جدال في اللغة مأخوذ من جدل الحبل، أي إحكام فتله.
وقال بعض اللغويين: إنّ أصل الجدل أو الجدال من الصرع، إذا دخل الإنسان مصارعة مع آخر، وأسقطه على الأرض الصلبة، يقال جدله، فالجدال مأخوذ من المصارعة، فكما يصارع الإنسان شخصًا ويسقطه أرضًا، كذلك في النقاش الفكري، يطرح فكرة ويناقش الآخرين لإثباتها، ويسعى لمغالبتهم والتغلب عليهم في النقاش فهو مصارعة وجدال.
الإنسان أكثر جدلًا
هل الجدال ومناقشة الأفكار خاصية للإنسان وحده، باعتباره كائنًا ناطقًا مفكرًا، أم أنّ هناك وجودات أخرى تمتلك هذه الخاصية؟
الآية الكريمة تقول عن الإنسان أنه ﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾، وهذا يعني أنّ هناك من يجادل، ولكن الإنسان هو الأكثر.
يرى بعض العلماء أنّ المقصود بالمجادلين الآخرين هم الملائكة والشياطين والجنّ، كما يظهر من قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾[سورة البقرة، الآية: 30].
وكذلك ما يتحدث به القرآن من جدال إبليس: ﴿قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [سورة الأعراف، الآية: 12].
ويرى بعضهم أنّ اسم التفضيل هنا ﴿وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ مسلوب المفاضلة، كقوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾، فاسم التفضيل (أهون) مسلوب المفاضلة، إذ ليس على الله ما هو أسهل وأصعب، وكقوله تعالى:
﴿السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ [سورة يوسف، الآية: 33]، إذ ليس في نفس نبي الله يوسف ميل إلى ما يدعونه إليه.
فيكون معنى التفضيل في ﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً﴾ المبالغة في شدة جدل الإنسان، بحيث يتفوق على كلّ من يمكن أن يتصف به.
ولطبيعة الإنسان دور في نزوعه نحو كثرة الجدل، فإلى جانب قدرات التعقل والتفكير، هناك الدوافع والنوازع النفسية، فلا تبقى الأفكار لديه في إطارها العقلي الفكري، بل يتأثر موقفه منها بالأهواء والشهوات والمصالح، فيشتدّ جدله داخل نفسه، وجدله مع الآخرين!
قد يتضح له أنّ الفكرة صحيحة، لكنها تتضارب مع مصالحه، وتتعارض مع أهوائه وشهواته، لذلك لا يتقبل الرأي الآخر بسهولة.
يقول السيد المدرسي في تفسيره (من هدى القرآن): (إن كلمة ﴿أَكْثَرَ شَيْءٍ﴾ إنّما هي على سبيل المبالغة، والواقع أنه لا مبالغة هناك، فلا يوجد شيء في الطبيعة أكثر جدلًا من الإنسان.
لنفترض أنّ شلالات الماء في (نياجارا) تحدث جدلًا لأنها تنزل وتصطرع مع المياه التي تصطدم بها، ولكن هذا الجدل أكثر أم جدل الأفكار؟
والتيارات المتعارضة في بعض البحار، والرياح المختلفة، والزوابع العاصفة أكثر جدلًا أم القلب، الذي تنعكس عليه كلّ تناقضات الوجود؟
وإذا بحثت فلن تجد تناقضًا قائمًا في الدنيا أكثر من ذلك الموجود في فكرك؛ لأنّ عقلك يحتوي على كلّ تناقضات الدنيا، ماديات ومعنويات، حقّ وباطل، خير وشرّ، ففكر الإنسان انعكاس لكلّ تناقضات الكون، لذلك فهو أكثر شيء تناقضًا وجدلًا) [1] .
تجليات حالة الجدل
تتفاوت تجليات حالة الجدل عند الإنسان، فكلّما زاد استخدامه لفكره وعقله زادت مناقشته للآراء والأفكار، وكلّما كانت النزعات النفسية أكثر ضغطًا زاد تردد الإنسان في قبول الأفكار أو التسليم بما يعرض عليه من آراء.
ونحن نرى في هذا العصر كيف أنّ استعداد الإنسان للنقاش والجدل أكبر بكثير من العصور الماضية، ذلك أنّ مستوى وعي الناس ومعرفتهم تقدّم كثيرًا، كما أنّ المؤثرات على أفكارهم وشخصياتهم تعددت واتسعت، فقد كان الإنسان يعيش في بيئة بسيطة، والمؤثرات التي تؤثر عليه محدودة، كما أنّ مستواه من المعرفة محدود، لذا فإنّ مناقشاته واعتراضاته وجدله الفكري كان محدودًا، أما في هذا العصر فنجد حالة النقاش محتدمة، في مختلف مجالات الحياة، في السياسة والدين والعلوم الطبيعية والفنّ والاقتصاد، فلا تجد مجالًا يرتبط بحياة الإنسان إلّا وفيه نقاشات وصراعات ومدارس وآراء متعددة، وهو أمر طبيعي.
وهنا يأتي السؤال: هل هذه الحالة إيجابية أم سلبية؟
الأصل أنّها حالة إيجابية، فهي إعمال للقدرة التي منحها الله للإنسان، فالمناقشة والحوار إعمال لقدرة التفكير، لكن ينبغي أن يتوفر النقاش والحوار على المواصفات التالية:
أولًا: استهداف المعرفة والحق
تارة يجادل الإنسان ويناقش حتى يتبيّن له الصحيح من الخطأ، كي يصل إلى الحقيقة، وهو هدف نبيل، وتارة أخرى يكون الجدل في إطار التعصب، أو إظهار الغلبة على الطرف الآخر، وهو جدل سلبي غير محبّذ، فلا بُدّ من التنبه إلى غايات النقاش وأهدافه.
ثانيًا: عدم شخصنة النقاشات
حين يكون هدف النقاش إسقاط شخصية الطرف الآخر، فإنه يبتعد بالحوار عن حقيقته وجوهره، فلا يؤدي الحوار وظيفته.
نحن نرى كيف أنّ بعض المتحاورين ينتقلون من مناقشة الفكرة وأدلتها إلى شخص الطرف الآخر، مما يؤدي إلى حالات من التشنج والخصومة.
ثالثًا: التزام أخلاقيات النقاش
لا يكفي أن يكون الهدف نبيلًا، فلا بُدّ من اعتماد الأسلوب الأمثل في النقاش، لذا نجد في القرآن الكريم طائفتين من الآيات، الأولى تدعو إلى الجدال مع اختيار أفضل أساليب الحوار، والأخرى تنهى عنه إن كان مخالفًا لمعايير الحوار وأخلاقياته.
الجدال في القرآن الكريم
الجدال من الوسائل التي ينبغي أن يستخدمها المؤمن لتبيين الفكرة التي يرى أنها حقّ، وهناك آيات في القرآن الكريم تدعو إلى الجدال، كما يأمر الله نبيه ويأمر كلّ مؤمن، يقول تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [سورة النحل، الآية: 125].
ويقول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [سورة الزمر، الآية: 18].
ويقول تعالى: ﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [سورة البقرة، الآية: 111].
ويقول تعالى: ﴿قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا﴾ [سورة الأنعام، الآية: 148].
ويحكي القرآن الكريم قول قوم نوح ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا﴾ [سورة هود، الآية: 32].
فنبي الله نوح كان يناقش ويجادل، وهذا دليل على أنّ الجدل في حدّ ذاته ليس أمرًا سلبيًّا، وإنما يرتبط بالغاية والأسلوب.
في مقابل ذلك ينهى القرآن الكريم عن الجدل، حينما يكون بغير علم أو لغير هدف نبيل، يقول تعالى: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ﴾ [سورة الحج، الآية: 3].
فهو يناقش من فراغ، كما نجد في حياتنا اليوم من يناقش موضوعًا لم يفكر فيه، ولم يقرأ عنه، لكنه يريد أن يدلي بدلوه، فهذا من الجدل بغير علم، وهو أمر مذموم منبوذ.
حين تريد أن تجادل وتقدم فكرة، أو تبدي رأيًا، أو تدافع عن فكرة، أو ترد فكرة، ينبغي أن تكون لك خلفية عن الموضوع الذي تجادل فيه، وبدون ذلك عليك أن تمتنع عن الدخول فيما لا تعلم، لا لأنّ أحدًا يمنعك أو يقمعك، بل ينبغي لك أن تمتنع عن ذلك بدافع ذاتي.
ويقول تعالى: ﴿وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ﴾ [سورة غافر، الآية: 5].
أي إنّ البعض يجادل وهو يعلم أنّ جدله لمصلحة، أو لغاية ذاتية أو فئوية!
ويقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ [سورة غافر، الآية: 56].
أي من غير دليل وبرهان وحجة، وإنّما لخدمة أغراض في نفوسهم. فالجدل والنقاش في الآراء في حدّ ذاته وظيفة إنسانية، وهو أمر إيجابي مطلوب، شرط أن تكون الغاية نبيلة، والأسلوب مناسبًا.
النقاش في الأمور الدينية
أصبح لدى الناس ثقة بأنفسهم، ولديهم اطّلاع ومعرفة، فقد تجاوزوا حالة الأمية والجهل، وأصبحت لديهم قدرة للتعبير عن آرائهم، وامتلكوا الوسائل، فمن يستطيع إيقاف الناس؟!!
إذا استطاعت بعض الحكومات إيقاف النقاش في الشأن السياسي، فلن تستطيع منع الناس من النقاش في الشأن الديني، بل حتى لو قمعت إبداء التساؤلات فلن يعني ذلك إنهاءها، إذ ستبقى تتفاعل في النفوس، وتشقّ طريقها إلى أذهان الناس، والموقف الصحيح أن نقوي الجانب المعرفي في طرح الفكر الديني.
هناك نقاشات كبيرة ترتبط بالقضايا الدينية العقدية والفقهية، بدءًا من إثبات وجود الله تعالى، إلى النقاش حول الأنبياء والأئمة، وصلاحية بعض الأحكام والتشريعات الإسلامية في هذا العصر، وهو ما يزعج بعض المتديّنين، إذ يعتبر هذه الحالة مؤشرًا سلبيًّا!
لكن هل نستطيع أن نوقف هذه النقاشات؟!
لا يمكن ذلك، فهي واقع لا يمكن تجاوزه أو إيقافه.
والبعض يرى عدم تشجيع مثل هذه النقاشات، وعدم استقبالها، فهي (حركة تشكيكية)!!
ولنفترض ذلك، هل نستطيع أن نوقف هذه النقاشات؟!
أم نطالب الناس بـ (إيمان العجائز) كما يقولون، وينسبون إلى النبي أنه قال: (اللهم إيمانًا كإيمان العجائز)، وهذا الكلام لا أصل له ولا مصدر، وقد نسبه بعضهم إلى سفيان الثوري، ونسبه آخرون إلى الفخر الرازي.
روي أنّ عمر بن عبدالله المعتزلي قال: إنّ بين الكفر والايمان منزلة بين المنزلتين، فقالت عجوز: قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ﴾ فلم يجعل من عباده إلّا الكافر والمؤمن، فسمع سفيان كلامها فقال: عليكم بدين العجائز[2] .
والحقيقة أنّ المؤمن يبحث عن إيمان الأنبياء، وليس إيمان العجائز، فحين نقرأ القرآن الكريم نجد أن نبي الله إبراهيم يبحث عن الاطمئنان عبر الدليل، يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [سورة البقرة، الآية: 260].
هذا إيمان الأنبياء الذي يبحث عن مزيد من الأدلة والبراهين، ولا يمانع من طرح التساؤلات من أجل أن يستجلي الحقيقة.
تقوية الفكر الديني
إنّ التحديات الفكرية تدعونا إلى تطوير وتقوية الفكر الديني، وذلك عبر الأمور التالية:
1/ إنشاء مراكز أبحاث ودراسات تخصصية
وهو ما يغفل عنه كثير من المتديّنين ولا يتفهمونه، فالناس ـ بشكل عام ـ يتفاعلون مع بناء المساجد والحسينيات، لكنهم لا يدركون أهمية إنشاء المراكز العلمية.
والحقيقة أنّ المسجد والحسينية أشبه ما تكون بمكان لعرض المنتج الفكري الديني، لكننا نحتاج قبل ذلك إلى مصانع ومختبرات تنتج هذا الفكر وتطوره، بحيث لا يكون هذا المنتج المعروض هزيلًا أو ضعيفًا.
2/ التأهيل العلمي والفكري لرجل الدين
ينبغي لعالم الدين أن يتوفر على تأهيل علمي، يمكنه من الإجابة على هذه الإشكالات، فالبعض حين لا يتمكن من الإجابة، يعوّض ذلك النقص بالردود غير المناسبة، أو الشتم، والتشكيك في الأشخاص المتسائلين.
إنّ اعتذار طالب العلم عن الإجابة إن لم تكن حاضرة، ليس عيبًا، ورد عن الإمام علي : «وَلاَ يَسْتَحْيَنَّ أَحَدٌ إِذَا سُئِلَ عَمَّا لاَ يَعْلَمُ، أَنْ يَقُولَ: لاَ أَعْلَمُ»[3] .
يقول الشيخ محمد جواد مغنية في مذكراته: كنت في مجلس فطرح عليَّ أحد الحضور مسألة.
فقلت له: لا أعلم، وأحتاج أن أبحث عن الإجابة.
فقال: أنت جالس في صدر المجلس، وهذا مكان من يعلم، فإذا كنت لا تعلم، لماذا تجلس هنا؟!
فأجبته: هذا مكان من يعلم شيئًا ويجهل شيئًا، أما الذي يعلم كلّ شيء فلا مكان له، وهو الله تعالى.
من جهة أخرى، علينا أن نستوعب الشباب المتسائلين أو المشككين ونحتضنهم، ونتعامل معهم بالخلق الإسلامي الرفيع؛ لأنّ التسرع في الحكم عليهم بالانحراف أو الإلحاد، أو اتباع الغرب، يدفعهم إلى التنصل من الدين ومعاداته!!
3/ فتح الخيارات الفكرية والفقهية
فلا يجبر الناس على رأي واحد في المسائل المختلف فيها، فنضطرهم إلى الجرأة على مخالفة الشرع، والخروج من الدين.
فإذا كان هناك رأي ضمن الإطار الديني، يعالج إشكالًا عقديًّا أو فقهيًّا، فلماذا نحظر تداوله بين الناس؟
وكمثال على ذلك: حكم المرتد، فالرأي المشهور هو استحقاقه للقتل، وبعض الناس لا يتقبلون هذا الرأي، ويتهمون الدين بسببه بالإرهاب والقمع، فإذا كان هناك رأي آخر لبعض علماء الإسلام، بأنّ المرتد إنما يكون حكمه القتل إذا انضم إلى معسكر الكفر، واتخذ موقف المناوأة للإسلام، فلماذا نمنع طرح مثل هذا الرأي، الذي يساعد في معالجة هذه الشبهة في أذهان المعترضين؟
نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإيّاكم للعلم والمعرفة، وأن يجعلنا من المتحلين بمكارم الأخلاق.
المصادر
[1] تفسير من هدي القرآن، ج5، ص68.
[2] العلامة المجلسي: بحار الأنوار، ج69، ص136.
[3] نهج البلاغة، حكمة رقم: 82.
تعليق