✨ الشبهة :
ولابن كثير في تاريخه ٥ : ٢١٤ شبهة أخرى في تدعيم إنكاره للحديث ، وهي : حسبان أنّ ما فيه من أنّ صوم يوم الغدير يعدل ستّين شهراً يستدعي تفضيل المستحبّ على الواجب ، لأنّ الوارد في صوم شهر رمضان كلّه أنّه يقابل بعشرة أشهر ، وهذا منكر من القول باطل! انتهى
✅ الجواب :
ويقال في دحض هذه المزعمة بالنقض تارة ، وبالحلّ أخرى :
اولا : أمّا النقض : فبما جاء من أحاديث جمّة لا يسعنا ذكر كلّها ، بل جلّها ( مما يدل على زيادة الثواب لبقية الاشهر على شهر رمضان )،
ونقتصر منها بعدّة أحاديث ،
وهي :
1 - حديث من صام رمضان ثمّ أتبعه بستّ من شوال فكأنّما صام الدهر.
أخرجه مسلم بعدّة طرق في صحيحه ١ : ٣٢٣ ، وأبو داود في سننه ١ : ٣٨١ ، وابن ماجة في سننه ١ : ٥٢٤ ، والدارمي في سننه ٢ : ٢١ ، وأحمد في مسنده ٥ : ٤١٧ و ٤١٩ ، وابن الديبع في تيسير الوصول ٢ : ٣٢٩ نقلاً عن الترمذي ومسلم ،
وعليه أسند قوله كلّ مَن ذهب إلى استحباب صوم هذه الأيّام الستّة.
٢ - حديث من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة.
أخرجه ابن ماجة في سننه ١ : ٥٢٤ ، والدارمي في سننه ٢ : ٢١ ، وأحمد في مسنده ٣ : ٣٠٨ و ٣٢٤ و ٣٤٤ و ٥ : ٢٨٠ ، والنسائي وابن حبان في سننهما وصحّحه السيوطي في الجامع الصغير ٢ : ٧٩ .
٣ - كان رسول الله صلىاللهعليهواله يأمر بصيام الأيّام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة ويقول : «هو كصوم الدهر أو كهيئة الدهر».
أخرجه ابن ماجة في سننه ١ : ٥٢٢ (٦) ، والدارمي في سننه ٢ :١٩.
٤ ـ ما من أيّام الدنيا أيّام أحبّ إلى الله سبحانه أن يتعبّد له فيها من أيّام العشر في ذي الحجّة ، وأنّ صيام يوم فيها ليعدل صيام سنة وليلة فيها بليلة القدر.
أخرجه ابن ماجة في سننه ١ : ٥٢٧ ، والغزالي في إحياء العلوم ١ : ٢٢٧ وفيه : من صام ثلاثة أيّام من شهر حرام : الخميس والجمعة والسبت كتب الله له بكلّ يوم عبادة تسعمائة عام .
٥ ـ عن أنس بن مالك قال : كان يقال في أيّام العشر بكلّ يوم ألف يوم ، ويوم عرفة عشرة آلاف يوم. قال : يعني في الفضل.
أخرجه المنذري في الترغيب والترهيب ٢ : ٦٦ ، نقلاً عن البيهقي والإصبهاني (٣).
٦ ـ صيام ثلاثة أيّام من كلّ شهر صيام الدهر وإفطاره.
أخرجه أحمد في مسنده ٥ : ٣٤ ، وابن حبان في صحيحه ، وصحّحه السيوطي في الجامع الصغير ٢ : ٧٨ ، وأخرجه النسائي ، وأبو يعلى في مسنده ، والبيهقي عن جرير بلفظ : صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر صيام الدهر ، كما في الجامع الصغير ٢ : ٧٨ ، وأخرج الترمذي والنسائي كما في تيسير الوصول ٢ : ٣٣٠ : من صام من كلّ شهر ثلاثة أيام فذلك صيام الدهر ، فأنزل الله تعالى تصديق ذلك في كتابه : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) ، اليوم بعشرة أيام ، وأخرجه بلفظ يقرب من هذا مسلم في صحيحه ١ : ٣١٩ و ٣٢١ ، وأخرج النسائي من حديث جرير : صيام ثلاثة أيام من كلّ شهر كصيام الدهر ثلاث أيام البيض ، وأخرجه الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب ٢ : ٣٣ ، وذكره ابن حجر في سبل السلام ٢ : ٢٣٤ وصحّحه .
٧ ـ صيام يوم عرفة كصيام ألف يوم.
أخرجه ابن حبان عن عائشة كما في الجامع الصغير ٢ : ٧٨ ( ، وأخرجه الطبراني في الأوسط ، والبيهقي كما في الترغيب والترهيب ٢ : ٢٧ و ٦٦ .
٨ ـ عن عبد الله بن عمر قال : كنّا ونحن مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم نعدل صوم يوم عرفة بسنتين.
رواه الطبراني في الأوسط ، وهو عند النسائي بلفظ : سنة ، كما في الترغيب والترهيب ٢ : ٢٧ .
٩ ـ من صام يوم سبع وعشرين من رجب كتب الله تعالى له صيام ستين شهراً.
أخرجه الحافظ الدمياطي في سيرته كما في السيرة الحلبية ١ : ٢٥٤ ، ورواه الصفوري في نزهة المجالس ١ : ١٥٤.
١٠ ـ عن أبي هريرة وسلمان عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ في رجب يوماً وليلة من صام ذلك اليوم وقام تلك الليلة كان له من الأجر كمن صام مائة سنة وقامها ، وهي : لثلاث بقين من رجب».
رواه الشيخ عبد القادر الجيلاني في غنية الطالبين ، كما في نزهة المجالس للصفوري ١ : ١٥٤.
١١ ـ شهر رجب شهرٌ عظيمٌ ، من صام منه يوماً كتب الله له صوم ثلاثة آلاف سنة.
رواه الكيلاني في غنيته ، كما في نزهة المجالس للصفوري : ١٥٣ (٢).
١٢ ـ من صام يوم عاشوراء فكأنما صام الدهر كلّه ، مكتوب في التوراة.
ذكره الصفوري في نزهته ١ : ١٧٤ .
١٣ ـ من صام يوماً من المحرّم فله بكلّ يوم ثلاثون يوماً.
رواه الطبراني في الصغير ، كما ذكره الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب ٢ : ٢٨ .
ثانيا : وأمّا الحلّ ، فليس عندنا أصل مسلّم يركن إليه في لزوم زيادة أجر الفرائض على المثوبة في المستحبات ، بل أمثال الأحاديث السابقة في النقض ترشدنا إلى إمكان العكس ، بل وقوعه ، وتؤكّد ذلك الأحاديث الواردة في غير الصيام من الأعمال المرغّب فيها.
على أنّ المثوبة واقعة تجاه حقائق الأعمال ومقتضياتها الطبيعية ، لا ما يعروها من عوارض كالوجوب والندب حسب المصالح المقترنة بها ، فليس من المستحيل أن يكون في طبع المندوب في ماهيّات مختلفة ، أو بحسب المقارنات المحتفّة به في المتّحدة منها ، ما يوجب المزيد له.
ويقال في المقام : إنّ ترتّب المثوبة على العمل إنّما هو بمقدار كشفه عن حقيقة الإيمان ، وتوغّله في نفس العبد ، وممّا لا شك فيه أنّ الإتيان بما هو زائدٌ على الوظائف المقرّرة من الواجبات وترك المحرّمات من المستحبات والتجنّب عن المكروهات أكشف عن ثبات العبد في مقام الامتثال ، وخضوعه لمولاه ، وحبّه له ، وبه يكمل الإيمان ، ولم يزل العبد يتقرّب به إلى المولى سبحانه حتى أحبه كما ورد فيما أخرجه البخاري في صحيحه ٩ : ٢١٤ عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ الله عزوجل قال : ما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتى أُحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده الّذي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ...» الحديث .
بل من الممكن أن يُقال : إنّه ليس في نواميس العدل ما يحتّم ترتيب أجر على إقامة الواجب وترك المحرّم ، زائداً على ما منح به من الحياة والعقل والعافية ومُؤن الحيات ، ومعدّات العمل ، والنجاة من النار في الآخرة ، بل إنّ كلًّا من هاتيك النعم الجزيلة يصغر عنه صالحات العبد جمعاء ، وليس هناك إلّا الفضل.
وهذا الذي يستفاد من غير واحد من آيات الكتاب العزيز ، نظير قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) سورة الدخان ، فكلّ ما هناك من النعيم والمثوبات إنّما هو بفضله وإحسانه سبحانه وتعالى.
قال الفخر الرازي في تفسيره ٧ : ٤٥٩ : احتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ الثواب يحصل تفضّلاً من الله تعالى لا بطريق الاستحقاق ، لأنّه تعالى لَمّا عدد أقسام ثواب المتّقين بيّن أنّها بأسرها إنّما حصلت على سبيل الفضل والإحسان من الله تعالى ... ثمّ قال تعالى : (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، واحتجّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ التفضيل أعلى درجة من الثواب المستحق ، فإنّه تعالى وصفه بكونه فضلاً من الله ، ثمّ وصف الفضل من الله بكونه فوزاً عظيماً ، ويدل عليه أيضاً أنّ الملك العظيم إذا أعطى الأجير أجرته ثمّ خلع على إنسان آخر ، فإنّ تلك الخلعة أعلى حالاً من إعطاء تلك الأجرة. انتهى .
وقال ابن كثير نفسه في الآية الشريفة في تفسيره ٤ : ١٤٧ : ثبت في الصحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنّه قال : «اعملوا وسدّدوا وقاربوا واعلموا ، انّ أحداً لن يُدخله عمله الجنّة» ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله! قال : «ولا أنا ، إلّا أن يتغمّدني الله برحمةٍ منه وفضل» انتهى.
وبوسعك استشعار هذا المعنى من الصحيح الذي أخرجه البخاري في صحيحه ٤ : ٢٦٤ عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «حقّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وحقّ العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً» .
وأنت جدّ عليم بأنّ هذا المقدار من الحق الثابت على الله للعباد إنّما هو بتقرير العقل السليم ، وأمّا الزائد عليه من النعيم الساكت عنه نبي البيان فليس إلّا الفضل والإحسان من المولى سبحانه.
وأنت تجد في معاملات الدول مع أفراد الموظفين أنه ليس بإزاء واجباتهم وعدم الخيانة فيها من الأجر إلّا الرتبة والراتب ، وإنّما يحظى أحدهم بترفيع في المرتبة أو زيادة في الرتبة بخدمة زائدة على مقرّراتها عليهم ، وليس في الناس من ينقم على الحكومات ذلك ، وهذه الحالة عيناً جاريةٌ بين الموالي والعبيد ، وهي من الارتكازات المرتسخة في نفسيات البشر كلّهم ، غير أنّ الله سبحانه بفضله المتواصل يثيب العاملين بواجبهم بأُجور جزيلة.
وهاهنا كلمةٌ قدسيّة لسيّدنا ومولانا زين العابدين الإمام الطاهر عليّ بن الحسين صلوات الله عليهما وآلهما ، لا منتدح عن إثباتها ، وهي قوله في دعائه إذا اعترف بالتقصير عن تأدية الشكر من صحيفته الشريفة :
اللهم إنّ أحداً لا يَبْلُغُ مِنْ شُكْرِكَ غايةً إلّا حَصَلَ عَلَيْهِ مِنْ إحسَانِكَ مَا يُلزِمُهُ شُكْراً ، ولَا يَبلُغُ مَبْلغاً مِنْ طَاعَتِكَ وإن اجْتَهَدَ إلّا كانَ مُقصِّراً دُونَ استِحقَاقِكَ بِفَضْلِكَ ، فَأشْكَرُ عِبَادِكَ عَاجِزٌ عَنْ شُكْرِكَ ، وأعبدُهُمْ مُقصّرٌ عَنْ طَاعَتِكَ ، لا يَجِبُ لأَحدٍ أنْ تَغفِرَ لَهُ بِاستِحقاقِهِ ، ولَا أنْ تَرْضَى عَنهُ باستِيجابِهِ ، فَمَنْ غفرتَ لهُ فَبِطَولِكَ ، ومَنْ رَضِيتَ عَنهُ فَبفَضلِكَ ، تَشْكُرُ يَسيرَ مَا شُكِرتَ بهِ ، وتُثيبُ علَى قَليلِ ما تُطاعُ فيهِ ، حتَّى كأنَّ شُكْرَ عِبَادِكَ الّذي أَوْجَبْتَ عليهم ثَوابَهُمْ ، وأعظَمْتَ عَنهُ جَزاءهُمْ ، أمرٌ مَلكُوا استطاعَةَ الامتِنَاعِ مِنهُ
دُونَك فَكافَيتَهمْ ، أو لم يكُنْ سبُبهُ بيَدِكَ فجازَيتُهمْ ، بَلْ ملَكْتَ يا إِلهي أمرهُمْ قَبلَ انْ يَملِكُوا عَبادَتَكَ ، واعْدَدْتَ ثَوابهُم قَبلَ أَنْ يُفيضُوا في طَاعَتِكَ ، وذلِكَ أنَّ سُنَّتكَ الإفضالُ ، وَعادَتكَ الإحسَانُ ، وَسَبيلكَ العفْوُ.
فَكُلُّ البريَّةِ مُعْترفَةٌ بأنَّكَ غيرُ ظالمٍ لِمنْ عاقَبتَ ، وشَاهِدَةٌ بانّكَ متفضِّلٌ على مَنْ عَافيتَ ، وكلٌّ مُقرٌّ على نفسِهِ بالتقصيرِ عمّا استوجبتَ ، فَلو انَّ الشَّيطَانَ يختدعُهم عَنْ طاعَتِكَ ، ما عَصَاكَ عاصٍ ، ولو لا أنَّه صَوَّر لَهمُ الباطِلَ في مِثالِ الحقِّ ما ضلَّ عن طريقِكَ ضَالٌّ.
فسبحانَكَ ما أبينَ كرَمَكَ في مُعامَلَةِ مَن أطَاعَك أو عَصاكَ ، تشكُرُ للمُطيعِ ما أنتَ تولَّيْتَهُ لهُ ، وتُملي للعاصي فيما تَملِكُ مُعاجلَته فيهِ ، أعطَيتَ كلًّا منهُمَا ما لَمْ يجِبْ لهُ ، وتفضَّلْتَ عَلى كل منهُما بما يقصُرُ عملُهُ عنهُ.
وَلوْ كافأتَ المُطيعَ على ما أنتَ تولَّيْتَهُ لأوشكَ انْ يَفقِدَ ثوابَكَ ، وأنْ تزُول عَنهُ نِعمتُكَ ، ولكنَّكَ بكَرَمِكَ جازيتَهُ علَى المدَّةِ القَصِيرَةِ الفانيةِ بالمدَّةِ الطَّويلةِ الخَالِدَةِ ، وعلى الغايَةِ القَريبةِ الزَّائِلةِ بالغايَةِ المَدِيدَةِ البَاقِية.
ثمَّ لم تَسُمهُ القِصاصَ فيما أكَلَ مِن رزقِكَ الّذي يقوَى بهِ على طَاعتِكَ ، ولم تحمِلهُ على المُناقشَاتِ في الآلاتِ الّتي تسبَّبَ باستعمالِهَا إلى مغفِرتكَ ، ولو فعلتَ ذلِكَ بهِ لذَهَب بجمِيعِ ما كَدَحَ لهُ ، وجُملةِ ما سعَى فيهِ ، جَزاءً للصُّغرى مِن أياديكَ ومِننِكَ ، وَلبَقيَ رهيناً بينَ يَديكَ بسائِر نعمِكَ ، فَمتى كانَ يَستحِقُّ شيئاً مِن ثَوابِكَ؟! لا! مَتى؟ ... إلى آخره .
وفي يوم الغدير صلاةٌ ألّف فيها أبو النضر العيّاشي ، والصابونيُّ المصري كتاباً مفرداً ، راجع فيها وفي الأدعية المأثورة يوم ذاك إلى التآليف المعدَّة لها.
المصدر : عيد الغدير في الإسلام
الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي
تعليق