كتب النبي ( صلَّى الله عليه و آله ) كتاباً إلى " أبي حارثة " أسقف نَجران دعا فيه أهالي نَجران إلى الإسلام ، فتشاور أبو حارثة مع جماعة من قومه فآل الأمر إلى إرسال وفد مؤلف من ستين رجلاً من كبار نجران و علمائهم لمقابلة الرسول ( صلَّى الله عليه و آله ) و الاحتجاج أو التفاوض معه ، و ما أن وصل الوفد إلى المدينة حتى جرى بين النبي و بينهم نقاش و حوار طويل لم يؤد إلى نتيجة ، عندها أقترح عليهم النبي المباهلة ـ بأمر من الله ـ فقبلوا ذلك و حددوا لذلك يوما ، و هو اليوم الرابع و العشرين من شهر ذي الحجة سنة : 10 هجرية .
لكن في اليوم الموعود عندما شاهد وفد نجران أن النبي ( صلَّى الله عليه و آله ) قد إصطحب أعز الخلق إليه و هم علي بن أبي طالب و ابنته فاطمة و الحسن و الحسين ، و قد جثا الرسول ( صلَّى الله عليه و آله ) على ركبتيه استعداداً للمباهلة ، انبهر الوفد بمعنويات الرسول و أهل بيته و بما حباهم الله تعالى من جلاله و عظمته ، فأبى التباهل .
قال العلامة الطريحي ـ صاحب كتاب مجمع البحرين ـ : و قالوا : حتى نرجع و ننظر ، فلما خلا بعضهم إلى بعض قالوا للعاقِب و كان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ما ترى ؟ قال والله لقد عرفتم أن محمداً نبي مرسل و لقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم ، والله ما باهَل قومٌ نبيًّاً قط فعاش كبيرهم و لا نبت صغيرهم ، فإن أبيتم إلا إلف دينكم فوادعوا الرجل و انصرفوا إلى بلادكم ، و ذلك بعد أن غدا النبي آخذاً بيد علي و الحسن و الحسين ( عليهم السَّلام ) بين يديه ، و فاطمة ( عليها السَّلام ) خلفه ، و خرج النصارى يقدمهم أسقفهم أبو حارثة ، فقال الأسقف : إني لأرى و جوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً لأزاله بها ، فلا تباهلوا ، فلا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، فقالوا : يا أبا القاسم إنا لا نُباهِلَك و لكن نصالحك ، فصالحهم رسول الله ( صلَّى الله عليه و آله ) على أن يؤدوا إليه في كل عام ألفي حُلّة ، ألف في صفر و ألف في رجب ، و على عارية ثلاثين درعاً وعارية ثلاثين فرساً وثلاثين رمحا .
و قال النبي ( صلَّى الله عليه و آله ) : " و الذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلّى على أهل نجران ، و لو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير و لأضطرم عليهم الوادي نارا ، و لما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا ".
إن دعوة الرسول الاكرم صلوات الله عليه لنصارى نجران للمباهلة معهم بعد فتح مكة سنة 10 للهجرة وبعدما جاء الأمر والتوثيق الإلهي لهذه الحادثة ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ) .. ال عمران 61 ، وما تبعه من انسحاب النصارى من المباهلة لهي حجة وبرهان ونصر وفضيلة للإسلام كدين ولمذهب أهل البيت ع خاصة وهذا ما نريد الإشارة إليه في مقالنا هذا ..
- أما للإسلام فهي واضحة ولا تحتاج إلى مزيد بيان ، فانسحاب النصارى دليل كذبهم الذي صرحت به الآية المباركة وبالتالي وهن عقيدتهم وإيمانهم أمام رسالة الإسلام ونبوة خاتم الأنبياء ص وآله ، بل الأمر لم يقتصر على الانسحاب من المباهلة وإنما تعدّى إلى التصريح بالخوف من المباهلة والفضل لأصحاب المباهلة في الطرف الإسلامي والخضوع للصلح كما نقلناه في القصة في أعلاه .
- أما المذهب : فهي من حوادث ومناسبات المذهب الذي يتخذ هؤلاء الخمسة أئمة وقادة في الدين والدنيا ومن براهين حقانيته على كل من شرّق وغرّب عنهم ، فضلاً عمّن ظلمهم واغتصب حقهم وقتلهم ، اما كيف تكون هذه الحادثة برهان حقانية المذهب فلأنها كانت ولا زالت حجة يحتج بها على الفضل بل الأفضلية لهؤلاء الخمسة على سائر المسلمين الذين كان بهم كبار الصحابة وجهابذة القوم ..
وقد احتج بها الإمام الرضا ع على المأمون ، نقل الشيخ الصدوق رضوان الله تعالى عليه : قال المأمون للرضا عليه السلام : أخبرني بأكبر فضيلة لاَمير المؤمنين عليه السلام يدل عليها القرآن..؟
فقال له الرضا عليه السلام : فضيلته في المباهلة ، قال الله جل جلاله: (فَمَن حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعدِ مَا جاءَك مِنَ العِلمِ فَقُل تَعَالَوا نَدعُ أبنَاءَنَا وأَبنَاءَكُم وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُم وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِل فَنَجعَل لَّعنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِينَ) فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله الحسن والحسين عليهما السلام فكانا ابنيه ودعا فاطمة عليها السلام فكانت في هذا الموضع نساءه ، ودعا أمير المؤمنين عليه السلام فكان نفسه بحكم الله عزّ وجلّ ، وقد ثبت أنّه ليس أحد من خلق الله سبحانه أجل من رسول الله صلى الله عليه وآله وأفضل فوجب أن لا يكون أحد أفضل من نفس رسول الله صلى الله عليه وآله بحكم الله عزّ وجلّ .
فقال له المأمون : أليس قد ذكر الله الاَبناء بلفظ الجمع وإنّما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله ابنيه خاصة وذكر النساء بلفظ الجمع وإنّما دعا رسول الله صلى الله عليه وآله ابنته وحدها فلم لا جاز أن يذكر الدعاء لمن هو نفسه ويكون المراد نفسه في الحقيقة دون غيره فلا يكون لاَمير المؤمنين عليه السلام ما ذكرت من الفضل..،
فقال له الرضا عليه السلام : ليس بصحيح ما ذكرت يا أمير المؤمنين ، وذلك أن الداعي إنّما يكون داعياً لغيره ، كما يكون الآمر آمراً لغيره ، ولا يصح أن يكون داعياً لنفسه في الحقيقة ، كما لا يكون آمراً لها في الحقيقة ، وإذا لم يدع رسول الله صلى الله عليه واله رجلاً في المباهلة إلاّ أمير المؤمنين عليه السلام فقد ثبت أنه نفسه التي عناها الله تعالى في كتابه ، وجعل حكمه ذلك في تنزيله ..
قال: فقال المأمون : إذا ورد الجواب سقط السؤال
فالمباهلة من الحجج بمنزلة الكي من الدواء .. قيل أن آخر الدواء الكي ، وهو مثل يضرب للتعبير عن عجز جميع الحيل والتدابير الخاصة بمعالجة مشكلة معينة والاضطرار لحلول نتيجتها أحد طرفي نقيض اما الحل النهائي واما التعقيد النهائي ..
والابتهال ( من المباهلة ) شبيه بهذا الأمر ، فبعد الوصول إلى طريق مسدود في مراتب وأشكال الأمر بالمعروف والدعوة إلى الحق يصار إلى طرق هي قاطعة ونهائية لا تقبل التكذيب ولا الشك ..
فهي إذن سلاح وآلية وطريقة موجودة في الدين الإسلامي ثبتتها هذه الواقعة وشرّعتها ، ولهذا فإن لها شروطاً وأحكاماً وطريقة وصيغة خاصة يقول بها الفقهاء ويحكموا مفاصلها ..
وأرى أن هنالك تدابير قريبة من هذا المفهوم قد قطعت جميع حجج الآخر قام بها الأئمة صلوات الله عليهم ..
* كقضية المرأة التي ادّعت انها السيدة زينب ع أيام الإمام الهادي ع ، والتجؤا حينها إلى الأمام ع لبيان حقيقة أمرها ، فاستعمل معها آخر كاشف من كواشف حقيقة أمرها وهي رميها إلى الوحوش ، فإذا لم تفترسها فهي على حق وان افترستها فهي كاذبة ومفترية .. فوضع الإمام قاعدة قاطعة لا تقبل التخلف ولا الاختلاف لكل مدعي انه أمام معصوم أو من أهل بيت العصمة ..
* ومثلها مسألة التكلم مع الحجر الأسود ومعرفة الإمام الحق من الباطل ، هذه الحجة الكاشفة عن ذلك والتي وضعها الإمام زين العابدين وهذه هي القصة : لما قتل الحسين (عليه السلام) أرسل محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين (عليهما السلام) فخلا به فقال له : يا ابن أخي قد علمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) دفع الوصية والإمامة من بعده إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ثم إلى الحسن (عليه السلام) ، ثم إلى الحسين (عليه السلام) وقد قتل أبوك رضي الله عنه وصلى على روحه ولم يوص وأنا عمك وصنو أبيك وولادتي من علي (عليهما السلام) في سني وقديمي أحق بها منك في حداثتك، فلا تنازعني في الوصية والإمامة ولا تحاجني ، فقال له علي بن الحسين (عليهما السلام) : يا عم اتق الله ولا تدع ما ليس لك بحق إني أعظك أن تكون من الجاهلين إن أبي يا عم صلوات الله عليه أوصى إلي قبل ان يتوجه إلى العراق وعهد إلي في ذلك قبل أن يستشهد بساعة ، وهذا سلاح رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندي ، فلا تتعرض لهذا فإني أخاف عليك نقص العمر وتشتت الحال ، إن الله عز وجل جعل الوصية والإمامة في عقب الحسين (عليه السلام) فإذا أردت أن تعلم ذلك فانطلق بنا إلى الحجر الأسود حتى نتحاكم إليه ونسأله عن ذلك .
قال أبو جعفر (عليه السلام) : وكان الكلام بينهما بمكة ، فانطلقا حتى أتيا الحجر الأسود ، فقال علي بن الحسين لمحمد بن الحنفية : ابدأ أنت فابتهل إلى الله عز وجل وسله ان ينطق لك الحجر ثم سل ، فابتهل محمد في الدعاء وسأل الله ثم دعا الحجر ، فلم يجبه .. فقال علي بن الحسين (عليه السلام) : يا عم لو كنت وصياًوإماما لأجابك ، قال له محمد : فادع الله أنت يا ابن أخي وسله ..
فدعا الله علي بن الحسين (عليه السلام) بما أراد ثم قال : أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء وميثاق الأوصياء وميثاق الناس أجمعين لما أخبرتنا من الوصي والإمام بعد الحسين بن علي (عليهما السلام) قال : فتحرك الحجر حتى كاد أن يزول عن موضعه ، ثم أنطقه الله عز وجل بلسان عربي مبين ، فقال : اللهم إن الوصية والإمامة بعد الحسين بن علي (عليهما السلام) إلى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال : فانصرف محمد بن علي وهو يتولى علي بن الحسين (عليهما السلام) / شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ٦
والحمد لله على نعمة الدين ونعمة ولاية امير المؤمنين ع
تعليق