تتميز كلُّ شعيرةٍ من شعائر إحياء القضية الحسينية بشكلها وأسلوبها الخاص ، فهي من جهةٍ عبارة عن تراث ديني ، ومن جهةٍ أخرى تُعتبر فلكوراً شعبياً له تقاليده وعاداته وموروثاته المتراكمة والتي باتت بمرور الزمن قوانيناً صارمة لا يَسمح القائمون عليها بتجاوزها أو الإعتداء على حرمتها ..
والفلكور الشعبي - بحسب بعض التعريفات - يمثّل : ( حكمة الشعب ومأثوراته ) ، ويسمّى ايضاً ب ( علم الشعوب ) ، ولقد ( تطوّرت وتقدّمت مناهج علم الفلكلور وإتسع مجال بحثه ليشمل مختلف أوجه النشاط الخلّاق للإنسان في بيئته وارتباطه بالثقافة الإنسانية ككل ) .. راجع ويكيبيديا ، مادة - فلكور - .
فالشعائر الحسينية من هذا الجانب عبارة عن طقوسٍ وعادات فلكورية اختص بها مذهب التشيّع والمفجوعون بمصيبة ابي عبدالله الحسين عليه السلام في كربلاء ، يُظهرون من خلالها صوراً ومظاهراً متعددة تترجم الى الخارج مدى الألم والحزن الذي يشعرون به على هذا المصاب الجلل ، ويؤدّون ايضاً عن طريقها التزامات شرعية وعقائدية ارتبطت وتعلّقت بهذه القضية المباركة ..
وقد تخرج بعض هذه الشعائر في البدء وهي تحمل ثقافة بلدٍ معيّن او زمان محدّد في طريقة التعبير عن المشاعر المختلفة ، ولكنها بعد ذلك نراها تُصدّر الى أماكن أخرى وتخلّد لأزمان طويلة .. وعملية التصدير هذه لبعض هذه الشعائر قد تواجه في أول الأمر رفضاً او انتقاداً بسبب تعارضها مع موروثات وأعراف بلدان أخرى فيما يخصّ التعبير عمّا ينطوي عليه داخل الإنسان من احاسيس ومعتقدات.. لحين تقبّلها واستساغتها فيما بعد من قبلهم بنسبة معينة تكبر أو تصغر ..
ولم تكن المحافظة على هذه الشعائر وإستمرار إقامتها بالأمر الهيّن والسهل منذ استشهاد ابي عبد الله عليه السلام الى يومنا هذا ، فقد مرّت بفترات عصيبة دفع شيعة أهل البيت من أجلها أنفسهم وبذلوا في سبيل استمرارها الغالي والنفيس ، فحاربها الطغاة وناوءها المتسلّطون ، تختفي لفترة بسبب التضييق وشنّ الحرب السياسية والعقائدية ضدها ، ثم تُستثمر بعض الظروف المؤاتية لأتباع أهل البيت ع ويُخرجونها الى العلن لفترة اخرى ايضا .. وهكذا ..
الى هنا الكلام واضح وسليم ، الا أننا بحاجة اليوم الى ان تكون هذه الشعائر تابعة في مظهرها ومضمونها الى الثقافة الدينية الإسلامية اكثر من تابعيتها لثقافات البلدان والجماعات المتعددة ، ان تكون معبّرة عن الإسلام أكثر من تعبيرها عن المسلمين على اختلاف حضاراتهم وأعرافهم وثقافاتهم .. وبهذا سنتجاوز عدد من المحاذير ونقتطف عدد من الثمرات ، فنتجاوز المحاذير الشرعية التي قد تقترف ، ونضمن بها الثواب والأجر ، ونعكس على القضية الصبغة الإسلامية ، ونبتعد عن النشازات الاجتماعية لهذه المنطقة او تلك ، ونترّفع عن بعض الممارسات التي تهوّن من شأن القضية أو تهينها ، وباعتبار أن الإسلام هو دين الإنسانية جمعاء ، يتناسب مع جميع الأذواق السليمة والثقافات الانسانية الفطرية والعقلائية ، عندها نكون قد صدّرنا كربلاء بلغة عالمية وثقافة إنسانية نوعية ..
فتصميم الشعائر الحسينية وفق ذوق الشريعة ، وتهذيب الشعائر الموجودة طبقاً لمحددات الإسلام العقائدية والفقهية والاخلاقية ، ورفض كل ما يتقاطع مع الدين حتى لو كانت شعيرة بأكملها .. كفيل برسم صورة جديدة لكربلاء ترفع من شأنها وتعظّم من أمرها وتضمن بقائها ونحصد من خلالها أعظم الأجر والثواب ..
والتراث الإسلامي ليس فقيراً من هذه الناحية ، فلقد أحصى العلّامة الأميني ( صاحب الغدير ) في كتابه ( سيرتنا وسنّتنا ) عشرين مجلساً أقامها النبي صلى الله عليه وآله للحسين عليه السلام في حياته وقبل كربلاء بعشرات السنين ، منها ( مأتم الميلاد - مآتم في بيت السيدة أم سلمة - مآتم في بيت السيدة عائشة - وفي بيت الإمام علي ع - وفي مجمع من الصحابة .. الخ ) ، وكذلك المآتم التي أقامها أهل البيت عليهم السلام في مناسبات مختلفة وكلماتهم التي وصفت شكل احياء أمر الحسين ع والحزن عليه ، فنرى مثلاً الإمام الرضا عليه السلام وهو يوصي الريان ابن شبيب ببعض أهم مظاهر وسنن الإحياء ، فيقول له :
" يَا ابْنَ شَبِيبٍ : إِنْ كُنْتَ بَاكِياً لِشَيْءٍ فَابْكِ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ ( عليه السَّلام ) ، فَإِنَّهُ ذُبِحَ كَمَا يُذْبَحُ الْكَبْشُ ، وَ قُتِلَ مَعَهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ رَجُلًا مَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ شَبِيهُونَ ، وَلَقَدْ بَكَتِ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ لِقَتْلِهِ .
يَا ابْنَ شَبِيبٍ : إِنْ بَكَيْتَ عَلَى الْحُسَيْنِ ( عليه السَّلام ) حَتَّى تَصِيرَ دُمُوعُكَ عَلَى خَدَّيْكَ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ كُلَّ ذَنْبٍ أَذْنَبْتَهُ ، صَغِيراً كَانَ أَوْ كَبِيراً ، قَلِيلًا كَانَ أَوْ كَثِيراً .
يَا ابْنَ شَبِيبٍ : إِنْ سَرَّكَ أَنْ تَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ وَلَا ذَنْبَ عَلَيْكَ فَزُرِ الْحُسَيْنَ ( عليه السَّلام ) .
يَا ابْنَ شَبِيبٍ : إِنْ سَرَّكَ أَنْ تَسْكُنَ الْغُرَفَ الْمَبْنِيَّةَ فِي الْجَنَّةِ مَعَ النَّبِيِّ وَآلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَالْعَنْ قَتَلَةَ الْحُسَيْنِ .
يَا ابْنَ شَبِيبٍ : إِنْ سَرَّكَ أَنْ يَكُونَ لَكَ مِنَ الثَّوَابِ مِثْلُ مَا لِمَنِ اسْتُشْهِدَ مَعَ الْحُسَيْنِ فَقُلْ مَتَى مَا ذَكَرْتَهُ : يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً .
يَا ابْنَ شَبِيبٍ : إِنْ سَرَّكَ أَنْ تَكُونَ مَعَنَا فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَى مِنَ الْجِنَانِ فَاحْزَنْ لِحُزْنِنَا وَافْرَحْ لِفَرَحِنَا وَعَلَيْكَ بِوَلَايَتِنَا ، فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَحَبَّ حَجَراً لَحَشَرَهُ اللَّهُ مَعَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " وسائل الشيعة : 14 / 502
ولكون العراق عاصمة التشيّع ، وشيعتهُ - أعزّهم الله - يشعرون أنهم اصحاب قضية ومسؤولية اتجاه كربلاء ، وأن العالم كلّهُ ينظر الى شيعة العراق بعين القدوة والأسوة فيما يرتبط بشعائر الحسين عليه السلام وإظهار مظلوميته .. من ذلك يكون العراقيون أمام هذه المسؤولية العظيمة والمهمّة الجليلة ، فكربلاء هنا ، ومرقد ابي عبدالله بيننا ، والحوزة هنا ، والمواكب والهيئات الحسينية تملأ مدننا وطرقنا ، وعشاق الحسين عليه السلام يسرّون الصديق ويغيضون العدو بعددهم واستعدادهم .. كل هذه المقومات لو اجتمعت لخرجت بأقدّس وأفجع حلّة للشعائر الحسينية المقدسة ..
لم يألوا جهداً فقهاؤنا وطلبة العلوم الدينية وكتّابنا الإسلاميين ومنابرنا من تبيين المسائل الفقهية والعقائدية والأخلاقية المتعلّقة بشعائر ابي عبد الله ع .. لكن لا زال أمامنا الكثير من العمل في هذا الإتجاه ..
هذا الموضوع أصبحَ ملحّاً في عصر التطوّر التكنولوجي الذي نعيشه ، والذي ذابت فيه كل الحدود والمسافات الجغرافية والزمانية وأصبح العالم كلّه يُعرض في شاشة مرئية ومسموعة لا تتجاوز مساحتها مساحة الكف الواحدة ..!! وهذا يستوجب الدقّة في الكلام والحذر في الحركة تفوق عن السابق بآلاف المرات .. !
ملاك الشعيرة هو احياءها للقضية الحسينية ، سواء كان بإشاعة أجواء الحزن على ابي عبد الله او بنشر مظلوميته او في مشاركتها في تحقيق اهداف القضية الحسينية العليا .. وتضييق ذلك بشكل وأسلوب خاص ومحدد هو من الالتزام بما لا يلزم وتضييق على النفس .. الا ما خرج بنصّ ودليل ، كشعيرة الزيارة او الخطابة واقامة المآتم والبكاء على ابي عبد الله عليه السلام .. وكذلك يمكن استثمار مظاهر اسلامية عامة في إحياء قضية الإمام عليه السلام ، كإطعام الطعام مثلاً وإقامة مجالس الوعي والإرشاد .. وغيرها .
وأما ما عدا ما نُصّ عليه وليس فيها محاذير شرعية فينبغي ان تكون رسالتها الإسلامية واضحة وفلسفتها الدينية معروفة وأن لا تُفهم خطأ من قبل الاخر وبالتالي يكون لها مردود عكسي وتنقض الغرض الذي أقيمت من أجله ، فلا مجال للاجتهادات الشخصية او تحكيم العاطفة بشكل يتجاوز عن كل تلك الخطوط التي أشرنا اليها ، فالإمام الحسين عليه السلام لكل البشرية وقضيته ينبغي أن تقرأها الإنسانية جمعاء ، احتكارها سبيل ضمورها وقوقعتها .. وهذا ما لا يريده الحسينيون أنفسهم ..
الكلام عن الشعائر متشعب ولا يمكن استيعابه في مقال الا أننا اردنا ان نشير إشارة خاطفة الى بعض ما يتعلق بها من أفكار ..
تعليق