ثُمَّ ماذا قال الإمام زين العابدين عليه السلام؟ أعاد النظر إى وجه ذلك اليتيم، وقال: "إِنَّ لِلعَبَّاسٍ عِنْدَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَنْزِلَةً يَغْبِطُهُ بِهَا جَمِيعُ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ"، فأيّ منزلة هذه التي يتحسّر عليها جميع الشهداء، ابتداءً من حمزة سيّد الشهداء عليه السلام، ومروراً بجعفر الطيّار عليه السلام الذي أبدله الله تعالى عن يديه المقطوعتين بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة؟ فجميع الشهداء يغبطون منزلته العظيمة عند الله تعالى.
📌تذكّر عطش أبي عبدالله الحسين عليه السلام
ماذا فعل العبّاس بن علي عليهما السلام حتّى نال هذا المقام؟ إنّ العقل ليحتار واللسان لينعقد، لقد طرد العسكر، ونزل إلى الفرات، وعلى الرغم من أنّه كان أشدّ عطشاً من الجميع وقف إلى جانب الماء، وأخذ منه غرفً بيده ليشرب، هنا يكمن الإيثار الذي أوجب له تلك المنزلة، فقد كان النبي الكريم صل الله عليه وآله راضياً بشربه الماء، ومذا أمير المؤمنين عليه السلام، وسيّد الشهداء عليه السلام، وكان عالماً بكلّ ذلك، ولكن "فَذَكَرَ عَطَشَ الحُسَيْنِ عليه السلام"، حينئذٍ أنشد قائلاً:
يا نَفْسُ مِنْ بَعْدِ الحُسَينِ هُوني وبَعْدَهُ لا كُنْتِ أنْ تَكُوني
فرمى الماء من يديه، وملأ القربة، وخرج قاصداً معسكر الحسين عليه السلام، فكمن له الجميع، ثمّ ماذا؟ إنّ اللسان لا ينطلق هنا؛ ولذا أكتفي بهذا القدر لتُعرف منزلة هذا الشخص العظيم.
📌يا أخاه أدرك أخاك
لقد ضربوا العبّاس بن علي عليهما السلام على يمينه فبرؤوها، فارتجز قائلاً:
وَاللهِ إِنْ قَطَعْتُمُوا يَمِينِي إِنِّي أُحَامِي أَبَداً عَنْ دِينِي
وَعَنْ إِمَامٍ صَادِقِ اليَقِيْنِ نَجْلِ النَّبِيِّ الطَّاهِرِ الأَمِيْنِ
ثمّ ضربوه على يساره فبرؤوها أيضاً، فقال:
يَا نَفْسُ لَا تَخْشَيْ مِنَ الكُفَّارِ وَأَبْشرِي بِرَحْمَةِ الجَبَّارِ
مَعَ النَّبِيِّ السَّيِّدِ المُخْتَارِ قَدْ قَطَعُوا بِبَغْيِهِمْ يَسَارِي
فَأَصْلِهِمْ يَا رَبِّ حَرَّ النَّارِ
والأهمّ من ذلك كلّه، أنّه لما قُطعت كلتا يديه نظر إلى القربة التي كان همّه إيصالها إلى المخيّم، فرأى أنّ الماء قد سال منها إلى الأرض، تأمّلوا كيف تحوّل الأمل إلى اليأس، وفي تلك الأثناء أصابه سهم في عينه، ما الذي كنّا سنفعله لو أنّ شوكة أصابت زاوية من أعيننا؟ فما بالكم بسهم يصيب العين ! لكنّ أبا الفضل العباس عليه السلام تماسك، وما هي إلاّ لحظات حتّى ضُرب بعمود على رأسه، فحان وقت السقوط، ومن يهوِ إلى الأرض يتلقّ الأرض بيديه، فكيف هوى عليه السلام؟
فقال حينها عبارة لم يقلها طيلة حياته، فقد كان ينادي أخاه: "يا سيدي، يا مولاي"، أمّا في تلك اللحظة فقد نادى: " يا أَخَاهُ! أدْرِكْ أخَاكَ".
📌الآن انكسر ظهري
وقف الإمام الحسين عليه السلام، وهو ملاذ العالم الوحيد، وموئل عالم الإمكان، وقف إلى جانب جسد أبي الفضل العبّاس عليه السلام، وقال كلاماً لا بدّ أن نفهم منه حجم المصيبة؛ فمن اكتوى فؤاده بولده علي الأكبر عليه السلام، وحمل بيديه جسده إلى المخيم، لم يقل مثل هذه الجملة التي قالها حينما وقف إلى جانب جسد أخيه العباس عليه السلام: "الآنَ انْكَسَرَ ظَهْرِي وَانْقَطَعَ رَجَائِي"، ثمّ عاد وحيداً إلى الخيام.
لماذا لم يحمل الحسين عليه السلام جسد العبّاس عليه السلام إلى الخيام؟ فقد جمعت هناك جميع الأجساد، إلاّ ذلك الجسد الذي بقي في مكانه، لست أقوى على ذكر السبب؛ فإنّ جسده الطاهر كان مقطع الأعضاء، متى ما حُمل منه عضو سقط العضو الآخر. ولما وصل الحسين عليه السلام إلى الخيام هرع إليه النساء والأطفال، يسألونه عن العبّاس عليه السلام، فلم ينبس ببنت شفة، بل ذهب إلى خيمة أخيه، فأزال عمودها لتهوي.
📌سلام الله على قمر بني هاشم عليه السلام
ومما جاء على لسان صادق أهل البيت عليهم السلام مسلّماً على أبي الفضل العباس عليه السلام:
"سَلَامُ الله، وَسَلَامُ مَلَائِكَتِهِ المُقَرَّبِينَ، وَأَنْبِيَائِهِ المُرْسَلِينَ، وَعِبَادِهِ الصَّالِحينَ، وَجَمِيعِ الشُّهَدَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ، وَالزَّاكِيَاتِ الطَّيِّبَاتِ، فِيمَا تَغْتَدِي وَتَرُوحُ، عَلَيْكَ يَا بْنَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ...".
📌ذكر أبي الفضل العبّاس عليه السلام في علّيّين
وأردف الإمام الصادق عليه السلام قائلاً: وَرَفَعَ ذِكْرَكَ فِي عِلِّيِّينَ، وَحَشَرَكَ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ، وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحين". فأين هي علّيّون؟ حيث رفع الله تبارك وتعالى إليه ذكر أبي الفضل العبّاس عليه السلام، ذلك الذي جاد بنفسه الكريمة في سبيل الدين بتلك الصورة.
هذه الأيّام هي أيّام عاشوراء، فاسعوا فيها إلى تعريف الناس بعظمة المصيبة، تلك المصيبة الكبرى. فقد كُلّف النبيّ الخاتم صل الله عليه وآله بعملٍ ليس لأحد أن ينهض به سواه، فما هي تلك المسؤولية؟ لقد أعطاه الله تعالى قارورةً، وأمره أن يجمع فيها دم نحر الحسين عليه السلام، فجاء النبي صل الله عليه وآله إلى موضع نحره عليه السلام، فلمّا حُزَّ رأسه الشريف كان النبي صل الله عليه وآله جالساً عند منحره، فوضع الدم في القارورة، هذا كلام حجّة الله في أرضه، ثمّ رفع القارورة إلى السماء، فما بلغ سماءً من السماوات السبع حتّى اقشعرّت، وبلغ الكرسي فاقشعرّ أيضاً، إلى أن انتهى إلى العرش، فوضع القارورة عند أظلّته، وستبقى تلك الأظلّة مقشعرّةً إلى يوم القيامة.
📚 مصباح الهدى وسفينة النجاة
📚 مصباح الهدى وسفينة النجاة
تعليق